الوسطية بين النقائض
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ
هذا نص ابن كثير الواضح اللماح، الذي يُعلِن في إيجاز بليغ بلاغًا واضح المعاني، حول الظروف التي انعقدت فيها الاتصالات بين النبي ﷺ وبين أخواله من خزرج يثرب، ومن لحق بهم من بعض الأوس القليل، حيث يشرح ببساطة وضع عرب يثرب — من خزرج وأوس — المنهار والمُتفسِّخ، بعد مقتلة يوم بعاث بين القبيلتَين، وقتل الرءوس منهم والسادة؛ مما جعلهم فراغًا من أصحاب «الكاريزما» الرئاسية والحنكة المشيخية. وهو ما رآه ابن كثير ترتيبًا ربانيًّا قدَّمه الله هدية لرسوله، بقتل الرءوس الكبرى من كلتا القبيلتَين، مما هيَّأهم لقبول السيادة النبوية دون مشاكل كثيرة، ودون مُنافِسين أقوياء.
وغني عن البيان أن عاملًا آخر أساسيًّا هيَّأ لذلك الحلف ومهَّد له، هو المُصاهَرة الوثيقة التي سبق أن تمَّت بين الخزرج وبيت النبي الهاشمي. ناهيك عن كون موقف الخزرج — تحديدًا، إضافةً لقرابة الخئولة — كان ردًّا واضحًا على قريش وسادة البيت الأموي، إزاء وقفتهم السابقة مع أوس يثرب ضد الخزرج، يومَي معبس ومضرس، وهي الوقفة التي عمد إليها ملأ مكة لتفتيت يثرب وتمزيقها شيعًا؛ كي لا تُشكِّل خطورة على تجارة مكة، لوقوعها على عصب طريق الإيلاف الشامي، ولإجهاض قوتها حتى لا تُطالِب بنصيب من الجعالات التي كان يدفعها ملأ مكة للقبائل القائمة على الطريق التجاري، بحيث أسقطت مكة يثرب من حساباتها تمامًا، بعد تلك الوقائع الدامية بين بطونها. وتأسيسًا على ذلك استشرف خزرج يثرب الوعد النبوي بوعي نافذ، لوحدة تلمُّ الشمل، تقف بها يثرب كمنافس له شأنه أمام مكة وسادتها، وربما تكون عاصمة للدولة الكبرى الموعودة مع تداول الأيام، عندما يأتي الله بأمره.
ورغم أن كتب الأخبار الإسلامية والسير والتاريخ، وما تُقدِّمه وسائل التربية الإعلامية والدينية، تجعل يثرب جميعًا تستقبل سيدها الجديد المُهاجِر بالترحاب، وتصدح بنشيد «طلع البدر علينا» بعد أن امتلأت منهم الجوانح بالإيمان، فمنحوا النبي والمُهاجِرين بيوتهم ونساءهم وعقولهم وأرزاقهم؛ فإن العين الحصيفة المُدقِّقة، والقراءة المُحايدة المُتأنِّية، لا تجد ذلك الزعم أبدًا، حيث نجد وفد يثرب الذي التقى بالنبي في عكاظ، كان من بيت عبد الأشهل الخزرجي وحده وهم أخوال النبي، وأن اللقاء التالي بعد عام كان يضم اثنَى عشر؛ تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس. وكان لقاء العقبة الحاسم قبل الهجرة يضم ثلاثة وسبعين؛ منهم أحد عشر أوسيًّا فقط، وستون خزرجيًّا. وهو ما يُشير إلى أن هؤلاء الأوس كانوا من عقلاء قومهم فأدركوا قيمة الدعوة وما سيتحقق بها، أو أنهم أهل سلام ومصالح ترتبط بذلك السلام، جعلهم يقبلون ذلك العقد مع صاحب الدعوة ويحضرونه. وفي مستوًى آخر — يأخذ بسوء الظن — يمكن احتساب أوس العقد دسيسة أوسية على ذلك الاجتماع التاريخي؛ لتسقط أخباره. وهو أمر وارد في ذلك الصراع، وتكشف عنه بعد ذلك الأعداد الكبيرة للأوس المنافقين بعد الهجرة ولزمن طويل، ناهيك عن كون وجود الجواسيس كان أمرًا مألوفًا، وكان بداخل المهاجرين أنفسهم جواسيس لملأ مكة، وهم من قال الوحي بشأنهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (الأنفال: ٢٧).
