وكانت سرايا المسلمين وغزوات النبي، قد أرهقت قريشًا وقطعت سبيلهم إلى الشام، ثم جاءت
سلسلة سرايا الاغتيال، التي ألقت نتائجها مُوادَعات وتحالفات للقبائل الضاربة على
الطريق التجاري، مع محمد ورجاله مما قطع إيلافهم مع قريش، ووصل الأمر بقريش إلى الجبن
عن ملاقاة محمد على ماء بدر في بدر الآخرة، رغم أن أبا سفيان صاحب اللواء القرشي، كان
صاحب الموعد التهديدي في أحد؛ ومن ثَم استجابت قريش من فورها لسعاية يهود نضير، الذين
أخذوا على عاتقهم إقامة حلف عظيم بين العرب مع قريش، لضرب العصبة المؤمنة في يثرب، ضربة
قاتلة ونهائية.
وتحرَّك الجيش العظيم، الذي يربو على عشرة آلاف من المُقاتِلين الأشداء، بين فيافي
الحجاز مُيمِّمًا شطر يثرب، ليكون أول جيش يجمعه العرب بهذا الحجم تعرفه جزيرة العرب
تحت قيادة واحدة، وتحت رايات قريش، لينزل الجمع الهائل بمجمع الأسيال من رومة بين الجرف
والغابة، قرب جبل أحد، مركز الانتصار الأول لقريش، ولم تكن المعركة هذه المرة بغرض
الانتقام فقط، إنما بغرض التصفية النهائية، وهو الأمر الذي بلغ يثرب فقامت من فورها
بالتعبئة القصوى، لكن لتصل تعبئتها فقط إلى ثلاثة آلاف رجل، إزاء جيش جرَّار من
المُحارِبين. ووقع في أيدي المسلمين!
معجزات الخندق
ثلاثة آلاف كبير وصغير وشاب وحدث، هي أقصى إمكانات التعبئة العسكرية، التي
تمكَّنت يثرب من حشدها، إزاء عشرة آلاف مُقاتِل يُحاصِرون مدينتهم، وليس هناك خبر
عن إمداد سماوي، ولم يأتِ جبريل وجنده؛ ومن ثَم وقف الرواة مع الحديث البديل عن
التعبئة السماوية، مع تفاصيل بها عِبَر ووعود، وهي التفاصيل التي يمكن من خلال بعض
الثغرات فيها المرور إلى حديث الأحاجي والمعجزات، ومنها رواية ابن إسحاق التي تقول:
حُدِّثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت عليَّ،
ورسول الله
ﷺ قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان عليَّ، نزل
فأخذ المعول من يدي، فضرب ضربة فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة
أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به ثالثة فلمعت تحته برقة أخرى.
قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت يلمع تحت المعول وأنت
تضرب؟
قال: أوَقد رأيت ذلك يا سلمان؟
قلت: نعم.
قال: أما الأولى فإن الله قد فتح عليَّ بها اليمن، أما الثانية فإن الله
فتح عليَّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح عليَّ بها المشرق.
٩
حتى الآن والأمر واضح ليس فيه ألغاز، وطبيعي تمامًا، فالرسول
ﷺ يضرب
الصخرة الغليظة بالمعول الحديدي فتقدح شررًا، فيتساءل سلمان، ويرد الرسول بالحكمة
النبوية عن فتوحات قادمة، في وقت يحتاج فيه الجند إلى تقوية الروح المعنوية، وهم في
أسوأ حال، وقد أخذ الرعب بهم، مع ذلك الحصار الهائل الذي تكتَّل فيه العرب كتلة رجل
واحد ضدهم، وهو الرد الحكيم الكفيل بطمأنة النفوس الجازعة؛ فالدلالة فيه أن كل ذلك
الذي يحدث زوبعة طارئة مُنتهِية، ليس ذلك فقط، بل إن الجزيرة جميعًا ستكون ملك أمر
المؤمنين، وبعدها الفتوح الكبرى لأقطار الأرض جميعًا. ولكن ذلك الحديث الذي قصد منه
النبي بحكمته إذهاب الغم عن المؤمنين والكرب، تلقَّفته مع ذلك البرق اللامع،
رواياتٌ تذهب به مع الزيادات التدريجية إلى دائرة الأساطير، وتتحول آمال النبوة
المُقبِلة مع تلك الروايات إلى تجليات كبرى انفلت معها الشرر ليُصبِح ضوءًا
مُبهِرًا مُعلِنًا وجود قدرات كبرى إلى جوار النبي ورجاله؛ حيث يروي النسائي ذات
الرواية لكن مع بعض الإضافات فيقول:
فندر ثلث الحجر، وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله برقة،
ثم ضرب الثانية وقال: وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلًا، لا مبدل لكلمات الله،
وهو السميع العليم. فندر الثلث الآخر وبرقت برقة، فرآها سلمان، ثم ضرب
الثالثة وقال: وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلًا، لا مبدل لكلمات الله، وهو
السميع العليم. فندر الثلث الباقي، وخرج رسول الله
ﷺ فأخذ رداءه
وجلس، فقال سلمان: يا رسول الله، رأيتك حيث ضربت لا تضرب ضربة إلا معها
برقة. قال رسول الله
ﷺ رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: إي والذي بعثك
بالحق. قال: فإني حين ضربت الضربة الأولى، رُفِعت لي مدائن كسرى وما حولها
ومدائن كثيرة، حتى رأيتها بعيني. قالوا: يا رسول الله ادعُ الله أن يفتحها
علينا، ويُغنِمنا ذراريها ونُخرِّب بأيدينا بلادهم، فدعا بذلك.
قال: ثم ضربت الضربة الثانية، فرُفِعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى
رأيتها بعيني. قالوا: يا رسول الله، ادعُ الله أن يفتحها، ويُغنِمنا ذراريهم،
ونُخرِّب بأيدينا بلادهم، فدعا.
ثم قال: ثم ضربت الثالثة فرُفِعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى، حتى
رأيتها بعيني. ثم قال رسول الله: «دعوا الحبشة ما وادعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم.»
