غزوة هوازن
يغفر الله لرسول الله، يُعطي قريشًا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم.
الأنصار
لم تُدرِك هوازن تلك القبيلة الكبرى، ولا ثقيف التي لا تقل عنها شأنًا، أن الأمر
يسير
إلى نتائجه التاريخية، ولا أدركت كلتاهما أن وحدة العرب في جزيرتهم قد انعقدت في صفحات
الزمن بعد فتح الفتوح، والاستيلاء على أم القرى، ولم تُدرِك القبيلتان أن غزوات
الجاهلية في سبيلها إلى زوال؛ حيث يحكي لنا ابن الأثير ذكر غزوة هوازن في وادي أوطاس
بجبال حنين، فيقول: «وكانت في شوال، وسببها أنه لما سمعت هوازن بما فتح الله على رسوله
من مكة، جمعها مالك بن عوف النصري، من بني نصر بن معاوية بن بكر، وكانوا مُشفِقين من
أن
يغزوهم رسول الله
ﷺ بعد فتح مكة، وقالوا: لا مانع له من غزونا، والرأي أن نغزوه
قبل أن يغزونا، واجتمع إليه أهل ثقيف.»
١ أما الطبري فيُعلِمنا أن هوازن وثقيف قد جمعوا جموعهم عندما سمعوا بمسير
جيش يثرب نحو مكة، ظنًّا منهم أنه يريدهم هم.
٢ وقد ذهب البلاذري مذهب ابن الأثير في قوله: «وكانت أشراف هوازن بن منصور
وغيرهم من قيس قد تجمَّعوا مُشفِقين من أن يغزوهم رسول الله
ﷺ، وقالوا: قد فرغ
لنا فلا ناهية له دوننا والرأي أن نغزوه.»
٣
وعلم رسول الله
ﷺ بالرعب الذي أخذ هوازن، ودفعها دفعًا لتخرج في حلف مع ثقيف،
يتقدمها رجالها، قد أخذوا معهم نساءهم وأموالهم وأطفالهم، بتقرير فدائي من مالك بن عوف
ملكهم وسيدهم؛ حتى يجد كل رجل منهم في نفسه الغيرة والحمية للقتال دون عرضه وماله، فكان
وجود المال والنساء والعيال وراء الرجال دافعًا للاستماتة القتالية من وجهة نظر قائدهم
مالك بن عوف، طالبًا بذلك روحًا فدائية ونصرًا لا يشك فيه.
وخرج النبي برجاله من مكة غازيًا لهوازن، لكنه ترك لأهل مكة، ولفرعها الأموي تحديدًا
طمأنة واضحة، تبليغًا بمكانتهم ودورهم في الدولة، فاستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي
العيص بن أمية بن عبد شمس الأموي، وكان عمره إذ ذاك قريبًا من عشرين سنة؛
٤ مُنبِّهًا بذلك إلى دور الجيل القرشي المقبل، ومُطمئنًا لتجار مكة وسادتها
على نظامها الاقتصادي والتجاري، بل والديني الذي أفرزه ظرفها التاريخي، وهو ما تُؤكِّده
رواية ابن الأثير حيث يقول إن عتاب الأموي قد حج بالناس هذا العام، «وحج الناس تلك
السنة على ما كانت العرب تحج.»
٥
وبينما تتحرك كتائب الإيمان نحو أوطاس حنين في اثنَي عشر ألف مُقاتِل، منهم جيش الفتح
وكان عشرة آلاف، وقد انضم إليه ألفان من الطلقاء، يقول النبي وهو على رأس ركبه العظيم،
تهتز تحته أرض البوادي تُسمِع العربان:
وكانت كلمة الرسول
ﷺ مُعبِّرة تمامًا عن واقع موضوعي واضح فصيح، فمهما كانت
قوة هوازن وثقيف، فلن تُقاس عدًّا على جند الله الذين يُمثِّلون أكبر جيش عرفته الجزيرة
من عربها، ولم يعد الأمر بحاجة في تلك الجولة لاستدعاء ملأ السماء المُقاتِل ولا تعبئة
للملائكة، ونادى النبي في رجاله هاتفًا:
وجاءه رجل من عيونه المُتقدِّمين يحمل أخبار العدو يقول: «يا رسول الله، إني انطلقت
من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا بهوازن عن بكرة أبيها بظعنهم وبنعمهم وشائهم
قد اجتمعوا إلى حنين.» فتبسَّم رسول الله
ﷺ وقال:
تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله.
