صحيفة المعاقل
لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
بين بدر وأحد تتوقف سرايا المسلمين عن مُداهَمة طريق الإيلاف، لكن مع شن حملاتها التأديبية على القبائل، مع ظاهرة جديدة تمثَّلت في شرع نظام الاغتيال، باغتيال رءوس القبائل وأشراف الناس وسراتهم وحكمائهم، وبدأ تطبيق ذلك النظام باغتيال كعب بن الأشرف الذي رثى قتلى بدر شعرًا، وتبعه قطع عدد من الرءوس خاصة بعد وقعة أحد.
وعند العودة الظافرة من بدر الكبرى، كان الوحي يسترسل طالبًا من المسلمين اليقظة والاستعداد لقتال أعدائهم، وذلك في النص وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ (الأنفال: ٦٠)؛ فأما عدو الله وعدو المسلمين فمعروف، وهم ملأ مكة، أما من هم أولئك الآخرون غير الملأ المكي الذين يعلمهم الله ولا يعلمهم سواد المسلمين؟ إنه ما أوضحته الأحداث التالية بنداء النبي ﷺ لرجاله: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه.» وهو ما تم تنفيذه بالفعل في عدة رءوس يهودية، وهو المنحى الذي جاءت مفاصله في آيات تنسخ حرية الاعتقاد، لتُنهي العمل بآيات من قبيل لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون: ٦)، وتُلغي الصفح الجميل والصبر الأجمل، لتُؤكِّد معنًى جديدًا هو إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: ١٩).
وترنَّحت الدولة «الطالعة»، وكان لا بد من اتخاذ عمل سريع وحاسم ودءوب لا يكل ولا يهدأ، لإصلاح ما أفسدته أحد، وذلك بضرب كل من سوَّلت له نفسه الطمع في النيل من سلطان الدولة. ولما لم يكن مُمكِنًا الخروج في ذلك الظرف إلى قريش، والجروح لم تزَل طازجة، ومعنويات المسلمين في حضيضها، فقد اتجه السيف الإسلامي إلى اجتثاث الرءوس التي أخذت ترتفع وتتطاول على السلطان المحمدي في يثرب أو خارجها؛ ومن ثَم تدحرجت رءوس عدة، منها رأس «سلام بن أبي الحقيق» المعروف بأبي رافع، و«أبي عفك عمرو بن عوف»، و«عصماء بنت مروان عقيلة بن خطمة»، و«خالد بن سفيان» سيد هذيل، و«فاطمة بنت ربيعة» زعيمة فزارة ومحل شرفها وفخرها؛ ليكون هذا المسلسل من العنف والاغتيالات والتصفية الجسدية، إعلانًا عن أن السيف المحمدي وإن كُسِرت منه الذؤابة في أحد، فإنه ما زال قويًّا مُقتدِرًا بل وعنيفًا، إعلانًا عن إصرار لا يتزحزح على استدامة الدولة والحفاظ على مُستقبَلها، ولو مع التضحية بأرواح كثيرة.
يا أبا قتادة
الواقع يقول بمُهاجَرة النبي ضعيفًا مُتخفِّيًا هاربًا من مدينته وأهله، إلى حمى أخواله في يثرب، ولاجئًا مع أتباعه إلى مدينة أخرى غريب عليها. وهو ما يُحيط الصورة — التي رسمتها كتب الأخبار والسير لذلك الاستقبال الهائل والطاعة العمياء والكاملة من اليثاربة لسيدهم المكي — بكثير من الشك وعدم القبول؛ حيث تُناقِض تلك الصورة الإخبارية بشدة بنود الصحيفة التعاقلية، التي وضعت أمر يثرب جميعًا بيد النبي ﷺ، في ذات الوقت الذي تُؤكِّد فيه ذات الكتب أن غالب أهل يثرب كانوا إما يهودًا أو وثنيين، وأن من دخل منهم في حِلف الدعوة كان في أعمِّه من المنافقين أو الدسائس على المسلمين؛ ومن هنا رجع ابن كثير عما قال في البداية ليُؤخِّر زمن صحيفة المعاقل إلى السنة الثانية للهجرة، بحيث تبدو الأحداث منطقية بشكل أكثر، وبحيث تبدو النتائج مُتفِقة مع مُقدِّماتها من أحداث، فاختار زمنًا تحوَّل فيه المسلمون إلى قوة قادرة على فرض هيمنتها.