١٠
ولا ينتهي حديث الصخرة والبَرْقات الثلاث إلى هنا، إنما يتزايد ويتضخم، لتتحول
الشرارات الثلاث — التي رآها سلمان؛ لأنه كان بجوار النبي
ﷺ والتي استدعت
دهشة النبي وهو يسأل سلمان: أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟ — تتحول إلى برق إعجازي أسطوري
يُسجِّل آية عظمى، فيُدوِّنها ابن الأثير بعد صياغتها الجديدة، ليس فقط لإبراز
المعجزة، إنما أيضا لإبراز قوة النبي الجسدية الهائلة التي صدعت الصخرة فيقول:
فأخذ المعول، وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين
لابتَي المدينة فكبَّر الرسول
ﷺ وكبَّر المسلمون، ثم الثانية كذلك،
ثم الثالثة كذلك، ثم خرج وقد صدعها. فسأله سلمان عما رأى من البرق، فقال
رسول الله
ﷺ: أضاءت الحِيرة وقصور كسرى في البرقة الأولى، وأخبرني
جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحُمْر من أرض
الشام والروم، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور
صنعاء، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها.
١١
أما البيهقي، باعتباره صاحب كتاب دلائل النبوة، وجامع تلك الدلائل التي رآها
جميعًا إعجازية، فقد وجد في قصة الصخرة مُناسَبة طيبة ليُقدِّمها بما يليق بها من
دلائل النبوة، ليُكرِّر، ولكن ليُفصِّل القول بقوله:
فأخذ رسول الله
ﷺ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت
منها برقة أضاءت ما بين لابتَيها (أي لابتَي يثرب)، حتى لَكأن مصباحًا في جوف
ليل مُظلِم، فكبَّر رسول الله
ﷺ تكبيرة فتح، فكبَّر المسلمون. ثم ضربها
رسول الله
ﷺ الثانية فصدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتَيها،
حتى لَكأن مصباحًا في جوف ليل مُظلِم، فكبَّر رسول الله
ﷺ تكبيرة فتح
وكبَّر المسلمون. ثم ضربها رسول الله
ﷺ الثالثة فكسرها، وبرق منها
برقة أضاءت ما بين لابتَيها، حتى لَكأن مصباحًا في جوف ليل مُظلِم، فكبَّر رسول
الله
ﷺ وكبَّر المسلمون.
فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئًا ما رأيته قط.
فالتفت رسول الله
ﷺ إلى القوم فقال: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا:
نعم يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا، قد رأيناك تضرب فخرج البرق كالموج،
فرأيناك تُكبِّر ولا نرى شيئًا غير ذلك. فقال: صدقتم، ضربت ضربتي الأولى فبرق
الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحِيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب،
فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي
رأيتم، أضاء لي منها قصور الحُمْر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني
جبريل — عليه السلام — أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثالثة، فبرق
منها الذي رأيتم، أضاءت منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل
— عليه السلام — أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا.
ويُعقِّب البيهقي تعقيبًا واضح المدلول بقوله: إن الرسول أراد بذلك أن «يُبلِّغهم
النصر».
١٢
وقد استدعى حديث تلك الصخرة تداعيات وأخبارًا عن صخور أخرى وصياغات أخرى، وهو ما
جاء في رواية ابن هشام عن ابن إسحاق، تقول:
وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتني فيها من الله عِبرة في تصديق رسول الله
ﷺ وتحقيق نبوته، عايَن ذلك المسلمون؛ فكان مما بلغني، أن جابر بن
عبد الله كان يُحدِّث أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول
الله
ﷺ، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو
به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق
نبيًّا، لانهالت حتى عادت كالكثيب.
١٣
وإذا كانت خاتمة حديث النبي
ﷺ فيما رواه البيهقي «فأبشروا»، مع الإلحاق
التوضيحي «يُبلِّغهم النصر»، كان القصد منها أن يرفع روحهم المعنوية بالاستبشار، بل
ويُصبِح ذلك النصر سهلًا وبسيطًا هيِّن الشأن إذا قُورِن بما بيَّتته الأيام
القادمة للمسلمين من فتوحات لأقطار الدنيا؛ فإن هناك من الصحابة من كان له رأي آخر
إزاء حصار المدينة، وما أخذ المسلمين من رعب وفزع حتى بلغت القلوب الحناجر، فهذا
معتب بن قشير يُعقِّب على حديث الصخرة والفتوح
المُقبِلة ساخرًا، يقول برواية ابن الأثير:
ألا تعجبون؟!
يعِدكم الباطل!
ويُخبِركم أنه ينظر من يثرب الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تُفتَح لكم وأنتم لا
تستطيعون أن تبرَّزوا؟!
١٤
أو برواية ابن هشام:
كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه
أن يذهب إلى الغائط؟!
١٥
ولهذا السبب، ولتلك القولة التي كانت تُعبِّر عن مكنون صدر الرجل إزاء حال واقع
بصراحة العربي التي لا تعرف التزويق، وباندفاعه الحر، فقد أدرج أهل الأخبار معتب بن
قشير في طائفة المنافقين، لكن ليُلاحِظ ابن هشام أن ابن قشير لا يمكن احتسابه
منافقًا؛ لأنه كان من مُقاتِلي النصر البدري الأكبر، وهم من غفر الله لهم ما تقدَّم
من ذنبهم وما تأخَّر، وأصبحوا جميعًا من أهل الجنة، وفي ذلك يقول: «وأخبرني من أثق
به من أهل العلم، أن معتب بن قشير لم يكن من المنافقين، واحتج بأنه كان من أهل بدر.»
١٦ ورغم ذلك، فقد جاء الوحي يرد على ابن قشير قائلًا:
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا
وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (الأحزاب: ١٢).
ومع الحصار، واشتداد الأزمة، يستطيب رجالاتنا حديث الأحاجي ليستمرئوا الاستمرار
فيه، فيروي ابن إسحاق:
وحدَّثني سعيد بن مينا أنه حدَّث أن ابنة بشير بن سعد أخت النعمان بن بشير،
قالت: دعتني أم عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أيْ
بُنَية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغذائهما.
قالت: فأخذتها فانطلقت بها، فمررت برسول الله
ﷺ وأنا ألتمس أبي
وخالي، فقال: تعالَي يا بُنَية. ما هذا معك؟ قالت: قلت: يا رسول الله، هذا تمر
بعثتني أمي به إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة، يتغذيانه.
فأمر بثوب فبُسِط له ثم دحا بالتمر عليه فتبدَّد فوق الثوب، ثم قال لإنسان
عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلمَّ إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه
فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من
أطراف الثوب.