٨
لكن على طريق هوازن، يظهر بين ذلك الجمع من جند الإيمان كثير من سوء الفهم للإسلام
وأهدافه، خاصة بين أولئك الذين احتشدوا معه على حداثة عهد بالإسلام من العربان
والطلقاء، حيث يمرون بشجرة مُقدَّسة لعرب الجاهلية اسمها ذات أنواط، وعندما يرونها
يقولون للنبي
ﷺ: «يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.» وكانت
ذات أنواط قد بلغت رتبة الربوبية في الجاهلية؛ ومن ثَم لم يُدرِك هؤلاء مغزى التوحيد
القومي والتوحيد الألوهي الذي لا يقبل شراكة، وهم من لا شك ينطبق عليهم قول الآيات
الكريمة:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا (الحجرات: ١٤)؛ لذلك كان رد رسول الله عليهم
المُستنكِر: «الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة.
لتركبُن سنن من كان قبلكم.»
٩
هذا بينما كان مالك بن عوف قد عزم من جانبه على نصرٍ إن حدث غيَّر تاريخ الجزيرة
والعالم، فاستفاد من دروس غزوة بدر الكبرى، حين كان المسلمون قلة أمام كثرة، وعلم
الأسباب ودرس الخطط، ليفعل ما سبق وفعله المسلمون أوانها؛ فسبق جيش المسلمين برجاله إلى
مواقع مُتميِّزة اختارها بجبال حنين المرتفعة والتي تنحدر إلى قعر فسيح يُسمَّى أوطاس،
ووزَّع رجاله في مواقع مختارة بعناية، وهيَّأه ما بين رامٍ وفارس وراجل ودارع، ووضع
خلفهم نساءهم وأطفالهم وبعيرهم وشياههم وأموالهم، وهو يعلم من جانب آخر حال ذلك الجيش
الهائل وما فيه من ثغرات، أهمها أولئك الذين دخلوا الإسلام كرهًا، وأطلق عليهم المسلمون
الأوائل اسمًا يليق بهم، أسموهم الطلقاء.
ونسمع من الصحابي جابر تصوير المشهد الأول للغزوة وهو يقول:
فلما استقبلنا وادي حنين، انحدرنا في
وادٍ أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحدارًا، في عماية الصبح، وكان القوم قد
سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه، قد تهيَّئوا وأعدوا، فوالله ما
راعنا ونحن مُنحطُّون إلا الكتائب قد شدَّت علينا شدة رجل واحد، فانهزم الناس
أجمعون لا يلوى أحد على أحد.
١٠
الآن ينهزم جيش دولة النبي وهو الكثير أمام فئة قليلة؟! الآن وبعد ذلك المشوار الطويل
الكبير العظيم، وبعد أن قاربت الدولة الكبرى على القيام في جبين التاريخ، وبعد كل تلك
المعاناة والتجارب والهزائم والانتصارات، وبعد كل تلك الدماء وذلك العمر الذي انقضى،
والدولة الكبرى من التحقيق قاب قوسَين أو أدنى، وبعد كل ذلك التواصل بين الأرض والسماء،
وكل الآيات التي تتحدث عن الاستشهاد وعن الجنة وعن النار؛ تفر الكثرة أمام القلة،
ويتبعثر الاثنا عشر ألف مُقاتِل مُنهزِمين يُحاوِلون الصعود من أوطاس إلى حنين، والصعود
ليس كالهبوط، فيه الذعر وفيه الكبوات، فيه سهام تئز ورماح تُطارِد، لا أحد يلتفت إلى
أحد، ولا حتى إلى رسول الله
ﷺ وهو يرى المشروع برمته يتزلزل زلزالًا عنيفًا،
ليقف مكانه ثابتًا؛ فالآن بعد كل تلك الحياة الحافلة بزخم الأحداث الكبرى، إما حياة تصل
إلى مُبتغاها أو لا حياة، ويصمد القائد العظيم وحده ويهرب المؤمنون فرارًا من الموت،
ولا يبقى من القضية كلها والشعارات جميعًا عن جنة الشهداء ونار الكافرين، سوى رابطة
الدم وحدها، فيجتمع حول بغلة الرسول أهل بيته فقط من بني عبد المطلب وأبي طالب، ثمانية
فقط من الاثنَي عشر ألفًا وقفوا ترسًا واحدًا في حلقة حول ابن أخيهم، بينما النبي يهتف
في رجاله المؤمنين:
١١
أين أيها الناس؟!
