غزوة الحديبية
أما الرحمن فلا أدري والله ما هو؟!
سهيل بن عمرو
بمجيء شهر ذي القعدة، بداية موسم
الحج الجاهلي، وفجأة، ودون أي علامات أو مُقدِّمات مُنذِرة، يُتِم التحوُّل دورة كبرى،
عن السرايا الصغيرة والغزوات المتناثرة، إلى الهدف الأكبر، يوم قام النبي من نومه
ليُعلِن لأصحابه خبر رؤيا رآها في منامه؛ أنهم يدخلون معه مكة يطوفون بالبيت آمنين. وهو
ما يُعقِّب عليه السهيلي في شروحه: «كان النبي قد رأى ذلك في منامه، ورؤيا الأنبياء وحي.»
١
ومن ثَم، نادى المُنادي بين مُسلِمِي يثرب، وبين عربان جهينة ومزينة وخزاعة وغيرها
من
حلفاء يثرب، الذين حالفوها سياسيًّا بإسلام من البعض وبعدم إسلام من آخرين، ويقول ابن
إسحاق:
واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه … فأبطأ عليه
كثير من الأعراب.
ويُتابِع ابن سعد يقول:
واستنفر رسول الله
ﷺ أصحابه إلى
العمرة، فتهيَّئوا وأسرعوا، ودخل رسول الله
ﷺ بيته فاغتسل ولبس ثوبَين،
وركب راحلته القصواء … ثم دعا بالبُدن التي
ساق فجُلِّلت ثم أشعرها في الشق الأيمن وقلَّدها، وأشعر أصحابه أيضًا … وهي
سبعون بدنة … وأحرم ولبَّى … وخرج معه من المسلمين ألف وستمائة.
٢
ولا شك، أنه مثلما كان للنبي عيونه داخل مكة، فإن مكة ما كان ليفوتها أن تدس عيونًا
لها بيثرب، تلك العيون التي — لا بد — قد أخذتها الدهشة، وهي ترى النبي يفعل فعل قريش،
فيدعو إلى عمرة، ويُمارِس ذات شعائر قريش؛ فيسوق أمامه البُدن (البعير المُساقة هديًا
للذبح) بعد أن جلَّلها وقلَّدها، بل ويسير أمام رجاله يُلبِّي فيُلبُّون، مُعلِنًا أنه
قد جاء ساعيًا مُعتمِرًا لا يريد حربًا،
٣ في الوقت الذي كانت تأتيه عيونه الخزاعية بخبر يقول: «إني تركت كعب بن لؤي
وعامر بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعهم، وهم قاتلوك أو مُقاتِلوك.»
٤
ورغم التظاهرة الدينية الواضحة، التي أرادها النبي رسالة مُبلِّغة إلى قريش؛ لتعلم
أنه جاء مُحترِمًا مشاعرها وشعائرها وطقوسها، وهي الطقوس المُرتبِطة جميعًا بتجارتها
ومكاسبها، وما في تلك الرسالة من طمأنة ضمنية وإبراق فصيح بالتحولات الآتية؛ فإن مكة
لم
ترَ في ذلك العدد الهائل من المُقاتِلين الذين يصل عددهم إلى ألف وستمائة، سوى مُحاوَلة
مكشوفة لدخول مكة تحت ستار العمرة، مُحتمِية بحرمة الأشهر الحرم؛ لتُعمِل سيوفها في بطن
مكة من الداخل بغتة؛ وهو الدرس الذي لم تنسَه قريش منذ سرية عبد الله بن جحش التي
انتهكت الأشهر الحرم، وحلَّلها الكلم القرآني وصادق عليها؛ لذلك ما إن بلغت أخبار بدء
يثرب بالمسير إلى مكة، حتى أخذت مكة تُهيِّئ رجالها على الطريق؛ لتقف في وجه الغزو
الآتي. وبلغ النبي أن على الطريق قد وقف بنو لؤي بجموعهم وخيلهم، فتوجَّه إلى رجاله
قائلًا:
أشيروا عليَّ، أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم، فنُصيبهم؛ فإن
قعدوا موتورين محرومين وإن نجوا تكن عنقًا قطعها الله؟ أم ترون أن نؤمَّ البيت
فمن صدنا عنه قاتلناه؟
٥
كان بإمكان المسلمين أن يميلوا على مضارب بني لؤي
الخالية من الرجال؛ ليقتلوا ما شاءوا من أطفالهم، وتكون عنقًا قطعها الله، وكان
بإمكانهم أن يتوجهوا عن طريق آخر إلى مكة، فإن اعترضتهم قريش قاتلوها؛ وردًّا على
استشارة النبي رجاله جاءه جواب أبي بكر الصديق الحكيم «… من حال بيننا وبين البيت قاتلناه.»
٦
وإعمالًا للمشورة، يُخبِرنا ابن سعد بما تلا ذلك من أحداث، فيقول:
سار النبي
ﷺ حتى دنا من الحديبية، وهي طرف الحرم، على تسعة أميال من
مكة، فوقعت يدا راحلته على ثنية، تُهبِطه على غائط القوم، فبركت، فقال
المسلمون: حل، حل. يزجرونها، فأبت أن تنبعث، فقالوا: خلأت القصواء.