١٧
ومع الجوع إبانَ العمل الدءوب الذي يُسابِق الزمن قبل وصول قريش، تتتالى أحاديث
الطعام المُبارَك، في معجزات شبيهة بالمعجزات اليسوعية المعلومة، ومثله رواية أخرى
عن ابن إسحاق عن سعيد بن مينا عن جابر بن عبد الله قال:
عملنا مع رسول الله
ﷺ في الخندق، فكانت عندي شُوَيهة غير جِد سمينة،
فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله
ﷺ. فأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئًا
من شعير فصنعت لنا منه خبزًا، وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله
ﷺ. فلما أمسينا وأراد رسول الله
ﷺ الانصراف من الخندق، وكنا
نعمل فيه نهارنا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، قلت: يا رسول الله، إني قد
صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئًا من خبز هذا الشعير، فأحب أن
تنصرف معي إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله
ﷺ
وحده.
فلما أن قلت ذلك، قال: نعم. ثم أمر صارخًا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله
ﷺ إلى بيت جابر بن عبد الله. قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فأقبل
رسول الله
ﷺ وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، فبارَك وسمَّى ثم
أكل، وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
١٨
وذات الرواية تروي عن جابر أيضًا، لتُفسِّر السر وراء زيادة ذلك الطعام القليل
ليكفي ألف رجل على الأقل ويفيض عنهم، فتقول:
وجئت امرأتي فقالت: بك وبك … فأخرجت لنا عجينًا فبسق فيه وبارك، ثم عمد
إلى برمتنا فبسق وبارك، ثم قال: ادعُ خبازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك،
ولا تُنزِلوها، وهم ألف. فأُقسِم بالله لَأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن
برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا كما هو.
١٩
ورغم كل الأحاجي وروايات المعجزات، فإنك تلمس واقع الحال واضحًا، كما جاء في
رواية ابن كثير التي شرحت كيف عظم البلاء على الناس، واشتد الخوف بالمسلمين، لا
تُغنيهم فيه برمة تفور أو تمر وشويهة مُبارَكات، حتى ظن المؤمنون كل ظن، وأخذ كثير
منهم يتهرب من العمل في ذلك البرد القارس، مثل أوس بن قيظي الذي جاء للنبي يتحدث
نيابة عن قومه: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، فأذَن لنا أن نرجع إلى
ديارنا فإنها خارج المدينة. بينما طائفة أخرى تُهبِّط المعنويات وتُثبِّط الهمم
وتقول للناس: يا أهل يثرب، لا مُقام لكم هنا فارجعوا. بينما يسترسل الوحي مُعقِّبًا
على تلك المواقف المُتخاذِلة ليقول:
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا
مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ
يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ
إِلَّا فِرَارًا (الأحزاب: ١٣).
وهو ما يُؤكِّده تقرير الطبري عن فريق آخر، فقد «أبطأ على رسول الله
ﷺ في
عملهم رجال من المنافقين، وجعلوا يُورون بالضعف من العمل، ويتسللون إلى أهاليهم
بغير علم الرسول.»
٢٠
قريظة تنقض العهد
وحُفِر أكبر خندق عرفته الجزيرة، امتنع به أهل يثرب من هجوم الأحزاب، مع
مُحاوَلات بائسة لعبوره من قبل المُهاجِمين، انتهت بفشل ذريع مع التراجع؛ مما أدخل
الطمأنينة بعض الشيء في النفوس الجازعة لحصانة خندقهم، ولم يبقَ غير الانتظار لنفاد
ميرة المُهاجِمين، ومُجالَدة كل من يُحاوِل اقتحام الخندق.
وقد أثبتت قريظة حتى حفر الخندق وعيَها الدقيق بموقفها الشديد الحساسية، وحتى لا
يكون مصيرها مصير قينقاع ونضير، فالتزمت بنود صحيفة المعاقل، وأمدت المسلمين
بالمساحي والمكاتل والكرازين، من أدوات الحفر اللازمة. وكان الموقف الدقيق يحتاج
تحوُّطًا، فقد أحاط الخندق بالمدينة تمامًا، اللهم إلا جبل سلع بالخلف، كان بذاته
مانعًا طبيعيًّا قويًّا، يكفيه بعض الرماة ليُصبِح حصنا منيعًا لا يمكن اجتيازه، ثم
حصن قريظة القوي المتين على حافة المدينة وبمُواجَهة الأحزاب، يُطِل عليهم مباشرة.
وهنا كانت نقطة الضعف التي كان يُدرِكها جميع الأطراف، المسلمون، وقريظة، والأحزاب؛
فكان يكفي أن تُفتَح أبواب حصن قريظة ليمر منها جند الأحزاب إلى داخل يثرب لينتهي
الأمر فورًا. وقد وعى المُهاجِمون ذلك وقرَّروا اللعب عليه، فتحرَّك مُحزِّب
الأحزاب «حيي بن أخطب» زعيم النضير المطرود من يثرب، ليدق أبواب حصن قريظة طالبًا
لقاء زعيم قريظة «كعب بن أسد». وتُدوِّن هنا أقلام كُتاب السير والأخبار قصة ما حدث
في ذلك الموقف الدقيق بقولها: «وخرج عدو الله حيي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد
القرظي، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادَع الرسول
ﷺ على قومه،
وعاهده على ذلك وعاقده، فلما سمع كعب حيي بن أخطب، أغلق دونه حصنه، فاستأذن عليه
فأبى أن يفتح له.» فناداه ورد عليه في الحوار التالي، كما أوردته كتبنا
الإخبارية:
حيي
:
يا كعب افتح لي.
كعب
:
ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، إني عاهدت محمدًا، فلست بناقض ما بيني
وبينه، ولم أرَ منه إلا وفاءً وصدقًا.
حيي
:
ويحك، افتح لي أُكلِّمك.
كعب
:
ما أنا بفاعل.
حيي
:
والله إن أغلقت دوني إلا جشيشتك أن آكل معك منها.
وهنا، وحيي يستفز كعب، يُعيِّره بمسبة كبرى في العربان، وينعته بما هو أنكى من
البخل وإغلاق الباب دون جائع، يفتح له كعب باب الحصن ليُغلِق خلفه سريعًا، ويستمر
الحوار:
حيي
:
ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها،
حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها … قد
عاهدوني وعاقدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدًا ومن معه.
