غدر العربان
ما أنا والله قتلت خبيبًا، لكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في
يدي ثم طعنه.
معاوية بن أبي سفيان
بينما كانت السرايا والغزوات تُضيف باستمرار مزيدًا من التراكُم المادي والسلاح لدولة
النبي اليثربية، فإنها كانت — من جانب آخر — تُسهِم باستمرار في ضعضعة الحكومة المكية
وسيرها نحو الانهيار. هذا إضافةً إلى تعبئة القبائل المُجاوِرة لمكة، والتي آبَت
— رعبًا وخوفًا وربما طمعًا — إلى حلف يثرب، مثل قبائل مزينة وجهينة، ناهيك عن قبائل
أخرى حالفت يثرب طائعة مختارة كراهية في قريش، مثل خزاعة (الحارس القديم للكعبة
المكية)، والتي سبق وخلعتها قريش وأقصتها عن مكة إقصاءً؛ ومن هنا وجدت خزاعة في محمد
وفي يثرب حليفًا تُحارِب من خلاله قريشًا، فلعبت دورًا تجسسيًّا عظيمًا على قريش لصالح
يثرب، كان له أثر بعيد في حسم أمور كثيرة لصالح الدولة اليثربية. ومع هذا وذاك، تمَّت
عقود المُوادَعات بين يثرب وقبائل الساحل التي فضَّلت الخضوع ليثرب؛ رغبةً في مغانم
قوافل قريش المارة بطريق الساحل، وتجنُّبًا لحرب يُؤذَنون بها من الله ورسوله.
وقد ترافَقت مع تلك الخطوات الخطوة الضرورية والحاسمة لهيبة الدولة في يثرب وسيادتها،
بضرب المُنازِع الأعظم داخل يثرب، اليهود، الشاهد الديني القدسي الحي، صاحب دستور ينتسب
للسماء، رفض التنازل عنه أمام الدستور القرآني الذي ينسب ذاته بدوره إلى السماء وإلى
ذات الإله. وهو ما كان من غير المُمكِن استمراره في
ظل دولة توحيدية مُوحَّدة تحكم بدستور واحد وتعبد إلهًا واحدًا وتنتظم تحت إمرة قائد
واحد؛ ومن ثَم شكَّلت كل تلك الخطوات المحسوبة بدقة وإحكام هيبةً عظيمة للدولة الطالعة،
ساعَدت على اتساع سطوتها في المُحيط العربي، حتى جاءت وقعة أحد بضربة مُوجِعة وغير
مُتوقَّعة على جدول الحسابات؛ وهو الأمر الذي أدَّى إلى ترنُّح هيبتها في نفوس الأعراب،
وهو الأمر الشديد الخطورة آنذاك. ولم يكن مسلسل الاغتيالات الذي طال الرءوس من القبائل
بكافٍ لإقناع العربان، بالكفاية القمعية للدولة، فكان أن شهدت تلك المرحلة بداية
التطاول على الدولة اليثربية الطالعة.
وبينما المسلمون يلمُّون شعثهم في خطوات مُتسارِعة وحاسمة، بعقد المعاقل، وتكثيف
السرايا المُسلَّحة، للإعلان أن الدولة لم تزَل قوية، وأنها وإن انكسرت في أحد، فإن
يَراعها لم يزَل بإمكانه أن يطول ويضرب ويُؤدِّب لإخضاع القبائل؛ خرجت بسرعةٍ سرية
أبي سلمة إلى بني أسد في المُحرَّم من السنة الرابعة للهجرة — بحسابات الواقدي — وبعد
شهر واحد من هزيمة أحد.
لم تكن جراح أبي سلمة قد أبلَّت بعد، وكان الجرح الذي أصابه في أحد بعضده لم يزل
طازجًا، وأمره النبي بالخروج على رأس السرية برجالها المائة والخمسين إلى مَضارب
بني أسد. وعند وصوله مضاربهم فزع الأسود من سرية الرجل الجريح وهربوا تاركِين نعمًا
كثيرة من الإبل والشياه، غنيمة للمسلمين، وأُسِر منهم ثلاثة.
