الفصل الخامس
تمهيد
كان إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة التي ضمت بلجيكا وأسقفية لييج إلى هولندة، من صنع مؤتمر فينا كإحدى الدعامات التي قرَّر السياسيون في هذا المؤتمر أن يقوم عليها التوازن الأوروبي، وذلك بإنشاء دولة حاجزة على حدود فرنسا الشمالية الشرقية، تستطيع المحافظة على استقلالها بمواردها وإمكانياتها الخاصة بها، يكون في قدرتها — لذلك — الصمود في وجه أي اعتداء جديد من جانب فرنسا؛ حتى تأتي جيوش الدول الكبيرة لنجدتها، ولدفع الاعتداء الفرنسي عن أوروبا الشمالية الغربية.
ولكن إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة، لم يلبث أن صار مبعث اضطراب في هذه المنطقة ذاتها التي حرصت الدول على تقويتها، وذلك عندما أراد البلجيكيون الانفصال عن هولندة والظفر باستقلالهم، فقاموا بالثورة (١٨٣٠)، وصارت المسألة الهولندية البلجيكية في عداد المسائل التي شُغل بها السياسيون في الفترة التي خضعت فيها أوروبا «لنظام مترنخ» الرجعي، ولقد كان من أجل الوصول إلى حل لهذه المسألة أن وُضع «الاتحاد الأوروبي» موضع الاختبار مرة أخرى، وعلى غرار ما حصل في أزمتي اليونان ومصر، ولقد تقدَّم كيف نالت اليونان استقلالها، وحصلت الباشوية المصرية على الحكم الذاتي الوراثي في نطاق الإمبراطورية العثمانية؛ وبسبب التدخل الأوروبي، بالرغم من أن موضوع الإمبراطورية العثمانية لم يكن في عداد المسائل التي بُحثت في مؤتمر فينا، وترتب على نجاح الاتحاد الأوروبي في معالجة المسألتين اليونانية والمصرية العثمانية، نقض إحدى القواعد التي كان قد استرشد بها المؤتمرون في فينا وهي قاعدة «الشيوعية»، وهذا إلى جانب هدم المبدأ الإقليمي الذي انبنت عليه تسوية فينا، وهو بقاء الوضع الراهن على الحالة التي أوجدته بها التسوية الإقليمية، ومع ذلك فقد كان من نتائج الثورات التي حصلت في فرنسا في يوليو ١٨٣٠ وفي فبراير ١٨٤٨، والتي انتشرت في أوروبا في هذه الحقبة، نقض قاعدة «الشيوعية»، وهدم مبدأ الوضع الراهن الإقليمي، ولو أن هذا قد حدث في حالات معينة ومحدودة، منها طرد البربون والأورليان من الحكم في فرنسا، ثم فصل بلجيكا من هولندة، وهو تغيير إقليمي طرأ على التسوية الإقليمية التي وُضعت في فينا، وينطوي على معارضة صريحة «لنظام مترنخ» من حيث الاعتراف فيما نالته بلجيكا من استقلال، بنجاح المذهب القومي، وفي هذه المرحلة المبكرة من مراحل النضال بين القومية والمذهب الحر، وبين قوات الرجعية في أوروبا.
مملكة الأراضي المنخفضة
وكان لهذا المجلس مثلما كان «لِلْمَلِك» حق اقتراح القوانين، وحق الاعتراض عليها، كما كان من حقه أن تعرض عليه الحكومة سنويًّا أبواب النفقات الاستثنائية، ومع ذلك فلم تكن هناك مسئولية وزارية، ولم يقرر القانون الأساسي حرية الصحافة، ولم ينص على نظام المحلفين، بالرغم من جعل القضاء مستقلًّا، وفيما عدا ذلك نصَّ القانون على ضمان المساواة لكل المذاهب (أو العقائد) الدينية.
إن تأسيس توازن صحيح للقوى في أوروبا، الأمر الذي يتطلب أن يتم إنشاء هولندة وتكوينها بصورة تجعلها في مركز تستطيع به المحافظة على استقلالها بمواردها الخاصة بها، يقتضي أن تضم إلى هولندة وتتحد بها اتحادًا أبديًّا، الأقاليم المحصورة بين البحر «الشمالي»، وحدود فرنسا كما ترسمها المعاهدة الحالية، ونهر الموز.
وبذلك يكون قد تقرَّر ضم بلجيكا إلى هولندة على أساس أن هذا الضم مجرد «زيادة إقليمية» وحسب، ودون أن يقيم الحلفاء وزنًا لأية اعتبارات أخرى متصلة برغبات البلجيكيين أنفسهم، أو متفقة مع مصالحهم، وذلك كان إجراء أقل ما يوصف به أنه يخلو من الحكمة السياسية، ومن المنتظر أن يكون مبعث تذمر من جانب البلجيكيين، لا داعي له.
وهكذا تقرَّر مصير بلجيكا — بإدماجها في هولندة — على أساس أن الولايات البلجيكية بلدان افتتحها الحلفاء بعد أن هزمت جيوشهم الفرنسيين وطردتهم منها، وساعد على تصرف الدول الكبرى في مستقبل البلجيكيين تصرف الفاتحين، أن النمسا لم تكن تريد استرجاع أملاك بعيدة، ومعرضة على الدوام للغزو الأجنبي، ومن ناحية فرنسا خصوصًا؛ في حين أنها كانت تبغي «تعويضًا» في أماكن أخرى سوف يساعدها على الظفر به الموافقة على أي حل تريده الدول، وأن بريطانيا كانت تعمل في وفاق تام مع هولندة وأميرها وليم أورانج، فأرجعت إليها بعض مستعمراتها التي كانت استولت عليها، واستبقت في حوزتها البعض الآخر، وكان البعض الذي استبقته بريطانيا على جانب كبير من الأهمية؛ ومن ذلك مستعمرة رأس الرجاء الصالح، ومستعمرات هولندة في أمريكا الجنوبية في جويانا وغيرها، (معاهدة لندن في ١٣ أغسطس ١٨١٤)، وكان تنازل هولندة عن هذه المستعمرات الثمن الذي نالته بريطانيا مقابل جهودها في مسألة «إدماج» بلجيكا في هولندة.
وبعد موافقته على «المواد الثماني»، تسلم وليم أورانج زمام السلطة على رأس الحكومة المؤقتة في أول أغسطس ١٨١٤، وذلك إلى أن يتم في فينا تقرير الوضع النهائي للمملكة الجديدة ورسم حدودها، ولكن صادفت المؤتمر «في فينا» صعوبات كثيرة، ولم يكن المؤتمر قد وصل إلى قرار عندما وصلته الأنباء (في ٨ مارس ١٨١٥) بفرار نابليون من جزيرة إلبا، فاتخذ أمير أورانج لقب الملك، وأصدر باسم وليم الأول ملك الأراضي المنخفضة ودوق لكسمبورج نداء يدعو فيه رعاياه للاتحاد من أجل الدفاع عن وطنهم المشترك ضد الخطر الذي يتهدده، وقوبلت هذه الخطوة بالترحيب في هولندة وبلجيكا، ولم تتوانَ الدول في الاعتراف بالأمر الواقع، فاعترفت رسميًّا بالمملكة الجديدة في ٢٣ مايو ١٨١٥، وسنحت الفرصة لأن يقف الهولنديون والبلجيكيون صفًّا واحدًا في الدفاع عن الوطن، عندما غزت جيوش نابليون البلجيك في ١٥ يونيو، واشتركوا معًا وتحت قيادة الأمير أورانج ولي عهد المملكة الجديدة في المعارك التي دارت رحاها في كاتربرا، وواترلوا (١٧-١٨ يونيو)، وأصيب ولي العهد بجرح في واترلوا، وأبلى الهولنديون والبلجيكيون بلاءً حسنًا في الحرب، وتدعم الاتحاد بفضل الدماء التي بذلها المواطنون في الدفاع عن الوطن المشترك.
