حصار الطائف
والله لَنحن أذل من العبيد.
عيينة بن حصن
الطائف، مدينة الثقفيِّين الكبرى التي بلغت شوطًا عظيمًا في التمدين، كانت المدينة
التي لا تقل شأنًا عن مكة، ونافست يثرب طويلًا على صدارة الموقع الثاني بعد مكة، وربما
سعت مثلما سعت يثرب لتحوز المركز الأول، مُستمِدة ذلك من قوة أدَّت إليها عوامل عدة؛
فهي من أعدل مناطق الجزيرة مناخًا وأكثرها خصوبة وزرعًا، إضافة إلى موقعها الذي يقف على
طريق التجارة بين مكة واليمن، طريق رحلة الشتاء؛ وهو الأمر الذي جعلها في حسابات الرسول
ﷺ عندما كان بمكة يبحث عن مدينة تُحقِّق مشروعه العظيم، تقع في الموقع الأول،
فزارها داعيًا لكنهم ردوه ردًّا سفيهًا، فيمَّم وجهه بعد ذلك نحو الأخوال في يثرب، بعد
أن فقد الأمل في فهم سراة ثقيف وأشرافها لأبعاد ذلك المشروع الهائل.
وعندما نتذكر عدد رجالها المُقاتِلين، يجب أن نُوقِن من وجود صراع على النفوذ بينها
وبين قريش، التي كانت تتطلع إلى مد نفوذها إلى الطائف لحل مشكلة وضعها في المعادلة
التجارية، لوجودها على الخط التجاري لرحلة الشتاء؛ وقد تمكن بعض أثرياء قريش بالفعل من
شراء بعض الأماكن الخصبة بين الثقفيين، وتتابعوا يستحوذون على أراضيها الخصبة، وهو ما
نجده واضحًا عند ابن حبيب.
١
وطبيعي أن تُحاوِل ثقيف الاستقلال الاقتصادي؛ وهو ما أدَّى إلى تنافسٍ جعل أهل الطائف
يستجلبون قوافل التجارة إليهم، بجعل مدينتهم ذات المناخ المتميز، مركزًا للتجارة
والتجار، ووصل الأمر إلى حد وقوع الحرب بين الفريقَين فيما يعرف بحرب الفجار، وغني عن
الذكر أنها سُمِّيت كذلك لأنها نشبت إبان الأشهر الحرم، والتي أرادت ثقيف ضرب حرمتها
لضرب التجارة القرشية.
٢
ويبدو أن قريشًا قد اضطرت إلى لون من المصالحة باقتسام المنافع المشتركة، بعدما جد
ظرف جديد لصالح الطائف، تمثَّل في استيلاء الفرس على اليمن؛ وهو ما أدَّى بإرسال كسرى
وملوك الحيرة قوافلهم التجارية إلى اليمن عبر الطائف دون المرور على مكة. ويمكن للعين
الفاحصة أن تتلمس أسباب حرب الفجار، حيث شجعت قريش عن عمد حليفًا قبليًّا لها ليُهاجِم
قافلة للنعمان ملك الحيرة، ويُغلِق طريق الحيرة إلى اليمن عبر الطائف.
ومن جانبها وجدت الطائف نفسها مضطرة إلى السلام مع قريش، بالنظر إلى ظرفها الداخلي،
حيث نشب الصراع بين عشائرها، وهو المعلوم بشأن بني عوف مقابل بني مالك، بينما اتجهت
قريش إلى مد نفوذها الاقتصادي داخل الطائف بشراء أراضيها، وإقراض رؤسائها ما يريدون من
أموال؛ لينتهي القرشيون إلى السيطرة على السوق الداخلية للطائف، بل وحوَّلوا مدينة
الطائف إلى سوق الحجاز المركزي. وبالمقابل كانت ثقيف بحاجة لتصريف منتجاتها الزراعية
في
مكة، فاعترفت بالأمر الواقع، وبصدارة مكة وبالتحالف مع قريش لعدم إهدار المصالح، فكانا
يقتسمان النفوذ تقريبًا عند ظهور الإسلام؛ حيث سيطرت قريش على طريق الإيلاف الشامي،
وتركت للطائف طريق الشتاء، وانتقل الصراع إلى تحالف واختلاط ومُصاهَرات ومشاركة في رءوس
الأموال.