كعب
:
جئتني والله بذُل الدهر، بجهام قد هراق ماءه، يُرعِد ويُبرِق وليس فيه
شيء. ويحك، دعني ومحمدًا وما أنا عليه، فلم أرَ من محمد إلا صدقًا
ووفاءً.
وتستمر كتبنا الإخبارية في الرواية لتقول:
«فلم يزَل حيي بكعب، يفتله في الذروة والغارب، حتى سمع له، على أن أعطاه عهدًا من
الله وميثاقًا، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يُصيبوا محمدًا، أن أدخل معك في حصنك حتى
يُصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان عليه، فيما بينه وبين رسول
الله
ﷺ.»
٢١
وهكذا تُقرِّر كتب السير أن قريظة قد نقضت العهد، لكنها لا تُوضِّح علامات ذلك
النقض المحورية، والتي كان يمكن أن تكون قاتلة ونهائية لو فتحت أبواب حصونها، لكنها
لم تفعل، ويبدو أن المقصود بالنقض هنا هو مُجرَّد تفكير قريظة، وإعمالها ذلك
التفكير خلال أيام، تم فيها علاج الموقف المُتأزِّم من جانب النبي، قبل أن تسقط
قريظة فعلًا في خيانة واضحة.
وبُلِّغ النبي بما له من عيون بما يحدث في
حصون بني قريظة، وبلغ الأمر كذلك المسلمين المُجهَدين المكدودين الفزِعين، وأخذ بهم
الخوف والرعب. فطلب النبي سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، ومعهما
عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير، وقال لهم انطلقوا حتى تنظروا، أحقٌّ ما بلغنا عن
هؤلاء القوم أم لا؟ ثم أضاف القائد الحصيف وهو يرى معنويات رجاله في التداعي: «فإن
كان حقًّا، فالحنوا إليَّ لحنًا أعرفه، ولا تفتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على
الوفاء فيما بيننا وبينهم، فاجهروا به للناس.»
٢٢
ووصل الوفد حصن قريظة «ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذي بيننا
وبينكم يا بني قريظة، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير أو أمر منه، فقالوا:
أكلتَ بأير أبيك.»
٢٣
وهكذا بدأ الحوار بخطاب تهديدي، كان رده تحديًّا بجارح الألفاظ وقبيح الشتائم،
وهو يُصوِّره ابن هشام بقوله: «إن رجال وفد النبي خرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على
أخبث ما بلغهم عنهم، نالوا من رسول الله
ﷺ وقالوا:
من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.
فشاتمهم سعد بن معاذ، وشاتموه، وكان رجلًا فيه حدة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك
مُشاتَمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى
رسول الله
ﷺ فسلَّموا عليه وقالوا: عضل والقارة (الرجيع)؛ أي كغدر عضل
والقارة بأصحاب الرجيع، خبيب وأصحابه.»
وفهم النبي اللحن والرمز الهامس بكلمة السر الشفرية. وكان المسلمون ينتظرون إجابة
وقد زاغت منهم الأبصار، فما كان من القائد الحكيم إلا أن رد بأنه لا شيء إطلاقًا
يستدعي كل ذلك الفزع، وأن كل شيء على ما يُرام، وهو ما تمثَّل في صيحته التهليلية:
«الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين.»
٢٤
وتأزَّمت الأزمة فعلًا، وكان لا بد من تحرُّك سريع وحاسم، قبل أن تُقدِم قريظة
بالفعل على فتح أبوابها للأحزاب، وتستجيب لدافع العصبية والثورة لبني جلدتها نضير
وقينقاع، حيث تُفيد مصادر أخرى أنهم اشترطوا على السعدَين لمُواصَلة الالتزام
بالصحيفة، والاستمرار في المدد، إعادة بني النضير للمدينة.
٢٥ ومن ثَم بدأت دراسة الموقف مرة أخرى على أناة وهدوء وتدبُّر، لتصل إلى
نتيجة مفادها أنه إذا كانت نقطة ضعف المدينة هي حصن قريظة، فإن بين الأحزاب نقطة
ضعف أخرى هي غطفان الفزارية، أتباع الأحمق المطاع الطماع عيينة بن حصن؛ فهم ليسوا
أبدًا أصحاب سيادة وثروات مثل المكيين، كما لم يكونوا أصحاب مصلحة فعلية في القضاء
على محمد، فلم يدفعهم إليه إلا ثأر أم قرفة، والحصول على المغانم، وهو ما يمكن
علاجه بالمُغرِيات المالية.
وعند هذه اللحظة من التفكير المُتأنِّي أرسل النبي سرًّا إلى قائدَي غطفان، عيينة
بن حصن والحارث بن عوف، يُفاوِضهما على الانسحاب من الأحزاب مُقابِل ثلث ثمار
المدينة، وجرَّت المُساوَمات السرية أخدًا وردًّا، اشترط معها عيينة النهِم نصف تلك
الثمار، لكن ليشترط عليه النبي في مُقابِل ذلك الإيقاع بين الأحزاب وبين قريظة.
٢٦
وقام النبي يُخبِر السعدَين بما اتفق عليه مع
غطفان، فيحتج السعدان ويقولان: «إنا نرى ألا نُعطيهم إلا السيف.» ليرد النبي على
سعد بن معاذ: «فأنت وذاك.» فيتناول ابن معاذ الصحيفة ويمحو ما بها من تعاهُد اتفاقي
ويقول: «ليجهدوا علينا.»
٢٧ بينما يأتي من غطفان رجلها الداهية نعيم بن مسعود الأشجعي ليرى النبي
ويسمع منه خطته للإيقاع بين الأحزاب، فيقول له الرسول
ﷺ:
خذِّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.
٢٨
ويفهم نعيم المقصود ويستوعب الخطاب ويبدأ في التنفيذ، ويُدرِك أن الأمر الآن أمر
عسكرية وخدع، فالعِبرة بالنهايات والخواتيم، وليست العبرة بقواعد قد تُؤدِّي إلى
دمار؛ وعليه يروي ابن هشام كيف تمَّت الخدعة وكيف حبكها نعيم بن مسعود، فيقول:
ثم إن نعيم بن مسعود … بن غطفان، أتى رسول الله
ﷺ فقال: … إن قومي
لم يعلموا بإسلامي،
٢٩ فمُرني بما شئت. فقال رسول الله
ﷺ: فخذِّل عنا إن استطعت
فالحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة … فقال: يا بني قريظة
… إن قريشًا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم، لا
تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وأن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد
وأصحابه، قد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم،
فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين
الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم؛ فلا تُقاتِلوا مع القوم حتى
تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم، يكونون بأيديكم، ثقة لكم، على أن تُقاتِلوا
معهم محمدًا حتى تُناجِزوه.
فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
وخرج حتى أتى قريشًا، فقال لأبي سفيان بن حرب، ومن معه من رجال قريش …
إنه قد بلغني أمر رأيت عليَّ حقًّا أن أُبلِغكموه نصحًا لكم، فاكتموا عني.
فقالوا: نفعل. قال: تعلَّموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم
وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على فعلنا، فهل يُرضيك أن نأخذ لك
من القبيلتَين، من قريش وغطفان، رجالًا من أشرافهم فنُعطِيكهم، فتضرب أعناقهم،
ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم.
فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنًا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم
منكم رجلًا واحدًا.
وأخذت الريبة برءوس قريش، ثم استبطأت فتح قريظة أبواب حصونها للأحزاب، وزاد
الأمرَ توتُّرًا قدومُ تلك الليالي الشاتية القارسية على رجالهم في العراء، مع
النفاد المُتزايِد للميرة، وهنا يقول لنا ابن هشام:
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس … أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس
غطفان إلى بني قريظة … فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مُقام، قد هلك الخف
والحافر، فاغدوا للقتال كي نُناجِز محمدًا … فأرسلوا إليهم: إن اليوم سبت،
وهو يوم لا نعمل فيه شيئًا … ولسنا مع ذلك بالذين نُقاتِل محمدًا معكم، حتى
تُعطونا رهنًا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نُناجِز محمدًا، فإنا
نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال، أن تنشمروا إلى بلادكم، وتتركونا
والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت
بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدَّثكم به نعيم بن مسعود لحق.
فأرسلوا لبني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلًا واحدًا من رجالنا، فإن
كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل
إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن
يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كانت غير ذلك انشمروا إلى بلادهم،
وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم.
فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نُقاتِل محمدًا معكم حتى تُعطونا
رهنًا، فأبَوا عليهم …
وخذَّل الله بينهم …
وبُعِثت عليهم الريح في ليالٍ شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم
وتطرح أبنيتهم … ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم
بدار مُقام … أخلفتنا قريظة … ولقينا من شدة الريح ما ترون … فارتحِلوا فإني
مُرتحِل … فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
٣٠
ورغم أن ابن هشام يعلم أين كانت الخديعة، وكيف دُبِّرت، ومن دبَّرها للإيقاع بين
الأحزاب وقريظة، فإنه يقول بهدوء المؤمن الواثق: «وخذَّل الله بينهم.» وحتى يتضح
ذلك التدخل الإلهي، الذي يجب أن تظهر له مظاهر واضحة، في أدوات فاعلة تليق بحجم
فاعلها فقد ورد القول عند ابن قتيبة:
أما رياح الشمال والجنوب فقد ساءلت بعضها عمن يتوجه لمساعدة رسول الله.
عن عكرمة قال: لما كانت ليلة الأحزاب قالت الجنوب للشمال: انطلقي نمد رسول
الله
ﷺ. فقالت: إن الحرة لا تسري بالليل. فكانت الريح التي أُرسِلت
عليهم الصَّبا.
٣١
وهو الأمر الذي جاء تأكيده وحيًا يقول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا
(الأحزاب: ٩).
وهي الجنود الملائكية التي لم تُحارِب أبدًا في الخندق، وهو ما جاء مشروحًا عن
مُجاهِد: «وجنود لم تروها؛ يعني الملائكة، ولم تُقاتِل الملائكة يومئذٍ.»
٣٢ وهو ما يعني أن الملائكة كانت وراء تلك الريح الصرصر العاتية، وأنها
أخذت تعبث بالمُهاجِمين وتُقلِع خيامهم وتكفأ قدورهم وتُطفئ نارهم.
وهكذا يعود ابن هشام من قوله «وخذل الله بينهم» إلى القول بقدرات لله أعظم بكثير
من أساليب الخداع الإنساني، فيُتابِع القول: «وبعث الله عليهم الريح في ليالٍ شاتية
باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم.» مُصوِّرًا فعل الطبيعة
قاصرًا فقط على الأحزاب. لكن بعد سنوات من الخندق، نجد الصحابي أبا حذيفة يحكي
لجلسائه مَشاهده القتالية مع رسول الله
ﷺ فيقول له جلساؤه: والله لو كنا
شهدنا ذلك، لكنا فعلنا وفعلنا. فيغتاظ أبو حذيفة من سهولة الكلام، بعيدًا عن واقع
الفعل، ليحكي لهم عن تلك الليالي الشاتية قوله:
لا تمنَّوا ذلك؛ لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافُّون قعود، وأبو سفيان
ومن معه فوقنا وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا
ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحًا منها، في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي
ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي
ﷺ ويقولون
إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم
ويتسللون، ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك.
٣٣
ويختتم ابن إسحاق وقعة الخندق، ومع آخر القوافل المُرتحِلة من الأحزاب وغبارها
يسطع في الأفق تُشيِّعها كلمات الرسول
ﷺ وهو يقول لأصحابه: «لن تغزوكم قريش
بعد عامكم هذا، لكنكم تغزونهم.» ثم يُعقِّب راوي السير بقوله: «فلم تغزُ قريش بعد
ذلك، وكان رسول الله يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة … رواه البخاري.»
٣٤ وقولة الرسول هنا تُعبِّر تعبيرًا صادقًا عن واقع حال قريش بعد الخندق،
فلم تعد ذلك العدو الفتي المُهدِّد الهادر، إنما شاخت وضاعت هيبتها بين
العربان.