مصاعب الدولة الجديدة
ومع أن هذه المشاركة في الحرب، جعلت — ولا شك — الطريق ممهدًا بعض الشيء أمام وليم الأول لتسوية المشكلات التي سوف تنجم من عملية «الإدماج» بين الجنوب والشمال، فقد كانت الصعوبات التي صادفتها هذه المحاولة على درجة كبيرة من الخطورة، حينما كان أمرًا مفروغًا منه أن إدماج بلاد عدد أهلها ٣٤٠٠٠٠٠ نسمة (هي بلجيكا) في بلاد أخرى (هي هولندة) لا يزيد سكانها على ٢٠٠٠٠٠٠ نسمة، كمجرد «زيادة إقليمية» لها؛ سوف يثير الشك في نفوس البلجيكيين، والغضب من إجراء يعده هؤلاء — وهم يؤلفون مجتمعًا أكبر — إجراءً تعسفيًّا، ولم يكن هناك مناص من تذمر البلجيكيين حتى ولو كان يربط بينهم وبين الهولنديين روابط لغوية أو دينية، أو تقاليد سياسية ومصالح مادية مشتركة.
على أن مثل هذه الروابط لا وجود لها بتاتًا بين هولندة وبلجيكا، فالأراضي المنخفضة الشمالية؛ أي هولندة كانت تتمتع بالاستقلال الفعلي حوالي قرنين من الزمان، واستطاعت الأمة الهولندية خلالهما أن تسجل نشاطًا ملحوظًا في ميادين التجارة والتوسع الخارجي (الاستعماري) فيما وراء البحار، وتلعب دورًا مرموقًا في السياسة الأوروبية، في حين أن الولايات الجنوبية (بلجيكا) طوال هذه المدة لم يكن لها تاريخ خاص بها، فهي تارة من نصيب إسبانيا (معاهدة وستفاليا ١٦٤٨)، وأخرى من نصيب النمسا (معاهدة يوترخت ١٧١٣)؛ ليجعل منها الهابسبرج حاجزًا يحمي الولايات المتحدة الشمالية (أي هولندة) ضد أي هجوم فرنسي عليها، ثم تارة ثالثة تكون من نصيب فرنسا ذاتها (أيام الثورة ونابليون)، ومن شأن هذا كله أن يضع البلجيكي في نظر الهولندي في مرتبة أدنى.
زِدْ على ذلك أن النبلاء في الولايات الشمالية (هولندة) من مدة طويلة كانوا قد فقدوا كل سلطة سياسية، وأخذ رجال الدين البروتستنت يفقدون كذلك هذه السلطة رويدًا رويدًا، وذلك على خلاف ما كان عليه الحال في الولايات الجنوبية (بلجيكا)؛ حيث كان لرجال الدين نفوذ عظيم مارسوه في مهارة متزايدة، ثم إنه كان في وسعهم أن يعتمدوا على مؤازرة طبقة قوية من النبلاء الكنسيين لهم.
واعتمد أهل الولايات الشمالية (هولندة) في تنمية اقتصادهم، وجلب الرخاء لبلادهم على نشاطهم فحسب كأمة من التجار والملاحين؛ لأنهم يعيشون في أرض استنقذوا أكثرها من البحر بإقامة السدود الصناعية، ضعيفة التربة فقيرة الإنتاج، تكاد تنعدم منها المنتجات الطبيعية. واعتمد الهولنديون على الواردات من الخارج لإمدادهم بضروريات الحياة. أما البلجيكيون فلم يكن لهم قبل الاتحاد موانئ بحرية، ولكن بلادهم كانت غنية بأرضها الخصبة، وبمواردها المعدنية، وعاشوا في رخاء لاشتغالهم بالزراعة والصناعة، ولقد كان من المنتظر — ولا شك — أن يفيد البلجيكيون من الاتحاد الذي كان من أثر القواعد التي قام عليها فتح نهر الشلد للملاحة، وإحياء ميناء أنتورب (أنفرس) البلجيكي القديم، والذي يقع عند مصب هذا النهر، ثم إعطاء البلجيكيين حق التجارة والملاحة في المستعمرات الهولندية.
القانون الأساسي
على أن هذه الاختلافات لم تلبث أن صارت مبعث صعوبات عديدة، منذ صدور بيان الملك وليم الأول في ١٦ مارس ١٨١٥، والذي يعتبر أن الاتحاد بين الشمال والجنوب قد بدأ يتنفذ من وقت صدوره، ذلك أن الملك سرعان ما أَلَّف لجنة من اثني عشر عضوًا هولنديًّا، ومثل عددهم من البلجيكيين (في ٢٢ أبريل) لإدخال التعديلات التي ذكرت «المواد الثماني» ضرورة إدخالها على «القانون الأساسي» لهولندة الصادر في ٢٨ مارس ١٨١٤، والذي صار اعتماده للاتحاد أو الدولة الجديدة، وذلك «بناءً على رغبة البلدين المشتركة»، وحرص وليم الأول على أن يكون التمثيل في هذه اللجنة متساويًا بين الكاثوليك والبروتستنت، وأن يكون أعضاؤها من الذين حنكتهم التجارب، والذين يمثلون كذلك مختلف الاتجاهات والآراء السياسية.
ولم يجد أعضاء اللجنة مشقة في الوصول إلى اتفاق بصدد القواعد التي أسفر عنها النظام إلا فيما تعلق منها بمسألتين على درجة كبيرة من الأهمية؛ أولاهما: تساوي عدد الأعضاء الهولنديين والبلجيكيين في الغرفة الثانية من «مجلس الطبقات». وثانيتهما: ما أريد للمذاهب والعقائد الدينية من مساواة كاملة أمام القانون. وحول هاتين المسألتين حصل الاصطدام بين فريقي اللجنة من الهولنديين والبلجيكيين، وكان الاختلاف بينهما اختلافًا جوهريًّا، وكان مؤتمر لندن الذي صدر عنه بروتوكول المواد الثماني قد قرَّر مبدأ المساواة بين العقائد الدينية أمام القانون؛ فتصدى البلجيكيون (الآن) لمعارضة هذا المبدأ معارضة شديدة، ويلقون في موقفهم تأييد الطبقات المتسلطة من الكاثوليك؛ فلم تقبل اللجنة تقرير هذا المبدأ إلا بعد مشقة وعناء عظيم. على أن مسألة التمثيل المتساوي كانت أكثر مشقة وعناء من مسألة المساواة الدينية، واكتنفتها الصعاب من كل جانب، حتى إنه تعذر ابتداع حل مرضي لها من الناحية العملية؛ ذلك أن البلجيكيين تمسكوا بضرورة التمثيل النسبي، حسب تعداد السكان في الولايات الشمالية (هولندة) والجنوبية (بلجيكا)، فيكون للبلجيكيين — الذين يبلغ عددهم ثلاثة أخماس سكان المملكة بأسرها — الأكثرية في المجلس (أي الغرفة الثانية)، في حين تشبث الهولنديون بمبدأ المساواة العددية في التمثيل، كأقل ما يجب الأخذ به في هذه المسألة، بدعوى أن الولايات الشمالية من الأراضي المنخفضة، ظلت تؤلِّف مدة قرنين من الزمان دولة مستقلة ذات سيادة، وأن الولايات الجنوبية (بلجيكا) قد صدر قرار الدول الكبرى بإدماجها في كيان هذه الولايات الشمالية، باعتبار أنها «زيادة إقليمية» وأن لهولندة مستعمرات آهلة بالسكان، وذات موارد غنية فيما وراء البحار، وعبثًا حاول كل فريق الظفر باستعلاء نفوذه عن طريق الأكثرية العددية في «الغرفة الثانية»، وتعذر الوصول إلى حل لهذه المشكلة إلا بتقرير مبدأ المساواة.