وعندما نتذكر أن ثقيف هي التي كانت دليل جيش أبرهة الحبشي نحو مكة عام الفيل،
٣ يمكن أن نفهم فورًا موقف ثقيف المُتصلِّب عندما ذهبها محمد داعيًا، ثم
موقفها المُتصلِّب من النبي ومن قريش بعد سقوط مكة واستسلام سادتها للنبي، حيث اكتشفت
أن مصيرها الخضوع التام لسيادة قريش إن غزاها النبي؛ ومن ثَم قامت تُحالِف هوازن لتكوين
جبهة تُحاوِل إنقاذ مصالحها من ذلك التهديد الهائل، وخاضت حربها اليائسة ضد جيش
المسلمين، بينما كان النبي على الطرف الآخر يسعى إلى هذه المعركة سعيًا، حيث كان قراره
بحفظ مكة قريته وأهله من السبي؛ ومن ثَم لم يغنم جنده شيئًا يُعوِّضهم عن فتحها، حيث
لم
يغنموا شيئًا على الإطلاق؛
٤ ومن ثَم كان توجيه المسلمين نحو هوازن وثقيف اللتَين كانتا قد تهيَّأتا
بدورهما للمعركة الانتحارية.
٥
وبالهزيمة، تراجعت ثقيف إلى الطائف، ومعها من انضم إليها من هوازن، حيث حصونهم القوية
وميرتهم وزادهم الكثير،
٦ وهنا أمر النبي بالمسير فورًا إلى الطائف ليضرب الحصار على حصونها.
ولما كانت ثقيف قد ترفَّلت في النعيم، ولا تقلُّ ثرواتها عن ثروات المكيِّين، واقتنى
سادتها الثمين من مُقتنَيات الذهب والفضة، وحلَّوا نساءهم بالجوهر على أنواعه؛ فقد
انسلَّت خولة بنت حكيم بن أمية زوجة عثمان لتقترب من النبي وهم يُوجَّهون نحو الطائف
تقول له:
يا رسول الله، أعطِني إن فتح الله عليكم الطائف، حُلى بادية بنت غيلان، أو
حُلى الفارعة بنت عقيل.
٧
هذا بينما كان المخنث «هيت» مولى فاختة بنت عمرو خالة النبي، يقول لعبد الله بن أمية:
إن فتح الله عليكم الطائف، فسَل رسول الله أن ينفلك بادية بنت غيلان؛ فإنها
هيفاء شموع نجلاء، إن تكلَّمت تغنَّت، وإن قامت تثنَّت، وإن مشت ارتجت، وإن
قعدت تبنَّت، تُقبِل بأربع وتُدبِر بثمانٍ، بثغر كالأقحوان، بين رجلَيها كالقعب المُكفأ.
٨
وكان «هيت» يدخل على نساء النبي ويذهب إلى بيوته، والرسول لا يظن أن له شيئًا مما
للرجال، وأنه لا يفطن إلى شيء من أمر النساء مما يفطن إليه الرجال، ولا يرى أن له في
ذلك إربًا. فلما سمعه يقول ما قال لعبد الله بن أمية قال: «لا أرى هذا الخبيث يفطن لما
أسمع.» ثم قال لنسائه: «لا يدخلن عليكن.» فحُجِب عن بيت الرسول.
٩ لكنه في رواية السهيلي قال لهيت: «قاتلك الله، لقد أمعنت النظر.» ثم قال:
«لا يدخلن هؤلاء عليكن.» ثم نفاه إلى روضة خاخ، فقيل إنه يموت جوعًا، فأذن له أن يدخل
المدينة كل جمعة يسأل الناس.
١٠
وصيغة الجمع في قول رسول الله «لا يدخلن هؤلاء عليكن» تُشير إلى آخرين مُخنَّثين
عاشوا في مدينة الرسول مثلما كان حال «هيت» وهو ما يُفيدنا به السهيلي في شرحه لأمر
مُخنَّثي المدينة حيث يقول إن المُخنَّثين المعلومين كانوا أربعة يحملون أسماءً تليق
بهم؛ فهم «هيت» و«هرم» و«ماتع» و«أنَّ»، ووصفهم بقوله: «كان تأنيثهم لينًا في القول،
وخضابًا في الأيدي والأرجل كخضاب النساء، ولعبًا كلعبهن، وربما لعب بعضهم بالكرج، وفي
مراسيل أبي داود أن عمر رضي الله عنه رأي لاعبًا يلعب بالكرج، فقال: لولا أني رأيت هذا
يُلعَب به على عهد النبي
ﷺ لنفيته من المدينة.»