وهكذا جاء الحدث الكبير الذي تمثَّل في تحزيب أحزاب العرب ضد يثرب، بنتائج أيضًا
كبيرة لكن بعكس ما توقَّع الأحزاب وما كانوا يرجونه؛ فقد تلاحمت يثرب، ورغم جبن
بعضهم وهربهم، ونفاق آخرين، ورغم ما مر عليهم من ليالي رعب وفزع شاتية، فإن الحدث
أيقظ لدى الناس شعورًا وطنيًّا جارفًا زاد من تلاحُم المهاجرين والأنصار؛ حيث شعر
المهاجرون أن الدار قد أصبحت دارهم، وصدق الله وعده لنبيه بانشمار الأحزاب راجعين
إلى بلادهم، ناهيك عن النتيجة الأهم والأخطر من كل هذا، وهي تحرير يثرب تمامًا من
العنصر اليهودي؛ بغزوة قريظة، التي قضت على اليهود، وجعلت المنافقين عرايا من أي
حلفاء، مما اضطرهم في النهاية للخضوع التام لسلطان الدولة.
مذبحة قريظة
عن عائشة: أن رسول الله
ﷺ لما فرغ من الأحزاب دخل المُغتسَل ليغتسل، وجاءه
جبريل فرأيته من خلال الباب قد عصب رأسه الغبار، فقال: يا محمد، أوضعتم أسلحتكم؟
فقال: وضعنا أسلحتنا. فقال: إنا لم نضع أسلحتنا بعد، أنهد إلى بني قريظة. ثم قال
البخاري … عن أنس بن مالك قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في زقاق بني غنم، موكب
جبريل حين سارع رسول الله
ﷺ إلى بني قريظة.
٣٥
أو برواية الطبري:
فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله
ﷺ مُعتجِرًا بعمامة من إستبرق،
على بغلة عليها رحالة، عليه قطيفة من ديباج، فقال: أوَقد وضعت السلاح يا
رسول الله؟ قال: نعم. قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح، وما رجعت الآن
إلا من طلب القوم. إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، وأنا
عامد إلى بني قريظة. فأمر رسول الله
ﷺ مُناديًا فأذَّن في
الناس:
من كان سامعًا ومُطيعًا، فلا يُصلِّين العصر إلا في بني قريظة.
٣٦
ولمزيد من التأكيد على أن المسير إلى قريظة كان أمرًا إلهيًّا، حمله جبريل إلى
الرسول الأمين، يُقدِّم البيهقي الشواهد الدالة على مَقدم مبعوث الإله الأول جبريل،
يحمل ذلك الأمر السماوي، في قوله:
وخرج النبي فمر بمجالس بينه وبين قريظة، فقال: هل مر بكم من أحد؟ قالوا:
مر علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء، تحته قطيفة من ديباج. فقال النبي
ﷺ: ليس ذلك بدحية، ولكنه جبريل عليه السلام، أُرسِل إلى بني قريظة
ليُزلزِلهم ويقذف في قلوبهم الرعب.
هذا، ومن المعلوم أن دحية هذا رجل معلوم الشأن لأهل يثرب، فهو دحية بن فروة بن
فضالة، من الخزرج، وكان صاحب رسول الله
ﷺ.
٣٧
وطاعةً لأمر السماء، خرج المسلمون إلى بني قريظة ليضربوا عليهم الحصار، ولما يهدأ
بعد غبار سوائم وخيول الأحزاب المُغادِرة، واصطف جنود الرحمن يتحلقون حول الحصون
القرظية، ويصل الرسول إلى مُقدِّمة الدوائر المُقاتِلة مُقترِبًا من الحصون، وبينما
يصنع له أصحابه بالحجف ما يُشبِه البوق ليُسمِعهم كلامه، كان يهود قريظة يُرهِفون
الأسماع وهم يرجفون لندائه
ﷺ:
يا إخوة القردة والخنازير.
لكن ليرد المُرتعِدون:
يا أبا القاسم ما كنت فحاشًا!
٣٨
ليعود النبي يُناديهم:
يا إخوان القردة،
هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟
وتفهم قريظة الرسالة لترد راعشة:
يا أبا القاسم ما كنت جهولًا!
٣٩
وأمام ما تراه قريظة، أخذت تصرخ طالبةً من محمد
ﷺ أن يُرسِل إليهم من
حلفائهم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي، وسمح الرسول لأبي لبابة بالمرور إلى
حصونهم ليسمع منهم، ونُنصِت مع كتب السير لذلك المسمع يقول:
قالوا: يا أبا لبابة، ماذا ترى وماذا تأمرنا به فإنه لا طاقة لنا
بالقتال؟
ولم نجد قولًا لأبي لبابة، بل إشارة وحركة ذات معنًى، فيُورِد ابن كثير رده على التساؤل:
فأشار أبو لبابة بيده، إلى حلقه وأمرَّه عليه، يُريهم أنه إنما يريد بهم الذبح.
٤٠
وهو ذات ما يرويه الطبري في قوله:
ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله
ﷺ أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد
المنذر أخا بني عمرو بن عوف — وكانوا حلفاء الأوس — نستشيره في أمرنا.
فأرسله رسول الله
ﷺ إليهم، فلما رأوه.
قام إليه الرجال.
وجهش إليه النساء.
والصبيان يبكون في وجهه.
فرقَّ لهم.
وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟
قال: نعم.
ثم أشاره بيده إلى حلقه.
وندخل مع الطبري إلى حصن قريظة الكبير، نستمع لما يدور في الداخل، في تلك
الهُنَيهات البارقة الراجفة من الزمن، لنسمعه يُطالِع ما يحدث ويقول:
وقد كان حيي بن أخطب النضري، قد دخل على بني قريظة في حصونهم، حيث رجعت
عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن أسد بما كان قد عاهده عليه، فلما أيقنوا أن
رسول الله غير مُنصرِف عنهم حتى يُناجِزهم، قال كعب بن أسد لهم:
يا معشر يهود؛ إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالًا
ثلاثًا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هي؟ قال: نُتابِع هذا الرجل ونُصدِّقه … قالوا:
لا نُفارِق حكم التوراة أبدًا … قال: فهلمَّ نقتل أبناءنا ونساءنا ثم
نخرج إلى محمد … ولم نترك وراءنا ثقلًا يهمُّنا، حتى يحكم الله بيننا وبين
محمد … قالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟! فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن الليلة
ليلة سبت، وإنه عسى يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نُصيب
من محمد وأصحابه غِرة. قالوا: نُفسِد سبتنا؟! قال: ما بات رجل منكم منذ
ولدته أمه ليلة واحدة حازمًا!