وهنا تأتي برقية جديدة لقريش لمزيد من الطمأنة، تحمل في فحواها معاني لذوي العقول،
في
قول المصطفى
ﷺ:
إنها ما خلأت، لكن حبسها حابس الفيل. أما والله لا يسألونني اليوم خطة فيها
تعظيم حرمة الله، إلا أعطيتهم إياها. ثم زجرها فقامت، فولَّى راجعًا عوده على
بدء، حتى نزل بالناس على ثمد من أثماد الحديبية.
٧
وبينما القوم يُنيخون رحلهم، حمل بشر بن سفيان الكعبي خبرًا آخر عند عسفان، يقول
للنبي:
يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد
لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوًى، يُعاهِدون الله لا تدخلها عليهم أبدًا،
وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدَّموها إلى كراع الغميم. فقال رسول الله
ﷺ:
يا ويح قريش.
لقد أكلتهم الحرب.
ماذا لو خلَّوا بيني وبين سائر العرب؟
فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا،
وإن أظهرني الله عليهم دخلوا الإسلام وافرين،
وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة.
٨
وتحاشيًا للاصطدام بجيش خالد بن الوليد، قال
النبي بين رجاله: «من رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» فيقوم له دليل
يسلك معه النبي وجيشه طريقًا وعرًا بين الشعاب، حتى يهبط الوادي. وتعلم قريش بمكانه،
فتُرسِل له حليفًا له من خزاعة، هو بديل بن ورقاء، برسالة، ليرده إليهم النبي برسالة
أخرى تُؤكِّد أنه جاء مُعظِّمًا لحرمة بيتهم، رمز تجارتهم وسطوتهم وسلطانهم ومعتقدهم.
ويذهب بديل بالرد النبوي ليقول: «يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدًا لم
يأتِ لقتال، إنما جاء زائرًا مُعظِّمًا لهذا البيت.» لكن قريشًا التي تعلم هوى خزاعة
مع
النبي تتهم بديل وتُخوِّنه؛ ذلك الهوى الذي كان يعلمه كُتاب السير والأخبار وهو ما أفصح
عنه ابن كثير في قوله:
وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله
ﷺ مسلمها ومشركها، لا يُخفون عنه
شيئًا كان بمكة.
٩
ولتُجِب على بديل بردها:
وإن كان جاء لا يريد قتالًا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدًا، ولا تُحدِّث
العرب بذلك عنا.
١٠
وتتذاكر قريش ما حدث لقريظة؛ ذلك الحدث الذي أذهل العرب جميعًا وقريشًا بخاصة، فأي
قتال كان في الجزيرة، كان لا يصل إلى إبادة ذلك العدو جميعًا، وإبادة قوم بكاملهم، وما
صحب الحدث من إنذارات تمثَّلت في الآي الكريم:
سَنُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ؛ ليأخذ الرعب بقلب مكة قابضًا منها
على الجوانح والحشايا، وتظن بالنبي الكريم سوء الظن، وتتسارع أنفاسها وهي تتصور دخوله
عليها، ومصيرًا كمصير قريظة وفناء من على وجه الأرض إلى آخر الدهر. فقامت تدفع برسلها
إليه رسولًا في عقب رسول، فتبعث بعد بديل مكرز بن حفص، وهو من عامر بن لؤي الذين يحملون
للنبي كراهية. فلما رآه النبي مُقبِلًا، قال: «هذا رجل غادر.» ثم قال له ما سبق وقال
لبديل ليحمله إلى مكة.
١١
ثم يُردِفون وراء مكرز، الحليس بن علقمة سيد الأحابيش، وهم قوم قد تدروشوا في حب
البيت حتى قدَّسوا أمره جميعًا، وصاروا يُمثِّلون أشد الاتجاهات تعظيمًا لحرمة البيت
وشعائره. فلما رآه النبي قادمًا عن بعد، قال لرجاله: «إن هذا من قوم يتألهون.» ويشرح
ابن سيد الناس مُعقِّبًا شارحًا: «يتألهون: يُعظِّمون أمر الإله. قال الخشني: التألُّه
التعبُّد. ورأيت عن ابن الكلبى في نسب الحليس بن ريان، أنه الحليس بن عمرو بن عامر بن
المغفل.»
١٢ ومن هنا كان التصرف الذي يمكن أن يُقنِع الحليس، فقال النبي بسرعة: «ابعثوا
الهدي في وجهه حتى يراه.» أي أرسلوا النوق المُشعَّرة المُجلَّلة المُهداة للذبح
ليراها، وهنا يقول ابن هشام:
فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول
الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله
ﷺ إعظامًا لما رأى،
فقال لهم ذلك، فقالوا: اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
١٣
وتُرسِل قريش رسولًا آخر إلى مجلس النبي، من سادة ثقيف، هو «عروة بن مسعود الثقفي»،
الذي وصل إلى مجلس النبي وجلس قبالته مباشرة، ليُفصِح عن رعب قريش وذكرى قريظة في
قوله:
يا محمد،
أرأيت إن استأصلت قومك،
فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟
يا محمد،
جمعت أوشاب الناس (الأوباش)، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟
لَكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدًا!