١١
وبالوصول إلى الطائف أمر النبي بقصر مالك بن عوف المُتطرِّف فأُحرِق،
١٢ ويقول البيهقي إنه نصب عليهم المنجنيق أربعين يومًا، فكان أول من رُمِي
بالمنجنيق والدبابات والضبور في الإسلام، لكن ثقيف المُستميتة تمكنت من صد دبابات
المسلمين، بإلقاء الحديد المُحمى بالنار عليها وعلى من فيها من فوق الأسوار، وهنا أمر
النبي بقطع كرومهم الهائلة الموجودة خارج حصونهم لتدميرهم معنويًّا،
١٣ فنادوه من على الأسوار: «لا تُفسِدوا الأموال فإنها لنا أو لكم.»
١٤ فرد عليهم بنداء آخر يُسمِع عبيدهم؛ أن من خرج إليه من عبيد ثقيف فهو حر،
فخرج إليه هربًا بعضهم، على رأسهم من أصبح بعد ذلك الصحابي الجليل أبا بكرة.
١٥
ولما طال الحصار جاء الأحمق الذي لم يعد مُطاعًا «عيينة بن حصن» زعيم غطفان الفزارية
إلى النبي، والمفترض أنه قد أصبح مسلمًا، فطلب منه الإذن ليذهب إلى ثقيف في حصونها،
يدعوهم إلى الاستسلام والإسلام، لكنه عندما وصلهم أفصح عن لسان حال الزعماء الذين خضعوا
راغمين، فقال لهم:
بأبي أنتم، تمسَّكوا بمكانكم، والله لَنحن أذلُّ من العبيد، وأُقسِم بالله
لئن حدث به حدث لتملكُن العرب عزةً ومنعة، فتمسَّكوا بحصونكم، وإياكم أن تُعطوا
بأيديكم، ولا يتكاثرن عليكم قطع الشجر.
١٦
وطال الحصار، وعلم النبي أن الأمر سيطول أكثر، وأن ثقيف تمتنع في حصونها ولديها من
الزاد وفرة، فاستشار نوفل بن معاوية الدؤلي، فقال له: يا رسول الله، ثعلب في جحر؛ إن
أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.»
١٧ فاستدعى النبي أبا بكر وقال له: «يا أبا بكر، إني رأيت أني أُهدِيت لي قعبة
مملوءة زبدًا، فنقرها ديك، فهراق ما فيها.» فقال أبو بكر: «ما أظن أنك تُدرِك منهم يومك
هذا ما تريد.» فقال رسول الله: «وأنا أرى ذلك.»
١٨ ومن ثَم أذَّن في الناس برفع الحصار والعودة إلى الجعرانة، حيث أسرى وسبايا
وغنائم حنين.
وعندما سمع الزعيم الغطفاني عيينة بن حصن الفزاري نداء رفع الحصار عن ثقيف، هتف لفوره
مُعبِّرًا عن عظيم فرحه: «أجل والله مجدة كرامًا.» فقال له رجل من المسلمين: «قاتلك
الله يا عيينة، أتمدح المشركين بالامتناع عن رسول الله
ﷺ وقد جئت تنصره؟» فقال:
«والله إني ما جئت لأُقاتِل ثقيفًا معكم، ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف
جارية أطؤها.»
١٩
أما ابن كثير فقد التمس تفسيرًا تبريريًّا لرفع الحصار عن الطائف وذلك في قوله الباحث
عن الحكمة وراء الحدث:
قلت: وكانت الحكمة الإلهية تقتضي أن يُؤخَّر الفتح عامئذٍ، لئلا يُستأصَلوا
قتلًا؛ لأنه قد تقدَّم أنه عليه السلام لما كان خرج إلى الطائف فدعاهم إلى الله
تعالى، وإلى أن يُؤووه حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل، وذلك بعد موت عمه أبي طالب،
فردوا عليه قوله، وكذَّبوه، فرجع مهمومًا، فلم يستفق إلا عند قرن الثعالب، فإذا
هو بغمامة فيها جبريل، فناداه ملك الجبال، فقال يا محمد إن ربك يقرأ عليك
السلام، وقد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، فإن شئت أن أُطبِق عليهم
الأخشبَين؟ فقال رسول الله
ﷺ بل أستأني بهم لعل الله أن يُخرِج من
أصلابهم من يعبده وحده لا يُشرِك به شيئًا. فناسب قول «بل أستأني بهم» ألا
يُفتَح حصنهم لئلا يُقتَلوا عن آخرهم، وأن يُؤخَّر الفتح ليقدموا بعد ذلك
مسلمين في رمضان من العام المقبل.