ثم يحكي لنا «عمرو بن أبي سلمة» عن أبيه، أنه «لما دخل المدينة انتفض به جرحه فمات،
لثلاثةٍ بقِين من جمادى الأولى، فاعتدَّت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشر، ثم تزوَّجها
رسول الله
ﷺ ودخل بها في ليالٍ بقِين من شوال؛ فكانت أمي تقول ما بأس من النكاح
في شوال والدخول فيه.»
١ والمعلوم أن أم سلمة كانت امرأة شديد الجمال قوية الشخصية ذرِبة اللسان
فصيحته. ثم تأتي سرية عاصم بن ثابت إلى عضل والقارة.
عن أبي هريرة قال:
بعث النبي
ﷺ سرية عينًا، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت … فانطلقوا حتى
إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذُكِروا لحي من هذيل يُقال
لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ،
فاقتصوا آثارهم … حتى لحقوهم … وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا لكم العهد
والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل رجلًا منكم. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في
ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك. فقاتلوهم حتى قتلوا عاصمًا في سبعة نفر
بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق. فلما أعطوهم العهد
والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلُّوا أوتار قِسِيهم فربطوهم بها،
فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر. فأبى أن يصحبهم، فجرُّوه وعالجوه
على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه. وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة،
فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قاتل الحارث يوم بدر،
فمكث عندهم أسيرًا … فخرجوا به من الحرم ليقتلوه …
٢
والنص أعلاه أورده ابن كثير نقلًا عن الواقدي، لكن ابن كثير لحظ اختلافًا بين رواية
الواقدي وبين رواية ابن إسحاق، فقال:
ولنذكر كلام ابن إسحاق ليُعرَف ما بينهما من التفاوت والاختلاف:
قدم على رسول الله بعد أحد رهط من عضل والقارة، وقالوا: يا رسول الله، إن
فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يُفقِّهوننا في الدين، ويُقرِئوننا
القرآن، ويُعلِّموننا شرائع الإسلام. فبعث رسول الله
ﷺ معهم نفرًا ستة
من أصحابه … فخرجوا حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لهذيل بناحية الحجاز، غدروا
بهم، فاستصرخوا عليهم هذيل، فلم يرُع القومَ وهم في رحالهم إلا الرجالُ بأيديهم
السيوف قد غشوهم؛ فأخذوا أسيافهم ليُقاتِلوا القوم، فقالوا: إنا والله ما نُريد
قتلكم، ولكنا نُريد أن نُصيب بكم شيئًا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا
نقتلكم. فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت، فقالوا: والله لا نقبل من
مُشرِك عهدًا ولا عقدًا أبدًا … ثم قاتل حتى قُتِل، وقُتِل صاحباه. أما خبيب
وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق، فلانوا ورقُّوا
ورغِبوا في الحياة وأعطَوا بأيديهم؛
فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران نزع عبد
الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه واستأخر القوم، فرمَوه بالحجارة حتى
قتلوه، فقبره بالظهران. وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة،
فباعوهما قريش بأسيرَين من هذيل كانا بمكة … وذكروا أنهم لما صلبوا زيد بن
الدثنة رموه بالنبل ليفتنوه عن دينه، فما زاده إلا إيمانًا وتسليمًا.
٣
والتضارب هنا واضح جلي، في شأن الغرض الذي خرج له المسلمون الستة إلى ماء الرجيع بعضل
والقارة؛ فهناك قولٌ إنهم كانوا جواسيس لرسول الله (سرية عينًا)، يستقصون أخبار هذيل،
وهو فيما يبدو ما لم يرتَح له الطبري وابن الأثير وابن إسحاق، ربما لوجوب أن تأتي
الأخبار المطلوبة من السماء دون عناء، أو بخبر الملاك جبريل، الذي كثيرًا ما ذكرت عنه
صحف السير أنه كان يقوم بمثل تلك المهام للدولة وزعيمها؛ ومن هنا قال هؤلاء بخبر آخر،
هو أن ما حدث كان كمينًا محبوكًا، حبكته لحيان ذلك البطن الهذلي بغرض النيل من هيبة
الدولة التي اهتزت بعد أحد، ويبدو لنا أن ذلك الإجماع يجنح إلى الصواب، إذا ما تذكَّرنا
أن العربان لا تترك ثأرها، وأن محمدًا
ﷺ سبق وأرسل سرية اغتالت من هذيل رأسها
«خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي»، وهو ما يُبرِّر الحدث ويُفسِّره. فما وصل الصحابة
الأجلاء إلى ماء الرجيع، حتى برزت لهم هذيل، لتقتل منهم أربعة، وتأسر اثنين تُسلِّمهما
لقريش هما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة.