لكن ليرد عليه أبو بكر على الفور:
امصُص بظر اللات.
أنحن ننكشف عنه؟
فيلتفت عروة ليسأل النبي: من هذا يا محمد؟
ولما لم يكن من المقبول ألا يعرف عروة شخصية
أبي بكر، فإن الاستنتاج هو أن أبا بكر كان مُلبَّسًا بالحديد، خوذة ودروع، ويُجيبه
النبي: «هذا ابن أبي قحافة.» فيرد عليه عروة مُعرِضًا عن إهانته: «والله لولا يد كانت
لك عندي لكافأتك بهذا، ولكن هذه بها.»
ويستمر عروة يُحدِّث النبي، ويتناول لحية رسول الله
ﷺ كلما حدثه، «والمغيرة بن
شعبة واقف على رأس رسول الله
ﷺ في الحديد فجعل يقرع يده إذا تناوَل لحية الرسول
ﷺ ويقول: اكفُف يدك عن وجه رسول الله قبل ألا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك ما
أفظك، ما أغلظك!»
ويبتسم رسول الله؛ لأن عروة لم يعرف ابن أخيه وهو مُدرَّع بالحديد، ذلك الحديد الذي
كان كافيًا لإقناع عروة أن الأمر ليس أمر عمرة أبدًا، ويتساءل عروة: من هذا يا محمد؟
فيُجيبه: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة.
وكان المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلًا من بني مالك، ثم فرَّ إلى النبي مسلمًا، ودفع
عنه عمه عروة ديتهم جميعًا، وهنا يقول عروة للمغيرة: «أيْ غُدَر؟ وهل غسلتُ سوءتك إلا
بالأمس؟»
ويتطلع عروة حوله؛ فيرى بين إبل الهدي جملًا مُهدًى لأبي جهل، وهو ما جاء في قول ابن
عباس: «إن رسول الله
ﷺ أهدى عام الحديبية في هداياه جملًا لأبي جهل، في رأسه برة
من فضة.»
ويُقلِّب عروة النظر هنا وهناك فيزداد عجبًا؛ فالرسول لا يبصق بصاقًا إلا ابتدره
أصحابه، ولا يتنخم نخامة إلا تسابقوا عليها يتلقونها بأكفهم يدلكون بها وجوههم، ولا
يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، ولا يُحِدون النظر
إليه تعظيمًا وإجلالًا، فينهض الرجل مشدوهًا مبهوتًا، ويعود إلى قريش يقول:
يا معشر قريش،
إني قد جئت كسرى في ملكه،
وقيصر في ملكه،
والنجاشي في ملكه،
وإني والله ما رأيت ملكًا قط في قومه،
وهنا يخطر للنبي خاطر، قبل أن تعود إليه رسل مكة، فيختار من رجاله رجلًا عزيزًا على
ملأ مكة وأشرافهم من الأمويين، هو «عثمان بن عفان» الأموي، فيُرسِله إلى أهله بمكة يحمل
رسالة إليهم. ويتأخر عثمان في العودة، لأمر كان مقدورًا في باطن الزمان؛ حيث تسري شائعة
لا نعلم من أطلقها؛ أن عثمان بن عفان قد قتلته قريش؛ ومن ثَم توجَّب الانتقام، فيدعو
النبي المسلمين فجأة ودون مُقدِّمات واضحة، إلى بيعته، تسليمًا له في أي قرار ويتخذه
دون مناقشة، فكانت بيعة الرضوان على أي أمر يراه النبي حتى لو كان الموت؛ ومن هنا كانت
تلك البيعة تسليمًا لما هو في باطن الساعات الآتية، آتٍ. وكُوفِئ جميع من أعطى التسليم
في قول النبي لهم: «لا يدخل النار إن شاء الله أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها.»
١٥
وبانتهاء البيعة، يظهر عثمان بن عفان سليمًا مُعافًى ليس فيه شيء، وتعلم قريش أنها
لن
تستطيع أن تُزحزِح محمدًا ورجاله، وأنها لن تنجو من مصير قريظة إلا بالتساهل، خاصةً
بعدما بلغتها الرسالة: «والله لا يسألونني اليوم خطة فيها تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم
إياها.» وهي ما تعني رغبة في الصلح.
وتساهلت قريش فأرسلت سهيل بن عمرو، رجل المُفاوَضات المُحنَّك إلى النبي، لكنها بدافع
من الأنفة والعزة، وضعت للصلح شروطًا تضمن لها كرامتها أمام الأعراب، وهو ما وعاه النبي
فورَ أن رأى سهيلًا يُهِل على المسلمين، فالتفت إلى رجاله يقول: «لقد سهَّل الله لكم
أمركم.»
١٦
ويجلس سهيل مع النبي، ويعرض عليه عروض مكة؛ وهي الصلح بهدنة مدتها عشر سنوات، لا
يتعرض فيها أحد للآخر، وهو ما يضمن عودة الأمان للطريق التجاري. ويوافق النبي.
وأن من أحب أن يُحالِف قريشًا من العرب حالفها، ومن أحب مُحالَفة محمد حالفه.
