من هو الرجل الناضج؟
التأمل الخارجي للعوامل العالمية، والتأمل الداخلي للعوامل السيكلوجية، يتيحان لنا فهم الرقي الشخصي وتقدير درجاته، بحيث نستطيع أن نميز بين الرجل الفج والرجل الناضج، وبين السعيد والشقي، وبين المتطور والجامد.
وحقائق العالم الخارجي التي يجب أن نفطن لها، والتي بدونها لن يكون هناك نضج، كثيرة؛ إذ هي في الواقع دراسة العمر، ولكنها تنبني على مبادئ، كل مبدأ منها يشمل بعض هذه الحقائق وينظمها.
فحقائق العالم الخارجي تتجلى لنا بالقليل من التأمل، وأبرز ما في هذه الحقائق أنه ليس في هذا العالم شيء ثابت؛ إذ إن كل شيء في تغير أو تطور: الجماد والحيوان والنبات، فأنت اليوم غير ما كنت في الأمس، وغير ما سوف تكون في الغد. وكذلك الحيوان والنبات والماء والطين والمعادن … وإذا كان هناك اختلاف فهو في الدرجة فقط، فنحن نتغير بأسرع وأكثر مما يتغير الذهب أو النحاس، ولكننا جميعًا في تغير لا ينقطع.
والحقيقة الثانية هي أن جميع الكائنات من جماد ونبات وحيوان، إنما هي حلقات منفصلة في سلسلة واحدة، ونحن جميعًا مادة متطورة.
والحقيقة الثالثة أن التطور يجب أن يكون علامة الرقي في المؤسسات البشرية، ولذلك كل مؤسسة تحول دون التطور هي مؤسسة سيئة، وهذا التطور يعني في النهاية تنظيم المجتمع بحيث يرفع البشر من الحيوانية إلى الإنسانية.
وليست كلمات الرفع والرقي ونحوهما من الكلمات التي تطفو في الضباب؛ لأننا نعتمد في فهمها على المقياس العالي للرقي، وهو الإنسان العالي، والإنسان العالي هو الإنسان الناضج.
•••
هذه هي العوامل الخارجية للنضج، وهي العوامل التي تحملنا على دراسة العلوم والآداب والفلسفات، أما العوامل الداخلية التي تؤدي إلى النضج فهي الدراسة السيكلوجية، وما نعرفه من السيكلوجية قليل جدًّا على الرغم من كثرة ما كتب عنها، وربما كانت هذه الكثرة هي اضطراب من الجاهلين لا أكثر. ربما كانت السيكلوجية في النهاية أيسر مما نظن؛ فقد لا تتجاوز تلك البساطة العارية التي يقول بها بافلوف، وهي أن معارفنا وأخلاقنا ومثلياتنا (جمع مثلي مثل حسني) لا تعدو أن تكون رجوعًا انعكاسية مكيفة، ولكن الكلمة الأخيرة لم تقل إلى الآن.
وقصارى القول أننا نعرف هذه الأيام جملة «حقائق»، وهي لا تتنافى مع الرجوع الانعكاسية المكيفة، وأولها أن السنوات الخمس الأولى من العمر هي القدر الذي يسيطر علينا ويوجه حياتنا مدى سبعين أو ثمانين سنة في المستقبل، وأن ما نرثه من آبائنا شيء عظيم، ولكن تربيتنا وبيئتنا في هذه السنوات الخمس أعظم جدًّا في توجيهنا مما نرث. وهناك قليل من الناس قد استطاعوا التغلب على هذا القدر وقبضوا على دفة حياتهم، ولكن ما أقلهم! وما نسميه في الاخلاق حسنًا أو سيئًا، وما نجد من إجرام أو عبقرية، وما نجد من حيوانية أو إنسانية، هو كله ثمرة هذه السنوات الأولى للطفولة.
