الإسلام وقاء
الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حتى يقوم بلال ينهق فوق
الكعبة.
خالد بن أُسَيد
وهكذا أمِنت قريش بالحديبية على تجارتها، وعلى حلفائها، لكن التكوين العسكري لدولة
يثرب، وقيام العسكرية فيها على المغانم، كان يتطلب دومًا إيجاد المنافذ لهؤلاء الجند؛
ومن ثَم استمرت سياسة السرايا العسكرية على قبائل العرب، فخرج أبو بكر على رأس سرية
أغار بها فجأة على بني فزارة، ليقتل الناس على مائهم، ويغنم المال والذراري والنساء،
وينفل أبو بكر فتاة غاية في الجمال ويمنحها للصحابي سلمة مكافأة له على بلائه، ويحكي
سلمة كيف حصل على تلك الغادة الموصوفة بأحسن العرب، في قوله:
إنه لما اشتدت المعركة مع فزارة، نظرت إلى عنق من الناس فيه من الذرية
والنساء نحو الجبل، وأنا أعدو في آثارهم، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت
بسهم وقع بينهم وبين الجبل، فجئت أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء،
ومنهم امرأة من فزارة عليها قشع من أدم، ومعها ابنة لها من أحسن العرب، فنفلني
أبو بكر بنتها.
فما كشفت لها ثوبًا حتى قدمنا المدينة، ثم بت فلم أكشف لها ثوبًا، فلقيني رسول الله
ﷺ في السوق، فقال لي: يا سلمة، هب لي المرأة. فقلت: والله يا رسول الله لقد
أعجبتني وما كشفت لها ثوبًا. فسكت رسول الله
ﷺ وتركني حتى إذا كان الغد لقيني
رسول الله
ﷺ في السوق فقال: يا سلمة، هب لي المرأة. فقلت: يا رسول الله
ﷺ، والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبًا. فسكت رسول الله
ﷺ وتركني، حتى
إذا كان الغد لقيني رسول الله
ﷺ في السوق فقال: يا سلمة، هب لي المرأة لله أبوك.
قلت: يا رسول الله ما كشفت لها ثوبًا وهي لك يا رسول الله.
ويشي إصرار الرواية على أن سلمة لم يكشف لها ثوبًا، أنها ستنتهي إلى رسول الله، لكن
الرواية تستمر لتقول: «بعث بها رسول الله
ﷺ إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من
المسلمين، ففداهم رسول الله
ﷺ بتلك المرأة.»
١ وفي هذه الإضافة خلل واضح، حيث لم يكن في ذلك الوقت تحديدًا أي أسارى من
المسلمين في مكة، كما كان العقد قد وقع بالحديبية في هدنة مدتها من السنوات عشر. وتظل
هذه المرأة غير المُسمَّاة بكتبنا التراثية لغزًا غامضًا رغم إشارة الأحداث إلى بقائها
بحوزة النبي.
وبعد سرية أبي بكر إلى فزارة خرج عمر بن الخطاب على رأس سرية إلى تربة من وراء مكة،
فهرب الناس وعاد عمر ورجاله إلى يثرب، ثم تلتها سرية ثالثة بقيادة بشير بن سعيد إلى بني
مرة في فدك، ونزل بلادهم واستاق نَعمهم لكن لتكر عليه قبائلها ويقتلوا جميع أفرادها
ويهرب بشير بن سعيد إلى بيت يهودي يُخفيه ويأويه ليعود بعد أيام إلى يثرب مُستخفيًا.
فيعود النبي
ﷺ ليُرسِل عليهم غالب بن عبد الله الكلبي وأسامة بن زيد في سرية
تالية، وهناك يُدرِكون فرداس بن نهيك، فيُشهِر عليه أسامة السيف فيصرخ الرجل: أشهد أن
لا إله إلا الله. ولكن أسامة ورفاقه لا يُمهِلونه وينزلون عليه بسيوفهم
فيقتلونه.