ويُوافِق النبي.
وترتفع المطالب المكية تدريجيًّا للاختبار وجس النبض، ليقول سهيل:
ومن أتى محمدًا بغير إذن وليِّه ردَّه إليهم. ويُوافِق النبي.
ثم تتعالى نبرة التشدُّد أكثر فيقول سهيل: وأنه من أتى قريشًا من أصحاب محمد لم يردوه
إليه. ويُوافِق النبي.
ويستمر سهيل: ويعود محمد برجاله عن مكة هذا العام ليعودوا في العام المُقبِل دون سلاح
أو حديد إلا سلاح الراكب المسافر العادي، حيث يتركها لهم أهلها ثلاثة أيام، يعتمر بها
ثم يتركها مُغادِرًا. ويُوافِق النبي.
ويقول ابن كثير إن المسلمين وهم يرون تشدُّد سهيل وتساهُل النبي أمامه كادوا يهلكون
غمًّا وغيظًا ونكدًا. ويزداد الغم عندما تبدأ كتابة كتاب الصلح الرسمي؛ فعندما بدأ
النبي يُملي علي بن أبي طالب الكتاب قائلًا: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم.» رد سهيل
على الفور:
أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو!
اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب.
ويهتف المسلمون بالرفض والاستهجان والشجب، يُصِرون على «بسم الله الرحمن الرحيم»،
لكن
النبي يقول لعلي: «اكتب: باسمك اللهم، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.»
لكن ليعترض سهيل مرة أخرى بالقول:
لو كنا نعلم أنك رسول الله،
ما قاتلناك، لكن اكتب اسمك،
واسم أبيك.
فيأمر النبي عليًّا أن يمحو «رسول الله»، فيرفض علي رفضًا قاطعًا قائلًا: «والله
لا
أمحاك أبدًا.» فيُمسِك النبي الصحيفة — فيما روى البخاري — ويمحو «رسول الله»، ويكتب
بخط يده «محمد بن عبد الله».
١٧
وبينما المسلمون في غم وشدة وكرب، يأتي ما يزيد الهم همًّا والكرب كروبًا؛ فيُفاجئهم
أبو جندل بن سهيل بن عمرو قد انفلت من مكة يرسف في قيوده ليصل في تلك اللحظة الحرجة إلى
النبي جالسًا مع أبيه يكتتبون صلحهم ليقفز سهيل بن عمرو قائلًا للنبي
ﷺ: «وهذا
يا محمد أول من أُقاضِيك عليه أن ترده.» فيرد النبي: «إنا لم نقضِ الكتاب بعد.» لكن
ليرد سهيل بعنف، مُقسِمًا إن لم يفعل: «والله لا نُصالِحك على شيء أبدًا.» فيقول النبي
ﷺ: «إذن فأجِره لي.» فيقول أبوه: «ما أنا بمُجيره لك.» فيعود النبي للقول
راجيًا: «بلى، فافعل.» لكن ليرد سهيل: «ما أنا بفاعل.»
ويروي لنا ابن كثير تفاصيل تلك الوقائع فيما يروى:
فبينما رسول الله
ﷺ يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن
سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، وقد انفلت إلى رسول الله
ﷺ وكان أصحاب
رسول الله
ﷺ قد خرجوا لا يشكُّون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله
ﷺ. فلما رأوا من الصلح، والرجوع، وما تحمَّل عليه رسول الله في نفسه،
دخل من ذلك أمر عظيم على الناس حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل أبا جندل، قام
إليه فضرب وجهه وأخذ بتلابيبه وقال: يا محمد قد لجَّت القضية بيني وبينك قبل أن
يأتيك هذا. قال: صدقت. فجعل ينتزه بتلبيبه ويجره، يرده إلى قريش؛ وجعل أبو جندل
يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أُرَد إلى المشركين يفتنوني في ديني. فزاد
ذلك الناس إلى ما بهم. فقال رسول الله
ﷺ: يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن
الله جاعل لك ولمن معك من المُستضعَفين مخرجًا، إنا عقدنا مع القوم صلحًا،
وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهدًا، وإنا لا نغدر بهم. فوثب عمر بن الخطاب يمشي
مع أبي جندل إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم
أحدهم دم كلب. ويُدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب
أباه، فضن الرجل بأبيه.
١٨
وقد لقي عمر بن الخطاب من أمر هذا الصلح رهقًا شديدًا استنفره استنفارًا حتى ذهب
إلى
النبي يقول:
ألم تعِدنا أن نأتي البيت ونطوف به؟
قال: نعم.
وبين الإجابة، وبين واقع ما يحدث، أخذت الحيرة والرعدة الغاضبة عمر ليذهب إلى أبي
بكر
يقول في حوار مُتوتِّر:
عمر
:
يا أبا بكر، أليس برسول الله؟
أبو بكر
:
بلى.
عمر
:
أوَلسنا بالمسلمين؟
أبو بكر
:
بلى.
عمر
:
أوَليسوا بالمشركين؟
أبو بكر
:
بلى.
عمر
:
فعلامَ نُعطي الدنية في ديننا؟
أبو بكر
:
يا عمر، الزم غرزه؛ فإني أشهد أنه رسول الله.
