سيكلوجية الانضواء
دلتنا الحوادث في السنين القريبة الماضية على أن عددًا كبيرًا من الناس يحبون الانضواء؛ أي: الانتساب إلى جماعة معينة تدعو إلى نظام اجتماعي، أو إلى الإيمان ببرنامج تزعم أنه يصلح ما فسد.
فقد رأينا — مثلًا — حركة مصر الفتاة، ثم حركة الإخوان المسلمين، وفي السودان نجد الانضواء إلى السيد المهدي، أو إلى السيد الميرغني عامًّا يجذب إلى هذين الزعيمين آلاف الناس، وعندنا في الريف حركات انضوائية مختلفة؛ حيث نجد أحد المشايخ «يأخذ عهدًا» على أتباعه، وكثيرًا ما ينطوي هذا العهد على أصول سامية من الشرف أو الاستقامة أو الصلاح.
وحركة الانضواء إلى الأحزاب السياسية معروفة مألوفة في جميع الأقطار، بل هناك أيضًا حركات انضوائية صغيرة؛ كالانتساب إلى إحدى الجمعيات الخيرية مثلًا.
وقصدنا من هذه الدراسة الموجزة أن نبحث الأسباب السيكلوجية لحركات الانضواء العنيفة أو التي تبدأ رقيقة ثم تنتهي عنيفة، فإن الأحزاب التي تنشر برنامجًا وتكسب الانتخابات به لا تحتاج إلى العنف، ولا يحس أعضاؤها ذلك التوتر الذي كان يحسه «الإخوان المسلمون» مثلًا.
وقد كانت الحركة النازية الألمانية من تلك الحركات الانضوائية العنيفة المتوترة التي انتهت بإغراق أوربا في حرب قتل فيها نحو ١٥ أو ٢٠ مليون من البشر، وكذلك نشأت الحركة الفاشية الإيطالية بالزحف إلى روما والاستيلاء على الحكومة عنوة وبطشًا.
والانضواء إلى جماعة ما يحتاج إلى تعليل؛ لأن أقل ما في هذه الظاهرة أن هناك كثيرين منا لا يحسون هذه الحاجة؛ إذ هم قانعون بممارسة حرفتهم، مكتفون بالارتباط العائلي، فلماذا إذن نجد أناسًا يتوترون ويتحمسون وينضوون إلى الهيئات العنيفة التي قد تفرض عليهم تكاليف ثقيلة يرضونها في ارتياح؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول أولًا إنه ليس هناك شذوذ اجتماعي إلا ونجد له جذورًا ضعيفة في النفوس السوية؛ أي: الحسنة، فنحن جميعًا نحب أن نكبر، وأن يكون لنا مقام اجتماعي يوجد عندنا إحساس الكرامة، وليس شك أن الانضواء إلى جماعة لها نشاط ومركز ملحوظان يكبر شخصيتنا، وعبارة «يكبر شخصيتنا» تومئ إلى الأصل؛ فإننا لا نطلب التكبير إلا لأننا نحس أننا لسنا كبراء؛ أي إننا نحس نقصًا اجتماعيًّا.
وكلنا سواء في الإحساس بهذا النقص، ولكننا نتفاوت في مقداره، فالرجل الثري الذي هيئ بروابط عائلية حسنة ووجد المقام في منصب خطير، لا يحس أو لا يكاد يحس شيئًا من هذا النقص، وهو حين يستسلم لأحلام اليقظة لا يبني قصورًا في الهواء؛ لأنه يجد هذه القصور على الأرض، ولكن الرجل الضائق بعيشه يحلم كثيرًا، وتكاد تكون له حياة أخرى كلها أحلام وأمانٍ غير حياته الوجدانية التي نراه عليها، والتي يعيش ويكسب ويتصرف في المجتمع بها، وفي ريفنا المصري — مثلًا — نجد ضيقًا اقتصاديًّا وفاقة تجر في أثرها هوانا، ونجد لقاء ذلك «شيخ طريقة» يأخذ عليه هؤلاء الضائقون عهدًا يكبر شخصياتهم ويولد فيهم إحساس الأهمية، فالفلاح الذي أخذ «عهدًا» يحس منطقًا غامضًا جديدًا خلاصته: «أنا فقير في الماديات، ولكني عظيم في إيماني، ثري في قلبي وضميري، أنا رجل مهم».
وليس شك أن هذا الإحساس يريح ويهدئ النفس القلقة ويزيدها جلدًا على التحمل، وحيث تفشو الفاقة، كما في السودان أو في ريفنا، يفشو هذا الانضواء إلى «شيخ الطريقة».
وليس من الضروري أن يحس أحد الراغبين في الانضواء إلى جماعة ما هوانًا باطنيًّا مستورًا لم يرتفع إلى الوجدان، ولكنه يريد أن يكبر، والانضواء يوفر له هذا التكبير.