ويُخبِرنا ابن هشام أن حجيرًا قد ابتاع خبيبًا، وأن صفوان بن أمية ابتاع زيدًا،
وتم
قتلهما ثأرًا، ويقول ابن هشام إنهم لم يعجلوا في قتلهما تعظيمًا لحرمة الأشهر الحرم،
فلما انقضت خرجوا بخبيب من جوار الحرم الذي وضعوا قواعد أمنه، حيث صلبوه على خشبة
بعيدًا عند ثنية التنعيم، وكان قاتله هو معاوية بن أبي سفيان، الذي حاول أن يُبرِّئ
نفسه بعد ذلك بزمان، عندما دار الزمن دورته ليملك أعنة دولة الإسلام، فكان يُقسِم
«والله ما أنا قتلت خبيبًا، لكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي
ثم طعنه.»
٤
لقد استهانت هذيل بالدولة اليثربية، وما جاءت استهانتها إلا بعد هزيمة أحد، وإزاء
تلك
الاستهانة انطلق لسان شاعر النبي حسان بن ثابت يهجو لحيان الهذلية، مُعبِّرًا عما آل
إليه الأمر في يثرب يومذاك ليقول:
إن سرَّك الغدر صرفًا لا مزاج له
فأتِ الرجيع فسل عن دار لحيانِ
قومٌ تواصوا بأكل الجار بينهم
فالكلب والقرد والإنسان مثلانِ
لو ينطق التيس يومًا قام يخطبهم
وكان ذا شرف فيهم وذا شانِ
٥
وكالمعتاد في مثل ذلك الأحوال، كان لا بد من شيء يُبلسِم الجراح، ولو بالجنوح إلى
الخيال تستمد منه قوة الاستشفاء النفسي، بأسطورة تأتينا في شكل خبر يتم تناقُله بين
كُتاب السيرة عن عاصم بن ثابت، الذي ثبت للهذليين حتى قُتِل رافضًا أن يُعطي بيدَيه.
وكانت سلافة بنت سعد بنت سهيل قد نذرت حين أصاب عاصم ولدَيها في أحد، لئن قدرت على رأس
عاصم لتشربن في قحفه الخمر، لكن هذيل لا تستطيع أن تأتي برأس عاصم، لماذا؟ لأن الله قد
علم بنذر سلافة، فأرسل إلى جسد الشهيد جنودًا تحميه من هذيل، في شكل زنابير تجمعت على
الدم المُراق، فلم يقدروا منه على شيء.
٦ ولا يرضى ابن الأثير بحماية الزنابير وينتهي الأمر، بل يأتينا بخبر أشد
أسطرة فيقول إن الوادي قد ابتلعه؛ لأنه كان قد عاهَد الله ألا يمس مُشرِكًا ولا يمسه
مُشرِك، فمنعه الله في مماته كما منع في حياته.
٧
وهو الأمر الذي حدث له نموذج شبيه مع الأسير الثاني خبيب؛ فهذه ماوية مولاة حجير
تحكي
بعد ذلك بزمان روايتها العجيبة فتقول: «حُبِس خبيب بمكة في بيتي، فطلعت عليه يومًا وإن
في يده لقطفًا من العنب، أعظم من رأسه، يأكل منه، وما في الأرض يومئذ حبة عنب.» ليُردِف
البيهقي الذي آل على نفسه جمع العجائب، راويًا عن أمية الضمري الذي حكى لولده وعن ولده
الذي حكى لحفيده، أنه تسلَّل ليلًا لإنقاذ خبيب عن الصليب، ويقول: «جئت إلى خشبة خبيب
فرقيت فيها، وأنا أتخوف العيون، فأطلقته، فوقع على الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلًا ثم
التفت، فكأنما ابتلعته الأرض، فلم يُذكَر لخبيب رمة حتى الساعة.»