حكومة وليم الأول
وفي الخمس عشرة سنة التالية التي حكم فيها وليم الأول الأراضي المنخفضة، مملكة واحدة متحدة، تتابعت الحوادث التي أظهرت بوضوح أن هذا الاتحاد (أو الاندماج) كان تجربة فاشلة؛ وذلك بسبب الاختلاف العميق بين أهداف كل من الشعبين الهولندي والبلجيكي ومصالحهما المادية، مما جعل الاتحاد مقضيًّا عليه عاجلًا أو آجلًا. فانفصل البلجيكيون وخرجوا على الاتحاد عندما قاموا بالثورة في سنة ١٨٣٠، وأنشئت بلجيكا دولة مستقلة في السنة التالية، واضطر وليم الأول الذي صار ملكًا لهولندة فقط عند اعتراف الدول باستقلالها — بلجيكا (في ١٨٣١) — إلى الاعتراف هو الآخر باستقلالها بعد ذلك بثماني سنوات (١٨٣٩)، ثم إنه لم يلبث أن تنازل عن العرش في سنة ١٨٤٠.
إلا أنه قبل الكلام عن العوامل التي أدت إلى قيام الثورة في سنة ١٨٣٠ وقضت على الاتحاد (أو الاندماج)، يجب تقرير أن هذه السنوات الخمس عشرة من وقت إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة إلى وقت انفصال بلجيكا وتحطيم الاتحاد، كانت سنوات انتعاش ورخاء بالنسبة لبلجيكا في ظل حكومة الملك وليم الأول.
وتلك كانت منافع مادية، لا شك في أنها كانت تستميل الولايات الجنوبية إلى التمسك بالاتحاد وتأييده لو أن الحكومة القائمة بالأمر اتبعت سياسة حكيمة تستهدف المسالمة، وتعمل على كسر حدة الاحتكاكات التي لم يكن هناك مفر من حدوثها في نظام يراد تطبيقه لإدماج شعبين إدماجًا كليًّا بكل وسيلة، وبالرغم من الفوارق العميقة التي كانت تفصل بينهما؛ حتى إذا مضت فترة من الوقت كافية، قَلَّت هذه الاحتكاكات رويدًا رويدًا إلى أن ينتهي الأمر باعتراف كل فريق منهما بالمزايا الاقتصادية والسياسية التي تعود عليه من هذا الاتحاد أو الاندماج، في نظير تنازله عن بعض الحقوق التي له وتضحيته بها من أجل الصالح العام، ولكن الذي حدث كان على خلاف ذلك؛ لأن الملك وليم الأول اتبع سياسة كان محورها ترجيح مصالح الهولنديين — في نطاق الاتحاد — على كل ما عداها، والمحافظة على هذه المصالح وتأييدها.
وأما المسائل التي أثارت المتاعب، وتجمعت بسببها العوامل التي أدت إلى اشتعال الثورة، فكانت خمسًا: عدم المساواة السياسية والإدارية، الخلافات الدينية، اللغة، المالية، والصحافة.
ولقد سبق الحديث عن عدم المساواة السياسية والإدارية، عندما أشرنا إلى احتجاج المندوبين البلجيكيين في اللجنة التي عُهد إليها بتعديل القانون الأساسي (الهولندي)، على ما جاء في مادة الدستور التي جعلت عدد النواب البلجيكيين مساويًا لزملائهم الهولنديين في «الغرفة الثانية» أو المجلس الثاني في البرلمان، أو «مجلس طبقات» المملكة، بالرغم من أن تعداد البلجيكيين ٣٤٠٠٠٠٠ نسمة، في حين أن تعداد الهولنديين كان ٢٠٠٠٠٠٠ نسمة وحسب. فكان الذي حدث بعد إنشاء «الاتحاد» أو المملكة الجديدة ووضع هذا الدستور موضع التنفيذ أن جرى التصويت داخل «البرلمان» في المسائل التي اختلفت بشأنها مصالح الفريقين، من شماليين (هولنديين) وجنوبيين (بلجيكيين) على أساس قومي، وكثيرًا ما كان ينضم عدد من الأعضاء البلجيكيين مِمَّنْ يقومون بأعمال إدارية أو حكومية إلى جانب الهولنديين، لاعتمادهم في البقاء في وظائفهم على إرادة الحكومة، ففاز فريق الهولنديين بالأكثرية في المجلس في معظم الأحايين، وبهذه الطريقة تمكنت الحكومة من فرض ما أرادته من ضرائب كانت مبعث تذمر وسخط شديد بين البلجيكيين؛ من ذلك على وجه الخصوص فرض ضريبتين (في ٢١ يوليو ١٨٢١) بتصديق من «البرلمان» بأكثرية ٥٥ صوتًا، منها صوتان بلجيكيان، وذلك ضد ٥١ صوتًا (الأقلية البلجيكية)، ثم مثال آخر، هو ما حدث عند عرض الميزانية السنوية على البرلمان في سنة ١٨٢٧، فقد صدَّق عليها المجلس (٢٨ أبريل) بأكثرية تتألَّف من ٤٩ صوتًا هولنديًّا وأربعة أصوات بلجيكية. أضف إلى هذا أن القانون الأساسي كان قد نصَّ في مادته الثامنة والتسعين على أن يجتمع مجلس الطبقات (البرلمان) بالتناوب في مدينة شمالية وأخرى جنوبية، ولكن هذه المادة لم توضع موضع التنفيذ إطلاقًا، فبقيت الوزارات في لاهاي، وبقي في هولندة مقر المصالح والمؤسسات الإدارية والعسكرية الرئيسية.
أما الوزراء الذين بلغ عددهم سبعة في ١٨١٦، فكان واحد منهم فقط بلجيكيًّا، وفي سنة ١٨٣٠ كان لا يزال هناك ستة وزراء هولنديون من بين سبعة، ومن بين ٣٩ دبلوماسيًّا كان ثلاثون من الهولنديين، وفي مختلف الإدارات كان عدد الهولنديين في وزارة الداخلية ١١٧، والبلجيكيين ١١ فقط، وفي المالية ٥٩ هولنديًّا وخمسة فقط من البلجيكيين، وفي وزارة الحرب ١٠٢ هولندي و٣ بلجيكيون، وأما الذين شغلوا الوظائف الكبرى في المؤسسات والأسلحة الخاصة بالجيش فكان أكثرهم من الهولنديين، فمن بين ٤٣ ضابط أركان حرب، كان عدد البلجيكيين ثمانية، ومن بين ٤٣ من كبار ضباط المدفعية، وُجد ضابط بلجيكي واحد، ومن بين ٢٣ ضابطًا في سلاح المهندسين لم يكن هناك ضابط بلجيكي واحد، ويدخل تحت عدم المساواة السياسية والإدارية، جعل مقر محكمة الاستئناف في لاهاي بمقتضى أمر صدر في ٢١ يونيو ١٨٣٠، بالرغم من أن عدد قضايا البلجيكيين المستأنفة كان يفوق كثيرًا قضايا الهولنديين بنسبة خمس إلى واحدة، وكان هذا الإجراء من العوامل التي زادت من حدة التوتر والسخط قبيل انفجار الثورة.
