إخضاع القبائل
يا رسول الله، لا تُحرِّم علينا حلالًا ولا تُحِل لنا حرامًا!
زيد بن رفاعة الجذامي
بالطبع لم تُنفِّذ يثرب اتفاقها مع غطفان الفزارية، بعد أن مزَّق السعدان الصحيفة
التي كان من المُزمَع تنفيذها مع عيينة بن حصن الفزاري، للتخذيل بين الأحزاب؛ لذلك ما
إن انصرفت الأحزاب عن يثرب، وعلم القرشيون بحجم المكيدة التي دبَّرها الغطفاني الداهية
نعيم بن مسعود، حتى عاد عيينة بن حصن ببعض خيل غطفان؛ ليُغيروا على لقاح النبي بالغابة،
لكن بالجوار كان سلمة بن الأكوع، يراهم، فيركض نحو التلول يرتقيها مُوجِّهًا وجهه شطر
يثرب منذرًا صائحًا: واصباحاه! عدة مرات، ثم يهرع نازلًا يمنع القوم بنباله. ويروي لنا
ابن كثير بطولة ذلك المسلم الفرد في صورة رائعة وهو يقول:
فإذا وُجِّهت الخيل نحوه انطلق هاربًا،
ثم عارضهم، فإذا أمكنه الرمي رمى … وبلغ رسول الله
ﷺ صياح ابن الأكوع،
فصرخ بالمدينة: الفزع الفزع! فترامت الخيول إلى رسول الله
ﷺ فلما
اجتمعوا إلى رسول الله
ﷺ أمَّر عليهم سعيد بن زيد وقال: اخرج في طلب
القوم حتى ألحقك بالناس. وأقبل رسول الله
ﷺ، واستنقذ بعض اللقاح، وسار
الرسول حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحَق به الناس، فأقام عليه يومًا وليلة.
وقال سلمة بن الأكوع: يا رسول الله، لو سرَّحتني في مائة رجل، لاستنقذت بقية
السرح، وأخذت بأعناق القوم. فقال رسول الله
ﷺ: إنهم الآن ليغبقون في
غطفان … ثم رجع قافلًا إلى المدينة. (ويقول
ابن الأكوع) ثم رجعنا، وردفني رسول الله
ﷺ على ناقته حتى قدمنا المدينة.
١
ومرة أخرى تتعرض لقاح الرسول لغدر الأعراب، الذين أطمعتهم سوائمه، فقدم على النبي
ثمانية رجال من عرينة، وأظهروا الإسلام، وبعد أيام اشتكوا للنبي سوء حالتهم الصحية
بداخل يثرب، وأنهم أهل بوادي لا يُطيقون المدن والزروع، فأذِن لهم بالخروج لرعاية
لقاحه، الذي يُرعى بذي الحدر بناحية قباء، فظلوا فيها فترة، ثم عدَوا على لقاح رسول
الله
ﷺ وقتلوا واحدًا من عبيد النبي،
٢ فكان أن أرسل وراءهم سرية كرز بن جابر الفهري ليقبض عليهم، ويلقوا جزاء ما
قدَّمت أيديهم بحق النبي وبحق الدولة، وهو الجزاء الذي جاءنا ذكره في البيهقي وهو يروي:
فلم ترتفع الشمس حتى أُتِي بهم، فأمر بمسامير فأحميت، فكواهم، وقطع أيديهم
وأرجلهم، وألقاهم في الحَرة يُستسقون فلا يُسقَون، حتى ماتوا.
٣
ويُضيف ابن سيد الناس أنه قد أمر إضافةً لذلك بسمل عيونهم.
٤
ومع تلك التحركات الطامعة الغادرة من الأعراب، كان على يثرب أن تُكثِّف مرة أخرى
من
سراياها المُسلَّحة التأديبية المُنذِرة؛ لتئوب القبائل إلى سابق انكماشها. فكانت سرية
عبد الله بن أنيس الجهني، التي سرت إلى خيبر لتنتقم من مشاركة سادتها في تحزيب الأحزاب،
فيقطع ابن أنيس من خيبر رأسها، أسير بن رزام؛ جزاءً وفاقًا لما قدَّمت يداه.
٥ لتتبعها سرية عكاشة بن محصن الأسدي مُغيرًا على قومه بني أسد في الغمر،
ويبدو أن الأُسود عرفوا رأس الحكمة من الغارة السابقة للنبي عليهم، فهربوا مع نَعمهم
وشياههم، ويصل عكاشة فيجد الديار فراغًا، لكنه لم يشأ أن يرجع فارغًا، فهجم على بني
عمومة لهم في الجوار، ليستاق منهم مائتَي بعير يعود بها مغنمًا إلى يثرب.
٦
وإذا كانت حكمة الأُسود تدعوهم كل مرة إلى الفرار بأموالهم وأرواحهم، فإن الثعالب
من
بني ثعلبة كانت لهم حكمة أخرى، فما إن هبطت عليهم سرية محمد بن مسلمة بذي القصة باتجاه
الربذة في عشرة من المسلمين، حتى نذر به الثعالب بدهائهم، وأحدقوا بالسرية وحملوا على
رجالها تقتيلًا، ولم ينجُ سوى مسلم واحد خرج سليمًا، ليحمل محمد بن مسلمة جريحًا ويعود
به إلى المدينة.