عمر
:
وما شككت منذ أسلمت إلا الساعة!
ويشرح السهيلي مُعقِّبًا على قولة عمر، التي لم تُحوِّله إلى منافق كما هي العادة
مع
المعترضين والشكاكين:
وفي هذا أن المؤمن قد يشك، ثم يُحدِّد النظر في دلائل الحق، فيذهب شكه، وقد
رُوِي عن ابن عباس أنه قال: هو شيء لا يسلم منه أحد.
١٩
وأمام شك رجل في وزن عمر، وهو من هو، وهو وزير الرسول، وهو الذي عز به الإسلام، جاء
الوحي ليقطع الشك باليقين الصادق مُؤكِّدًا:
لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ
(الفتح: ٢٧).
وإِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (الفتح:
١).
ومع تأكيد الوحي أن الرؤيا قد صدقت، وأن كتاب
الصلح كان فتحًا مُبينًا، كان يُفترَض أن يهدأ الأمر ويستكين، لكن بعض صحابة رسول الله
ﷺ كان لهم رأي آخر؛ «فقال رجل من أصحاب رسول الله
ﷺ: ما هذا بفتح؛ لقد
صدونا عن البيت، وصُد هدينا. ورد رسول الله رجلَين من المسلمين كانا قد خرجا إليه، فبلغ
رسول الله
ﷺ قول أولئك فقال: «بئس الكلام، بل هو أعظم الفتح.»
٢٠ ومن ثم يُثني ابن هشام مُوضِّحًا ما حدث من لبس عند الصحابة، فيقول: «إن
بعض من كان مع رسول الله
ﷺ قال له لما قدم المدينة: ألمْ تقُل يا رسول الله إنك
تدخل مكة آمنًا؟ قال: بلى. أفقلت لكم من عامي هذا؟ قالوا: لا. قال: فهو كما قال لي
جبريل عليه السلام.»
٢١
ونعود إلى المسلمين وهم في كربهم إبان كتابة الصحيفة الرسمية في اتفاق هدنة ومصالحة،
لنرى النبي بعد توقيعات الشهود يقوم يُنادي رجاله لاستكمال شعائر العمرة التي لم تتم،
قائلًا: «قوموا فانحروا ثم احلقوا.» ليقول لنا ابن الأثير إن الناس جميعًا قد تعصَّبوا
على رسول الله، في قوله: «فما قام أحد، حتى قال ذلك مرارًا، فلم يقُم أحد منهم، فدخل
على أم سلمة فذكر لها ذلك، فقالت: يا نبي الله، اخرج ولا تُكلِّم أحدًا منهم، حتى تنحر
بدنك وتحلق شعرك. ففعل. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا
غمًّا.»
٢٢
ويقول ابن هشام إن النبي «قدم إلى هديه فنحره،
ثم جلس فحلق … فرأى الناس أن رسول الله قد نحر وحلق، فوثبوا ينحرون ويحلقون … عن
ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصَّر آخرون. قال رسول الله: يرحم الله
المُحلِّقين. قالوا: والمُقصِّرين يا رسول الله؟ قال: يرحم الله المُحلِّقين. قالوا
والمُقصِّرين يا رسول الله؟ قال: والمُقصِّرين. فقالوا: يا رسول الله، فلمَ ظاهرت
بالترحيم للمُحلِّقين دون المُقصِّرين؟ قال: لم يشكُّوا.»
٢٣
أما الرجل الآخر الذي جاء النبي مسلمًا فرده
إعمالًا لبنود الهدنة، فهو أبو بصير بن عتبة، حيث هرب إلى يثرب ولحق بالرسول
ﷺ
فكتب فيه للنبي الأزهر بن عوف والأخنس بن شريق، وبعثا بالكتاب رجلًا من بني عامر ومعه
مولًى له، يطلبون رد أبي بصير، فرده معهما، لكن ما إن غادروا يثرب حتى انتهز أبو بصير
فرصة أخذ فيها سيف العامري وقتله، وعاد للنبي يقول: «يا رسول الله وفَّيت ذمتك، وأدَّى
الله عنك. أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أُفتَن فيه، أو يُعبَث بي.» وغادر
أبو بصير مجلس النبي مُيمِّمًا خارج يثرب نحو الساحل، على طريق تجارة قريش، ليتبعه
النبي بقوله يُردِّد:
ويل أمه مِحَش حرب،
لو كان معه رجال.
وبلغت كلمات النبي المُستضعَفين بمكة «لو كان
معه رجال» فخرج إليه نحو سبعين رجلًا من المُستضعَفين يقطعون تجارة قريش، يقتلون رجالها
ويسلبون ما فيها، حتى اضطرت قريش أن تكتب للنبي تسأله فيها بصلة الرحم أن يأوي أبا بصير
ورجاله في يثرب، وأنها لا حاجة لها بهم، فعادوا إلى يثرب بموافقة مكة، ورغم بنود عهد
الهدنة.