أما أسقف غنت، فقد عزمت الحكومة على محاكمته في بروكسل، ولكنه رفض الحضور إلى بروكسل وطعن في صلاحية المحكمة التي عُرضت عليها مسألته، ولجأ إلى فرنسا؛ فأدانته هذه المحكمة بدعوى تحقيره لها وتمرده على أوامرها (٩ أكتوبر ١٨١٧) وحكمت بنفيه، ثم عمدت الحكومة إلى نشر صورة هذا الحكم بتعليقه في السوق العام في غنت بين مشهرين (والمشهر آلة خشبية يدخل فيها رأس المجرم) لاثنين من اللصوص، وكان هذا التشهير إجراء غير حكيم زاد من تعلق البلجيكيين به، كما لم يفد شيئًا، حينما ظل أسقف غنت يدير شئون أسقفيته من باريس بواسطة نائبه، ويطيع «المؤمنون» أوامره ونواهيه في رسائله لأبرشيته، وعندما قُدِّم نائبه للمحاكمة في سنة ١٨٢١، بَرَّأته المحكمة، وتدخل البابا بيوس السابع بنفوذه، وكان صاحب آراء معتدلة في صالح السلام، لمنع جماعة الكاثوليك المتطرفين من المضي في عنفهم.
ولكن سياسة الملك التعليمية، لم تلبث أن أدت إلى استئناف الاحتكاك في سنة ١٨٢٥، فقد نجم من توجيه عنايته للتعليم العالي إنشاء جامعة «لوفان»؛ وذلك منذ ١٨١٧ — كما عرفنا — فأراد الآن، تحدوه الرغبة نفسها في تقدم التعليم العالي ونهضته — أن يشترط على كل مرشح للكهنوت أن يدرس مدة سنتين بكلية الفلسفة التي أسسها في جامعة لوفان، وذلك قبل التحاقه بالمدرسة أو الكلية الأكليريكية (أو الكهنوتية)، واستصدر بذلك قرارًا في ١١ يوليو ١٨٢٥، ثم أردفه بقرار آخر (في ١١ أغسطس) حَرَّمَ فيه تلقي العلم في الجامعات الأجنبية، وعُوقب مَنْ يفعل ذلك بحرمانه من الالتحاق بالوظائف مدنية كانت أم دينية، وكان الغرض من هذا القرار الأخير: منع الذين يريدون الكهنوتية من تلقي العلم في كليات اليسوعيين (الجزويت) في الخارج.
وعارض «الحزب الكنسي» هذه الإجراءات معارضة شديدة داخل البرلمان، ولكن الحكومة لقيت أنصارًا من البلجيكيين «الأحرار» داخل المجلس، فأيَّدت هذه القرارات أكثرية كبيرة، بينما قدَّمت الحكومة للمحاكمة عددًا من الذين تطرفوا في معارضة الحكومة وإظهار نقمتهم عليها، وأراد الملك تهدئة النفوس الثائرة بمحاولة التفاهم مع الفاتيكان لعقد اتفاق«كونكردات» من نمط الاتفاق الذي أُبرم بين البابا وفرنسا (أيام نابليون)، وفي يونيو ١٨٢٧، أمكن إبرام «الكونكردات» المنشودة، ونصَّت المادة الثالثة منها على أن يكون عدد الأسقفيات في الأراضي المنخفضة جميعها ثمانية بدلًا من الأسقفيات التي كان عددها خمسًا فقط في بلجيكا، ووافق البابا على أن يكون للملك الحق في الاعتراض على أي مرشح لملء منصب الأسقفية لا يرضى عنه، ومن ناحية أخرى جُعلت الدراسة لمدة سنتين في «كلية الفلسفة» بجامعة لوفان أمرًا اختياريًّا، ولا جدال في أن هذه الاتفاقية — ولا سيما بسبب ما جاء بالمادة الثالثة منها — تُعَدُّ نصرًا ظاهرًا للملك، ولكن البابا عند إعلان إبرام الاتفاقية، أغفل الإشارة إلى تخليه للملك عن حق الاعتراض على تعيين المرشحين لمناصب الأسقفية، كما قال فيما يتعلق بدراسة المرشحين للكهنوت: إن تحديدها منوط الأساقفة الذين يخضعون لما يصدر من قرارات في هذا الشأن عن رومة. وحينئذٍ فقد عمدت الحكومة على الفور إلى إرسال التعليمات السرية لحكام الولايات (المقاطعات) لتأجيل تنفيذ الاتفاقية، وهكذا ذهبت هباءً جهود طيبة كان الغرض منها التهدئة وكسر حدة الاحتكاك بين الحكومة والكاثوليك البلجيكيين.
وفيما يتعلق باللغة كان حوالي الثلثين من أهل المقاطعات الجنوبية بالأراضي المنخفضة (أي بلجيكا) يتكلمون — كما عرفنا — لغة تختلف اختلافًا يسيرًا جدًّا عن اللغة الهولندية، وكان يريد الملك من أول الأمر تقوية ما أَسَمَاه «باللسان الوطني» وتعميم استخدامه، وأيَّده في هذه الرغبة أكثر سكان الولايات (أو المقاطعات) التي تتكلم الفلمنكية، ولكن الملك وجد عند تأسيس مملكة الأراضي المنخفضة أن الفرنسية كانت لغة التخاطب الرسمية في الولايات البلجيكية مدة السيطرة الفرنسية (أيام الثورة ونابليون)، بل وكانت قبل ذلك بمدة طويلة لغة الحكومة في كل شئونها، حتى إن أكثر أهل الطبقات الثرية في ولايات مثل فلاندرا وبرابانت صارت تجهل لسانها الوطني، وعلى ذلك فقد استصدر وليم الأول قرارًا في أكتوبر ١٨١٤، يجعل قانونيًّا استخدام الفرنسية والهولندية، ثم استصدر بعد خمس سنوات (١٥ سبتمبر ١٨١٩) قرارًا آخر يجعل معرفة اللغة الهولندية مؤهلًا لازمًا للالتحاق بالوظائف العامة جميعها، وأخيرًا صدر قرار في ٢٦ أكتوبر ١٨٢٢ باعتماد اللغة الهولندية لسان التخاطب الرسمي في الدولة، واعتبارها لغة البلاد الوطنية، وكان معنى ذلك فرض هذه اللغة الهولندية على البلجيكيين فرضًا، الأمر الذي جعل هؤلاء ينظرون إلى هذا الإجراء التعسفي كأحد مظاهر السيطرة الهولندية؛ مما أثار تذمر البلجيكيين وغضبهم الشديد منه، ولا سيما الوالون الذين كانت هذه اللغة الوطنية المزعومة بالنسبة لهم لسانًا أعجميًّا. كما عارض هذا القرار المحامون البلجيكيون عمومًا، وعظم السخط لدرجة أن الحكومة لم تلبث أن اضطرت في سنة ١٨٢٩ إلى التخفيف من حدة هذه القرارات شيئًا، ولكن هذه كانت خطوة جاءت متأخرة، فبقيت مشكلة اللغة من العوامل القوية التي أدت إلى قيام ثورة البلجيكيين ضد هولندة.