٢٠
وعاد النبي برجاله إلى الجعرانة، لتأتيه هناك امرأة من سبي هوازن، تزعم أنها أخته
من
الرضاعة، وأن اسمها الشيماء، فيسألها عن مُؤيِّدات صدقها، فتكشف له بجسدها عن عضة كان
قد عضها لها، فيتعرف الرسول
ﷺ على العلامة، فيبسط لها رداءه ويُجلِسها عليه،
ويُخيِّرها بين البقاء عنده مُحبَّبة مُكرَّمة، أو أن يُعيدها إلى قومها مُمتَّعة،
فتقول له: «بل تُمتِّعني وتردني إلى قومي … فأسلمت، فأعطاها رسول الله
ﷺ ثلاثة
أعبُد وجارية، ونَعمًا وشاءً، وسمَّاها حذافة، وقال: الشيماء لقب.»
٢١
وتعلم هوازن بعودة النبي، وتُدرِك أن الإسلام هو الوقاء الأمثل، فتختار له تسعة ممن
بقي من أشرافهم، ليُعلِنوا أمامه إسلام هوازن ويُبايِعوه على السمع والطاعة، ثم
يُفاتِحوه في مُصابهم قائلين: «يا رسول الله، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات
والخالات وهي مخازي الأقوام، ونرغب إلى الله وإليك يا رسول الله.» وكان رحيمًا جوادًا
كريمًا، فقال: «سأطلب لكم ذلك.» أما كيف؟ فقد سألهم رسول الله
ﷺ: «أبناؤكم
ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: «يا رسول الله، خيَّرتنا بين أموالنا وأحسابنا،
بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا.» فقال: «إذا أنا صليت بالناس الظهر، قوموا
وقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا
ونسائنا. فسأُعطيكم عند ذلك وأسأل لكم.»
وفعل الهوازنيون بتوجيهات الرسول
ﷺ، ووافق جميع المسلمين اللهم إلا عيينة بن
حصن مع غطفان وفزارة، والأقرع بن حابس التميمي ومعه تميم، وعباس بن مرداس زعيم سليم،
إلا أنهم وافقوا جميعًا في نهاية الأمر،
٢٢ وعادت هوازن برجالها ونسائها وأطفالها مُؤمِنة مُسلِمة بعد كفران، لكن بعد
أن ركبت رأسها فخسرت أموالها وشرف الكثير من نسائها.
ورغم نصر هوازن فإن الرسول القائد
ﷺ ما كان ليغفل عن نقطة ضعف قد تكون قاتلة
في صفوف رجاله، حيث بينهم من دخل تحت سيادة الدولة وسيدها، من سادة ورءوس وأشراف كبار،
كان أحدهم لا يقبل برأس يعلو رأسه، فدخلوا على مضض مُرغَمين، يتحيَّنون فرص النكوص،
وعبَّروا في أكثر من موقف عن مكنون صدورهم. أما الأخطر فهو ما يمكن أن يُسبِّبوه للدولة
من مشاكل، ربما أدت لنكسات وهزائم، وهو الأمر الذي يمكن استنتاجه ببعض الظن؛ فمن
المُحتمَل أن يكون ما حدث في المشهد الأول لوقعة حنين ترتيبًا مقصودًا من الطلقاء، من
قريش ومن القبائل الكبرى كفزارة وسليم وتميم، فيهرب فرسانهم أمام هوازن؛ لإيقاع
الارتباك بين جنود المسلمين وصفوفه، الذي يمكن لأفراده أن يهربوا بدورهم بغريزة القطيع.