٤٢
وينتهي المشهد داخل الحصن بقرار من قريظة؛ أنها لن تُقاتِل، وأنها ستنزل على حكم
رسول الله وتستأسر جميعًا. وبالفعل ينزلون في طابور طويل يُكتِّف فردًا فردًا
بالحبال التي تصلهم ببعضهم لينتظروا مصيرهم، آملين في موقف أحلافهم الأوسيين لحقن
دمائهم، مثلما فعلت الخزرج من قبل مع قبائل يهود التي خرجت بأرواحها، وتركت المال
والعقار والعتاد، وبينما هم في وهمهم هذا، نسمع الطبري يقول:
ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله
ﷺ في دار امرأة من بني النجار (أي
من الخزرج وليس من الأوس)، ثم خرج
ﷺ إلى سوق المدينة … فخندق بها خنادق.
٤٣
وقد بدا الأمر كما لو كان يسير حسبما توقَّعت قريظة من الأوس، حيث تواثبت الأوس
حول النبي تُذكِّره بأن قريظة مواليها دون الخزرج، وأنه سبق ومنح حياة يهود
لمواليهم من الخزرج، يطلبون كرامتهم إزاء كرامة الخزرج في المواقف السابقة، وهنا
يُجيبهم الرسول
ﷺ بقوله: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟
قالوا: بلى. قال: فذاك سعد بن معاذ.»
٤٤
في ذلك الوقت كان سعد يُعاني من قطع أصاب أكحله (شريانه) بسهم غارب جاءه من خارج
الخندق إبان الحصار، ولم تلجأ كتبنا التراثية هنا إلى حديث الأحاجي والمعجزات التي
ينسبونها للنبي
ﷺ؛ لأن سعدًا لقي نهايته الفاجعة خلال أيام، حيث قام النبي
ﷺ يحسم له جرحه بنفسه كيًّا بالنار، لكن يده انتفخت ثم انفجر الشريان
بالنزيف، فعاد النبي إلى كيه مرة أخرى ليسد مخرج الدم بالنار فانتفخت يده مرة أخرى.
أما الرواة فقد رأوا أن المعجزة لم تحدث هنا؛ لأن الأكحل إن قُطِع فلا علاج له كما
أفادوا، فهناك ما يمكن علاجه بالمعجزات وهناك ما لا يمكن علاجه كقطع الأكحل.
وبينما سعد على حاله هذا، أرسل إليه النبي وجاء به في مشهد يرويه الطبري بقوله:
فلما انتهى سعد إلى رسول الله
ﷺ قال
ﷺ: قوموا إلى سيدكم …
فأنزلوه. فقال رسول الله
ﷺ: احكم فيهم. قال: فإني أحكم فيهم بأن
تُقتَل الرجال، وتُقسَّم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء.
فقال رسول الله
ﷺ لسعد:
حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
٤٥
وهنا يكشف لنا الطبري سر الخنادق التي أمر النبي بخندقتها، بينما كان القرظيون
يكتفون بالحبال، حيث يقول إن النبي قد «بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق،
يخرج إليه أرسالًا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة
أو سبعمائة، المُكثِّر لهم يقول كانوا نحو الثمانمائة إلى التسعمائة.»
٤٦
ويبدأ مشهد المذبحة كالتالي:
أُتِي بعدو الله حيي بن أخطب … مجموعةً يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى
رسول الله
ﷺ قال:
أما والله ما لمت نفسي في عداوتك أبدًا.
ثم أقبل على الناس فقال:
أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، ملحمة قد كُتِبت على
بني إسرائيل. ثم جلس فضُرِبت عنقه.
٤٧
ويشرح لنا رجالاتنا من أهل السير كيف كانت المذبحة، فيُصوِّر لنا الواقدي أحد
المشاهد بقوله:
إن رسول الله
ﷺ أمر أن يشق لبني قريظة في الأرض أخاديد، ثم جلس،
فجعل علي والزبير يضربان أعناقهم بين يدَيه.
٤٨
ويُحدِّد لنا البيهقي مكان المَقتلة بدقة فيقول:
قُتِلوا عند دار أبي جهل التي بالبلاط، ولم تكن يومئذ بلاطًا، فزعموا أن
دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق.
٤٩
ويشرح لنا ابن هشام أنه بينما كان الأوس حلفاء قريظة في الجاهلية، فإن الخزرج
لذلك السبب كانوا يحملون لقريظة العداوة، ولما كان الخزرج أخوال النبي، فقد حبس
الأسرى القرظيين لديهم، ثم عند المذبحة أمرهم هم بإجراء المذبحة، فيقول مُصوِّرًا
لنا مشهدًا أوسع للمذبحة:
فجعلت الخزرج تضرب أعناقهم، ويسرُّهم ذلك. فنظر رسول الله
ﷺ إلى
الخزرج، ووجوههم مستبشرة، ونظر إلى الأوس فلم يرَ ذلك فيهم، فظن أن ذلك
للحلف الذي بين الأوس وقريظة، ولم يكن بقي من بني قريظة إلا اثنا عشر
رجلًا، فدفعهم إلى الأوس، فدفع إلى كل رجلَين من الأوس رجلًا من بني قريظة،
وقال: ليضرب فلان، وليُذفِّف فلان.
٥٠
أما شأن سعد بن معاذ فنعرف من خبره أن أكحله الذي حسمه له النبي
ﷺ قد عاد
وانفجر بعد مذبحة قريظة، ولما كان هو صاحب الحكم الذي هو حكم الله، فقد وجبت
مكافأته، فيما يرويه البيهقي:
إن جبريل أتى النبي
ﷺ في جوف الليل، مُعتجِرًا بعمامة من إستبرق،
فقال:
يا محمد، من هذا الميت الذي فُتِحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟
فقام رسول الله
ﷺ يجر ثوبه، مُبادِرًا إلى سعد بن معاذ، فوجده قد
قُبِض.
ومن ثَم وقف النبي يُشير إلى سعد وهو يُعلِن:
إن هذا الذي تحرَّك له العرش.
وشيَّع جنازته سبعون ألف ملك.
٥١
أما ابن سيد الناس فيُؤكِّد مشاركة الملائكة في تشييع جسد سعد إلى مثواه الأخير بقوله:
ولما حُمِل سعد على نعشه، وجدوا له خفة، فقال رسول الله
ﷺ: إن له
حَمَلَة غيركم.