ثم هناك مستوًى ثالث في قراءة موقف الأوس، يتمثل في مُباعَدة أبي عامر بن عمرو بن صيفي الأوسي مع خمسين من أتباعه ليثرب بعد الهجرة، كارهًا للنبي والمهاجرين، ومشاركته بعد ذلك في وقعة أحد ضد النبي؛ إلا أن الواضح الجلي هو أن النبي قد دخل يثرب في حمى أخواله الخزرج أساسًا، مع تعضيد من بعض عقلاء الأوس، وهو ما يُفصِح عن قدر شديد من المبالغة في روايات الإخباريين عن إيمان عرب يثرب جميعًا قبل الهجرة مباشرة. ويُدلِّل هذا التحليل ما حدث في وقعة بدر، حيث لم يتمكن النبي من جمع أكثر من ثلاثمائة رجل معه في الوقعة، مهاجرين وخزرجيين وأوسيين، وهو أمر ذو دلالة إن قارناه بما حدث بعد استتباب الأمر في المدينة للنبي، وقدرته على حشد قوة تُماثِل عشرة أضعاف ما جمعه في بدر، وهو ما يُشير إلى انضمام جموع أخرى مُتأخِّرة إلى حلف النبي اليثربي.
لكن ذلك لا يعني سوى أن يثرب قد استقبلت الرسول، مُتهيئة لذلك بحكم ظروفها وتكوينها، التي أُتيحت لها دون أي موقع آخر بالجزيرة؛ ففيها كان أخوال الرسول وحلفاء البيت الهاشمي، وفيها كان اليهود وحكاياتهم عن أنبيائهم مع كتابهم المقدس، وهو ما كان عاملًا جوهريًّا في وضع التاريخ الديني موضع احترام من عرب يثرب، إضافةً إلى النبوءة التوراتية التي كانت تتواتر هناك عن مَقدم نبي آخر الزمان، كما كان التوحيد اليهودي مَدعاة لاختلال علاقة عرب يثرب بالوثنية، وهو ما هيَّأهم لقبول فكرة التوحيد عندما جاءت عربية. وقد تهيأت يثرب بعد ذلك لأخذ دورها الريادي كعاصمة للدولة المُقبِلة، في تحوُّلها التدريجي للتوحُّد إيمانيًّا، بل وطبقيًّا، بذوبانها في مستوًى مادي مُتقارِب، كناتج للتوزيع العادل للغنائم. وتحوَّلت الجماعة الإسلامية إلى جيش مُتكامِل ووحدة عسكرية، مُقاتِلة، بدأت تُداهِم بدورياتها طريق الإيلاف الشامي؛ لتضرب حول مكة حصارها الاقتصادي.
فلم ينسلخ من الأيام سوى أشهر سبعة بعد الهجرة إلى يثرب، حتى خرجت دوريات المسلمين تقطع على قريش طريقها إلى الشام، وكان أولاها سرية حمزة بن عبد المطلب، وبعدها بشهر سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب، وبعدها بأيام سرية سعد بن أبي وقاص. ورغم أن كثيرًا من تلك السرايا الأولى لم تُحقِّق غايتها بالاستيلاء على قوافل قريش، فإنها وضعت تجارة قريش على حافة الخطر، وأشعرت الملأ أي أمر ينتظرهم من محمد، خاصة بعدما قام النبي ﷺ بنفسه يغزو الطريق بهدف آخر، هو إرهاب حلفاء قريش على طريق الإيلاف، لتفكيك الإيلاف بين تلك القبائل وبين قريش، وبعد النجاح الذي لاقته تلك الغزوات حيث تمكَّن النبي من سلخ إيلاف بني مدلج، وأخذ عليهم عهود المُوادَعة، كما تمكَّن من عقد عقود مكتوبة مع بني ضمرة بن بكر من كنانة.