هلمَّ إليَّ،
أنا رسول الله،
أنا رسول الله،
أنا محمد بن عبد الله.
ويُعقِّب ابن كثير على النداء النبوي:
ولا شيء!
وركبت الإبل بعضها بعضًا.
أو:
ووسط الغبار الثائر تحت خطو الهاربين وسنابك خيولهم، يلمح أحد الفارين عمر بن الخطاب
فيسأله: «ما شأن الناس؟» ليُجيبه عمر مُعبِّرًا عن مدى اللوعة واليأس: «أمر الله!»
١٣
وانتحى أبو سفيان مع رفقة له من رجال مكة الطلقاء، مكانًا آمنًا يُطالِعون مشهد
الارتداد والنكوص لجند المسلمين الفزعين، ليُفصِح لسانه عن مكنون صدره، فيهتف مُعبِّرًا
عن فرحه العظيم:
لا تنتهي هزيمتهم دون البحر.
أما كلدة بن الحنبل، الذي خرج من مكة مع النبي وهو على شركه، وكان يظن أن ما حقَّقه
محمد إنما بفضل السحر، فقط علا صوته وهو يُعلِن سعادته جهيرة بما يرى ويصرخ:
لكن ليرد عليه أخوه لأمه صفوان بن أمية، أحد كبار أشراف مكة، مُعبِّرًا عن قبليته
العميقة وعصبيته المُتجذِّرة لأهله، يقول: «اسكت فضَّ الله فاك، فوالله لئن يُربِّني
رجل من قريش، أحب إلى من أن يُربِّيني رجل من هوازن.»
١٤
ويقول ابن كثير: «اعتزل أبو سفيان وصفوان وحكيم بن حزام وراءهم ينظرون لمن تكون الدائرة.»
١٥ فيمر عليهم رجل من قريش يُنادي صفوان بن أمية: «أبشر بهزيمة محمد وأصحابه،
فوالله لا يجتبرونها أبدًا.» ليرد صفوان مُكرِّرًا مُعبِّرًا عن أسفه مما يسمع من
بني قريش: «تُبشِّرني بظهور الأعراب؟ فوالله لَرب من
قريش أحب إليَّ من رب من الأعراب.» وهي ذات المشاعر العشائرية التي عبَّر عنها لسان
مصعب بن شيبة، عندما سئل بعدها عن خروجه مع رسول الله إلى هوازن، حيث يقول: «والله ما
أخرجني إسلام ولا معرفة به، ولكني أبيت أن تظهر هوازن على قريش.»
١٦
أما النبي الذي وقف يُشاهِد هذا الانهيار، فقد نظر إلى السماء وهو يهتف بربها:
اللهم إنك إن تشاء،
لا تُعبَد في الأرض بعد اليوم.
١٧
وكان لا بد من عمل سريع، وتصرُّف حاسم، فينظر الرسول إلى حامل راية هوازن، يرفع
الراية ويُمسِك برمح طويل لا يحمله إلا رجل شديد المراس، يقتحم الناس بفرسه ووراءه رجال
هوازن وثقيف، وهنا يرفع النبي إصبعه مُشيرًا إلى حامل الراية، ويتبع علي بن أبي طالب
الإشارة ليهويَ بسيفه على عقب الفرس، فيسقط فيقتلُه فتسقط الراية … وترتبك
هوازن.
ثم يجول المصطفى بعينَيه يبحث بين الهاربين عن خئولته من أهل الدم والحرب والحلقة
اليثاربة، ثم يهتف بعمه العباس فجأة، بينما هو واقف يُمسِك بزمام بغلة الرسول دلدل:
يا عباس،
نادِ: يا معشر الأنصار،
يا أصحاب الشجرة.