وللتحديد أو مُحاوَلة التدقيق في الزمن الذي كُتِبت فيه المعاقل، نجد أن غزوة قينقاع لم يرِد فيها — في أي رواية إخبارية — أية إشارة لتعاقُد المسلمين مع اليهود، كما لم نسمع بمُنابَذة يهود قينقاع للنبي بنقض العهود، كما حدث في وقائع أخرى تالية مع قبائل يهودية أخرى، وهو ما يُشير إلى أنه حتى غزوة قينقاع لم تكن تلك الصحيفة قد كُتِبت بعد؛ ومن هنا نظن أن تلك الصحيفة قد كُتِبت ضمن مجموعة الإجراءات الحاسمة مع التراجعات المحسوبة، التي تمَّت بعد هزيمة المسلمين في أحد.
لقد كانت الحسابات التي سبقت الهجرة، واستمرت حتى غزوة بدر الكبرى، تعمل حسابًا لقوة اليهود بالمدينة، مما جعل النبي يُحاوِل استمالة اليهود والتقرُّب منهم لتحييدهم على الأقل؛ ففرض على أتباعه صوم يوم الغفران اليهودي «يوم كيبور/عيد الفصح»، وهو اليوم الأهم والأعظم في تاريخ اليهود، يوم خروجهم من مصر عبر سيناء لاحتلال فلسطين، بل واتجه النبي محمد ﷺ مع أتباعه وجهة اليهود في الصلاة، نحو أورشليم القدس، وقد سبق ذلك ورافقه آيات تُمجِّد أنبياء بني إسرائيل، الذين هم أسلاف اليهود الإسرائيليين وأجدادهم، وتُمجِّد التوراة ككتاب سماوي صادق إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (المائدة: ٤٤)، ووَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ (المائدة: ٤٣)، بل وتُمجِّد اليهود ذاتهم بتأكيد أن الله قد فضَّلهم على العالمين.
ومع ذلك ظل اليهود يهودًا، يستمسكون بدينهم ولا يرضون بمحمد سيدًا، رغم كل الإشارات والتوضيحات التي كانت تُصِر على تأكيد أن محمدًا من ذات النسل؛ فهو الحفيد البعيد لإسماعيل شقيق إسحاق بن إبراهيم، وأن القرابة العرقية قائمة، وأن انتظار اليهود لمُخلِّص نبوي مُقبِل يجد صداه في النبي العربي الذي يُحقِّق نبوءة التوراة، حتى جاءت وقعة «أحد» لتستدعي تحرُّكًا سريعًا يكفل انضواء هؤلاء التام لسلطان الدولة لتأمين المدينة داخليًّا، فتمَّت صحيفة المعاقل كما جاء خبرها السريع عند البيهقي، مع تحرُّك آخر على مفصل قريش يُهدِّئ من عوارمها ويُطمئِّنها؛ فكان أن تم إلغاء الصوم اليهودي مع تقرير الصوم العربي الرمضاني، كما تم تحويل القبلة إلى كعبة مكة.
لكن؛ إذا كان الصيام الرمضاني قد فُرِض في شعبان من ذلك العام، وكانت وقعة بدر الكبرى قد وقعت في رمضان من ذات العام، فلا أقل من أن نسمع من كتب الأخبار والسير عن ظروف المسلمين وهم صائمون، ومتى أهلُّوا بالصيام ومتى أفطروا، وهل قاتلوا صائمين أم مُفطِرين، وهي العادة مع كتب الأخبار التي تُفصِّل تلك الأمور وتُدقِّق بشأنها في كل غزوة، مثلما حدث بشأن تأخير الصلاة في غزوة «قريظة»، وما حدث بشأن الصيام الرمضاني في فتح مكة، حيث تجد تفاصيل صغيرة ودقيقة. والمعنى المقصود هنا هو أن الصيام الرمضاني لو كان قد فُرِض قبل بدر الكبرى، بينما بدر قد وقعت في شهر رمضان، لوجدنا لمسألة الصيام مكانها في سرد الأحداث البدرية وهو ما لم يحدث؛ مما يعني وجوب تأجيل الصيام الرمضاني والزكاة وتحويل القبلة وصحيفة المعاقل معًا إلى الفترة التي افترضناها، خاصة مع ارتباط تلك الأحداث في سياق واحد يُناسِب بعضه بعضًا، وهو الفرض الذي يقبل الخطأ كما يقبل الصواب.