ويحكي أسامة يقول:
فلما قدمنا على رسول الله
ﷺ أخبرناه فقال: يا أسامة، من لك بلا إله
إلا الله؟ قلت: يا رسول الله، إنما قالها تعوُّذًا من القتل … فكرَّرها حتى
تمنَّيت أني لم أكن أسلمت يومئذٍ.
٢
وهنا نجد عودة إلى البدء، أيام كانت الدعوة طازجة في مكة، تحمل للناس بشرى وسلامًا،
حيث يعود هنا الأمر يبرز بين العربان، فيستجيب له الرسول الكريم، فيُعلِن الأعرابي
شهادته بوحدانية الإله ليأمن على حياته وماله، ليُصبِح ذلك الإعلان في زمن الهدنة
إعلانًا صريحًا من سيد الدولة اليثربية، أنه يكفي للعربان الشهادة للإله بالوحدانية،
والاعتراف له بأنه رسول هذا الإله؛ ليُصبِح للشاهد الجوار والأمان، وتُصبِح شهادته
توقيعًا مُعلَنًا على ميثاق الدولة، وبموجبها يُصبِح مُواطِنًا يستحق رعاية الدولة
وحمايتها، كما يُصبِح هو فردًا في جنودها، وهي السياسة التي ستُؤتي ثمارها خلال أشهر
قليلة، أدَّت إليها مجموعة غزوات وسرايا جعلت للأمن سورًا بابه الإيمان، حيث يجتمع
للنبي خلال تلك الأشهر، جيش يربو على عشرة آلاف مُحارِب.
ولم يلحظ الأتباع في مبدأ الأمر تلك العودة؛ لإيقاف الأطماع في الغنائم دون قواعد
واضحة، قد تضر بالدولة بعد الاعتراف بها رسميًّا ضررًا جسيمًا، فتأتي سرية أبي حدرد
لتُؤكِّد عزم النبي على التحول إلى شكل الدولة، بالشهادة لأيديولوجيتها؛ تلك الشهادة
التي تعني توقيع ميثاق الانضمام إليها، وهي السرية التي حكى لنا عنها قائدها، وهو يقول:
بعثنا رسول الله
ﷺ إلى أضم في نفر من المسلمين منهم أبو قتادة الحارث
بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن أضم مر بنا عامر بن
الأضبط الأشجعي على قعود له، ومعه متيع له ووطب، فسلَّمنا عليه بتحية الإسلام
فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره
ومتاعه، فلما قدمنا على رسول الله
ﷺ أخبرناه الخبر.
وجاء الجواب وحيًا يُقرِّع القاتل، ويُؤكِّد خلل رواية أبي حدرد، حيث تُوضِّح الآيات
أنه لم يكن بين القاتل والمقتول شيء سوى استلابه متاعه واغتنام ما معه، رغم أن الله قد
منَّ على المسلمين بمغانم عظيمة كفتهم الناس، وأن عليهم من الآن اتباع الأمر الجديد،
ليُتابِع أبو حدرد قائلًا:
فنزل فينا القرآن:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ
أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (النساء: ٩٤).
٣
عمرة القضاء
وانصرم عام على الحديبية، وجاء الموعد من
العام التالي سريعًا يهرع، وآن أوان مُغادَرة أهل مكة لمكة، ثلاثة أيام، ليدخلها
المسلمون يعتمرون، ومن جانب قريش كان عليها أن تفي بعقدها؛ لتُثبِت لكل العرب، أنها
لا زالت ذلك البلد الآمن المفتوح لمن أراد من العرب، لكنها هذه المرة تحديدًا كانت
تعلم يقينًا أن تركها ديارها إنما عن ضعف منها، كما لا شك هي تعلم أن جميع العربان
بذلك الأمر نفسه تعلم، فلم تكن تلك العمرة لأجل مزيد من الرواج التجاري، إنما كانت
تنازلًا واضحًا ونقصًا في السيادة لسيادة أخرى مُنافِسة على ذات الدار وذات
الأيديولوجيا وذات المعبد؛ فلم يكن المُعتمِرون أفرادًا فرادى، إنما جيش كبير هو في
النهاية ذلك الجيش المُعادي الذي بدأ يتحول عن قطع الطريق إلى التطهُّر، نحو
السيادة الدينية، حيث يُخبِرنا ابن سعد أن عدد المُعتمِرين قد وصل إلى الألفَين عددًا.
