الطيبة طبية
جرت على ألستنا عبارة «الحرب الباردة» منذ السنوات الأخيرة، وقد فهمنا منها هذا الصراع الصامت بين كتلتي الشرق والغرب في برلين وغير برلين، حين يحتقن الغضب والخوف والريبة في كل منهما، وكلتاهما تستعد للحرب الحامية مع ما يبدو عليهما من الطمأنينة الكاذبة والتفاؤل الزائف.
وهذه العبارة؛ أي: «الحرب الباردة»، تعد من أحسن العبارات التي نستطيع أن نصف بها الحال التعسة التي يحيا بها بعض الناس، فهم في حرب بينهم وبين غيرهم من حيث الحسد والغيرة والبغض والحقد والخوف والشك، وهم في حرب باردة أيضًا بينهم وبين أنفسهم لهذه الصفات نفسها التي تنتقل معهم من المكتب إلى المنزل، فإذا آوى أحدهم إلى فراشه جعل يستعيد أحقاده كأنه يجترها، وهو يأكل بها نفسه، ويضني قواه ويسمم جسمه وعقله بالأفكار الحمراء أو السوداء بشأن هموم ومخاوف كان يستطيع الاستغناء عنها أو التخفيف منها لو أنه نظر نظرة الوجدان وليس نظرة العاطفة.
والمجتمع الاقتنائي الذي نعيش فيه ونأخذ بأخلاقه يغرس في كل منا منذ الطفولة رغبة جنونية في الاقتناء، حتى ليصبح برنامج حياتنا أن نجمع أكثر ما نستطيع من عقارات ومنقولات، وننسى المثل القائل: «ليس للكفن جيوب».
وهذه الرغبة الجنونية في الاقتناء تحملنا على أن نقيس الشرف والعظمة والكرامة والسعادة والتفوق بالاقتناء، وننسى أن إنسانًا عظيمًا مشى على هذه الأرض في عصرنا، هو غاندي، لم يكن يقتني سوى عنزة، وأن عظمته كانت في بعض جوانبها تستند إلى الاستغناء دون الاقتناء.
ومن هنا تنشأ هذه العواطف الكريهة التي نتضور منها حين العجز عن الاقتناء، أو عن المعاني التي تلابسه والتي قد ألصقها المجتمع به، وهي عواطف تشقينا وتشعل في نفوسنا حربًا باردة في صحونا، بل أحيانًا في نومنا، فإن كثيرين ممن يبدو عليهم الهدوء والسلام إذا ناموا انفجرت نفوسهم بما انطوت عليه من حقد وغيرة وبغض وخوف، فهم يشتمون خصومهم وقت النوم، وهم يصرخون خوفًا من كابوس قد تجسمت فيه أوهام النهار والليل في صحوهم ونومهم.
وأي شقاء أكبر من هذا؟
وعلاج هذا الحال ميسور لكل من يتعقل ويرفض الانسياق في تيار هذه العواطف، وهو علاج معروف بين العامة قبل الخاصة، فإننا جميعًا نعرف طراز الرجل الطيب الذي يأنف من البغض والحسد والحقد والغيرة، هذا الرجل القانع الذي يكاد أن يتجنب الاقتناء؛ لأنه يخشى مسئولياته وأعباءه، هذا الرجل لا تسمع منه كلمة الذم أو التنقص لأحد الناس، وقد يقضي على هذه الأرض سبعين أو ثمانين عامًا لا تطأ قدماه طوالها أرض المحكمة شاكيًا أو مشكوًّا.
مثل هذا الرجل سيد لأنه طيب، ولذلك يجب أن نذكر أن الطيبة طبية، وأنها الدواء الذي يجب أن نستشفي به من أمراضنا النفسية، وبدلًا من شراء الأدوية لمعالجة الضغط العالي للدم، واضطراب القلب، والقرحة المعوية، بدلًا من هذا يجب أن نتعلم كيف نتخلص من عواطفنا الكريهة، ونتعقل في وجدان، ونقيس القيم الاجتماعية على صحتها دون أوهامها، ونحاول أن نكون طيبين؛ لأن الطيبة هي الدواء الناجح لجميع أمراضنا النفسية.
وبدلًا من أن نطمع في أن يقال عنا إننا وجهاء أو أثرياء علينا أن نتوخى الطيبة والقناعة.
ولكن هذه الطيبة أو هذه القناعة إنما نعني منهما حالًا شخصية في الشئون الشخصية، أما إذا كان الشأن بشريًّا أو وطنيًّا، أو يتصل بقضية عامة للحق أو الشرف، فإننا يجب أن نتحمل مشاقه، وأن نرضى بكل تضحية في سبيله، وموقفنا هو موقف غاندي الذي كان يخلو من جميع الهموم الشخصية، ولكنه كان يحمل جبالًا من الهموم الوطنية والبشرية، وكان سعيدًا بذلك.
ومما نلاحظه في الهموم الشخصية الأنانية؛ كالخوف من الفقر أو العار أو الشك في النجاح في المهنة أو الغيرة من نجاح الآخرين في المباراة الاقتصادية العامة بين الأفراد أو نحو ذلك، هذه الهموم كثيرًا ما تحطم النفس، ولكننا حين نندغم في حركة وطنية أو بشرية سامية نجد أن الكفاح فيها، وما قد يجره من تضحيات هائلة؛ كالسجن والفقر والحرمان والنفي، كل هذه الكوارث لا تحطم النفس، بل هي ترفعها وتزيدها كرامة ومكانة.
وهذا هو ما يجب أن ننتظر؛ لأننا في همومنا الشخصية؛ كالرغبة في الثراء مثلًا، إنما نطلب بهذا الثراء كرامة ومكانة في المجتمع، ونحن نفقدهما بالفقر، ولكن هذا المجتمع نفسه يعطينا الكرامة والمكانة حين نكافح كفاحًا عامًّا من أجل الحرية أو العدل أو الاستقلال أو السلام، حتى لو حكم علينا بالسجن والنفي والفقر والحرمان.
وإذن يجب أن نكون طيبين مسالمين في علاقتنا الشخصية، قانعين بالكفاف من العيش لأشخاصنا؛ لأن هذه الحال هي حال الصحة النفسية، ولكن يجب أن نكون مكافحين طموحين غير قانعين، ننشد الآفاق الاجتماعية والبشرية السامية.