الهموم سموم!
يعرف الصيادلة عشرات من السموم المعدنية والنباتية التي تستطيع أن تمزق الأمعاء، أو توقف القلب، أو تشل الأعصاب وتؤدي إلى الموت في أقل من ثانيتين أو بضع دقائق، ولكن القارئ قد لا يدري أنه هو نفسه يفرز سمًّا لا يقل في قوته عن هذه السموم الصيدلية، ويستطيع أن يقتله في أقل من ثانيتين أو بضع دقائق.
وهذه السموم هي عواطفه: عواطف الخوف، والغضب، والكراهية، والغيرة، والشك. ومن الأمثلة التي يجب أن تثبت في أذهان الجمهور أن «الهموم» هي مخاوف مترددة، وضررها أكبر جدًّا؛ لأنها غامضة غير موضحة بحدود؛ فهذه الزوجة تخشى أن يتزوج زوجها أخرى، فهي تدرس كلماته وإيماءاته وهي خائفة مهمومة. وهذا التاجر يخشى المطالبة بديونه أو كساد تجارته، فهو يجتر مخاوفه كما تجتر البقرة طعامها، يخرج هذه المخاوف من صدره إلى عقله، ثم يرددها، ثم يعود فيخرجها، وهو طيلة هذه المدة خائف، قلبه يدق وخواطره تتردد عليه وتغم على نفسه. وهذا الطالب يخشى الرسوب قبل الامتحان بنحو ثلاثة شهور، أو الموظف يخشى معاكسة رئيسه وتربصه به.
هذه هي الهموم، هذه هي المخاوف الغامضة التي تحمل شكوكًا وشبهات؛ أي إننا نتوقع الكارثة التي قد لا تقع، بل الحق أنها لو وقعت لما كان ضررها قريبًا أو مساويًا للشك في توقعها ووقوعها.
الهم هو الشك، هو السم الذي يدور في كياننا ويقتلنا.
وهو ليس سمًّا بالمعنى فقط؛ إذ هو سم بالمادة أيضًا؛ ذلك أن عواطف القلق والخوف التي يحدثها الهم في نفوسنا تثير بعض الغدد الصماء، فتفرز سوائل خاصة تجري في جسمنا، فيزيد الضغط للشرايين إلى حد لا نتحمله، إذ ينفجر الشريان ونموت فورًا في ثانية أو ثانيتين.
وهذه العواطف هي جهازنا الدفاعي القديم الذي كنا نستخدمه قبل مليون أو مليوني سنة، حين كنا حيوانات نعيش بالعاطفة وليس بالعقل، وإلى الآن نحن نجد أن الحيوان كائن عاطفي يستجيب للطوارئ بالهجوم أو الفرار، وبالمصارعة أو الخضوع، فهو يحرق عاطفته أو يلغيها بهذه الحركات؛ ولذلك لا يمكن أن تقتله هذه العواطف.
أما نحن فنكظمها؛ نكظم الغيظ، ونكظم الغيرة، ونكظم الخوف؛ إذ يجب أن نحسب ما سوف نكون عليه بعد عام أو خمسة أعوام، وماذا يحدث عندما نموت، أو عندما يموت الأب أو الزوج أو الابن، والحيوان لا يحس هذه العواطف؛ إذ ليس له مستقبل.
همومنا هي عواطفنا التي لم نهضمها، وهي مادة عائقة لحركة الجسم والنفس.
وهي في حالنا المدنية الأخيرة لا تختلف عن الأظافر التي كنا نتسلح بها قبل مليون سنة ولكننا عرفنا ما هو أفعل منها، ولذلك نحن نقلمها، ولكننا لا نقلم عواطفنا بل نتركها مكظومة فتسمم شراييننا وأعصابنا فتقتلنا.
وقد نشأ لنا عقل كان يجب أن يأخذ مكان العواطف ويؤدي مهمتها، ولكن قل منا من يفعل ذلك أو يقدر على ذلك، ومثل هذا الشخص حين نراه نعده فيلسوفًا؛ لأننا لا نجد الكثيرين منه.
وهذا المتعقل يسوس نفسه ويتصرف في شئونه بالمنطق الاجتماعي، وعندما يحس عواطف الغضب أو الغيرة أو الخوف يتأمل هذه العواطف في وجدان وتعقل ومنطق فتنهزم وتنمحي، فهو لا يكظم ولكنه يحلل.
العاطفة بخار محبوس، وليس هناك من سبيل للتخلص منها سوى الاعتماد على عقولنا.
ومما يجدر ذكره أن هذه العواطف القاتلة تتفشى بين أفراد الطبقة المتوسطة؛ وذلك لأن أطماع هذه الطبقة كثيرة جدًّا، وسبيل تحقيقها ليس سهلًا؛ فطبقة الفقراء التي استسلمت لحالها وارتضت مكانها ليس لها أطماع تثير عواطف الخوف من الفشل أو الشك في ما يئول إليه الغد؛ ولذلك قل أن نجد رجلًا يشكو علة نفسية بين الفقراء، وكذلك الشأن بين الأثرياء في الطبقة العالية؛ إذ إن أفرادها يجدون كل ما يصبون إليه، فلا خوف ولا قلق ولا مطامع.
أما الطبقة المتوسطة التي تليها وتخشى من التردي إلى الطبقة التي تسفلها من الفقراء، فهي بين هموم دائمة، وعواطف ثائرة، وسموم تسري في عروقها.
وعلاج هذه الحال هو الحد من مطامعنا وتسويد العقل على العاطفة، ويجب أن نعلم أن عواطفنا هي أظافرنا التي لم تقلم، وأننا يجب أن نسير في هذه الدنيا بعقولنا الجديدة، وإذا كنا نجد أننا مظلومون فإن هذا الظلم ليس حالة خاصة بنا، وإنما هو خطأ اجتماعي يجب أن يصلح، وإذا نحن اندمجنا في حركة.
ومن أفضل الوسائل للتغلب على عواطفنا وهمومنا أن الصلاحية عامة، فإن هذا النشاط الجديد ينير طريقنا ويكسب حياتنا قصدًا، ويضع الوجدان والتعقل مكان العاطفة والهم، نعمد إلى القلم فنكتب ونشرح هذه الهموم؛ ذلك لأن الكلمات ترفع الهم الغامش إلى التعبير الواضح، وبذلك نحصر الهموم في حدودها، ونزيل عنها هذا الغموض، ونكشف عن حقيقتها التي تبدو لنا — عندئذ — أنها تافهة لا تستحق أن يشتغل بها بالنا.