٨ هذا رغم أن راوية ابن كثير تُوضِّح لنا دون لبس كيف اختفى جسد خبيب، برواية
أمية الضمري ذاته، الذي أكَّد هذه المرة أنه حمل جثة خبيب على ظهره وسار به حتى تنبَّه
له الناس، فأسرع برميه على الأرض، ثم يقول ما نصه: «وأهلت عليه التراب برجلي.»
٩
ثم يأتي يوم بئر معونة
وهو يوم قبائل سليم، التي تكاثرت عليها سرايا يثرب وغزواتها تقفو بعضها بعضًا،
عندما تداعى المسلمون في أحد لتجدها سليم فرصة الثأر وشفاء الغليل، فيما رواه أنس
بن مالك، ويُشير إلى أن سليم قد سلكت مسلك هذيل ذاته، فذهب بعضهم إلى المدينة يستمد
رسول الله
ﷺ مددًا على عدو لهم، مُعلِنين اتباعهم له، فيمدهم النبي بأربعين
من خيار المسلمين، ومعهم رسالة يحملها خال النبي حرام بن ملحان الأنصاري، إلى سيد
بني عامر «عامر بن الطفيل»، الذي ما إن يُطالِع الرسالة حتى يُعمِل سيفه وسيوف سليم
في الأربعين مسلمًا عند بئر معونة، ثم يُبقي على مسلم واحد هو عمرو بن أمية الضمري،
فقط ليقول له مُتحدِّيًا: ارجع إلى صاحبك فحدِّثه. فخرج عمرو إلى رسول الله
ﷺ فأخبره.
وحديث بئر معونة بدوره — في كتبنا الإخبارية — يحمل بعض التضارب، فرغم أن البيهقي
بحديث أنس بن مالك قد قال إن سليم استمدت النبي المدد على عدو لها،
١٠ فإن ابن كثير يروي عن ذات الراوي أنس بن مالك رواية أخرى تقول:
بعث رسول الله
ﷺ سبعين رجلًا لحاجة، يُقال لهم القُراء، فعرض لهم
حيان من بني سليم؛ رعل وذكوان، عند بئر يُقال لها بئر معونة، فقال القوم:
والله ما أردنا إياكم، وإنما نحن مُجتازون في حاجة للنبي
ﷺ.
فقتلوهم، فدعا النبي عليهم شهرًا في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت.
١١
وهنا يختلف السبب، كما يختلف عدد المسلمين، هذا إضافة إلى رواية
ثالثة تقول:
قدم أبو براء، عامر بن مالك بن جعفر، مُلاعِب الأسِنة، على رسول الله
ﷺ بالمدينة، فعرض عليه الإسلام ودعاه إليه، فلم يُسلِم، ولم يُبعِد.
وقال: يا محمد لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إلى أمرك،
رجوت أن يستجيبوا لك. فبعث رسول الله
ﷺ المنذر بن عمرو أخا بني
ساعدة المعنق، ليموت في أربعين رجلًا من أصحابه من خيار المسلمين … فلما
نزلوا بعث حرام بن ملحان بكتاب رسول الله
ﷺ إلى عامر بن الطفيل،
فلما أتاه لم ينظر في الكتاب حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني
عامر فأبوا … فاستصرخ عليهم قبائل من سليم من عصية ورعل وذكوان والقارة،
فأجابوه إلى ذلك. حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم حتى قُتِلوا عن
آخرهم … وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري … وأُخِذ عمرو أسيرًا فلما
أخبرهم أنه من مُضَر أطلقه عامر بن الطفيل وجزَّ ناصيته، وأعتقه عن رقبة
كانت على أمه فيما زعم.