وكانت مسألة تسوية الدَّين العام ذات أثر بالغ في تحريك هذه الثورة لا يقل عن آثار العوامل السابقة، فقد عرفنا كيف أن المادة السادسة من بروتوكول الاتحاد — أو بروتوكول المواد الثماني — جعلت البلجيكيين يتحملون نصف مقدار الدَّين الذي كانت هولندة مدينة به قبل الاتحاد، وأما هذا الدَّين الذي استدانته الولايات الشمالية — أي هولندة — فكان يبلغ في سنة ١٨١٥ مليارين من الفلورينات (والفلورين عملة هولندية)، بينما بلغ دَين الأراضي المنخفضة النمسوية — أي بلجيكا — ٣٢ مليونًا فقط، وكانت هولندة قبل الاتحاد تعاني صعوبات مالية قاسية من أيام السيطرة الفرنسية. وفي سنة ١٨١٤ بلغ العجز في ميزانية هولندة ستة عشر مليونًا من الفلورينات، وفي سنة ١٨١٥، ارتفع إلى أربعين مليونًا بسبب حملة واترلو. وكان طبيعيًّا أن يتذمر البلجيكيون من إرغامهم على تحمل أعباء مالية (وديون) لم يكونوا هم مسئولين عنها ولا يد لهم فيها، وكان من المنتظر من ناحية أخرى أن يلقى البلجيكيون في فتح الأسواق الهولندية في المستعمرات الهولندية الغنية فيما وراء البحار ما يعوضهم عن هذه الأعباء المكروهة، ولكن حدث في سنة ١٨٢٥، أن قامت الثورة في «جاوه»، وكانت ثورة كبيرة كبدت الحكومة نفقات جسيمة، فصارت المستعمرات بابًا آخر من أبواب الإنفاق المتزايدة، بدلًا من أن تكون مصدر ربح يخفف من أعباء ميزانية الدولة. وأدى استمرار العجز في الميزانية إلى لجوء الحكومة لعقد القروض من ناحية ولزيادة الضرائب من ناحية أخرى، ولما كان القانون الأساسي قد قصر حق «البرلمان» على بحث الميزانية مرة كل عشر سنوات؛ فقد انحصرت كل سلطة في الهيمنة على مالية البلاد في يد الملك وحده، الذي عُدَّ لدرجة كبيرة مسئولًا عن الحالة السيئة التي وصلت إليها مالية الدولة.
المعارضة في بلجيكا
بدأ يشتد القلق ويقوى التذمر في بلجيكا في أواخر سنة ١٨٢٨ بدرجة تنبئ بتأزم الأمور، وتعرض «الاتحاد» أي المملكة الناشئة للخطر، واتخذ هذا القلق والتذمر شكل إهاجة الخواطر ضد الحكومة، على أساس المطالبة بالإصلاح وإزالة أسباب الشكوى، وأرسلت المجالس الإقليمية في هينولت، ولييج، ونامور عرائض تطلب فيها إلغاء ضريبتي القمح المطحون والحيوان المذبوح، ولما لم تلقَ هذه العرائض قبولًا حسنًا بدعوى أن مسألة الضرائب ليست مسألة إقليمية، وإنما يخص الأمة بأكملها، استبدلت بهذه العرائض الإقليمية عرائض عامة يشترك في تقديمها أهل البلاد من كل الطبقات؛ من نبلاء وكنسيين وتجار ومحامين وَصُنَّاع (في المدن) وفلاحين (في الريف)، فتسلمت «الغرفة الثانية» عرائض عديدة كان من بينها عريضة بلغ عدد الموقعين عليها سبعين ألفًا.
وأثارت هذه العرائض ثائرة الحكومة، بدلًا من استمالتها إلى إلغاء الضرائب المشكو منها أو إزالة أسباب التذمر، وعمد الملك إلى الطواف في البلاد البلجيكية، فزار موكبه الملكي خلال شهري مايو ويونيو ١٨٢٩ عددًا من المدن، ولما كان لا يزال يكن له الشعب احترامًا كبيرًا فقد قوبل بالترحيب في كل مكان، الأمر الذي جعله ينخدع بهذه المظاهر الشعبية ويعتقد أن بوسعه إخماد المعارضة، فألقى خطابًا في لييج أشار فيه إلى ما سَمَّاه «بالشكايات المزعومة» التي تضمنتها العرائض، ووصف مسلك المنظمين لهذه العرائض بأنه مسلك مدموغ بالعار والفضيحة، وكان انزلاق الملك في حملته على أصحاب العرائض عملًا بعيدًا عن الحكمة، ويدل على قصر النظر، وكان لعباراته هذه التي ذكرناها وقع أليم في النفوس. ولقد عَبَّرَ أهل فلندرا عن مشاعرهم باستعادة ذكرى حادث «الشحاذين» — وهو الوصف الذي أطلقه الإسبان على الثوار في الأراضي المنخفضة ضد حكمهم في سنة ١٥٦٦ — فهزئوا من هذا الوصف الذي وصف به الملك مسلكهم، وأنشئوا على سبيل السخرية بالحكومة «فريق العار والفضيحة»، وصنعوا له وسامًا منقوشًا عليه شعارهم «خلصاء وأوفياء لدرجة العار والفضيحة».
ولم تلبث أن ظهرت آثار موقف الملك، وعلى نحو ما كان متوقعًا، عندما عُرضت الميزانية على النواب في دورها العشري — وقد عرفنا أنها تُعرض بموجب الدستور مرة كل عشر سنوات على الغرفة الثانية — في آخر ديسمبر من السنة نفسها، فتعالت صيحة النواب البلجيكيين بمبدئهم الذي تمسكوا به الآن: «لا مال حتى يسبقه إزالة المظالم.» فرفض قسم الميزانية الخاص بالإيرادات بأكثرية ٥٥ صوتًا ضد ٥٢، ولو أن المجلس وافق على قسمها الخاص بالنفقات بأكثرية ٦١ صوتًا ضد ٤٦ صوتًا، واضطرت الحكومة لتقديم ميزانية جديدة للإيرادات، ولمدة سنة واحدة بدلًا من عشر سنوات، وبعد أن حذفت ضريبة القمح المطحون المكروهة، وعندئذٍ صودق على هذه الميزانية بالإجماع.
وغضب الملك من موقف المعارضة وفشل الحكومة غير المرتقب، وجعله الغضب يتخذ إجراءً غير حكيم؛ هو أنه استصدر مرسومًا ملكيًّا في ٨ يناير ١٨٣٠ يحرم به ستة من النواب الذين اقترعوا مع الأكثرية من وظائفهم ومرتباتهم. وكان الغضب قد بدأ يستبد بالملك لدرجة خطيرة، من جراء الحملات المستمرة العنيفة في الصحف البلجيكية ضد سياسة الحكومة، والتي كان غرض هذه الصحف منها؛ إهاجة الخواطر واستفزاز الشعور العام ضد الحكومة.
كلا يا مولاي! أنت لست سيد البلجيكيين كما يريدك الناس أن تعتقد ذلك، وإنما أنت الأول فقط بينهم، وأنت لست سيد الدولة، وإنما أنت تتخذ مكانك على رأسها بوصفك أعلى موظفيها درجة ورتبة.
ولم يكن من رغبتنا بتاتًا ممارسة حقوقنا (في الحكم) بصورة لا حدود لها، بل لقد حرصنا دائمًا وعن إرادة صادرة منا أنفسنا على أن نحد من سلطة هذه الحقوق (المطلقة) عند ممارستها.