٢٤
ولم يكن ذلك أول كسر لبنود صحيفة الهدنة، وهو وإن تم برضا قريش، فهو رضا المُكرَه،
وكان بتحريض من النبي، لكن حدثت كسور أخرى، عندما هربت أم كلثوم بنت عقبة إلى النبي،
وخرج وراءها أخواها عمارة والوليد يطلبان ردَّها بمُوجِب شروط عهد الحديبية، وببساطة
تامة يقول ابن هشام عن رد النبي
ﷺ: «فلم يفعل، أبى الله ذلك.»
٢٥ فالله هو الذي أبى وليس النبي، بدليل الوحي القائل:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ (الممتحنة:
١٠).
ورغم تأكيد النبي، والله، أن ما حدث يوم الحديبية كان أعظم الفتح، فإن هناك من شك،
وهناك من اعترض؛ ومن جانبهم رأى كُتاب السير والأخبار أن يُضيفوا للأمر بعض المُبهِرات
من أحاجيهم المعتادة، فيروي البيهقي عن البراء:
كنا مع النبي أربع عشرة مئة، والحديبية بئر فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة،
فبلغ ذلك النبي
ﷺ فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء ماء منها،
فتوضَّأ ثم مضمض ودعا، ثم صبَّه فيها، فتركها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا نحن
وركائبنا.
ومعجزة مائية أخرى، يرويها لنا الصحابي جابر في حوار له مع شعبة إذا يقول:
أُتِي رسول الله بماء في تَور، فوضع يده فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه
كأنه العيون، قال: فشربنا ووسِعنا وكفانا. قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف
لكفانا، كنا ألفًا وخمسمائة.
٢٦
ثم معجزة ثالثة حول تكثير الطعام عندما جاع الجيش في قول الصحابة
للنبي:
يا رسول الله، لو انتحرنا من ظهورنا، فأكلنا من لحومها وشحومها وحسَونا من
المرق، أصبحنا غدًا إذا غدونا عليهم وبنا جمام. قال: لا، ولكن ائتوني بما فضل
من أزوادكم. فبسطوا أنطاعًا ثم صبوا عليها فضول ما فضل من أزوادهم. فدعا عليها
رسول الله
ﷺ بالبركة، فأكلوا حتى تضلَّعوا شبعًا، ثم لفلفوا فضول ما فضل
من أزوادهم في جُرُبهم … عن عبد الله قال … كنا نأكل مع النبي ونحن نسمع تسبيح الطعام.
٢٧
نتائج الحديبية
يقول ابن الأثير عن صلح الحديبية: «فما فُتِح في الإسلام قبله فتح أعظم منه؛ حيث
آمن الناس كلهم، فدخل الإسلام في تَينك السنتَين مثلما دخل فيه قبل ذلك وأكثر.»
٢٨ ويقصد ابن الأثير بالسنتَين، السنتَين اللتَين مرَّتا ما بين صلح
الحديبية وبين عام فتح مكة، وهو الفتح الذي سبق وشك فيه الصحابة، وتساءلوا رغم
الوحي الواضح: أوَفتح هو؟ حتى اضطر سيد الخلق على القسم بالله للناس أنه فتح
قائلًا: «إي والذي نفسي بيده إنه لفتح.»
٢٩ فكيف يمكن رؤية ما حدث في الحديبية باعتباره بالفعل أعظم
الفتوح؟
إن قليلًا من التمعُّن في خط سير الأحداث، سيكشف من فوره عن صلح الحديبية كفتح
عظيم بالفعل، وعمل دبلوماسي من أعظم أعمال الدبلوماسية والسياسية، يستحق أن تدرسه
بإمعان أكاديميات العالم العسكرية، وأنه كان بمصداقية الرسول الكريم وبلاغة الوحي
الصادق، هو الباب إلى فتح الفتوح.
لو عُدنا قليلًا إلى الوراء نُطالِع تطوُّر الأحداث بعد غزوة الخندق سنلحظ دون
جهد يُذكَر أن خيبر بعد نزول يهود يثرب إليها بقياداتها، ودورها الذي قامت به في
الخندق، قد تحوَّلت إلى مركز قوة طالع، مع النشاط الذي لم يهدأ لليهود بين قبيلتَي
أسد وغطفان لتجديد الأحلاف القديمة، مع الإغراء بمِيرة خيبر الزراعية، ناهيك عن
مفاوضاتهم لقبائل الشمال من فدك وما وراءها.
وكان وصول المعلومات إلى النبي عن خيبر أولًا بأول قد كوَّنت لديه فكرة واضحة عن
تنامي قوة خيبر، بحيث دخلت توازنات القوى في الجزيرة وأصبحت مركز قوة جديد أصاب تلك
التوازنات باختلال، أزاح قريشًا إلى موقع خلفي، وكان معنى أن تُترَك خيبر تتنامى
دون تدخُّل يحد من ذلك التطور، فهو ما كان يعني أن المدينة سوف تُصبِح بين طرفَي
معادلة شديدة الخطورة؛ فخيبر في الشمال مع أحلافها، وقريش في الجنوب، وأي تحالف
ثنائي بين خيبر وقريش كما حدث في الخندق كان كفيلًا بتهديد حقيقي لدولة
يثرب.
