كلمات اللغة تعين الأخلاق
قبل نحو مليونين أو ثلاثة ملايين من السنين كنا نحن البشر والقردة القديمة سواء، لما ننفصل منها بميزاتنا البشرية الحاضرة؛ أعظم هذه الميزات هو هذا المخ الضخم الذي قد يبلغ نحو ألف وخمس مئة جرام.
وأعظم ما كان يعمل لتكبير المخ البشري هو أننا انتصبنا على أقدامنا فصرنا نحمل هذا الرأس الثقيل حملًا عموديًّا لا يرهقنا بثقله، ولو أننا كنا نمشي على أربع لما استطعنا أن نحمله حملًا أفقيًّا؛ لأنه كان يثقل ويرهق.
والمخ هو أداة التفكير، ولكن التفكير ليس سوى المعاني التي تعينها لنا الكلمات؛ ولذلك كان ارتقاء الإنسان اللغوي وسيلة إلى تكبير المخ، والفرق الأصيل بيننا وبين الحيوان لا يزال فرقًا لغويًّا قبل كل شيء؛ نحن ننطق ونربط المعاني بالكلمات، وهو لا ينطق وليس له سوى تلك المعاني الساذجة التي يحصل عليها كل فرد بمجهوده الخاص دون أن يتلقى تراث الآباء والأجداد كما نفعل نحن.
وكلمات اللغة التي تنطق بها الأمة هي في النهاية أفكارها وأخلاقها وعقائدها. وسلوكنا اللغوي هو — لهذا السبب — سلوكنا الأخلاقي الاجتماعي، ونحن نرث من الكلمات الحسنة أو السيئة ما يرفع أخلاقنا وينفعنا أو ما يضرنا ويحطنا.
واللغة هي أعظم ما يحافظ على التقاليد؛ لأن كل كلمة موروثة هي تقليد موروث يعين لنا معنى أو نهجًا في الحياة.
وقد ألفت قبل سنوات كتابًا في هذا المعنى عنوانه: «البلاغة العصرية واللغة العربية»، هدفت فيه إلى إيضاح القيم السيكلوجية للكلمات، وهذا الفصل هو موجز له.
ذلك أنه قد ظهر في أوربا علم جديد يسمى «السيمائية»، وهذه الكلمة مشتقة من الكلمة الإغريقية القديمة «سيما»، ومعناها علامة، ومن ذلك قولنا سيماهم على وجوههم؛ أي: علامتهم، ومن ذلك أيضًا «سيمافور»؛ أي: حاملة العلامة في السكك الحديدية.
وإذن السيمائية هي علم العلامات باعتبار أن كلمات اللغة هي علامات وإيماءات.
يتناول هذا العلم بحث الكلمات من حيث معانيها التي تتغير بتغير الزمان والمكان، وأيضًا أثرها الاجتماعي والسيكلوجي، ونحن في حاجة إلى أن نفهم اللغة العربية من هذه النواحي جميعها. من هنا كتابي الذي أشرت إليه.
كان لاروشفو كول المؤلف الفرنسي الذي مات في ١٦٨٠ يقول: «هناك أناس ما كان أحدهم ليحب لو أنه لم يكن قد سمع عن الحب».
وهو يقصد من قوله إلى أن كلمات الحب هي التي تصوغ الأخلاق الاجتماعية وتعين السلوك الجنسي، فإذا كانت هذه الكلمات رومانتية تنزع إلى الخيال والفن فإن الحب يتخذ عند الشاب والفتاة هذا اللون، وإذا كانت الكلمات فجة عامية فسيولوجية تناسلية فإن الحب يتخذ سلوكًا آخر، ولذلك نجد أن طالبًا في كلية الآداب يحب ويشتهي الجنس الآخر، وينهج في سلوكه الجنسي على غير ما ينهجه بائع الجرائد أو الخباز أو الحوذي؛ لأن لهؤلاء لغة مؤلفة من كلمات لا يستعملها ذلك الطالب، ولذلك اختلفت معاني الحب وممارسته بينهما.
اعتبر كلمات الطبيب للأعضاء التناسلية، وكلمات الحشاش لهذه الأعضاء نفسها، فإن الأول يذكرها دون أن تثير في نفسه أية عاطفة؛ ذلك لأنه تلقاها على المشرحة أو في غرفة الجامعة من أستاذ يتحدث بلهجة علمية موضوعية، أما الثاني فقد تلقى كلماته وهو في غمرة الحشيش الذي عطل الجزء الأعلى من مخه فانطلق الجزء الأسفل الذي تتحرك به العواطف البدائية.
وإذا كان تراثنا من كلمات الفحش؛ أي: كلمات هذا الحشاش، كثيرة فإن سلوكنا أيضًا يفحش في المجتمع. فإن الطبيب الذي أشرنا إليه يسلك مع زوجته سلوكًا جنسيًّا يختلف عن سلوك الحشاش مع زوجته، ومرجع ذلك إلى الكلمات التي يستعملها كل منهما في الحديث عن هذا الموضوع.