والثاني أن سن الرشد الزمنية ليست على الدوام سن النضج السيكلوجية، فنجد — مثلًا — رجلًا بلغ من العمر خمسين سنة، ولكنه من حيث السن السيكلوجية لا يزيد على ثماني سنوات أو تسع، يسب ويعربد ويحقد ويثور، وقد يقتل لأقل استفزاز، وذلك لأنه «تجمد» على ما انتهى إليه في هذه السنوات الأولى.
والثالث أن الرجع الانعكاسي المكيف الذي يقول به بافلوف هو عامل من أكبر العوامل للاستقامة أو الاعوجاج، وربما يكون هو كل السيكلوجية العملية، وربما يفتح لنا أبوابًا للإصلاح لا تزال مغلقة بالغيبيات.
والرابع أن ما كنا نسميه غرائز إنما هو ميول لدنة يمكن توجيهها إلى أية ناحية، وأن ٩٩ في المئة مما نسميه غرائز هو اتجاهات اجتماعية قد غرسها فينا المجتمع برجوع انعكاسية مكيفة، فالمجرم يرتكب جريمته بعادات ذهنية وعاطفية اجتماعية وليس بغريزة موروثة، وقل مثل ذلك في الجندي الشجاع والمرأة الجبانة، وفي المؤلف الذكي العالمي والصحفي المهرج الثرثار؛ لأن لكل من هؤلاء «مركبات» هي في صميمها رجوع انعكاسية مكيفة.
فمن هو الرجل الناضج في ضوء العوامل الخارجية العالمية، ثم العوامل الداخلية النفسية التي ذكرناها؟
هو الذي سلط عليه القدر في السنوات الخمس الأولى من عمره من لم يوجهه الوجهة السيئة؛ لأن التخلص مما تعلمناه وتدربنا عليه محال؛ إذ هو يكاد يلازمنا سائر عمرنا. ومن ساء حظه في سني الطفولة فلقي اضطهادًا أو تدليلًا أو حرمانًا من الوجدان الفلسفي أو الاجتماعي الحسن، يحتاج إلى منبهات قوية كي ينتقل من حال الطفولة إلى حال النضج.
الرجل الناضج هو الرجل الناجح في الحياة، ولا نعني هنا بالنجاح في المال أو الأسرة فقط، وإنما نعني النجاح الكلي الذي يشمل الثقافة الشخصية قبل كل شيء، هذه الثقافة التي تحدث فيه وجدانًا اجتماعيًّا وبشريًّا معًا، وهو لذلك يضع عقله فوق غريزته، وإنسانيته فوق حيوانيته. وبهذا المقياس لا نستطيع أن نسمي الرجل المنغمس في شهواته أو مطامعه المالية أو جهوده الاجتماعية ناضجًا، وكذلك المرأة التي تقضي وقتها في التجمل والتبرج ليست ناضجة، إنما النضج أن نعرف أننا نحتوي على عناصر رفيعة هي إنسانيتنا، وأخرى وضيعة هي حيوانيتنا، وأننا وصلنا إلى منعطف الطريق في تطورنا البيولوجي؛ فإما إلى الوراء، إلى الحيوانية، وإما إلى الأمام، إلى الإنسانية؛ إما العقل وإما الغريزة.
ويجب أن يكون موقفنا هذا عامًّا في سلوكنا الاجتماعي والسياسي والعائلي والثقافي، بحيث نتساءل في كل مشكلة تعترضنا: أهنا اندفاع الغريزة أم تأمل الوجدان؟
والرجل الناضج هو الذي ربى نفسه حتى صارت اهتماماته العالمية فوق همومه الشخصية، وذلك لأنه يعرف أن هذه الهموم الشخصية إنما هي هموم لملايين البشر مثله، وأن حلها فيما يتعلق بشخصه يجب أن يكون عامًّا.
وهذا الإحساس هو ما نجده في جميع القديسين؛ سواء أكانوا مدنيين أم دينيين، وحياة غاندي حين أهمل الإهمال التام ثروته الشخصية أو العائلية كي يزيد ثروة الهنود هي برهان النضج، وكذلك نجد هذا الإحساس عند المسيح حين دعي لاستقبال أمه وإخوته فأشار إلى أفراد الشعب قائلًا إنهم هم أمه وإخوته!