وهو أمر مُحتمَل تمامًا إذا أخذنا بالاعتبار حجم الجيش الإسلامي وعدد أفراد هوازن
المقاتلين، وهو ما يزداد تأكيدًا إذا تذكرنا أن الكرَّة عادت على هوازن فقط بمئة أنصاري
من بين الاثنَي عشر ألفًا، أخوال الرسول وناصِروه في كل موقع بخئولة حقة وإيمان صادق،
ولولا صمود الأنصار في الوقعة لكانت النتائج مختلفة تمامًا، ولربما تغيَّر وجه التاريخ
برمته. كان وعى القائد النفَّاذ يستدعى حلًّا سريعًا لرتق تلك الثغرات في الولاء
للدولة، فقام يُوزِّع الأعطيات الهائلة من مغانم الهوازنيين الذين أسلموا على كبار
الرءوس والهامات الصلبة الثرية أصلًا؛ ليفتح عيونهم على ما ينتظرهم وإشعارهم أن الإسلام
لا ينتقص منهم ومن مكانتهم، بل يزيدهم ثراءً على ثراء، ويفتح أمامهم أبواب الغنى الهائل
على مصراعَيه، إزاء الطموحات المُتوثِّبة في الوعد النبوي بكنوز كسرى وقيصر؛ فأعطى
أبا سفيان صخر بن حرب أربعين أوقية من الفضة، ومائة من الإبل، فلم يقنع السيد القرشي
وطلب لابنه يزيد، فأعطاه مثلما أعطى أباه، فطلب لابنه معاوية فأعطاه مثلهما. كما أعطى
حكيم بن حزام مائة من الإبل، فسأله مثلها فأعطاه، وأعطى الحارث بن كلدة مائة من الإبل،
كذلك لأسيد بن جارية والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وقيس بن عدي وسهيل بن عمرو وحويطب
بن عبد العزى والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ومالك بن عوف، وكلهم سادة قومهم وأشرافهم
وأثرياؤهم، لكل منهم مائة من الإبل. وأعطى لسيد من السادة هو عباس بن مرداس زعيم سليم
أربعين من الإبل، فسخط سخطًا شديدًا، وقام يُعبِّر عن واقع ما يحدث من سيادة وتسييد
بقوله:
فأصبح نهبي ونهب العبيـ
ـد بين عيينة والأقرعِ
وما كنتُ دون امرئ منهما
ومن تضعِ اليوم لا يُرفَعِ
فقال النبي: اذهبوا فاقطعوا عني لسانه. فظلوا يُعطونه حتى رضي، ثم وزَّع الإبل خمسين
خمسين على من هم أدنى في السيادة درجة،
٢٣ كل ذلك والأنصار تقف مشدوهة تتطلع.
ولا شك أنها تذكرت وتذاكرت مواقفها من البدء حتى المُنتهى، ودماء بعضهم لم تجف بعد
على ثرى أوطاس بحنين، ثم تتذكر خروجها مع النبي في غزواته وطلوعها على العرب في سرايا،
وقتل من يأمر الرسول بقتله من بينهم أو من بين أحلافهم، ثم لا شك يتذكرون يوم أحد،
عندما فر الناس من حوله بخاصة المهاجرون، وكيف صمدوا للمشركين يصدونهم عن رسول الله،
وكيف ضن النبي بطلحة عندما كان يهرب إلى مُعتلى الصخرة، ويقول ألا أحد لهؤلاء. فيكر
أنصاري عليهم يمنعهم عن النبي فيموت شهيدًا، ثم يصعد النبي ومعه طلحة، فيقول النبي ألا
أحد لهؤلاء. فيقول طلحة أنا لهم يا رسول الله. فيقول كما أنت يا طلحة. فينزل لهم رجل
من
الأنصار حتى يموت شهيدًا.
لا شك أيضًا يذكر الأنصار بيعة العقبة وعقدها، ويوم الهجرة عندما أتاهم النبي مهيضًا
لاجئًا مع رجاله، فأعطوهم دورهم وشاركوهم قوتهم بل ونساءهم.
ولا شك أيضًا أن الحاضر قائم بكل تفاصيله، وأنه لولاهم عندما عطفوا عطفتهم على هوازن،
ما بقي من الأمر شيء. وهنا تعلوا الأصوات، ويكثر اللغط، ويقول قائلهم:
نحن أصحاب كل مَواطن وكل شدة ثم آثر قومًا علينا وقسم فيهم قسمًا لم يقسمه
لنا، وما نراه فعل ذلك إلا وهو يريد الإقامة بين ظهرانيهم.