وفورًا يُرسِل رسول الله
ﷺ سرية أبي عبيدة بن الجراح للضرب على يد بني ثعلبة
بقوة، ويمده بأربعين مُقاتِلًا يهبطون على ذي القصة مُتسلِّلين مُتخفِّين ليُفاجئوا
الثعالب في عماية الصبح. ولكن مرة أخرى يُنذَر به الثعالبة — مُتأخِّرين بعض الشيء —
فيهبون إلى دروبهم وشعابهم بين جبال يعلمون سُبلها ولا يتمكن المسلمون منهم، فيكتفون
بحيازة أنعامهم التي تركوها، وينحدرون بها عودًا إلى المدينة.
ووسط تلك الأحداث، يأتينا خبر طلاق زيد بن حارثة من زينب بنت جحش، وتزويج السماء
لزينب من النبي، ليخرج من بعدها زيد للاستشفاء النفسي، في عدد من السرايا المتوالية،
أو
ليُرسِله النبي في عدد من السرايا المُتتابِعة، لا يهدأ ولا يكل، فينزل بسرية على
بني حارثة من قبائل سليم ليُصيب منهم سوائمهم، ثم يُردِفها بسرية إلى العيص تعترض طريق
قافلة تجارية قرشية قادمة من الشام بها فضة عظيمة، فيستولي على ما فيها، ثم يُتبِعها
بسرية ثالثة إلى بني ثعلبة، فيغنم منهم أنعامًا جزيلة، ثم يخرج بسرية رابعة إلى حسمى
من
وراء وادي القرى، بأمر من الرسول
ﷺ انتقامًا من بني جذام الذين قطعوا الطريق على
صديق النبي دحية الكلبي، الذي كان يتمثل به جبريل الملاك، فيسلبونه منحة قيصر له. وينزل
زيد بساحتهم فيقتل منهم قومًا كثيرين، ويذبح زعيمهم الهنيد وولده، ويأخذ نَعمهم
وماشيتهم ونساءهم، وما يربو على خمسة آلاف شاة، وألف بعير، غير مائة من السبايا وعدد
عظيم من الغلمان، ولا يُصاب البطل المسلم المُتميِّز زيد في كل تلك السرايا إصابة واحدة.
٧
لكن بين جذام والنبي كان كتاب مُوادَعة سابق، فيهرع أحد الناجين هو زيد بن رفاعة
إلى
النبي، في نفر من قومه فيهم أبو يزيد بن عمرو، ثم نستمع إلى المشهد حال دخوله على رسول
الله
ﷺ من ابن سعد وهو يحكي:
فدفع إلى رسول الله
ﷺ كتابه الذي كان كتب له ولقومه، وقال:
يا رسول الله، لا تُحرِّم علينا حلالًا ولا تُحِل لنا حرامًا.
فقال الرسول: وكيف أصنع بالقتلى؟
قال أبو يزيد بن عمرو: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيًّا، ومن قُتِل فهو تحت
قدمَيَّ هاتَين.
فقال رسول الله
ﷺ: صدق أبو يزيد.
٨
وما إن يرحل الجذاميون، بما كان لهم عند النبي، حتى يخرج زيد مرة أخرى بسرية خامسة
إلى وادي القرى.
٩ لتعطي تلك السرايا دلالتها حيث بدأت تأخذ وجهة الشمال الرومي والمشرق
الكسروى. ويزداد تأكيد المقاصد والدلالات، بإغارة عبد الرحمن بن عوف مرة أخرى برجاله
على قبائل كلب في دومة الجندل بالشمال، وهناك يُعلِن زعيمهم الأصبغ اتباعه للدولة
وللدين ويُشهِر إسلامه، ويُزوِّج ابنته تماضر لقائد السرية عبد الرحمن بن عوف، ليعود
بها وبالعهد إلى المدينة.
١٠ ولكن وجهة الشمال حيث كنوز كسرى وقيصر الهدف الأعظم، لا زالت بحاجة إلى
تأكيد، فتخرج إليها سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر في فدك، ليُغير عليهم على
غِرة، فيهزمهم، وهم من كانوا من القوة بحيث هزموا قبل البعثة فيالق كسرى، لكن الرعب
يأخذهم فيفرون قبل وصول السرية ديارهم، ويتركون له ألفَي شاة وخمسمائة بعير يعود بها.
أما كلب التي كانت في الطريق، فقد تركت له طريق العودة وهربت من ديارها بنسائها
وأموالها رغم ما تأكَّد لها من عهود مع دولة النبي
ﷺ.
١١
وهكذا أبلغت السرايا وبلغت رسائلها إلى الشمال الرومي، ووصلت برقيات الرعب إلى زعيم
نصف العالم آنذاك، قيصر الروم.