والرجل الناضج هو الذي درس الوسائل والغايات في عصره، واستنبط منها مثليات جديدة تجعله يهدف إليها في سلوكه وتفكيره، حتى ولو لم يتلاءموا مع جيله، فإن تولستوي وغاندي والمسيح وبرنارد شو لم يتلاءموا مع الجيل الذي عاش كل منهم في عصره؛ وذلك لأنهم كانوا يهدفون إلى مجتمع أرقى وأكثر إنسانية، كانوا يحاولون أن يجعلوا الإنسان إنسانيًّا.
والرجل الناضج هو الذي اختار ثقافته بعد الدرس والفحص، بحيث أثمرت فيه ديانة بشرية أو عالمية هي احترام الحياة؛ لأنه يعقل ويحس معًا بأن الأحياء جميعها، من الشجرة النابتة في أرجنتينا، إلى الدودة التي تعيش في التربة الصينية، إلى الإنسان الزنجي المضطهد في إفريقيا الجنوبية، إلى أينشتين وأندريه جيد، كل هؤلاء إنما هم حلقات منفصلة في سلسلة الحياة، فاحترام الحياة هو الإحساس الأصيل في كل رجل ناضج.
فهل نستطيع أن نضرب الأمثلة لبعض الناضجين وفق هذه المقاييس التي ذكرنا؟ بالطبع ليست هناك إجابة مطلقة بحيث نستطيع أن نقول إن هذا قد استوفى النضج، وإنما هي درجات نختلف فيها، ثم بين هؤلاء وهؤلاء من نالوا بعضًا منها.
كان تولستوي ناضجًا من حيث أنه وصل إلى ديانة بشرية حملت الكنيسة على حرمانه، وأدت به هذه الديانة البشرية إلى حب عام ملأ صدره وجعله يحس أن آلام الآخرين وأفراحهم هي آلامه هو نفسه وأفراحه، ومن هنا كان سلوكه مع الزارعين لعزبته ومشاجراته التي لم تنقطع بينه وبين أسرته.
وهو وغاندي سواء من حيث التربة الذاتية والوصول إلى هدف واحد نجده في روح البر الذي يعمهما، ولكن نضجهما كان ينقصه الدراسة العلمية والتقدير لممكنات العلم، بل لقد كرها العلم وأحبا كلاهما السذاجة، وكانا مخطئين في هذا.
ويعد جيته أديب ألمانيا، وليوناردو دافنشي الرسام الإيطالي، ناضجين من حيث فطنتهما للعلم وبصرهما بمستقبله، ويمتاز جيته على دافنشي بالروح البشري، فقد كان أوربيًّا عالميًّا، ولم يكن العصر الذي عاش فيه دافنشي ليسمح له بهذا الإحساس أو الوجدان.
وفي أيامنا كثيرون يمتازون بالنضج من حيث إنهم قد استطاعوا أن يقهروا القدر الذي عين لهم أسلوبًا سلوكيًّا أيام السنين الخمس الأولى من أعمارهم، فعمدوا إلى تربية ذاتية جديدة أتاحت لهم هضم المعارف البشرية واستخلاص الديانة البشرية منها، وربما كان إمامهم هنا برناردشو، فإنه بأبحاثه وفنه ومذهبه السياسي والاجتماعي، أعظم الرجال الناضجين في عصرنا.
أما كيف نتوسل إلى تحقيق النضج في أنفسنا فيكون هذا أولًا وقبل كل شيء بتشخيص «المرض» النفسي الذي أحدثته لنا السنين الأولى من الطفولة، ثم معالجته، أو على الأقل التنبه له حتى نبقى على وجدان له، ثم الدراسة، بأن يكون كل منا طالبًا ولو بلغ التسعين من العمر؛ ونعني هنا دراسة الحقائق وليست دراسة المعارف. وأخيرًا تدريب نفوسنا على التطور وعلى الملاءمة الاجتماعية، حتى ولو كانت هذه الملاءمة لمجتمع منشود غير موجود.