ويقول آخر:
يغفر الله لرسول الله، يُعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
ويزيد ثالث:
أما من قاتله فيُعطيه، وأما من لا يُقاتِله فلا يُعطيه.
هذا بينما بدأ الاحتجاج، وأخذ الناس يُكثِرون في الكلام، حتى قيل للرسول ما لا يصح
من
كلمات شديدة الاحتجاج، فهذا أبو موسى يروي: «كنت عند النبي
ﷺ وهو نازل بالجعرانة
بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى رسولَ الله أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟
فقال له: أبشر.
فقال الأعرابي: لقد أكثرت عليَّ من أبشر؟
بينما يقف رجل آخر على رأسه ويقول له: يا محمد، اعدل.
ليرد النبي: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟
فيُجاوِبه ذو الخويصرة من بني تميم غاضبًا: لقد رأيت يا محمد ما صنعت.
فيسأله: وكيف رأيت؟
فيرد بصراحة العربي: لم أرَك عدلت.
فهمَّ به عمر يقول: «يا رسول الله، ألا أقوم إليه فأضرب عنقه؟» لكن ليرد عليه النبي:
ﷺ «دعه؛ إن له أصحابًا.»
بينما كان آخر يُردِّد بين القوم:
إن هذه القسمة ما عُدِل فيها،
وما أُريدَ بها وجه الله.
فيذهب رجل بالكلام إلى النبي، فيتغير وجهه حتى يصير شديد الحمرة، ليهتف بالناس: فمن
يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟
٢٤
وينتحي الأنصار جانبًا وهم يرون أوباش القبائل يُحيطون بالنبي في جمهرة عظيمة،
تُطالِبه بوقف الأعطيات، يقولون له: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم.
والنبي يتراجع بين الأصوات الغاضبة، حتى يُلجئوه إلى شجرة يُعلِّق بها رداءه ويتراجع
فتخلع الشجرة عنه رداءه فيصيح بهم: أيها الناس، ردوا على ردائي. أيها الناس، والله لو
كان لكم بعدد شجر تهامة نعمًا لقسمته عليكم.
٢٥ ثم يأمر زيد بن ثابت بإحصاء ما تبقى ثم توزيعها على الناس بالعدل، فكانت
سهامهم لكن رجل أربعة من الإبل وأربعون من الشياه.
٢٦ هذا بينما وقف حسان بن ثابت أمام الأنصار يُنشِد عتابه على رسول الله
ﷺ قائلًا برقة مشاعر الخئولة:
زادت همومٌ فماء العين مُنحدِرُ
سحًّا إذا حفلته عَبرة دررُ
وأتِ الرسول فقل يا خير مؤتمن
للمؤمنين إذا ما عُدِّد البشرُ
علامَ تُدعى سليم وهي نازحة
قُدَّام قوم همُ آوَوا وهم نصروا
سمَّاهم الله أنصارًا بنصرهمُ
دينَ الهدى وعوان الحرب تستعرُ
وسارَعوا في سبيل الله واعترفوا
للنائبات وما خاموا وما ضجروا
والناس ألبٌ علينا منك ليس لنا
إلا السيوف وأطراف القنا وزرُ
فما ونينا وما خمنا وما خبروا
منا عثارًا وكل الناس قد عثروا
٢٧
وهنا يُنادي المُنادي بالأنصار وحدهم ليجتمعوا في
قبة رسول الله
ﷺ ليقف فيهم خطيبا يقول:
يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم؟ وجِدَة وجدتموهما على أنفسكم؟ ألم آتكم
ضلالًا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداءً فألَّف الله بين قلوبكم؟
قالوا: بلى، الله ورسوله أمنُّ وأفضل.
قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدَقتم وصُدِّقتم؛ أتيتنا مُكذَّبًا فصدَّقناك،
وطريدًا فأويناك، وعائلًا فآسيناك. أوَجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم فيَّ لعاعة
من الدنيا، تألَّفت بها قومًا ليُسلِموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله
إلى رحالكم؟
فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس
شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء
الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسمةً وحظًّا.
٢٨ ثم يختتم الوحي أحداث حنين بقوله الصادق:
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ
أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة:
٢٥–٢٧).