الثورة
وهكذا انقضت الشهور الستة الأولى من عام ١٨٣٠، وشعور الشماليين (هولندة) والجنوبيين (بلجيكا) بأن محاولة إدماج الشعبين في مملكة واحدة قد أخفقت، لا يفتأ يتزايد، وأن أحدًا صار لا يريد في الحقيقة أن يتم هذا الاندماج، ومع ذلك فمما يجدر ذكره أن أحدًا في هذه المرحلة حتى من أشد المناوئين للهولنديين في بلجيكا لم يكن يفكر إطلاقًا في فصم عرا هذا الاتحاد. فشعور الولاء نحو الأسرة المالكة كان لا يزال قويًّا. فقد قطع البلجيكيون شوطًا كبيرًا في التقدم الصناعي، وانتعشت تجارتهم تحت رعاية الملك وليم الأول الشخصية، وعظم ولاء الطبقات المشتغلة في التجارة والصناعة، ومن الحرفيين، لآل أورانج في بعض المدن الكبيرة، خصوصًا أنتورب (أنفرس) وغنت. ولقد كان الهولنديون يحسدون البلجيكيين على الفوائد والمغانم التي جناها هؤلاء من انتعاش صناعتهم وتجارتهم، وانتشار الرخاء في الولايات الجنوبية، ونقموا على نظام الضرائب التي فُرضت لحماية الصناعة، رعاية لصالح البلجيكيين، وهم من الصُّنَّاع، في حين أن هذه الضرائب الجمركية كانت تعطل نشاط الهولنديين الذين اعتمدوا على تجارة النقل مع مستعمراتهم عبر البحار. ونظر أهل أمستردام وروتردام بعين الحسد للنمو والانتعاش الذي أدركته أنتورب، وعلى ذلك فقد كان متيسرًا اجتياز الأزمة، واسترضاء البلجيكيين إلى بقاء الاتحاد، لو أن مطالبهم قوبلت بشيء من التسامح، وأزيلت المظالم التي شكوا منها، فإن البلجيكيين لم يكونوا قطعًا يريدون — كما ذكرنا — فصم علاقاتهم مع الهولنديين في هذه المرحلة، بل إن كل الذي أرادوه أن تكون لهم إدارة منفصلة عن إدارة هولندة تحت تاج واحد؛ أي التمتع باستقلال إداري داخلي وحسب، فهم كانوا يعترفون بما أفادته البلاد من التقدم المادي الذي حصل في عهد وليم الأول، كما كانوا يعرفون عنه هو نفسه اهتمامه بتشجيع العلوم والفنون، وإنشاء المكتبات، وكانت أسرة أورانج على وجه العموم موضع محبة وتقدير طبقة البورجوازي الأحرار، الذين وإن كانت لهم مطالب من أجل إزالة المظالم التي اشتكوا منها، فقد كانوا في الوقت نفسه يشعرون بالولاء الصادق للأسرة المالكة.
وعلى كل حال فقد بدأ من جانب وليم الأول في ربيع ١٨٣٠، ما يدل على أنه قد بدأ يميل للتسامح والاستجابة — على الأقل — لقدر من المطالب التي ينادي البلجيكيون، وذلك عندما أصدر مراسيم ملكية في ٢٧ مايو و٤ يونيو (١٨٣٠) لتعديل القواعد الخاصة بالتعليم العام واستخدام اللغة الهولندية، في صالح البلجيكيين، إلا أنه سرعان ما ضاع أثر هذا الإجراء الذي جاء كذلك متأخرًا، عندما أصدر الملك قرارًا في ٢١ يونيو يجعل مركز محكمة الاستئناف العليا في لاهاي. أضف إلى هذا أن استبقاء «فان مانين» في وزارة العدل، و«ليبري باينانو» في رئاسة تحرير «لوناشونال» نهض دليلًا على أن الملك لم يكن ينوي حقيقة الاستجابة لضغط الرأي العام في بلجيكا.
ولكن تلك كانت أوقاتًا عصيبة، فالثورة لم تلبث أن اندلعت في باريس يوم ٢٨ يوليو ١٨٣٠، وأطاحت بعرش البربون في فرنسا، واهتاجت الخواطر في بروكسل، ولكن ثورة ما لم تقُم في بروكسل أو في غيرها من المدن البلجيكية، والسبب في هذا أن «الكنسيين» في بلجيكا لم يعطفوا على ثورة باريس التي قامت ضد شارل العاشر، وهو ملك كنسي (أو إكليريكي)، وعلى ذلك لم يترتب على هياج الخواطر في بروكسل قيام أية مظاهرات ثورية بها، بل بقيت العاصمة البلجيكية تحتفل احتفالًا يشبه الأعياد بمعرض للصناعات الوطنية، كان مقامًا بها وقتئذٍ، وزار الملك والأمراء المعرض زيارة سريعة، ولم يعكر شيء صفو هذه الزيارة، وكان في النية اختتام هذه الاحتفالات بعرض للألعاب النارية يوم ٢٣ أغسطس، يليه في اليوم التالي (٢٤ أغسطس) إيقاد الزينات احتفاء بعيد ميلاد الملك (التاسع والخمسين).
ولم يفلح ولي العهد في «مهمته» بعد أن أمضى أيامًا ثلاثة (١–٣ سبتمبر) في مباحثات مع «الثوار» في بروكسل. لقد كان ولي العهد نفسه شخصية محبوبة في العاصمة البلجيكية، ولم تكن حتى هذا الوقت قد قامت حركة ظاهرة من أجل تغيير الأسرة الحاكمة، ولكن ولي العهد لم يكن في وسعه إلا أن يعد بعرض رغبات البلجيكيين على الملك، ثم إنه أمر القوات العسكرية الملكية بمغادرة المدينة، وقد كان الغرض من هذا الجلاء إظهار روح المسالمة من جانب الحكومة، ولكن البلجيكيين الذين انتقل إلى أيديهم زمام السلطة لأول مرة في بروكسل، نظروا لهذا الإجراء كدليل على ضعف الحكومة التي عجزت عن مقاومة الثورة ضد سلطات الملك.
ولم يتخذ الملك أثناء هذه الحوادث المنذرة بكل الخطر، إجراءً حاسمًا لمجابهة الموقف، وكان في رأي كثيرين أن الملك لو أنه أعلن صراحة عزمه الصحيح على إزالة المظالم التي يشكو منها البلجيكيون، ووعد بإصدار العفو الشامل، لكان استطاع اجتياز الأزمة بسلام، ولكن الملك بدلًا من ذلك لم يلبث أن أعلن في خطابه عند اجتماع مجلس الطبقات (البرلمان) في لاهاي، تصميمه القوي على المحافظة على الأمن والنظام، وعدم التسليم بشيء تحت ضغط الشغب والعصيان الحزبي، الأمر الذي زاد من غضب الجماهير ونقمتهم على الملك في بروكسل، حتى إنهم أحرقوا علنًا في شوارعها كل النسخ التي وصلت إلى أيديهم من خطابه. أما الملك فقد عرض على «البرلمان» مسألتين لبحثهما: هل دلت التجربة على أن هناك ما يدعو لإدخال تعديل على النقابات الأهلية؟ وهل يجب تغيير العلاقات القائمة بين جزأي المملكة حاليًّا؟ فكان جواب «الغرفة الثانية» — مجلس النواب — على هذين السؤالين بالإيجاب بأكثرية ٥٠ صوتًا ضد ٤٤، و٥٥ صوتًا ضد ٤٣، وذلك في ٢٩ سبتمبر.
ودخل الأمير فردريك بجيشه إلى أنتورب (أنفرس) يوم ٢ أكتوبر، ولكن لم يمضِ أكثر من أسبوعين حتى كانت كل البلدان الأخرى في بلجيكا قد انحازت إلى تأييد قضية الوطن، واضطرت الحاميات بها بعد انضمام الفرق البلجيكية إلى مواطنيهم، إلى الانسحاب منها. وفي يوم ٤ أكتوبر أعلنت الحكومة المؤقتة في بروكسل، أن الولايات البلجيكية قد تأسست دولة مستقلة، ثم وجهت الدعوة لانعقاد مؤتمر وطني.