ومن ثَم كانت عمرة الحديبية التي وعى مُؤرِّخونا أهدافها فأسمَوها غزوة الحديبية،
حيث كان النبي قد توجَّه نحوها بعسكره مُسلَّحين مُدرَّعين مُلبَّسين بالسلاح، لكنه
عندما التقى ببديل بن ورقاء الخزاعي حمَّله إلى قريش رسالة واضحة تقول:
إننا لم نجِئ لقتال أحد،
ولكننا جئنا مُعتمِرين.
وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأخذت بهم؛
فإن شاءوا مادَدتهم مدة ويُخَلوا بيني وبين الناس،
وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا،
وإلا فقد حُموا.
وإن هم أبَوا،
فوالذي نفسي بيده لأُقاتِلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو ليُنفِذن
الله أمره.
٣٠
وهكذا أعلن النبي لقريش أنه يعلم بحالتها المُنهَكة والمُتردِّية، وأنه مع ذلك
يعرض عليها من الخيارات ثلاثة: أولاها هدنة مُحدَّدة المدة؛ وكي يدفعهم لقبول
الهدنة، أرفق بخيار الهدنة خيارات أخرى أشد قسوة عليهم، وجاءهم بقوة مسلحة قادرة،
ولم يُعلِن لأصحابه أبدًا الرغبة في الهدنة بل وعدهم بالفتح، حتى يظهروا أمام قريش
وسفاراتها إليهم في أكمل استعداد للانقضاض، ولم يُظهِر لهم إطلاقًا ما قر في ضميره
لدفع قريش إلى قبول الهدنة.
وقد وضح لدينا مدى شعور قريش بالضعف، الذي ظهر في إرسالها السفراء واحدًا إثر
آخر. أما أبرز الشواهد على أن النية على الهدنة كانت معقودة بداخله وحده، وربما علم
بها أبو بكر فقط، تتمثل في أنه سمح بتسرُّب الأخبار لقريش عن مسيره إليها، بقصد أن
يعلموا بتحرُّكه، ثم إعلانه ذلك صراحة لكن ضمن خيارات أخرى، مع تشديده على رجاله
بإظهار القوة، ثم خطوته المحسوبة بدقة بإرسال عثمان بن عفان الأموي تحديدًا برسالته
إلى أهل مكة، ثم حرصه الواضح بعد ذلك لتذليل كل العقبات التي تقف أمام عقد الهدنة
مع سهيل بن عمرو، مع ذلك القدر من المرونة الذي فاجأ رجاله وجعلهم يجأرون بالمعارضة
والوجيعة مما يحدث.
لأول مرة يعترف الملأ المكي سادة الحجاز وأشراف العرب، أصحاب الأشهر الحرم، وأهل
الله ورعاة بيته، رجال العرب المُقدَّمون وسراتهم، لأول مرة يعترفون في عهد مكتوب
وكتاب مُوثَّق بشهادات الشهود، بدولة يثرب، وبسيدها؛ اعتراف واضح من سيد لسيد أنه
سيد، بل هو اعتراف من سادة العرب للسيد الجديد أنه رئيس دولة مُستقِلة ذات سيادة،
وهو ما يعني تخلي قريش عن فكرة قيادتها وحدها للعرب، بدليل البند الخاص بترك الحرية
لمن أراد أن يدخل في عقد محمد، واكتفائها بتحصين نفسها ضد مُؤثِّراته؛ وهو الأمر
الذي سمح بعد ذلك بانتشار أتباعه يدعون بين العرب، ودخول العرب في حلف يثرب بأعداد
لم تشهدها الدولة من قبل. أليس ذلك إذن فتحًا حقيقيًّا من وجهة نظر الدبلوماسية،
والتكتيكات العسكرية المرحلية؟
ومن بنود الصحيفة أصبح بإمكان النبي مع رجاله أن يزوروا مكة أيامًا ثلاثة، وهو
أمر شديد الخطورة؛ حيث سيكون بإمكان أهل مكة أن يروا بنيانه ودولته ورجاله عن قرب
مما يُتيح لهم المقارنة والفهم.
كما أدَّت الحديبية إلى تفكُّك المجتمع المكي وانهيار مُقاوَمته النفسية بعد
تدهور قناعة أهل مكة بإمكان استمرار وضع قريش السيادي؛ ومن ثَم دخل رجالهم
المُقدَّمون في دين الله، وكان أبرزهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن
طلحة.