٤ وكل تلك المعاني تُفصِح عنها تصرفات سيد الخلق نفسه، فيما رواه
ابن عباس، أن بعض أهل مكة بقي في مكة فضولًا وتطلعًا ورصدًا، وأن من بقي منهم في مكة:
صفُّوا عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله
ﷺ المسجد اضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى ثم قال:
رحم الله امرءًا أراهم اليوم من نفسه قوة.
٥
ولتأكيد رسالة القوة أمام عيون العربان، أمر النبي رجاله قائلًا:
اكشفوا عن المناكب واسعَوا في الطواف.
وهو ما عقَّب عليه البيهقي مُوضِّحًا الداعي له:
ليُري المشركين قوتهم وجَلدهم.
فاستكف أهل مكة الرجال والنساء والصبيان، ينظرون إلى رسول الله
ﷺ
وأصحابه وهم يطوفون بالبيت.
٦
وتُصعَق قريش مأخوذة، عندما ترى النبي، ذلك الذي حاصرها اقتصاديًّا وقتل أفلاذ
كبدها، وفكَّك عُرى إيلافها، وأعلن كفرانها، يسلك مسالكها وينسك مناسكها ويُهِل
بشعائرها، فيسعى بالبيت، وبالصفا والمروة، وهو ما فاجأ الصحابة المسلمين أنفسهم؛
فما كانوا يرون أنهم بعائدين إلى شعائر الجاهلية ومناسكها، وهو ما جاء واضحًا في
رواية ابن هشام وهو يروي لنا المشهد النبوي داخل مكة بقوله:
ثم استلم الركن،
وخرج يُهروِل، ويُهروِل أصحابه معه،
… واستلم الركن اليماني،
ومشى حتى يستلم الركن الأسود،
ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف،
ومشى سائرها. فكان ابن عباس يقول:
كان الناس يظنون أنها ليست عليهم؛ وذلك أن رسول الله إنما صنعها لهذا
الحي من قريش … حتى إذا حج حجة الوداع لزمها فمضت السنة بها.
٧
ومن ثَم لزم النبي شعائر قومه، لكنه توَّجها بالإعلان الجديد، واحتوائها
وتضمُّنها في الأداء العلني لدولته النبوية مُمثَّلًا في الأذان الإسلامي؛
ولما قضى رسول الله
ﷺ نسكه في القضاء، وداخل البيت لم يزَل فيه،
حتى أذَّن بلال الظهر من فوق الكعبة.
لم تُسجِّل صحيفة الحديبية في بنودها ذلك، لكن بلالًا صعد بأمر الرسول فوق كعبة
قريش، ومن هناك أعلن بأعلى الصوت أداء دولة النبي العلني؛ ليعلم جميع العرب بالصيغة
الإسلامية، وأهمها: أن محمدًا رسول الله. لكن ليُعقِّب من بين الواقفين بعيدًا
عكرمة بن أبي الحكم بقوله:
لقد أكرم الله أبا الحكم حين لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول.
ليُثنِّي خالد بن أسيد:
الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حتى يقوم بلال ينهق فوق الكعبة.
٨
ولا تمر تلك العمرة دون فرحة كبرى تأخذ بأفئدة الهاشميين، ويتقدم العباس بن عبد
المطلب بإجراء يُدخِل السرور إلى قلب ابن أخيه نكايةً في الملأ الأموي، فيُزوِّجه
ميمونة بنت الحارث شقيقة زوجته أم الفضل بنت الحارث، لينكحها وهو مُحرِم، وهو ما
تأكَّد في قول ابن عباس: «إن رسول الله
ﷺ تزوَّج ميمونة بنت الحارث وهو في
سفره ذلك وهو حرام، وكان الذي زوَّجه إياها العباس بن عبد المطلب … تزوَّجها وهو مُحرِم.»