كان النداء نداء رحم وخئولة، وتذكيرًا بعهد البيعة حتى الموت تحت الشجرة، وتنبيهًا
إلى عقد العربي وجواره المعقود بين الأنصار والنبي في العقبة، واستشرافًا لشهامة النجدة
والمروءة، واستنفارًا للنخوة العربية، ويستمر العباس يُنادي والنبي يُلقِّنه:
يا أصحاب البيعة يوم الحديبية،
الله الله!
الكرة على نبيكم،
يا أنصار الله،
يا أنصار رسول الله،
يا بني الخزرج،
يا أصحاب سورة البقرة،
نداء لمس الحواشي وهز ما بين الجوانح ولجَّت به الخئولة في تعبير العباس بن
عبد المطلب وهو يقول:
فوالله لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها،
فقالوا:
يا لبَّيكاه!
ويمضي العباس، الشاهد على عقد العقبة مع الأنصار، الذين تكفلوا بحماية النبي بعهد
وعقد عربي، ليصف لنا المشهد الثاني للمعركة الكبرى، لينظر إلى الأنصار ويقول شاهدًا على
التزامهم عهدهم ووفائهم رحمهم:
فيذهب الرجل منهم يريد أن يُثني بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها
في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ثم يقتحم عن بعيره، فيُخلي سبيله في الناس، ثم يؤم
الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله
ﷺ حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة رجل
استقبلوا الناس فاقتتلوا، فكانت الدعوى أول ما كانت: يا لَلأنصار. ثم جُعِلت
أخيرًا: يا لَلخزرج.
٢٠
وصمد المسلمون، وبدأ الفارُّون في العودة والتكاثر، وعاد السيف الإسلامي يشتد مرة
أخرى ليعمل عمله في هوازن وثقيف لينتحي النبي يمينًا وحوله آل بيته الهاشمي، ويقول من
مُعتلاه: الآن حمي الوطيس.
وبلاغة المصطفى هنا ظاهرة في تعقيبه على دورة الدائرة على هوازن في وادي أوطاس، وقوله
الآن حمى الوطيس. والوطيس في شرح السهيلي هي نقرة في حجر تُوقَد حوله النار فيُطبَخ به
اللحم، ويُعقِّب بأنها من الكلم التي لم يُسبَق النبي إليها أحد.
٢١
ومع صمود الأنصار عاد الجيش المنهزم ليحط على عدوه ليستحر القتل حتى قال ابن سعد:
«فأمر رسول الله أن يُقتَل من قُدِر عليه، فحنق المسلمون عليهم يقتلونهم حتى قتلوا
الذرية، فبلغ رسول الله
ﷺ ذلك، فنهى عن قتل الذرية.»
٢٢ وما هي إلا سويعات حتى جمع المسلمون من الأسرى ما يربو على ستة آلاف نسمة
أعمهم نساء وأطفال تركهم رجالهم وهربوا أو قُتِلوا،
٢٣ ووقف المسلمون يُحصُون غنائمهم التي وصلت أربعة وعشرين ألف بعير، وأكثر من
أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة.
٢٤ أمر رسول الله
ﷺ أن يتم حبسها في الجعرانة حتى ينظر في أمر توزيعها
على أفراد الجيش المُنتصِر.
هذا بينما كانت أم سليم تُعبِّر عن مشاعر السخط على الخونة في الجيش والطلقاء من
قريش، الذين فروا والذين شمتوا والذين فرحوا والذين وقفوا ينتظرون تحديد موقفهم بتحديد
العلامات المُبشِّرة لمن ستكون الكرَّة، فتقول للنبي: «يا رسول الله، اقتل من بعدها
الطلقاء الذين انهزموا بك.» فقال: «إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم.»
٢٥ وفاضت مشاعر حسان بن ثابت الأنصاري ضد الطلقاء، فقال في كلدة بن الحنبل
الذي كان يهتف: «ألا بطل السحر اليوم»:
رأيت سوادًا من بعيد فراعني
أبو حنبل ينزو على أم حنبلِ
كأن الذي ينزو به فوق بطنها
ذراع قلوص من نتاج ابن عزهلِ
٢٦