نعيش في عصر الأسبيرين
عندما يحين ميعاد الامتحانات نسمع عن حوادث مؤلمة تدل على توترات نفسية أدت إلى مخاطرات إجرامية، وقد كتب بعض الأطباء يحذر من استعمال العقاقير المنبهة التي تساعد الطالب على السهر واليقظة للمذاكرة، ثم ما يعقب هذه اليقظة المفتعلة أو المغصوبة من الجسم من انهيار أو رجع مخيف، كذلك الطالب الذي انغمس في هذه المنبهات حتى إذا كان يوم الامتحان ملأ صفحات ورقته باسمه وعنوانه، يكررهما سطرًا بعد سطر، وهو في هول عما يفعل، كأن هذا الذهول كان الرجع؛ أي: رد الفعل لذلك التنبه السابق الذي اغتصب من الجسم اغتصابًا.
والواقع أن كثيرًا من الطلبة يقاسون أزمات نفسية وتوترات عصيبة لا يطيقونهما، وبعضهم ينحدر إلى العادة السرية على سبيل التفريج بالاسترخاء وليس للرغبة الجنسية المكظومة، وهذه العادة تزيد الاضطراب النفسي لما تحدث من أسف وخوف، ولكن بعضهم أيضًا ينهار انهيارًا يكاد يكون تامًّا فيقاسي لونًا من النيوروز؛ أي: تسلط العاطفة، بحيث يخاف أو يشكو أو يقلق كثيرًا لغير سبب واضح، وقد يرتقي هذا النيوروز إلى سيكوز، وهنا الطامة التي لا يكاد يكون لها علاج.
والأصل في كل ذلك أن برامج التعليم شاقة، أو هي تبدو كذلك لبعض الطلبة، إما لأنهم دون مستواها في الذكاء والكفاءة، وإما لأن المعلم ليس ماهرًا في الشرح. وتزيد صعوبة الامتحانات عندما يتخلل السنة المدرسية مظاهرات أو عطلات كثيرة كما حدث هذا العام.
وليس الطلبة وحدهم هم الذين يعانون هذه التوترات، وصحيح أن الامتحان مباراة صريحة معينة بالساعات والأيام، وهي لذلك تعين عند الطلبة أوقات التوتر، ولكن مجتمعنا كله يعيش في مباراة صريحة أو مضمرة، ومن هنا هذا الأسبيرين الذي فشا في السنوات العشر أو العشرين الماضية، فنحن أو أكثرنا يعاني صداعًا لا يعرف سببه، أو هو يعلله تعليلات زائفة بالرشح أو السهر أو الصفراء أو نحو ذلك، مع أن السبب الواضح هو الهم والقلق اللذان تفشيا هذه السنوات الأخيرة؛ لأننا خرجنا من مجتمعنا الزراعي التواكلي الذي كان آباؤنا يعيشون فيه، إلى مجتمع جديد صناعي تجاري قد اشتدت فيه المباراة، وقد ذهب عنه التواكل والتكاسل السابقان.
ونحن ندعو إلى هذا المجتمع الجديد؛ إذ لا خلاص لمصر ما دامت تعيش وتقتصر على الزراعة، وندعو للعقلية الجديدة عقلية النشاط والتدبير والطموح التي يدعونا إليها مجتمعنا الاقتصادي الجديد القائم على التجارة والصناعة، ولكننا، ونحن في سياق هذا الانقلاب، كثيرًا ما نندفع في جنون المبادرة إلى ما يؤذينا ويحطم أعصابنا، بل عقولنا.
هذا الأسبيرين الذي يباع في كل مكان كما تباع الباستيليا جديد، وهو يعالج صداعًا جديدًا قد نشأ من الانغماس في المباراة حين نتعب ونلهث وننصب لأنفسنا أهدافًا بعيدة لا نستطيع تحقيقها، وحال أولئك المصدعين الذين يشترون الأسبيرين لا يختلف كثيرًا من حال أولئك الطلبة الذين يشترون المنبهات للسهر واليقظة والدرس.