واجتمع المؤتمر الوطني في بروكسل يوم ١٠ نوفمبر، وكان عدد أعضائه مائتين، انتخبهم المواطنون البلجيكيون الذين فوق سن الخامسة والعشرين. وفي ١٨ نوفمبر أعلن هذا المؤتمر بالإجماع استقلال بلجيكا، ولقد اختلفت الآراء حول نوع الحكم في الدولة الجديدة، ولكن الأكثرية كانت للملكيين في المؤتمر، فتقرَّر في ٢٢ نوفمبر أن تكون الملكية هي طراز الدولة البلجيكية، ثم تقرَّر بعد يومين إقصاء بيت أورانج نساو، ومنعه من اعتلاء عرش بلجيكا (٢٤ نوفمبر)، وهكذا اتسم المؤتمر الوطني بطابع الاعتدال، فلم يرضَ الديمقراطيون المتطرفون (الجمهوريون وعددهم ثلاثة عشر في المجلس) بزعامة «لويس دي بوتر» عن فشل الآراء الجمهورية، وتأسيس النظام الملكي، فاستقال لويس دي بوتر من الحكومة المؤقتة، وغادر الوطن إلى فرنسا مرة أخرى، وانكب المؤتمر على وضع دستور للبلاد استغرق إعداده بضعة شهور، وعند الفراغ منه صدر «القانون الأساسي» الجديد في ٧ فبراير ١٨٣١، وبمقتضاه وُضعت السلطة التنفيذية في يد ملك وراثي، يحكم بطريق وزراء يصدر عنه تعيينهم، وإنما يكونون مسئولين أمام هيئة تشريعية من مجلسين، ثم كفل الدستور استقلال القضاء وحرية الصحافة والعبادة والتعليم والاجتماع، وحق تقديم العرائض — ولقد كان المؤتمر يرغب في الحقيقة في إقامة ملكية دستورية، وذات أنظمة برلمانية، من نمط تلك المعمول بها في إنجلترة.
استقلال بلجيكا
على أنه في الوقت الذي كان المؤتمر الوطني منشغلًا فيه باتخاذ الإجراءات لإعلان استقلال بلجيكا وإنشاء الدولة الجديدة، انتقلت المسألة البلجيكية من مسألة داخلية «محلية» بين الهولنديين والبلجيكيين، إلى بساط البحث الدولي كمسألة «أوروبية» تثير اهتمام الدول، ومن واجب «الاتحاد الأوروبي» أن يعنى بها، والسبب في ذلك أن الاتحاد بين هولندة وبلجيكا كان من الموضوعات التي عالجها السياسيون في مؤتمر فينا، وكان وجود مملكة الأراضي المنخفضة نفسه نتيجة لاتفاق كلمة الدول: النمسا، وبريطانيا، وبروسيا، وروسيا في سنة ١٨١٤، على إقامة دولة حاجزة تقف في وجه الأطماع الفرنسية؛ والدول لذلك من حقها النظر في كل ما يطرأ على هذا الترتيب الإقليمي من تغييرات قد تؤدي إلى زوال الغرض الذي كان في الأصل مرجوًّا منه، وتلك حقيقة لم يفُت الملك وليم الأول إدراكها، فهو منذ ٥ أكتوبر ١٨٣٠ كان قد أبلغ الدولة الموقعة على بروتوكول المواد الثماني في لندن، بحقيقة الحال في الولايات البلجيكية، وطلب إلى الدول معاونته بقواتها المسلحة في إعادة النظام والهدوء إليها.
ولكن الموقف في أوروبا في سنة ١٨٣٠ كان مغايرًا لما كان عليه في سنة ١٨١٤، فإن وليم الأول كان يريد استرجاع سلطانه المفقود في بلجيكا عن طريق تدخل مسلح من جانب الدول، وأن يستند في حكومة «مملكة الأراضي المنخفضة» بعد إعادة «الاتحاد» بالقهر والقوة، على ما هو بمثابة الانتداب من دول أوروبا، ولكن التدخل الأوروبي لم يحقق شيئًا مما كان يريده الملك الهولندي؛ بل إن الاتحاد الأوروبي، بتناوله المسألة البلجيكية، لم يلبث أن اتخذ من القرارات ما كفل في النهاية نجاح الثورة، واعترف لبلجيكا باستقلالها.
فقد شاهدنا عند الكلام عن عهد المؤتمرات في أوروبا كيف أن إنجلترة وفرنسا قد وصلتا إلى تفاهم بشأن العمل المتحد فيما بينهما لتأمين السلام في أوروبا، ولقد كانت فرنسا تبدي عطفًا ظاهرًا على قضية البلجيكيين، ولكن سرعان ما امتنع لويس فيليب عن التدخل منفردًا في المسألة البلجيكية بالرغم من إلحاح البلجيكيين عليه أن يفعل؛ بل إنه طلب من سفيره في لندن (تاليران) أن يعمل بالاتحاد مع الحكومة الإنجليزية في هذه المسألة، وكانت إنجلترة كذلك تعطف على قضية البلجيكيين، ولكن بشريطة أن لا يترتب على هذا العطف إهمال الحيطة والحذر من ناحية التوسع الفرنسي، فكان من رأي الحكومة الإنجليزية «وزارة ولنجتون» أن تحل المسألة البلجيكية على أساس إعطاء بلجيكا «حريات دستورية» ما دام ترتيب ذلك ممكنًا (بشكل قانوني ومتفق مع مصالح أوروبا)، وحينئذٍ تقدمت الدولتان إنجلترة وفرنسا باقتراح باجتماع ممثلي الدول الخمس التي تألَّف منها الاتحاد الأوروبي منذ انضمام فرنسا إلى النمسا وبروسيا وروسيا وبريطانيا، في مؤتمر ينعقد في لندن لبحث المسألة البلجيكية الهولندية، وكانت روسيا (وقيصرها نيقولا الأول) تريد التدخل المسلح، وخشيت النمسا (ووزيرها مترنخ) — كما خشيت روسيا — شيطان الثورة، ولكن مترنخ والقيصر كانا يشعران كذلك بجسامة الأخطاء المتوقعة من حرب أوروبية عامة قد يتسبب التدخل المسلح في إشعالها، فتنازلت روسيا عن فكرة التدخل المسلح أمام تصميم الدولتين الغربيتين (فرنسا وإنجلترة) على حسم الخلاف بالطرق السلمية، وزيادة على ذلك فإن روسيا والنمسا لم تلبث أن شغلتهما (منذ آخر نوفمبر) الثورة المندلعة في بولندة عن كل رغبة في تدخل مسلح في أي مكان آخر (الأراضي المنخفضة)، وكانت بروسيا مستعدة كذلك لمؤازرة وليم الأول بقوة السلاح، لما كان هناك من وشائج قوية تربط بين الملك الهولندي والبيت المالك في بروسيا، ولكنها لم تستطع فعل شيء أمام تصميم إنجلترة وفرنسا الذي أشرنا إليه.
وعلى ذلك فقد انعقد مؤتمر من ممثلي الدول الخمس التي ذكرناها في لندن يوم ٤ نوفمبر، ووافق هؤلاء على اقتراح بعدم التدخل «المسلح» تقدَّم به تاليران، وقرَّر المؤتمر بعد توسطه بنجاح بين هولندة وبلجيكا، عقد هدنة بين الطرفين، من شرائطها انسحاب العسكر الهولندي إلى ما وراء الحدود البلجيكية الهولندية، وذلك ريثما يتم البت في مصير العلاقات بين بلجيكا وهولندة.