١٢
والرواية هنا تلتقي إلى حد كبير برواية عضل والقارة في أسبابها، وهو الأمر الذي
لا يمكن قبوله؛ حيث يقع المسلمون في الخطأ ذاته مرتَين. ومن غير المعقول أيضا
تصوُّر النبي
ﷺ يُرسِل ببساطة خيرة رجاله إلى سليم، التي أخذها الرعب من
النبي كل مأخذ، بعد السرايا والغزوات المتتالية عليها. كما أنه من غير المستساغ
أبدًا أن يُرسِل النبي سبعين رجلًا ليُعلِّموا سليم أو عامر القرآن وقواعد الإسلام،
بينما كان يكفي شخص واحد أو شخصان لأداء تلك المهمة، بدلًا من أن يفقد من رجاله
عددًا لم يفقده في معاركه الكبرى. ثم لا يمكن أن نفهم كيف يذهب سيد من
بني عامر هو ملاعب الأسنة، ليأخذ المسلمين إلى
سيد آخر من بني عامر أيضًا هو عامر بن الطفيل، ليستصرخ عليهم عامر بن الطفيل
العامري قبائل أخرى هي قبائل سليم؟ إن هذا الإرباك لا ينجلي إلا إذا تصوَّرنا
مُؤامَرة قد عقدتها سليم مع بني عامر، فما كان ممكنًا أن يستجيب النبي لدعوة كتلك
من سليم، إنما كان ممكنًا أن يستجيب لبني عامر، خاصة إذا كان الداعي عامريًّا في
كرامة وشهرة ملاعب الأسنة، ليأخذ المسلمين لتقتلهم سليم.
كما يجب ألا نذهب مع القول إنه دعاهم ليُعلِّموا العامريين الإسلام فكان يكفي فرد
أو اثنان كما قلنا؛ لذلك يجب قبول الرواية التي تقول إن ملاعب الأسنة قد استمدهم
على عدو له، وللتشجيع — ربما — تم تحديد هذا العدو بعدوة النبي سليم تحديدًا؛ لمزيد
من حبكة المؤامرة وجعلها قادرة على الإقناع والتمرير.
ومما يُعضِّد ذلك التفسير المُفترَض لما حدث، هو أمر ذلك الحلف الغريب الذي تتحدث
عنه كتب السير والأخبار، الذي تم عقده بين النبي
ﷺ وبين بني عامر، حيث يستمر
ابن كثير في سرد قصة يوم بئر معونة ليقول إن عمرو بن أمية الضمري، الذي أطلقه عامر
بن الطفيل ليُبلِّغ رسالته المُتحدِّية للنبي
ﷺ «خرج عمرو بن أمية حتى إذا
كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان مع
العامريَّين عهد من رسول الله
ﷺ وجواره، ولم يعلمه عمرو بن أمية. وقد سألهما
حين نزلا: ممن أنتما؟ قالا: من بني عامر. فأمهلهما حتى إذا ناما، عدا عليهما
وقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثأرًا من بني عامر. فلما قدم عمرو بن أمية على
رسول الله
ﷺ أخبره الخبر، فقال رسول الله
ﷺ: لقد قتلت قتيلَين لأدينهما.»
١٣
ومرة أخرى لا يترك مأثورنا حديث الأحاجي المُعجِز، فيقول الإخباريون: «لما قُتِل
الذين ببئر معونة وأُسِر عمرو بن أمية الضمري، قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟
وأشار إلى قتيل. فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة. قال: لقد رأيته بعدما
قُتِل، رُفِع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض.»