وهناك كلمات تعد كنوزًا يجب أن تدخرها الأمة؛ لأنها قدوة للخير والشرف.
اعتبر — مثلًا — كلمة «المروءة» في لغتنا، فإن هناك ألوفًا من أفراد الشعب ما كان أحدهم يمارس هذه الفضيلة لو أن هذه الكلمة لم تكن في لغتنا؛ إذ هي قد عينت سلوكًا اجتماعيًّا راقيًا ينبه الفرد إلى قيمة التعاون والبر. أو اعتبر أيضًا ما يقابل هذا من كلمة «عورة» للأعضاء التناسلية؛ فإن هذه الكلمة توحي النجاسة والخسة والضعة للعلاقات الجنسية؛ إذ هي توهمنا أن إتمام الحب ليس شيئًا حسنًا وإنما هو فعل قبيح، وأن تجنبه خير من ممارسته، بل أستطيع أن أزيد على هذا وأن أقول إننا نستقبح الأعضاء التناسلية بسبب هذه الكلمة. أو اعتبر عبارة «سن اليأس»، فإن المرأة عندما تبلغ الثامنة والأربعين أو الخمسين تنقطع عادتها الشهرية وتشرع في الكهولة، وليست هذه الكهولة شيخوخة، ولا هي تنقص من جمالها النفسي، بل لعلها تزيده، وكثير من النسوة يمتزن بقوة جاذبية كبيرة في هذه السن، حتى من ناحية الجمال الجسمي. ولكن هذه العبارة تبعث اليأس في نفس المرأة وتفل نشاطها، وتحملها على الاستكانة أو الانزواء الاجتماعي، وقد تملأ رأسها بعواطف سوداء من الغم إلى الأسف إلى الغيرة، وكان يجب أن يكون لنا تعبير آخر يصون كرامة المرأة في هذا السن، ويؤدي لنا الحقيقة التي تنطق بأن المرأة، مثل الرجل، لا تزال تحتفظ بجمالها ونشاطها وطموحها في سن الخمسين إلى الستين والسبعين؛ وذلك أن للكلمات أثرًا إيحائيًّا في النفس؛ مثل كلمات النجاسة والطهارة والشرف والخسة والشهامة والهوان … إلخ، فإن هذه الكلمات تعين سلوكنا في الحياة بقدر ما نأخذ منها، وبقدر ما يتكرر ذكرها في معاملاتنا؛ لأن تكرارها يحيلها إلى عقائد كأنها جزء من الدين، حتى لقد قال العظيم جيته: «إن الكلمات التي اعتاد الناس تكرارها تستحيل إلى عقائد يتحجر بها الذكاء».
وصحة هذا القول تتضح في كلمات غيبية كثيرة ينطق بها الناس كأنها عقائد صحيحة مع أنها لا تزيد في المعنى الموضوعي عن كلمات الأطفال؛ مثل عفريت وبعبع.
والكلمات تتغير معانيها بتغير الزمن، وهذا هو ما نسميه التطور؛ لأن المجتمع في تغيره يكسبها معاني أخرى، اعتبر — مثلًا — كيف يقول الثعالبي إن الحر هو الملحد، مع أننا نعتبر هذا الوصف بالحرية أساسيًّا في معانينا الديمقراطية الحاضرة.
والمعاجم العربية لا تزال تقول إن الطبيب هو الكاهن أو الساحر كما كان عند الفراعنة والبابليين.
وعندما نجد كاتبًا رجعيًّا ينعي على عصرنا سيئاته الصحيحة أو الموهومة، نجد أن رجعيته تعود في الأغلب إلى أنه قبع في الكتب القديمة وأخذ بكلماتها وما تحمل من معاني أو التباسات سيمائية بعيدة عن الروح العصري، فهو بمثابة من يعتقد أن جهنم مملوءة بالنار، ثم يرحل بعد ذلك إلى القطب الشمالي حيث يعيش الإسكيماويون الذين يعتقدون أن جهنم مثلجة مظلمة تخلو من النار والنور، فينعي عليهم كفرهم وزندقتهم.
مهمة السيمائية هي إيجاد بلاغة جديدة تستخدم فيها كلمات اللغة للدقة التفكيرية والتوجيه الاجتماعي.
يجب أن نعمل لرواج كلمات المروءة، الشرف، الإخاء، الحرية، المساواة، المجد، الديمقراطية.
كما نعمل لكساد بل محو الكلمات التي تحمل المعاني القديمة؛ مثل تسمية الأعضاء التناسلية بعورة، أو مثل تلك الكلمات الغيبية التي تربك العقل وتبلبل الفهم.
كما يجب أن نكسب الكلمات القديمة المعاني العصرية حتى نفهم من الصلاح أنه ليس الانغماس في الصلاة ولكنه خدمة المجتمع؛ أي: زيادة الصحة أو التعليم أو الثراء أو الحرية.