وجاء أخطر إنذار لقريش، عندما تمكَّنت سرية عبد الله بن جحش من الاستيلاء على قافلة لقريش، ضربت أثناءها بالتحريم المكي للأشهر الحرم عرض الحائط، فقتلت، وسلبت، وأسرت؛ لتُعلِن القوة الجديدة في يثرب عن رفضها لقواعد قريش الدينية، واستخفافها بتلك القواعد، بخاصة مع تلازم ذلك باتخاذ النبي للقدس قِبلة له وللمسلمين، وصيامه يوم الغفران اليهودي، ذلك الاستخفاف الذي استهجنته قريش تُعلِن في العربان أن محمدًا قد انتهك حرمة الأشهر الحرم، لكن ليرد النبي عليهم وحيًا يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ (البقرة: ٢١٧).
ومع النصر البدري الساحق، أصبح النبي مرموق الود من القبائل، خاصةً المُتاخِمة ليثرب، مما وسَّع نطاق الدولة الوليدة وحدودها، بحدود القبائل المُوادِعة لها على كافة الطرق، دون أن تُعلِن هذه القبائل ولاءها الديني لدولة النبي بإشهارها الإسلام. كان الغرض عسكريًّا وسياسيًّا في هذه المرحلة من مراحل بناء الدولة، بهدف مرحلي تكتيكي على الطريق الاستراتيجي الطويل، يهدف إلى إضعاف جبهة حكومة الملأ المكية، وتفكيك إيلافها مع القبائل، وإسقاط هيبتها أمام العربان. وقد لحق نتيجةَ ذلك ضرر جسيم بالعمود الخرساني لمنظومة مكة المُتمثِّل في ثروتها التجارية، وهو ما حدا بالقبائل إلى مُراجَعة موقفها من قريش، إزاء القوة اليثربية الطالعة، في الوقت الذي أخذت فيه أحوال المسلمين الاقتصادية في التحسُّن المُطرِد، بعد أن وضعت بدر بيد المسلمين القوة المادية؛ سلاحًا، ومالًا، ومنحتهم مزيدًا من الثقة النفسية في أنفسهم وفي مشروعهم وفي قائدهم، فامتلَئوا — بتلك القوة المعنوية — جرأة، وأخذوا بتأديب المُخالِفين في يثرب، وإلقاء الرعب في قلوبهم، بل وقتل أي شخص يتجرأ على مُعارَضة الدولة.
هذا — بالطبع — مع نتائج أخطر على مستوى الشكل الاجتماعي للدولة، كناتج طبيعي لتعزيز سلطة النبي الحاكمة، وهي النتائج التي أخذت تتضح في تراجعات الدولة الوليدة عن الأممية المُطلَقة والأخوة المُطلَقة التي كادت في بدئها أن تكون مَشاعًا؛ وذلك بعقد صحيفة المعاقل في مرحلة تالية، التي كانت إعلانًا مكتوبًا سافرًا عن سلطة النبي كسيِّد مُطلَق ليثرب جميعًا؛ ومن ثَم بدأت مع صحيفة المعاقل مرحلة جديدة بتكتيك تمثَّل في تراجُع دقيق ومحسوب عن الأممية المُطلَقة، لتأخذ الدولة السمت الوسطى بين الأممية، وبين الدعوة إلى صلة الأرحام والمحافظة على العلاقات العشائرية.