أحداث ومعجزات
مع الكثرة العددية لجيش المسلمين إزاء هوازن وثقيف، عبَّر لسان النبي
ﷺ عن
واقع الحال عندما قال: «لن نغلب اليوم من قلة»، وصادق عليه قول الوحي إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. وهو الإعجاب الذي ما
كان ممكنًا أن يحدث لولا مقارنة المسلمين عددهم بعدد عدوهم، وهو ما يُجافي تمام
المجافاة روايات جاءت بكتبنا الإخبارية تُؤكِّد أن عدد مُقاتِلي هوازن بلغ عشرين
ألف مُقاتِل، وهو الأمر الذي يتناقض تناقضًا صارخًا مع عودة الكرة عليهم بمئة مقاتل
أنصاري، ثم انكسارهم بعد ذلك أمام جيش المسلمين. ويبدو لنا أن قصة العشرين ألف
هوازني كانت لونًا من المبالغة، لجأت إليه كتبنا الإخبارية في محاولة لتبرير
الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في بداية المعركة، ناهيك عن كوننا نعلم أن أقصى تعبئة
تمكنت القبائل من حشدها في الخندق لم تتجاوز العشرة آلاف مقاتل. ولا ننسى بالطبع أن
جيش دولة يثرب الإسلامية الذي ضم مُعظَم مُحارِبي القبائل الكبرى بما فيها قريش، لم
يبلغ — رغم عمر الدعوة الطويل حتى هوازن — سوى اثنَي عشر ألف مقاتل، وإن كان يمكن
بحسبة بسيطة تقدير عدد رجال هوازن قياسًا على عدد أسراهم من نساء وأطفال وبعض القلة
من الرجال، حيث بلغ عددهم ستة آلاف، وبفرض هرب بعض النساء والأطفال دون الألفَين،
فإن عدد الرجال المقاتلين لا يمكن أن يتجاوز الأربعة أو الخمسة آلاف بأي حال من
الأحوال.
ولم يكن ثَمة حديث عن تدخُّل الملأ السماوي إزاء تلك الكثرة المزعومة في جند
هوازن، ولم يبدأ حديث الملائكة إلا بعد انهزام المسلمين الذين ولوا الأدبار، ثم
عادوا بنصرة الأنصار أخوال رسول الله
ﷺ إلى القتال حتى حقَّقوا نصرهم
العظيم، فقط عند هذه الفجوة يبدأ حديث الملأ السماوي وروايات المعجزات
المُلغِزة.
ومع ما جاءت به الآيات الكريمة
وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ
تَرَوْهَا فتح الباب لحديث المعجزات، ورغم القرار الواضح في الآيات عن
رب العالمين الصادق صدق كماله بأنهم لم يروها، فقد قرر البعض التطوع بالشهادة أنهم
رأوها، لتأكيد وجود الملأ الأعلى منذ بدء المعركة وقبل هزيمة المسلمين، ومن تلك
الشهادات رواية تقول:
إن مالك بن عوف النصري بعث عيونًا من رجاله فأتوه وقد تفرَّقت أوصالهم،
فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالًا بيضًا على خيل بلق، فوالله ما
تماسكنا أن أصابنا ما ترى.
٢٩
ثم نموذج آخر مُجهَّل المصدر بدوره، لا نعرف
أصحابه في رواية تقول عند هزيمة المسلمين وثبات الرسول وآل بيته المطلبي والطالبي:
عمن شهد حنينًا كافرًا قال: لما التقينا نحن ورسول الله
ﷺ، لم
يقوموا لنا حلب شاة، فجئنا نهشُّ سيوفنا بين يدَي رسول الله
ﷺ، حتى
إذا غشيناه فإذا بيننا وبينه رجال حسان الوجوه، فقالوا شاهت الوجوه
فارجعوا. فهُزِمنا من ذلك الكلام.
٣٠
ومثيل تلك المحاولة لقتل رسول الله يأتي الحديث منسوبًا إلى شيبة بن عثمان
العبدري، الذي خرج من قريش مع رسول الله إلى هوازن يريد أن يغتاله في زحمة القتال،
فيقول ابن كثير راويًا على لسان شيبة:
لما رأيت رسول الله
ﷺ يوم حنين قد عُرِّي، ذكرت أبي وعمي وقتل
حمزة إياهما، فقلت اليوم أُدرِك ثأري من رسول الله
ﷺ … ثم جئته من
خلفه فلم يبقَ إلا أن أُساوِره سَورة بالسيف، إذ رُفِع شواظ من نار بيني
وبينه كأنه برق، فخفت أن يمحشني.