وليس من الضروري أن يكون النقص اقتصاديًّا؛ إذ إن هناك ألوانًا كثيرة من النقص؛ فإن الزوج الذي تحتقره زوجته أو يهينه ابنه، أو ذلك الشاب الذي خاب في المدارس، أو ذلك التاجر الذي أفلس، أو ذلك الآخر الذي بقي في تعطل مدة طويلة، أو ذلك الموظف الذي يمارس عملًا صغيرًا بمرتب ضئيل، أو الذي يستبد به رئيسه يجعله خائفًا خشية الفصل والطرد، بل ذلك الشخص الذي يجد شوهة في عين عوراء أو أنف ضخم أو أي دمامة أخرى، كل هؤلاء يطلبون القوة والتكبير كي يعالجوا، من حيث لا يدرون، هذه الألوان من النقص.
والانضواء إلى جماعة لها مقام وجاهٍ وحرمة يكسبهم قوة ويكبر شخصياتهم، ولكن الإغراء بالانضواء يزيد إذا كانت هذه الجماعة تعمد في خططها إلى البطش والعنف؛ ذلك لأن النقص هو في النهاية ضعف وخوف واضطراب وقلق، ونحن عندما نخاف نعمد إلى أحد شيئين: إما أن نفر من الواقع المخيف المؤلم بأن نشرب الخمر أو نأكل الأفيون، وإما أن نبطش فنضرب أو حتى نقتل، وكثيرًا ما يكون الضعيف عنيفًا، كما أن العاجز هو الذي يهيج ويسب ويخبط، ذلك لأن ممارسة هذه الأعمال يزيل الاضطراب والخوف، ويعيد الاتزان والطمأنينة في منطق النفس، وليس في منطق العقل.
وعندما نتأمل الطرز الاجتماعية التي تعم أو كانت تعم الأفراد الذين انضووا إلى الحركات العنيفة نجد مصداق ما قلنا، فهناك فقراء ريفنا الذين ينضوون إلى «شيخ الطريقة»، وهم يعالجون من حيث لا يدرون فاقتهم الاجتماعية والاقتصادية ويكبرون، وكذلك الشأن في فقراء السودان من أتباع السيد المهدي أو السيد الميرغني، وليس في هذين المثالين دعوة إلى البطش والعنف.
ولكن اعتبر الفاشية والنازية، فقد نشأت كلتاهما عقب الحرب الكبرى الأولى حيث كان التعطل قد ساد، وعم الإيطاليين والألمان قلق؛ أي: خوف، فلما ظهر موسوليني ثم هتلر ودعا كلاهما إلى القوة تأمينًا من الخوف، وجد الأذان الصاغية.
وفي مصر عمدت جماعة في وقت واحد ما إلى الاعتداء على الحانات وتحطيمها، ثم جاء الإخوان المسلمون فجمعوا آلاف الأعضاء من الشبان الذين يحسون قلقًا اقتصاديًّا اجتماعيًّا أو هوانًا وصغارًا لأن مراكزهم لم تكن لها الأهمية التي ترضى الكرامة، فانضووا، ولجأوا إلى جماعتهم هذه كي يكبروا شخصياتهم، ويحس كل منهم أن له رسالة وأنه شخص مهم، ثم عمد بعضهم إلى البطش والتدمير؛ لأن في البطش والتدمير منطقًا نفسيًّا زائفًا يوهم القوة، ومتى توهمنا القوة زال عنا إحساس الضعف والخوف والقلق.
وكثير من شبابنا يجد فرصًا مسدودة وآفاقًا محدودة وانفصالًا اجتماعيًّا يشبه الانكسار، وكثيرًا ما يقع شبابنا في تعطل يكاد يطيح بالعقل، وعندئذ تأخذ الأماني المسرفة مكان الواقع الذي لا يطلق وتنزع النفوس المطربة إلى أية دعوة إلى القوة والبطش، ثم لا يكون من ذلك غير الفوضى والشر.
وتعليل الانضواء يومئ إلى العلاج، وهو أن نزيل عن شبابنا إحساس الخوف والقلق، وأن نرد إليهم الطمأنينة بأن نوفر الأعمال الكريمة ونمنع الاستبداد الذي يجعل حياتهم غير متزنة أو مطمئنة، وكذلك يجب أن نربطهم بالمجتمع بألوان مختلفة من النشاط الاجتماعي السليم؛ كأن نؤلف لهم المنظمات الرياضية والخيرية والثقافية، وكذلك يجب أن تكون لنا أحزاب سياسية سليمة يتعلق الشباب ببرامجها ويشبعون بنشاطها فلا يحتاجوا إلى الانضواء للمنظمات التي تدعو إلى البطش والعنف.