كلاب بافلوف
من الحسن أن يعرف القارئ لهذا الكتاب شيئًا من بافلوف وكلابه، فإن «الرجع الانعكاسي المكيف» هو الصيحة العالية هذه الأيام في السيكلوجية.
ويمتاز بافلوف بميزة لا يستطيع أحد أن يعزوها إلى كثيرين غيره من السيكلوجيين، هي أنه علمي تجريبي من حيث الوسيلة وأسلوب البحث، أما من حيث النتيجة فإن هذه تترك للمستقبل، ولا يمكن أن تقال الكلمة الفاصلة فيها من الآن.
مات بافلوف قبل سنوات، وكان إلى قبل نهاية القرن الماضي عالمًا في الفسيولوجية لا شأن له بالسيكلوجية، وقد استطاع أن يرقى بالفسيولوجية وأن يثير بعض مشكلاتها، وذاعت له شهرة أوربية في هذا الضوع، ونال جائزة نوبل في ١٩٠٤ لأبحاثه في الهضم، ثم شرع بعد ذلك يبحث موضوع التفكير من ناحية مادية صرفة؛ أي: تجريبية، كما لو كان بالمسطرة والسنتيمتر.
ذلك أنه أراد أن يعرف كيف يفكر الكلب، ومتى عرفنا ذلك فإننا نعرف كيف يفكر الإنسان، بل كيف يفكر الفيلسوف والرياضي والسياسي، أو أن هذا هو ما يزعمه بافلوف.
وهناك شيء يسمى «الانعكاس»؛ أي «الرجع الانعكاسي»، فأنا حين أحس بالضوء عقب الظلام أغمض عيني، والكلب حين يرى مزعة من لحم يسيل لعابه، والطفل البشري حين يفاجأ بصوت عالٍ ينتفض. وكل هذه تسمى «رجوع انعكاسية مباشرة»، وليس لنا عليها سلطان؛ إذ هي تحدث عفوًا أو طبيعة، ولا نحتاج إلى تعليم أو تدريب كي نعرفها ونعمل بها.
ولكن بافلوف يقول إن هذه الرجوع الإنعكاسية هي الأصل والأساس للتفكير والسلوك البشريين، تفكير أرسطا طاليس وسلوك نابليون.
«الأصل والأساس» فقط، أما ما يبنى عليهما فهو ما يسميه «الرجع الانعكاسي المكيف»، وذلك بإيجاد رجوع أخرى تنبني على هذا الأصل أو الأساس.
وعمد بافلوف إلى الكلاب للتجربة، وحرص على أن تكون التجربة عملية خالية مما يخل بها أي إخلال؛ فإن الكلب — مثلًا — وقت التجربة لم يكن يرى شخص المجرب أو يشم رائحته أو يسمع صوته، وإنما كان يرى ضوءًا أو يسمع جرسًا فقط؛ وذلك كي لا يتأثر بشخص معين يحبه أو يكرهه فيؤثر اتجاهه إليه في سلوكه.
فقد درب الكلب أولًا على أن يسمع جرسًا وهو يرى اللحم، ثم خرق الفك الأسفل من الفم وألصق أنبوبة به؛ وذلك لقياس لعابه وتعيين مقداره عندما يرى اللحم أولًا بلا جرس، ثم بعد أن يراه مع الجرس، ثم يسمعه الجرس بلا لحم يراه؛ أي يقاس مقدار اللعاب في كل هذه الحالات الثلاث.
فالكلب عندما يرى اللحم يجري لعابه عفوًا وطبيعة، وهو لا يحتاج هنا إلى تدريب، ثم يدرب على أن يرى اللحم ويسمع الجرس معًا، فيقترن عنده صوت الجرس برائحة اللحم أو رؤيته، ثم بعد ذلك يسمع الجرس بلا لحم، فيجري لعابه أيضًا؛ لأنه قد درب على أن يقترن اللحم بصوت الجرس. وهذا هو «الانعكاس المكيف».
ذلك أن الكلاب التي لم تدرب لا يجري لعابها عندما تسمع دقات الجرس، ولكن كلب بافلوف قد درب فأصبح لعابه يجري ويملأ مقدارًا من الأنبوبة؛ لأنه كان يقرن الصوت الذي يسمعه إلى اللحم الذي يراه ويشمه.
وبدلًا من صوت الجرس يمكن استعمال ضوء دائري مع اللحم فيجري اللعاب، وضوء آخر بيضاوي يدرب الكلب عليه ويعرف منه أنه ليس هناك طعام، فلا يجري اللعاب.
ولكن بافلوف عمد إلى تجربة أخرى، هي أنه وضع الضوء الدائري (= لحم) والضوء البيضاوي (= لا لحم) معًا في وقت واحد، فحار الكلب، ونبح نباح الحزين الذي وقع في مشكلة نفسية لا يدري كيف يفكر أو يسلك بشأنها؛ أي إنه في نيوروز.
ثم عمد بافلوف إلى تجربة أخرى، هي أنه نزع من الكلب المادة الرمادية التي تكسو المخ، فلم يستطع إيجاد «الرجع الانعكاسي المكيف».
