تأديب العربان
فأبلغ أبا سفيان عني رسالة
فإنك من غِر الرجال الصعالك
حسان بن ثابت
كان خروج النضير وسادتها من أشراف العرب وسراتهم بهذا الشكل المُزري، وانهيارهم أمام
المسلمين رغم حصونهم التي كانت في نظر العرب معاقل كبرى، عاملًا عظيم الأثر في بث الرعب
في قلوب العربان الذين لا يملكون حصونًا ولا صياصي. ورجَّعت الأصداء أخبار ذلك النصر
المبين، فكنت حكاية العربان الراجفة المُزلزِلة، عن تلك القبيلة العربية يهودية
الديانة، التي استقرت في يثرب قرونًا، وكوَّنت لنفسها بين العرب جليل المكانة، ليطيح
بها السيف المحمدي خارج حدود جزيرة العرب جميعًا. وكان طبيعيًّا أن ترجف هذيل وتسفي
رياح الحدث بأعصاب رجالها وتُشتِّت أمنهم، فثأر أصحاب الرجيع لم يزَل قائمًا، وكان
تأديب فخذها اللحياني أمرًا آتيًا لا محالة، لكن لحيان الهذلية كانت قد وعَت درس أصحاب
«بئر معونة»، الذين هربوا ما إن حُذِّروا بمقدم جند الله وتركوا الديار وفرُّوا فرارًا
غير كريم؛ ومن ثَم باتت لحيان ساهرة الأجفان تتشمم الأخبار، بينما كان النبي يلج برجاله
عليهم، لكن ليسلك طريقًا غير الطريق المضروب لدار لحيان، ليسقط عليها فجأة ويأخذ منها
غرة. فسلك برجاله طريقًا وعثًا وعرًا نحو الشام؛ حتى
يرى العرب أنه يُريد أمرًا بعيدًا، لكن ليلتفت بجيشه التفافة كبرى لم تغِب عن عيون
لحيان المرعوبة، فتركت له الديار ليصِلها فيجدها فراغًا، وأصحابها قد صعدوا رءوس الجبال
وتمنَّعوا بوعورة بيئتهم، وأخذوا معهم أموالهم وأنعامهم في مواضع الأمان. وهنا اتخذ
القائد خطًّا آخر ليستدير على مواضعهم المنيعة من طريق عسفان، ذلك الطريق شديدة الوعورة
قرب مكة، مما كبَّد النبي وجيشه مشقة ووعثاء شديدتَين، لكن مكة ظنَّته قادمًا إليها،
فخرج إليه خالد بن الوليد على رأس مائتَي فارس، وهو أمر لم يستعد له المسلمون، وكانت
مُواجَهته تحتمل هزيمة يقينية؛ مما اضطر جيش المسلمين إلى إلغاء الحملة التأديبية
الثأرية على لحيان الهذلية، بعد كل ما تكبَّده جيش المسلمين من مَشاق، مع الانسحاب
الهادئ والمحسوب تجاه يثرب دون إثارة ابن الوليد وجنده، بعد التفاف واسع آخر، والعودة
بلا أي مغنم وبدون تحقيق أي هدف للحملة، وهو ما ترك أثره فيما ردَّده النبي العائد
برجاله وهو يقول دون أن يظفر بشيء:
أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المُنقلَب، وسوء المنظر في الأهل والمال.
١
ولم تنقضِ أيام بيثرب على الجند المكدود، حتى صدع الناس بأمر نبيهم للخروج على غطفان،
التي كانت حليفًا للنضير، والتي وعدت بإمدادهم وتراجعت، لكن معنى ذلك أنها ركبت مركب
العداء لحكومة يثرب ولصاحب الدعوة؛ ومن ثَم كان من الضروري إرهابها وتقليم أظافرها
بغزوة تأديبية، هي الغزوة المعروفة ﺑ «ذات الرقاع»، التي أراد بها النبي بني محارب
وبني ثعلبة من غطفان، لكن غطفان علمت بمسيره فجمعت حشودها واستعدت استعدادًا عسكريًّا
مُتميِّزًا لملاقاة الجيوش، ووصل المسلمون ليجدوا أنهم قد فقدوا عنصر المفاجأة، ورأوا
أمامهم جيشًا مُستعِدًّا مُتجهِّزًا، ليروي لنا الطبري ما حدث في قوله: «ولم يكن بينهم
حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضًا، حتى صلى رسول الله
ﷺ بالمسلمين صلاة الخوف، ثم
انصرف بالمسلمين.»