وقد بدأت تلك السياسة الوسطية تتضح بعد غزوة بدر مباشرة؛ حيث لحظنا — كما شرحنا في الجزء الأول من هذا العمل — بداية توازُن الدولة بين النقائض، فكانت دعوتها لتوحُّد أممي تحت راية واحدة وفي ظل سيادة دولة مُوحَّدة وتحت إمرة سلطة نبوية واحدة، وضمت في شكلها الاقتصادي تقاربًا ماديًّا زاد من ذلك التوحُّد، لكنها إبان ذلك كانت تضم أيضًا الرقيق والعبيد مما حملها من الداخل للون طبقي. ومع التراجع عن التنديد بالثروة والأثرياء، وخفوت صوت المُستضعَفين في الوحي والأحاديث، بدأت الدولة تُفسِح بداخلها فجوات المجتمع الطبقي، ثم فجوات المجتمع القبلي معًا؛ حيث كانت الدعوة للرحم والعشيرة مَدعاة لوضوح شكل الدولة في أضمومات قبلية مُحزَّمة ومُوثَّقة بوثاق الدولة الواحدة. أما إذا تتبَّعنا أنساب العشرة المُبشَّرين بالجنة، فسنجدهم تمثيلًا قبليًّا وسياديًّا لأهم البطون القرشية؛ فهذا أبو بكر وطلحة يُمثِّلان تيمًا، وهذا علي يُمثِّل هاشمًا، وهذا عثمان يُمثِّل أمية، وهذا عمر وسعيد بن زيد يُمثِّلان عديًّا، وهذا عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص يمثلان زهرة وهذا الزبير يمثل أسدًا، وهذا أبو عبيدة يُمثِّل فهر بن مالك، وهو التمثيل الذي أصبح يُوازي في يثرب حكومة الملأ القرشية في مكة (وقد لُوحِظ ذلك بذكاء الباحث الأستاذ خليل عبد الكريم).
وتأسيسًا على كل ذلك، فإن غزوة بدر قد أفضت إلى نتائج هائلة على المستوى النظري والعملي، وحدَّدت مواقف كثيرة كان الإفصاح عنها مُؤجَّلًا حتى يأتي الله بأمره، لكن أهم ما حقَّقته هو وضعها بداية النهاية لسيطرة الملأ القرشي، وسيادة حكومته البدائية شبه الجمهورية، بالقضاء على سادتها المُترَفين، أولئك المُنافِس الحقيقي لفكرة الدولة الواحدة. وهو ما سيتم تثبيته بعد زمن بالاعتماد على التوازُن بين النقائض، في مملكة وراثية كبرى ستُمسِك بأعنتها قبيلة النبي، قريش، وهي العودة التي ما كانت لتتم لولا العودة إلى صلات الرحم والعشيرة، التي وضحت في تحرُّك رحم النبي لأهله الهاشميين في وقعة بدر، وأمره لرجاله بعدم قتل أي من بني هاشم؛ ليتوازن ذلك مع نقيضه من بعد، فيصبُّ الأمر كله بيد الطبقة التي سيتم دعمها بالتدريج خلال حياة الرسول نفسه، لتقف على رأسها الطبقي منظومة قريش القبلية؛ ليظل حال التاريخ العربي والإسلامي بعد ذلك حتى اليوم، إعمالًا للمُقدَّس واتباعًا له، يظل واقفًا على حافة الوضع الاجتماعي الاقتصادي المعروف بالإقطاع التجاري، ويبقى المأثور مُصرًّا على أن الخلافة من قريش، وليس من الأنصار.
ويتضح ذلك جليًّا عندما نقرأ المراحل اللاحقة في تطوُّر أحوال الأمة الطالعة، بعد أن استقام أمرها؛ حيث بدأت تفتح صدرها تمامًا للتجار، خاصةً بعد فتح مكة، وحيث احتلَّت طبقتهم في الإسلام مكانًا، كان مكانهم الطبيعي في الفرز التطوري. ولا ننسى أن النبي ﷺ كان هو من يُحاوِل دومًا جذب تجار مكة وأثريائها لدعوته. وبعد هذه النقلات سنلحظ دون عناء كيف خفَّفت السُّوَر اللاحقة والمُتأخِّرة — التي تناغمت بصدقها مع مُتغيِّرات الواقع — من حِدتها إزاء الأثرياء، وهدأ تنديدها بهم، مع خفوت مُتساوِق في الاهتمام بقضايا المُستضعَفين، وبعد أن كان هؤلاء المُستضعَفون المُقاتَلون مادة الحركة ووقود حروبها، تحوَّل من بقي منهم حيًّا إلى طبقة كبار المُلاك. وهو ما يكفي أن نذكر له مثلًا واحدًا فقط، يتعلق بأكبر الصحابة زهدًا وتقشُّفًا وورعًا، وكان أرقَّ نظرائه حالًا وأقلهم مالًا.