ثم جاء التحوُّل إلى الصيام العربي ليلتقي مع تقديس يوم العروبة (يوم الجمعة وكان يُسمَّى يوم العروبة) في وقت مُبكِّر، ليُعلِن في إشارات واضحة مَنحى التحوُّل. أما أبرز الشواهد على أن صحيفة المعاقل قد عُقِدت في ظرف يستعرض فيه المسلمون قوتهم، أنها عُلِّقت بسيف رسول الله ﷺ وهو ما لم يكن مُمكِنًا زمن الهجرة عندما كان المسلمون قلة ضعيفة لاجئة إلى يثرب، وكان تعليقها بسيف رسول الله رسالة ذات معنًى لجميع سكان يثرب وللمنافقين. ولحق ذلك جميعه تدريب آخر للمسلمين على نظام الدولة المُؤسَّسية؛ ففُرِضت الضرائب (الزكاة). أما أهم بنود الصحيفة التي كانت تُرفرِف على سيف النبي، فهي تلك التي قالت في مُفتتَحها: «هذا كتاب من محمد النبي الأمي.» وهو ما يُشير إلى المعاقل كفرمان صادر من سلطة النبي السيادية. فرغم أن المعاقل كانت بين أطراف، فإن تلك الأطراف لم تكن مُتكافِئة؛ لأن صيغتها وأسلوبها وإيحاءاتها، ناهيك عن ذلك الاستهلال في مُفتتَحها تُشكِّل قرارًا صادرًا من سيد قوي فوق بقية الأطراف، فهي بمثابة كتاب أمان من النبي لسكان يثرب، إضافةً إلى أن الصياغة لم تقُل: «هذا كتاب من محمد بن عبد الله.» إنما فرضت صفة النبوة على جميع المُوقِّعين أدناها، وهو الأمر الذي استثمر رغبة اليهود والمشركين اليثاربة في الأمان بعد سلِّ سيف الاغتيال وتجريد الكتائب بعد أحد، ليمنحهم سلامًا مشروطًا بسيادة المسلمين ونبيهم، وهو ما تُوضِّحه قراءة بقية بنود صحيفة المعاقل.
والمُطالِع لهذه البنود سيلمس فورًا أمرًا شديد الأهمية، حيث يتضح حصول المهاجرين على أساس اقتصادي يرفع عِبأهم عن إخوانهم اليثاربة، وإلغاء نظام المؤاخاة نتيجة ذلك. فالنص يُؤكِّد «المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم ويفدون عانيهم بالمعروف والقسط»؛ ومن ثَم أصبح على الأنصار أن يعودوا إلى معاقلهم الأولى «على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى». أما البند الذي يُؤكِّد بوضوح أن تلك الصحيفة لم تكن قد عُقِدت قبل بدر الكبرى، فهو تلك السلطة الواضحة في إرجاع كل الأمور بالمدينة إلى النبي ﷺ حتى الخروج من المدينة لليهودي لا يتم إلا بإذن محمد ﷺ. والأكثر بلاغة في كل هذا، أن الصحيفة سردت البيوت والأفخاذ اليثربية في معاقلها، وسط تلك الأفخاذ والبيوت تم وضع المهاجرين كأحد أبناء البلد وكفخذ من الأفخاذ اليثربية الأصيلة، بحيث اكتسب المهاجرون بصحيفة المعاقل وجودهم الشرعي، ليتحوَّلوا من لاجئين إلى مُواطِنين، بل أفصح الأمر عما هو أشد بيانًا، فغدا الأنصار تابعين لا مُجيرين ومتبوعين.
وكانت النغمة العروبية الواضحة في صيام رمضان وتقديس يوم العروبة، ثم العودة عن اغتراب القِبلة الأورشليمية إلى الكعبة العربية المكية، إشارةً واضحة إلى بدء التخلي عن مُمالأة يهود المدينة، والإفصاح بتلك الإشارات القوية إلى أن الأمر كله عائد في النهاية إلى أهل الله القرشيين، وأن القدس كله في محل كعبتهم، وهي الطمأنة لقريش وتأكيد أن الإسلام لا يُهدِّد أبدًا مصالح مكة السياسية ولا الدينية المرتبطة دومًا بالاقتصادية، وأن خط سير التاريخ يحث خُطاه إلى نتائجه النهائية، وأن الحروب جميعًا ما كانت إلا لتوحيد العرب بزعامة قرشية يُمثِّلها أشرف الخلق وسيدهم المصطفى ﷺ.
أما المعجزة القومية الكبرى التي قدمتها الدعوة إلى العرب، فتتمثل في إعلان أن رب الأديان الكبرى المُحيطة بالجزيرة، هو رب واحد، هو رب العالمين، وأن هذا الرب قد اختار محمدًا العربي، وأنه تكلَّم إليه باللغة العربية؛ ليسحب بذلك الامتياز الذي كان قاصرًا حتى ذلك الوقت على اليهود والمسيحيين ليمنحه للعرب المسلمين، الذين وصفهم ذلك الإله العالمي بأنهم خير أمة أُخرِجت للناس.