٣١
هذا بينما يروي البلاذري الرواية ذاتها، لكن من منطق آخر، حيث يقول:
وكان شيبة بن عثمان العبدري شديدًا على المسلمين، وكان ممن أُومِن، فسار
إلى هوازن طمعًا في أن يُصيب من النبي
ﷺ، قال: فدنوت منه، فإذا أهله
محيطون به، ورآني فقال يا شيب إليَّ. فدنوت منه فمسح على صدري ودعا لي
فأذهب الله كل غل فيه، وملأه إيمانًا وصار أحب الناس إليَّ.
٣٢
أما ذلك الراوي الذي كان طوال الوقت مُغرَمًا بالنمل، يرى فيه صورة الملائكة،
فيروي لنا على لسان جبير بن مطعم قوله:
إنا لمع رسول الله
ﷺ يوم حنين، والناس يقتتلون، إذا نظرت مثل
البُجاد الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور
وقد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة.
٣٣
أما السهيلي فشرح لنا اختيار النمل تحديدًا لتتلبسه الملائكة فيقول:
ورآهم جبير على صورة النمل المبثوث، إشعارًا بكثرة عددها؛ إذ النمل لا
يُستطاع عدها، مع أن النملة يُضرَب بها المثل في القوة، فيقال: أقوى من
نملة. أنها تحمل ما هو أكبر من جِرمها بأضعاف، وقد قال رجل لبعض الملوك:
قوتك قوة نملة. فأنكر عليه. فقال: ليس في الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه
إلا النملة.
٣٤
أما ابن سعد فيُخالِف الآيات وعلم الله الصادق، فيُؤكِّد رؤية الملائكة، وأن
سيماءهم يوم حنين كانت عمائم حُمرًا قد أرخوها بين أكتافهم.
٣٥
ويعود هنا حديث الحصيات المُبارَكات مرة أخرى في رواية يُورِدها ابن كثير تقول:
فنظر رسول الله
ﷺ وهو على بغلته كالمُتطاوِل عليها إلى قتالهم،
فقال: الآن حمي الوطيس. ثم أخذ حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار ثم قال:
انهزَموا وربِّ محمد … ما بقي أحد إلا امتلأت عيناه وفمه بالتراب، وسمعنا
صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست الحديد، فهزمهم الله عز وجل، ثم أقبل
على المشركين فرمى بها في وجوههم وقال: ارجعوا، شاهت الوجوه. فما أحد يلقى
أخاه إلا وهو يشكو قذى في عينَيه.
٣٦
وبين حديث المعجزات يأتي حديث آخر عن أحداث وقعت بعد هزيمة هوازن، وأسر رجالها
وسبي نسائها، وفيهن أخوات النبي وعماته وخالاته وأمهاته من الرضاع، وذلك قبل
إعادتهن إلى ذويهن بعد صلح هوازن وإسلامها، فيروي أبو سعيد الخدري قوله:
أصبنا نساءً من سبي أوطاس، ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج،
فسألنا النبي
ﷺ، فنزلت الآية هذه:
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، فاستحللنا بها فروجهن … وقد استدل جماعة من السلف على إباحة
الأَمة المشركة بهذا الحدث في سبايا أوطاس.
٣٧
وبالفعل استحر إتيان نساء هوازن حرورًا، ثم أُعيدت النساء إلى أهلهن بعد أن أسلمت
هوازن بنسائها، ليروي البيهقي واقعة طريفة تحكي:
إن عثمان كان قد أصاب جارية، خُطِبت إلى ابن عم لها كان زوجها، وكان
ساقطًا لا خير فيه، فلما رُدَّت السبايا، ساقها فقدم بها المدينة في زمان
عمر أو عثمان، فلقيها عثمان، فأعطاها شيئًا بما كان أصاب منها، فلما رأى
عثمان زوجها قال لها: ويحك، هذا كان أحب إليك مني؟ قالت: نعم، زوجي وابن عمي.
٣٨
حكاية تُحاوِل تبخيس شأن رجال هوازن «ساقطًا لا خير فيه»، الذين كانوا أزواجًا
لنساء أتاهم المسلمون في غزوة حنين، ونكحوهن بقوانين السبي العربية التليدة.