ثم يمكننا أن نلحظ المال نفسه الذي كان محل هجوم شرس وضارٍ، وأُحِل للمسلمين مُصادَرته بالغزو، وهو يتحول ليُصبِح بالإمكان بقاؤه وتناميه، بعد تطهيره بالزكاة والصدقات، ويبيت كسبًا حلالًا، وتسعة أعشار الرزق في التجارة، والمال والبنون زينة الحياة الدنيا. لقد كانت خطوات التاريخ في طريقها إلى إنضاج الطبقة التجارية — وليس إلغائها — في سبيل كيان سيادي يسد الفراغ السياسي تحت لواء عقيدة عقَدتها حتمية السنن الكونية.
ومن ثَم خرجت إلى تاريخ العرب تلك الحالة الوسطية التي تتوازن بين النقائض، على كل المستويات؛ بين القبلية وبين الطبقية، بين العشائرية وبين الأممية، بين الوحدة الشاملة وبين تضمُّن تلك الوحدة للقبائل في شكل حزم وأضمومات، وبين إلغاء الشفعاء واستبدالهم بشفيع واحد هو نبي الإسلام، وبين الوحدانية المُطلَقة للإله التي لا تقبل شراكة. ومن ثَم كانت التراجعات التي اعترفت بمُقدَّسات القرشيين والتي كانت تُعَد وثنيات، كالاعتراف بالكعبة، ثم في فتح مكة يتم تقديس الكعبة ذاتها وحجرها الأسود، وشعائر الوثنيين القديمة كالطواف والسعي، وتكريس المقامات والمواضع كالصفا والمروة وعرفات. لقد باتت الدولة بحاجة إلى معبد مؤسسي له تاريخه، بعد الرجوع عن القدس «أورشليم»، معبد يجتمع عنده جميع العربان، لكنه معبد قريش قبيلة الرسول في المقام الأول، وسدنته الهاشميين آل البيت.
كذلك تم الوقوف وسطيًّا بين نقائض أخرى، بين البدء بالدعوة إلى عتق الرقيق وجعلهم أنسابًا، وبين ما فرضته حروب الدولة من ضرورة استمرار ذلك النظام العبودي، مُتمثِّلًا في سبايا تأتي من الحروب وانتصارات الدولة. ثم بين الدعوة إلى عقيدة جديدة تُؤسلِم جميع الناس تحت رايتها، وبين ضرورات فرضتها الظروف، حيث تم ترك كثير من القبائل على عقائدها فترة من الزمن، لكن مع مُوادَعتها وعقد المُحالَفات بينها وبين دولة يثرب النبوية، إزاء حرب تلك الدولة مع مكة، مع ما فرضته ظروف أخرى مُتأخِّرة في غزوات النبي على أصحاب الأراضي الخصبة، وقيمة تلك الأراضي التي كان يمكن أن تبور تمامًا؛ مما أدَّى إلى قرارات باتفاقيات مع أصحابها، تُقرِّهم على دينهم وعلى أرضهم، على أن يدفعوا شطر المحصول لحكومة يثرب، وما تطوَّر بعد ذلك في نظام الجزية.
ثم تطوُّر آخر على ذات الخط بين النقائض، عندما صبَّ الأمر كله بيد دولة يثرب النبوية، وامتلأت خزائنها بالخيرات، ليأتي نداء جديد بأن من يُعلِن إسلامه مُعترِفًا بوحدانية الله وسيادة رسوله، يضمن سلامة حياته وماله، على أن يدفع الضرائب للدولة في نظامَي الزكاة والصدقة؛ وهي مجموعة الخطوات التي اقتربت مرة وتباعَدت مرة من القرار بأن الدين عند الله هو الإسلام، وهي مجموعة التوازنات الوسطية التي تأرجَحت مع المُستجَدات والتطورات على أرض الواقع، وتركت بصماتها بين نقائض خلقت فجوات دائمة في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية، كانت تختل معها أثقال الميزان فتتأرجح كِفتاه إزاء الموقف الوسطي على الخط الفاصل بين توازنات النقائض؛ مما أعطى الفرصة دومًا لأقدار السياسة وبحرفية وسطاء الساسة المُحترِفين من رجال الدين، لتبرير مواقف تجد لها بين كِفتَي الميزان أثقالًا مُناسِبة حسب تغيُّر الأحوال عبر السنين.