كان اليهود يُشكِّلون في بداية الأمر مَطمحًا لدعوة الإسلام؛ للانضواء تحت لوائها
واتباع صاحبها، لكن بمضي الوقت تكشَّف لليهود وللنبي
ﷺ اختلاف توجهاتهم بل
وتضاربها، وكان استمرار وجود اليهود في يثرب على يهوديتهم يُشكِّل شرخًا عميقًا في
بناء دولة قامت على أيديولوجيا دينية واحدة مُوحَّدة؛ وعليه فقد كانوا عقبة كأداء
بحسبانهم أصحاب كتاب من ذات المصدر السماوي الذي يأتي منه الكلم القرآني، وكان
مُفترَضًا أن يكونوا مُصدِّقين لما أتى محمد من آي الكتاب القرآني، لكنهم إطلاقًا
لم يعترفوا له بهذه الصلة مع السماء، وكان رأيهم باعتبارهم أصحاب الكتاب الأول هو
العامل الحاسم لدى العربان في مدى صدق علاقة الآي القرآني بالسماء، لكن وجودهم في
يثرب وعدم اتباعهم دعوة النبي الدينية حمل للعربان إشارات واضحة ودلالات بإنكارهم
عليه تلك النبوة، فكانوا المُنكِر السماوي القائم في الواقع العربي للوحي القرآني؛
وهو ما أدَّى إلى بدء صراع طويل معهم انتهى بطردهم من يثرب، وطردهم من رحمة الإله
بعدما كانوا عنده أفضل العالمين، وتم أثناء ذلك إزاحة رموزهم الدينية إلى الوراء،
فحلَّت الكعبة المكية محل أورشليم، وعاد النبي إلى تمجيد المعبد الذي قدَّسه
الجاهليون طوال عصورهم الجاهلية، وهي العودة التي صحبت باحترام ذلك البناء المكي
المُتواضِع هندسيًّا ومعماريًّا، وإلقائه في رحم تاريخ أقدم يعود به إلى زمن آدم ثم
إبراهيم فإسماعيل. وهو التحول الذي لفت انتباه قريش، حيث بدأت تلحظ ما يمكن أن
يتحقق لها مع محمد وبه، وهم يرونه نتيجة الخندق يتخلص من آخر يهودي بيثرب، ليتحول
تمامًا مع غزوة الحديبية إلى المشاعر العربية القرشية المكية، فيُهِل بالمناسك
الأولى التي هي مناسكهم وأعرافهم التي تواضعوا عليها. ثم لا شك يتذكرون قول عتبة بن
ربيعة حكيمها المُقدَّم، وهو يقول لهم منذ زمان قبل أن يُواريه ثرى بدر: «أطيعوني
وخلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن للذي سمعت منه
نبأ؛ فإن أصابته العرب فقد كُفِيتموه بغيركم، وإن ظهر على العرب فمُلكه ملككم وعزه
عزكم وكنتم أسعد الناس به.»
والمقصد من هذا كله أن عقلاء مكة، قد أصبحوا الآن يرون ما لم يكن بإمكانهم رؤيته
من قبل، خاصة بعد أن وجَّه أنظارهم لما ينتظرهم من أمجاد، بغزواته على حدود الروم
فيما بين ٦٢٦ و٦٢٩. وجلَّى لديهم أنهم فقط بالاتفاق السلمي والتسليم له ولقيادته،
يمكنهم المحافظة على مكانتهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، والخروج معه إلى
الدنيا الرحبة، خاصة بعد أن رأت النبي
ﷺ يفتح لها الأبواب ويعُد لها المواقع
في منظومة دولته سياسيًّا ودينيًّا واقتصاديًّا ومجتمعيًّا.
وكان اعتراف النبي لقريش بقواعد التعامل مع البيت المكي الحرام، وبالعمرة،
وبالنسق الديني الجاهلي المُتعلِّق بالكعبة، بلاغًا واضح المعاني والمعالم بخطواته
التوفيقية الجديدة؛ ومن ثَم تصرَّف النبي في الحديبية بحنكة ومهارة رجل السياسة
وسائس الدولة الدبلوماسي، وهو ما لم يفهمه المسلمون الصحابة لأول وهلة، بينما كان
عروة بن مسعود يعود يُعلِن لقريش قبيلة النبي أن ولدهم قد أصبح ملكًا لا تُدانيه
ملوك الأرض، وأنه ما رأى ملكًا مثله قط، وهي مجموعة المتوافقات التي أدَّت خلال
الهدنة، بل خلال أشهر قليلة، إلى اندفاع العربان وجند قريش إلى سيد الدولة
اليثربية، يُعلِنون الطاعة والإسلام، وعلى رأسهم خالد بن الوليد، الجندي الحاذق
الذي سيُصبِح سيف الدولة وسيف الله، وعمرو بن العاص داهية العرب ورجل السياسة الذي
لا يُشَق لمكره غبار، وغيرهم ممن شكلوا من بعيد قيادات العسكرتاريا العربية.
وتأسيسًا على ما أدَّت إليه الحديبية من اعتراف سادة العرب لمحمد بالسيادة، مع
الاعتراف الواضح بدولته، صنع الرسول لنفسه وللدولة خاتمًا رسميًّا؛ ليُصدِّق به على
رسائله الرسمية للعالم، التي بدأت تفد على الملوك والقياصرة ممهورة بخاتمه، يدعوهم
فيها إلى اتباعه، ووصلت تلك البعوث الأولى من العرب إلى الدنيا تُعلِن النجاشي
والمقوقس وعظيم الروم وكسرى فارس بقيام دولة جديدة على خريطة عالم ذلك
الزمان.
أما النتيجة الأهم إطلاقًا وتتشابك مع كل الأسباب والنتائج، فهي أن النبي قد
تمكَّن بصلح الحديبية من تأمين خطوطه الخلفية من أي تحرُّك مُعادٍ تقوم به قريش،
ومع انهيار قريش توجَّه النبي إلى مركز القوة الصاعد، إلى خيبر.