٥٢
وفي مجال الإشادة بسعد بن معاذ وتكريمه، يروي الترمذي والنسائي حكاية البغلة
والجُبة التي أرسلها أكيدر دومة الجندل إلى النبي هدية، في القول إنها:
جبة من ديباج، منسوج فيها الذهب، فلبسها
ﷺ فقام على المنبر وجلس
فلم يتكلم، ثم نزل فجعل الناس يلمسون الجبة وينظرون إليها، فقال رسول الله
ﷺ:
أتعجبون منها؟!
لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون.
٥٣
ثم نعلم من مأثورنا علمًا جديدًا بشأن تلك المذبحة، حيث يُعلِمنا أنها لم تقتصر
على الرجال فقط، بل نالت أيضًا من الصبية، حيث يقول الطبري مُدعِّمًا من كل رجال
السير والأخبار أن رسول الله
ﷺ:
قد أمر بقتل كل من أنبت منهم.
٥٤
وهو أيضًا ما يأتينا تأكيده في حكاية ابن إسحاق عن صبي نجا من المذبحة هو عطية
القرظي، حيث يقول:
وكان رسول الله
ﷺ قد أمر بكل من أنبت منهم … عن عطية القرظي قال:
كان رسول الله
ﷺ قد أمر أن يُقتَل من بني قريظة كل من أنبت منهم،
وكنت غلامًا، فوجدوني لم أُنبِت، فخلوا سبيلي. رواه أهل السنن الأربعة …
وقد استدل به من ذهب من العلماء، إلى أن إنبات الشعر الخشن حول الفرج دليل البلوغ.
٥٥
وعن كثير بن السائب أن بني قريظة عُرِضوا على النبي
ﷺ؛ فمن كان مُحتلِمًا
أو نبتت عانته قُتِل، ومن لم يكن قد احتلم ولا نبتت عانته تُرِك.
٥٦
وكاد ينجو من المَقتلة رجل واحد من أشراف قريظة، لولا رغبته هو في الموت ذبحًا،
هو أبو عبد الرحمن الزبير بن باطا القرظي، وكان يوم وقعة بعاث قد منَّ على ثابت بن
قيس وخلَّى سبيله، فلما أصبح ثابت مسلمًا، رأى أن يرد الدَّين إلى أبي عبد الرحمن،
فذهب بحكايته القديمة ودينه بالحياة يرويها للنبي ويطلب حياة أبي عبد الرحمن، فمنحه
إياها، وذهب ثابت يُبشِّر أبا عبد الرحمن بالحياة، ليدور بينهما الحوار
التالي:
أبو عبد الرحمن
:
أي ثابت، ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن
أسد؟
ثابت
:
قُتِل.
أبو عبد الرحمن
:
فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟
ثابت
:
قُتِل.
أبو عبد الرحمن
:
فماذا فعل مُقدِّمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا كررنا عزال بن
سموءل؟
ثابت
:
قُتِل.
أبو عبد الرحمن
:
فما فعل المجلسان؟ يعني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة.
ثابت
:
ذهبوا، قُتِلوا.
أبو عبد الرحمن
:
فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت؛ ألا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش
بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله قبلة دلو نضح، حتى ألقى
الأحبة.
وهنا أخذه ثابت من يده وأوقفه في طابور المذبحة ليأخذ دوره، فضُرِبت عنقه.
٥٧
وبعد الانتهاء من شأن المذبحة، أتى دور الغنائم والسبايا؛ فأما الغنائم فيُحصيها
لنا ابن سعد في قائمة طويلة كالتالي:
-
ألف وخمسمائة سيف.
-
ثلاثمائة درع.
-
ألفا رمح.
-
ألف وخمسمائة ترس وجحفة.
-
وهي القائمة التي تشي بمدى العُدة والعتاد التي كانت في حوزة قريظة، وهو أيضًا ما
يُفصِح عن رغبة قريظة في النأي عن الحرب طمعًا في مصير نضير وقينقاع للخروج
بأرواحهم دون عتادهم وأموالهم.
وجاء دور السبايا ليقول ابن سعد:
واصطفى رسول الله
ﷺ ريحانة بنت عمرو لنفسه، وأمر بالغنائم
فجُمِعت، فأخرج الخُمس من المتاع والسبي، وأمر بالباقي فبيع فيمن يزيد،
وقسَّمه بين المسلمين.
٥٩
أما ريحانة بنت عمرو، التي اختارها النبي، فقد قال بشأنها ابن كثير:
عرض عليها النبي
ﷺ أن يُعتِقها ويتزوجها، فاختارت أن تستمر على
الرق ليكون أسهل عليها، فلم تزَل عنده حتى تُوفِّي عنها عليه الصلاة والسلام.
٦٠
ويُؤكِّد الطبري موقف ريحانة في قولها لسيدها الجديد:
تتركني في ملكك، فهو أخف عليَّ وعليك. فتركها، وكانت حين سباها رسول الله
ﷺ قد تعصَّت بالإسلام، وأبت إلا اليهودية.
٦١
وفاضت السبايا حتى بيعت بقيتهم لرجال نجد، وكان عائد البيع عظيمًا، وتم شراء خيل
وسلاح إضافي بثمنهم؛ لتتضخم الأعتدة العسكرية الإسلامية وكراعها بمخزون عظيم لما هو
آتٍ.
وهكذا جاءت دية بني عامر بمجموعة من التداعيات أخذ بعضها بعقب بعض؛ فطُرِدت نضير
من يثرب، لكن ليُحزِّب زعماؤها الأحزاب في غزوة الخندق التي انتهت بدورها لصالح
يثرب، بالانسحاب بعد الخدعة، لينتهي الأمر بالقضاء على بني قريظة، وتطهير المدينة
تطهيرًا كاملًا، وسيطرة النبي سيطرة تامة على يثرب، مع نمو هائل في ثروة المسلمين
وقوتهم العسكرية، وهو الأمر الذي دفع المنافقين لحسم مواقفهم؛ حيث لم يعد لهم سند
من حلفائهم اليهود، ولم يعد بإمكانهم التطاول على القوة الإسلامية المُتعاظِمة،
وانتهى أمرهم بالخضوع الكامل لسيد المدينة، وهي النتائج التي أوجزتها الآيات
الكريمة بإيجازها البليغ تُبلِّغ العربان وتُذكِّرهم بقولها:
وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ
يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ
قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ٦٢ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ
وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ
وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (الأحزاب: ٢٥–٢٧).