ذلك لأن المادة الرمادية التي تكسو المخ الأبيض هي مكان التفكير؛ أي: هي الأصل أو الميدان للتقدير والتحليل والتركيب، تصل إليها الرجوع المكيفة فترتبها وتعين منها السلوك والخطة، وبدون هذه المادة ليس لنا ولا للكلب رجوع انعكاسية مكيفة، إنما لنا فقط رجوع انعكاسية مباشرة؛ نشم اللحم إذا وضع أمامنا، ونرفع القدم إذا جمش، ونصرخ من الماء الحار، ولكن لا نستطيع أن نفكر ونستنتج خطة نتخذها بعد نزع المادة الرمادية.
وبكلمة أخرى، لم يستطع الكلب أن «يتعلم»؛ أي: يدرب بعد نزع هذه المادة الرمادية.
- (١)
الحال الأولى: عندما يوقعه في شك؛ كالإشارة الضوئية تقف بين رسمين، فلا هي دائرية ولا هي بيضاوية؛ أي: لا تدل على طعام أو على لا طعام. ونحن أيضًا سواء في هذه الحال مع الكلب؛ فإن الأم التي مات ابنها تستطيع أن تتحمل الصدمة وتنهض من الكارثة بعد الألم المضني، ولكنها إذا وقفت بين الشك واليقين بحيث لا تعرف هي إن كان غيابه عن البيت لأنه مات أو لأي سبب آخر، وأنه سوف يعود أو لا يعود، هذا القلق يجعلها في نيوروز؛ أي: قلق لا يطاق؛ إذ هي هنا كالكلب: طعام أو لا طعام؟
- (٢)
الحال الثانية: أن بافلوف جعل المنبه للطعام هزة كهربائية تؤلم ألمًا خفيفًا، ولكن الكلب يتقبل هذا الألم راضيًا؛ إذ هو دليل على الطعام القادم، ولكن بافلوف جعل يزيد الألم رويدًا رويدًا إلى أن صرخ الكلب؛ لأن الهزة كانت شديدة.
وكل هذا معقول، ولكن بافلوف وجد بعد ذلك أن الهزة الخفيفة الأولى التي كان يتقبلها الكلب راضيًا لأنها دليل الطعام لم يعد يتحملها (هذه الهزة الأولى الخفيفة) بل صار يصرخ منها، واحتاج الكلب إلى ثلاثة شهور من الراحة كي يعود سويًّا ويتحمل الهزة الخفيفة.
وهذا هو ما يحدث لنا أيضًا، فإن كارثة تقع بنا في الطفولة نذكرها بعد ذلك بما يشبهها أو يعيد إلينا لونًا منها مهما خف هذا اللون أو تلك المشابهة، كأن يفزعنا كلب في غرفة مقفلة، فنخاف بعد ذلك الغرفة المقفلة ولو لم يكن بها كلب، ونحس كربًا لا يطاق، وثلاثة شهور عند الكلب قد تساوي عشر سنوات عندنا كي ننسى.
وشبيه بهذا ما حدث عفوًا عند بافلوف، فقد دهمت المدينة التي بها كلابه عاصفة برقية رعدية مع سيول من المطر أغرقت غرف الكلاب، فحملها بافلوف إلى مكان آخر، وكانت الكلاب مرعوبة من هذه العاصفة وهي في الطريق، وبعد شهور عمد بافلوف إلى قليل من الماء فجعله يتسرب إلى أرض الغرفة التي بها الكلاب، فصرخت مذعورة كما لو كان البرق والرعد قد عادا.
أي إن المنبه الشديد — الهزة الكهربائية أو الرعد والبرق — يحدث في النفس أثرًا يبقى نائمًا إلى أن يتكرر ولو بصورة مخففة جدًّا.
أذكر هنا الأم التي مات ابنها تبكي وتتألم عندما تسمع أن أمًّا أخرى قد مات ابنها، أو عندما ترى صورة فقيد في سن ابنها في الوفيات بالجرائد.
- (٣)
وفي الحال الثالثة أن بافلوف استطاع أن يفسر النوم بأنه منع المنبهات الإيجابية، فإذا وضعنا أمام الكلب ضوءًا بيضاويًّا (= لا طعام) لفترة وجيزة نام، وهذا هو ما يحدث لنا، لا ننام في الضوء الذي ينبه العين، ولا في الضوضاء التي تنبه الأذن، ولكننا ننام في الظلام، وهي عندنا بمثابة الضوء البيضاوي عند الكلب.
فالنوم هو حرمان من المنبهات الإيجابية.
وعلى أساس تجارب بافلوف هذه نشأت «السيكلوجية السلوكية» التي تزعمها واطسون في أمركا، وهي أن سلوكنا هو رجوع انعكاسية مكيفة لا أكثر.
ولهذا النظر قيمة كبيرة في التربية؛ وخاصة أيام الطفولة، وهي أن تجعل الرجوع المكيفة للطفل بحيث تعين له سلوكًا مكيفًا يتفق ومصلحته المستقبلة.
ولكن هل نستطيع أن نقول إن الاختراع والاكتشاف ونظم الأشعار وتأليف الألحان ودراسة الفلك والذرة، كل هذه رجوع انعكاسية لا أكثر.
أظن أنفسنا سننتهي إلى ذلك في المستقبل عندما تكثر التجارب وتمحص.