٢
ومع الحملات الفاشلة على التوالي، كان لا بد أن يجد رواتنا عافاهم الله ما يسدون
به
الفراغ بين الانتصارات، فالتجَئوا كعادتهم إلى حديث
المعجزة؛ ففي غزوة ذات الرقاع يروي لنا الإمام النويري رواية عجيبة تقول: «وفي هذه
الغزوة جاءته — أي إلى الرسول —
ﷺ امرأة بابن
لها، فقالت: يا رسول الله، هذا ابني قد غلبني عليه الشيطان. ففتح فاه فبزق فيه وقال:
اخسأ عدو الله، أنا رسول الله. ثم قال
ﷺ: شأنك بابنك، لن يعود إليه شيء مما كان
يُصيبه. فكان ذلك.»
٣
وفي تلك الغزوة التي لم تُحقِّق شيئًا، نجد حديثًا آخر يملأ الفراغ بالمُسلِّيات
من
معجزات، حيث لا ملائكة، ولا دور عسكري يقوم به جبريل؛ فتقول إحدى الروايات إن المسلمين
عانوا من الجوع إزاء ذلك الالتفاف الطويل، فنفدت مِيرتهم من الطعام، فعثروا على ثلاث
بيضات نعام، فقال النبي للصحابي جابر: «دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات.» قال جابر:
«فعملتهن ثم جئت بهن في قصعة، فجعلنا نطلب خبزًا فما نجد، فجعل النبي وأصحابه يأكلون
من
ذلك البيض بغير خبز، حتى انتهى كل إلى حاجته؛ أي إلى الشبع، والبيض في القصعة كما هو.»
٤
ويبدو أن تلك الغزوة التي خاف فيها النبي والمسلمون القتال، حتى صلوا صلاة الخوف،
كانت مَدعاة لكثير من حديث المعجزات؛ لملء فراغ كان يجب أن يملأه جند السماء، وهي
معجزات شبيهة بالمعجزات اليسوعية؛ فطرد الشيطان من الأجساد، وإطعام الجمع الغفير في
القفر بالقليل من الطعام، معجزات معلومة للمسيح؛ فيسوع قد سبق وأخرج الشيطان من جسد ابن
المرأة الكنعانية، كما أطعم جمعًا غفيرًا برغيف وسمكتَين بعد أن باركها، وبقيت فضلات
تملأ أجولة. ثم تأتي هنا معجزة شبيهة بالمعجزات السليمانية، يتحول فيها النبي
ﷺ
إلى قدرة التحادث مع الحيوانات، وهو ما ورد في قصة البعير الذي جاء وحدَّث النبي بشكواه
فأنصفه.
٥
ومن خبر ذات الرقاع تنقلنا كتب السير إلى غزوة بدر الآخرة، حيث كان أبو سفيان قد
تنادى بالمسلمين المُختبِئين فوق الصخرة في غزوة أحد قائلًا: «يومًا بيوم بدر، وإن
بدرًا موعدنا العام المُقبِل.» وقد حان موعد اللقاء المضروب، بمرور عام كامل على وقعة
أحد.
ويحكي لنا ابن هشام خبر غزوة بدر الآخرة بقوله: «ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد
أبي
سفيان، حتى نزله، واستعمل على المدينة عبد الله بن أبي سلول … فأقام عليه ثماني ليالٍ
ينتظر أبا سفيان.
٦ لكن أبا سفيان لم يأتِ لموعده بعدما علم بخروج المسلمين مُستعِدين إلى سوق
بدر، حيث نزلوا مُسلَّحين بالعتاد وبالتجارة، مُتجهِّزين لكلا الأمرين. ولما كانت بدر
سوقًا للأعراب، يطلب فيها التجار الأمن والأمان، فقد جاء مخشى بن عمرو الضمري إلى
النبي، وكان قد كتب عهد مُوادَعة مع النبي عندما غزاهم رسول الله
ﷺ غزوة ودان،
ليسأل النبي
ﷺ:
يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟
لقد جاء الرجل يتساءل، وماء بدر في حمى بني ضمرة، لا يريدون عليه حربًا، ويطلبون
له
الأمان والسلام للرواج التجاري، لكن ليُجيبه النبي بالقول القاطع والحاسم:
نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، وجالدناك حتى
يحكم الله بيننا وبينك.
لكن ليُجيبه الرجل من فوره:
لا والله يا محمد، ما لنا بذلك من حاجة!
٧
ويُخبِرنا الواقدي أن النبي
ﷺ قد خرج إلى بدر الآخرة في ألف وخمسمائة من الجند
المُسلَّحين، وأقام على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده مدةَ الموسم وهي ثمانية أيام،
والسوق قائمة، والمسلمون يُتاجِرون وهم يحملون السلاح، فكان لا يُنازِعهم في السوق
مُنازِع، فربحوا عن الدرهم درهمَين.