٩
ومن تلك النكايات الواخزة، ما كان من أمر
عبد الله بن رواحة الذي دخل مكة يحجل أمام رسول الله مُتوشِّحًا سيفه يُطوِّحه
يمينًا ويسارًا، يسب قريشًا، وينعتها بالكفر داخل ديارها، مُهدِّدًا بالقتل وسفك
الدم لمن لا يعترف بسيادة النبي، وهو يرتجز قائلًا:
خلُّوا بني الكفار عن سبيله
أنا الشهيد أنه رسوله
قد أنزل الرحمن في تنزيله
في صُحفٍ تُتلى: رسوله
فاليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله
ضربًا يُزيل الهام عن مقتله
ويُذهِل الخليل عن خليله
١٠
فيأمره النبي زيادة في النكاية، وللرصانة، أن يقول:
لا إله إلا الله.
نصر عبده.
وأعز جنده.
وهو ما عقَّب عليه البيهقي: «وكان يُكابِدهم بكل ما استطاع.»
١٢
وبانتهاء اليوم الثالث، يهبط سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى في نفر من قريش،
ليقولوا للنبي:
إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا.
فيرد النبي بلطفه وسماحته:
وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعامًا
فحضرتموه؟
فيُجيبونه الإجابة المُعبِّرة عن مكنونات الصدور من وجع:
لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا.
١٣
لينطلق صوت سعد من بين المسلمين مُعبِّرًا عن إمكان الاستيلاء على مكة الآن
ببساطة، فيقول:
يا عاضًّا ببظر أمه،
أأرضك وأرض أمك هي دونه؟
١٤
لكن ليتدخل سيد الخلق المُطهَّر، ويُسكِت سعدًا، ويفي بالعهود والمواثيق،
مُكتفِيًا بذلك الإعلان العملي السافر لكل العرب، ويأمر رجاله بالرحيل عن
مكة.
استمرار السرايا المسلحة
ويعود جند الله إلى مدينة يثرب بعد الاعتمار المشهود، وتعود السرايا مرة أخرى
للخروج على القبائل، فينزل شجاع بن وهب بسرية على جمع من هوازن، فيبغتهم ويُصيب
أنعامهم وسبيًا منهم، لكن هذا الجمع الهوازني كان قد علم طريق الأمن وبابه، فقدِم
وفدهم على النبي يُعلِن إسلام جماعتهم ليرد إليهم النبي كل أملاكهم وسباياهم، في
بلاغ إلى كل العرب واضح المعالم مُحدَّد المعاني.
وتخرج سرية كعب بن عمير إلى أطراف الشام لتُغِير على قضاعة بذات أطلاح،
المُستنِدة على أسِنة الإمبراطورية، وناداهم كعب بدعوة الإسلام، لكن قضاعة الشامية
ما كانت ترى فيهم سوى كرَّة عربية مثل كرَّات عهدتها على حدود الإمبراطورية، بل
وتعمل سيوفها في أفراد السرية، ويهرب منها جريح واحد يعود إلى الرسول بالخبر، وهنا
يُعلِن الرسول أنه قد آن الأوان لمُهاجَمة إمبراطورية الروم، حيث الأرض التي لم
يقدروا عليها وأحاط بها الله.
وعلى رأس السرية يُوفِد النبي زيد بن حارثة في ثلاثة آلاف مُقاتِل، وكان النبي
يعلم جيدًا ماذا يُواجِهون، ويعلم سلفًا النتائج، لكنها كانت أول هجمة كبرى مقصودة
للإعلان عن الآتي؛ ولعلمه
ﷺ بما هو مُقدِم عليه قال في رجاله إن أُصِيب زيد
فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أُصِيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، فإن
قتل عبد الله فليرتضِ المسلمون بينهم رجلًا فليجعلوه عليهم.