١٤
وهكذا تُروى المعجزة على لسان من لقَّبته كتبنا التراثية بعدو الله «عامر بن
الطفيل»، ومع ذلك لم يُؤمِن الرجل رغم ما رأى؟! وبينما «البيهقي» يزيدنا إعجازًا
بقوله: إن النبي دعا على ابن الطفيل فأصابه الطاعون وذلك في عام الوفود سنة تسع
للهجرة. هذا بينما نجد ابن الأثير يُورِد سببًا آخر لموت ابن الطفيل، هو أن
أبا براء ملاعب الأسنة الذي أجار مسلمِي بئر معونة قد رأى في قتل ابن الطفيل لهم
تعديًا على إجارته، فطعن ابن الطفيل وهو على فرسه، فسقط ابن الطفيل ليموت وهو يقول:
«إن مت فدمي لعمي.»
١٥
ومع يقظة سليم وتحفُّز عامر، ومع ضرورة اتخاذ موقف ردع سريع برزت سياسة الاغتيال
مرة أخرى، لتنتقم لشهداء المسلمين، فيُرسِل النبي يستدعي عمرو بن أمية الضمري وسلمة
بن أسلم بن حريش، ليُوجِّههما وجهة أخرى لقطف رأس كبير بأمره القائل: «اخرجا حتى
تأتيا أبا سفيان بن حرب، فإن أصبتم منه غِرة فاقتلاه.» ويحكي ابن الضمري فيقول:
«فأتينا مكة فطُفنا أسبوعًا وصلَّينا ركعتَين فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني،
١٦ فصرخ بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية! فقاموا في طلبي وطلب صاحبي، فقلت
له النجاء، هذا والله الذي كنت أحذر، أما الرجل فلا سبيل إليه فانج بنفسك. فخرجنا
نشتد حتى أصعدنا في الجبل، فدخلنا في غار فبِتنا فيه ليلتنا وأعجزناهم هربًا،
فرجعوا وقد استترت دونهم بأحجار …»
١٧
ويتمكن ابن الضمري من الوصول إلى منطقة أبعد، عند غليل ضجنان، فيدخل غارًا يبيت
فيه ويحكي: «فبينما أنا فيه إذ دخل عليَّ رجل من بني الديل بن بكر، أعور، طويل،
يسوق غنمًا له، فقال: من الرجل؟ فقلت: رجل من بني بكر. قال: وأنا من بني بكر. ثم
اضطجع معي فيه، فرفع عقيرته يتغنى ويقول:
ولست بمسلم ما دمت حيًّا
ولست أدين دين المسلمينا
فقلت: سوف نعلم. فلم يلبث الأعرابي أن نام وغط، فقمت إليه فقتلته أسوأ قتلة
قتلها أحدٌ أحدًا، قمت إليه فجعلت سية قوسي في عينه الصحيحة ثم تحامَلت عليها حتى
أخرجتها من قفاه.»
١٨ ويُتابِع روايته «ثم خرجت حتى هبطت فلما أسهلت في الطريق، إذا رجلان
بعثتهما قريش يتجسَّسان الأخبار، فقلت: استأسرا. فأبى أحدهما فرميته فقتلته، فلما
رأى الآخر ذلك استأسر، فشددت وثاقه ثم أقبلت به إلى النبي
ﷺ وقد ربطت إبهامه
بوتر قوسي، فلقد رأيت النبي يضحك، ثم دعا لي بخير.»
١٩
ومع فشل بعثة ابن الضمري لقتل سيد مكة، كان لا بد من عمل سريع إزاء قبائل سليم
التي باتت ساهرة الأجفان تتوقع الثأر الآتي لا محالة، وبالفعل جاءها الغزو فجأة
بقيادة النبي نفسه، لكن لتهرب سليم جميعًا ويتركوا منازلهم وأنعامهم، فيجمع
المسلمون أنعامهم ويعودون بها إلى يثرب فيما عُرِف بغزوة «قرقرة الكدر».
٢٠
وكان من غير الممكن الاستمرار في الانتظار طويلًا للإيقاع بالناس وقعة كبرى تُعيد
للدولة هيبتها، وتُعيد العربان إلى سابق انكماشهم؛ ومن ثم كان لا بد من تحديد هدف
كبير، ولإيجاد سبب مُناسِب يكون مدخلًا إلى ضربة كبرى تُعيد إلى المسلمين ثقتهم في
أنفسهم، وتُلقي الرعب في قلوب الذين كفروا.