وهذه حال سيكولوجية جديدة قد تفشت لسيادة حال اجتماعية جديدة، ولذلك يجب أن نقف من وقت لآخر عن هذه الهرولة، وأن نرتاح وأن نعود إلى أخلاقنا الزراعية التواكلية على سبيل العلاج.
إن الفلاحين لا يشترون الأسبيرين، ولا يحسون الصداع، وكذلك لا يخطر ببال أحدهم أن يشتري المنبهات الجديدة كي يسهر إلى الساعة الثانية من الصباح، وهو قانع في مباراته، محدود، لا يرتفع إلى النجوم، وهو متواكل هادئ الأعصاب متزن العقل.
ولكننا — كما قلنا — لا نستطيع أن نقنع بالزراعة والتواكل في عالم تعمه الصناعة والمباراة والتدبير، فيجب أن نأخذ بنظام مجتمعنا الجديد، المجتمع الصناعي التجاري، ولكن في تعقل بلا هرولة.
وبلا حاجة لأن نشتري الأسبيرين.
•••
قرص الأسبيرين هو رمز مشئوم لحياتنا المرهقة المتوترة في المدن، فإننا نؤدي في المدينة بأعصابنا ما كان يؤديه آباؤنا في الريف بعضلاتهم، ومن هنا الصداع والسأم، وأحيانًا الانهيار، ومن هنا رواج الأسبيرين.
ونحن حين نلجأ إلى رأس البر أو بور سعيد أو الإسكندرية للاصطياف إنما نحاول أن نسترد شيئًا من أسلوب العيش الذي كان يعيش به آباؤنا، ولذلك ننخلع من كثير من هذه التكاليف التي ترهقنا بالمدينة، فترانا وقد خلعنا الملابس الأوربية وارتضينا الجلباب، أو استلقينا على الرمل في أقل ما نستطيع من ملابس، تسطع علينا الشمس، ونعبث بالرمل، ويسامر بعضنا بعضًا.
ونجد في كل ذلك راحة نفسية هي خير ما يعوضنا من التوتر أو الإرهاق العصبي سائر السنة في المدينة.
ولكن تغيير الجو يجب ألا يقتصر على الجو المادي، إذ يجب أن يشمل الجو النفسي.
فقد أتيح لي أن أستمع إلى حديث اثنين من المصطافين، وكان الجو المادي، بحرًا وهواء ورملًا، يهيئ الراحة، ولكنهما كانا يتحدثان عن الدعوى والإنذار والمحامي والاستئناف، واعتقادي أنهما وهما على هذه الحال لم ينتفعا بتغيير الجو المادي؛ لأنهما قد نقلا الجو النفسي بكل ما يحمل من هموم معهما إلى مصطافهما.
نحن في المصيف نستشفي من أمراض المدينة، وهذا الاستشفاء يقتضي الاسترخاء العضلي والاسترخاء العصبي، فيجب ألا نحمل همومنا معنا، وقد يكون هذا شاقًا، ولكن المسافة التي تفصل بيننا وبين المدينة تساعد على النسيان، فيجب أن ننسى وأن نسترخي.
يجب أن تتوافر وسائل النسيان والاسترخاء في المصايف، وذلك بإيجاد المباهج العامة، وكف الناقدين عن هذا النقد الذي يتكرر كل عام بشأن الاختلاط واختصار الملابس، فإنه ليس من الحق أن نزعم أن الناس حين يخلعون ملابسهم يخلعون أيضًا أخلاقهم.
وعشرة شهور من التوترات النفسية في المدينة مع تناول الأسبيرين تحوجنا إلى شهر أو شهرين من خلع الملابس المحبوكة المربوطة، وإلى الاستلقاء على الرمل عابثين ضاحكين.