١٥
وتخرج سرية الشهداء العظام، تلك السرية الفدائية، مُيمِّمة وجهها شطر البلقاء على
تخوم جنوبَي دمشق، ويبلغ خبرها إلى هرقل عظيم الروم، فينزل بنفسه إلى لقاء هؤلاء
الذين تجرَّءوا على حدود مملكته، في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من القبائل
العربية المُتاخِمة للروم والموالية لها، وهو الهول الذي يُصوِّره أبو هريرة قائلًا:
شهدتُ مؤتة، فلما دنا المشركون منا، رأينا ما لا قبل لأحد به.
١٦
وكان طبيعيًّا أن يقتل الروم الأمراء الثلاثة، وكثيرًا من مُقاتِلي المسلمين
المُقدَّمين، حتى تناوَل خالد بن الوليد الراية، لينسحب بما بقي من الجيش الذي عاد
مُمزَّقًا إلى يثرب، ويستقبلهم العامة على أبواب المدينة بالتراب يحثونه في وجوههم يقولون:
يا فُرَّار، فررتم في سبيل الله.
لكن ليرد عليهم سيد الخلق بعد أن بلَّغ رسالة عملية إلى هرقل بعد رسالته
المكتوبة، وإلى قريش، وإلى العالم أجمع، بقوله للناس:
ليسوا بالفُرَّار،
لكنهم الكُرَّار إن شاء الله.
إعلانًا عن أن تلك السرية الفدائية كانت مُقدِّمة، وأن الإصرار على غزو الروم
وكسرى قائم لا يلين، وأن هناك كرَّات آتية وكرَّات، وأن الوعد النبوي قائم كعَلم
يُرفرِف لا يتراجع، يُردِّد في مِسمع العربان: «والذي نفس محمد بيده، لتملِكُّن
كنوز كسرى وقيصر.»
أما إذا كان عدد من خيار الصحابة قد قدَّموا أنفسهم شهداء على مذبح الهدف الأكبر،
فقد نالوا كفايتهم من الثواب، إلى الحد الذي ارتفعوا فيه إلى مصافِّ كبار الأنبياء،
بعد أن رآهم النبي في رحلة سماوية في رؤياه، حيث اطَّلع عليهم في فردوس الرحمن
«فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر، فقلت من هؤلاء؟ قالوا:
هذا جعفر بن أبي طالب،
وزيد بن حارثة،
وعبد الله بن رواحة.
ثم أشرفوا شرفًا آخر فإذا بنفر ثلاثة، فقلت من هؤلاء؟ قالوا:
هذا إبراهيم،
وموسى،
وعيسى،
عليهم السلام، وهم ينتظرونك.»
١٧
وإعمالًا للوعد لا ينتظر النبي طويلًا، فقط يُغيِّر في التكتيك، فيُرسِل على
العربان المُتحالِفين مع الروم من بلى وقضاعة سريةً يقودها عمرو بن العاص، فتصل إلى
ذات السلاسل، فيخاف عمرو كثرة عدوه، فيُمِده النبي بأبي بكر بعدد آخر من الجند، لكن
ليرى قادة السرية أنه لم يأنِ الأوان بعد فيعودون دون أية مغانم أو فتوح.
١٨
ولكن ببعض التدقيق والملاحظة، لا يمكن أن تُعتبَر غزوة مؤتة هزيمة في نظر عرب
الجزيرة، ولا عدَّها النبي كذلك، ولا حتى قريش؛ لأن مُجرَّد خروج العرب لمُجابَهة
الروم، كان أمرًا بعيدًا حتى عن الأحلام. لقد كان مُجرَّد الخروج إلى الروم
والاصطدام بهم في معركة حقيقية واجهوا فيها فيالقهم المُنظَّمة الهائلة تحت قيادة
ملكهم بنفسه، كان بلا شك انتصارًا وحده وبحد ذاته.