٨ ليُعقِّب الوحي الكريم على الحدث بقوله:
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (آل عمران:
١٧٤).
وهكذا أسفر أمر بدر الآخرة عن إعلان لجميع العربان بجبن أهل الله المكيين عن الخروج
لملاقاة جند الله اليثربيين. جبنت قريش وتراجعت وأخذت تخسر أسواقها، بعد أن خسرت طريق
الشام المار بالمدينة، وانهارت سمعتها بين الأعراب. وزيادةً في تمريغ تلك السمعة وإظهار
هوان قريش، أرسل كعب بن مالك رسالة شعرية — يُردِّدها العربان — لأبي سفيان، تُعيِّره
هو وقريش وتقول:
وعدنا أبا سفيان بدرًا فلم نجد
لميعاده صدقًا وما كان وافيا
فأُقسِم لو وافيتنا فلقيتنا
لأُبتَ ذميمًا وافتقدتَ المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه
عمرًا أبا جهل تركناه ثاويا
أما حسان بن ثابت الذي يجبن عند الحرب، ويُرسِل لسانه سليطًا عند الحاجة، فقد أرسل
برقية تقول:
فأبلغ أبا سفيان عني رسالة
فإنك من غِر الرجال الصعالكِ
٩
وهو الأمر الذي آذى قريشًا، حتى جاء صفوان بن أمية إلى أبي سفيان لائمًا يقول: «قد
والله نهيتك يومئذٍ أن تعِد القوم، وقد اجترءوا علينا، ورأوا أنا أخلفناهم، وإنما
أخلفنا الضعف.»
١٠
هذا ما كان عليه حال قريش. أما حال يثرب فلم يكن مُرضيًا لأهلها؛ فالحملات تفشل،
والعربان تتطاول، والدولة بحاجة دائمة إلى أعمال كبرى تُعلِن دومًا عن حجم القوة
الإسلامية. وهنا يحكي لنا ابن كثير أنه قد بلغ النبي أن الدنو من أبواب الشام، أمر
سيُفزِع قيصر الروم فزعًا شديدًا، وكان الخبر هامًّا، فليس هناك رسالة للعربان أفصح ولا
أقوى من فزع عظيم الروم ذاته.
وإعمالًا للخبر «ندب رسول الله
ﷺ الناس، فخرجوا في ألف من المسلمين، فكان يسير
بالليل ويكمن بالنهار، ومعه دليل من بني عذرة، فلما دنا من دومة الجندل، أخبره دليله
بسوائم بني تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل
وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل، فتفرَّقوا، فنزل رسول الله
ﷺ بساحتهم، فلم يجد
فيها أحدًا، فأقام فيها أيامًا، وبث السرايا، ثم رجعوا وأخذ محمد بن مسلمة رجلًا منهم
فأتى به رسول الله، فسأله عن أصحابه، فقال: هربوا أمس.»
١١
هكذا وصلت أخبار الجيش المحمدي، وهكذا كان أهل الحدود البيزنطية يسمعون بما يحدث
في
باطن الجزيرة؛ لهذا كان تصرفهم عندما سمعوا بمقدمه عليهم، وكانت إجابة أكيدر حاكم دومة
الجندل على غزوة النبي بعد عودته إلى يثرب، فهي أن «أرسل إلى رسول الله
ﷺ بجبة
من ديباج منسوج فيها الذهب.»
١٢
وفي طريق العودة من دومة الجندل، رأى النبي أن يمر بمضارب فزارة وهو في استعداده
العسكري هذا، ولم يجد عيينة بن حصن الفزاري سيد فزارة سوى مُوادَعة سيد يثرب، وكانت
مُوادَعة عيينة مكسبًا لو صدق، حيث كان بإمكانه أن يجمع عشرة آلاف فتًى من المُحارِبين
عند الحاجة؛ ومن هنا منحه النبي عهدًا يرعى بموجبه سوائمه في تغلمين عن قرب من يثرب،
حيث أجدبت أراضي عيينة، ومر المسلمون بسلام عائدين إلى المدينة.
١٣ ولم تمضِ أسابيع حتى كان عيينة يعدو على سوائم رسول الله
ﷺ ويقتل
رعاته ويعود إلى أرضه بما غنم من أموال النبي
ﷺ.
هذا بينما كانت قريش في أمر آخر، تحسب حساباتها، وتُراجِع أمر تجارتها، وما شاع بين
العربان عن جبنها.