ولقد كان بعد مضي أقل من أسبوع من صدور قرار بالهدنة أن اجتمع في بروكسل المؤتمر الوطني، الذي ذكرنا أنه أعلن استقلال بلجيكا في ١٨ نوفمبر، ثم قرَّر الملكية نظامًا للدولة الجديدة في ٢٤ نوفمبر، ولا جدال في أن من الأسباب الرئيسية كذلك للإقلاع عن فكرة «التدخل المسلح» في المسألة البلجيكية نهائيًّا، كان إعلان النظام الملكي في بلجيكا، الأمر الذي جعل الدول تطمئن إلى أن الآراء الجمهورية قد باء أصحابها بالفشل في هذه الدولة التي يُراد الاعتراف بمولدها.
وعلى ذلك؛ فقد قرَّر مؤتمر لندن في بروتوكول بتاريخ ٢٠ ديسمبر ١٨٣٠، الموافقة على مبدأ استقلال بلجيكا وانحلال مملكة الأراضي المنخفضة وانتهائها، لاستحالة«الاتحاد» بين بلجيكا وهولندة، ثم طلب إلى الحكومة البلجيكية المؤقتة أن ترسل مندوبيها إلى لندن حتى يمكن تسوية المسألة البلجيكية في نطاق المعاهدات الأوروبية. فكان بروتوكول ٢٠ ديسمبر ١٨٣٠ بمثابة اعتراف من جانب أوروبا باستقلال بلجيكا، وصار ممكنًا القول بأنه قد تأسست نهائيًّا بفضل هذا البروتوكول مملكة بلجيكا المستقلة.
ولقد تبع هذه الخطوة المبدئية الاتفاق على بروتوكولين آخرين في ٢٠، ٢٧ يناير ١٨٣١؛ فاشتمل الأول (بتاريخ ٢٠ يناير) على الشروط التي بمقتضاها يجري فصل بلجيكا من هولندة، فأُعيد لهولندة خط الحدود الذي كان لها في سنة ١٧٩٠، في حين تأسست من بقية الأراضي المنخفضة — فيما عدا غراندوقية لكسمبرج التي أُعطيت لبيت نساو الحاكم في هولندة — دولة بلجيكا الحديثة، والتي ضمنت الدول في هذا البروتوكول كذلك حيادها بصورة مستديمة أو أبدية. أما البروتوكول الثاني (بتاريخ ٢٧ يناير) فقد سويت بفضله مشكلة الديون المشتركة بين هولندة وبلجيكا بأن تتحمل بلجيكا ستة عشر جزءًا من واحد وثلاثين جزءًا منه، وأعلن المؤتمر عدم الاعتراف بأي مَلِك لبلجيكا إلا إذا وافق على ما جاء في هذين البروتوكولين من شرائط، وكان على العموم مقبولًا من الدول.
ولقد كانت هذه نتيجة طيبة ولا شك، يرضى بها لويس فيليب، الذي سرَّه انهزام ممثل التقاليد البونابرتية، ولكنه ما كان ليوافق في الوقت نفسه على قبول التاج لولده، فهو إنما كان يتبع في المسألة البلجيكية سياسة تقوم على العمل المتحد مع إنجلترة، ويؤثر أن يسود السلام أوروبا وبالنسبة لفرنسا خصوصًا، ومن أجل استقلال ملكية الأورليان، على كل اعتبار آخر؛ وكان لويس فيليب قد حَذَّرَ لذلك البلجيكيين من قبل أنه لن يستطيع تعريض تفاهمه مع إنجلترة للخطر، وإثارة المشاكل في أوروبا بالموافقة على ترشيح نيمور لعرش بلجيكا، وعلى ذلك فقد أعلن لويس فيليب رفض التاج البلجيكي، ولم يكن هناك مفر من أن يعقل الملك الفرنسي ذلك، إلا إذا كان قد صح عزمه على تنصيب ولده على عرش بلجيكا، وإنشاء أسرة حاكمة أورليانية في هذه البلاد بالقوة المسلحة. ذلك أن مؤتمر لندن سرعان ما أظهر (في ٧ فبراير) أنه لن يستطيع الاعتراف بالدوق دي نيمور ملكًا على بلجيكا.
وبعد مباحثات شاقة نجح الوفد في مهمته المزدوجة؛ ففيما يتعلَّق بمسألة العرش البلجيكي؛ أعلن المؤتمر الوطني اختيار ليوبولد ملكًا على بلجيكا بأكثرية ١٥٢ صوتًا ضد ٤٣، وذلك يوم ٤ يونيو ١٨٣١، وفيما يتعلق بالمسألة الثانية؛ أسفرت جهود الملك الجديد والقومسيريين الأربعة عن إبرام مقدمات الصلح بين هولندة وبلجيكا فيما يُعرف باسم «المواد الثماني عشرة» في ٢٤ يونيو، للاستعاضة بها عن بروتوكولي ٢٠ و٢٧ يناير. وفي المواد الثماني عشرة هذه؛ ظفر البلجيكيون بأهم مطالبهم عندما تقرَّر أن يُعاد البحث في مسألة الحدود المتعلِّقة بلكسمبورج ومايسترخت؛ لتكون موضع مفاوضات منفصلة، وأن يكون نصيب بلجيكا من الديون، هو مقدار الدَّين الذي كان عليها فعلًا عند حدوث الاتحاد، وعلى أن تتحمل إلى جانب ذلك جزءًا من الديون التي جدَّت بعد سنة ١٨١٥. وفي ٢٦ يونيو وَقَّعَ مندوبو الدول الخمس في لندن؛ إنجلترة، فرنسا، روسيا، بروسيا، النمسا، على «معاهدة المواد الثماني عشرة»، وقد تضمَّنت هذه المعاهدة إلى جانب ما تقدم، الاعتراف بحياد بلجيكا «المادة التاسعة». وفي ٩ يوليو ١٨٣١ بعد مناقشات عاصفة، صَدَّقَ المؤتمر الوطني في بروكسل على هذه المعاهدة بأكثرية ١٢٦ صوتًا ضد سبعين صوتًا، ولم يكن المؤتمر الوطني يريد الموافقة على مبدأ حياد بلجيكا، ولم يقبله إلا مرغمًا. أما الملك الجديد فقد وصل إلى مملكته يوم ١٧ يوليو، وقوبل في كل مكان بحماس شديد، وفي ٢١ يوليو حلف ليوبولد الأول يمين الولاء للدستور في احتفال رسمي في بروكسل (في القصر الملكي) بحضور الوصي على العرش والوزراء وحشود من الشعب، وسط مظاهر الابتهاج لنجاح الحركة الوطنية.
على أن البلجيكيين وسط هذه الابتهاجات، أغفلوا احتمال أن الملك الهولندي قد يرفض التنازل عن الأراضي التي يريدها البلجيكيون في لكسمبورج ومايسترخت، واعتمد هؤلاء على أنهم — وعلى نحو ما أعلن ليوبولد أنه فاعل — سوف يرغمون هولندة إرغامًا وبطريق الحرب إذا لزم الأمر، على التخلي عن لكسمبورج ومايسترخت، ولكن وليم الأول الذي كان واضحًا أنه لن يرضى بالتسليم بسهولة، كان قد حشد جيشًا قويًّا على الحدود، ومنذ ١٢ يونيو أبدى استياءه من أن تتراجع الدول بهذه الصورة عن تصريحها الرسمي (في ١٧ أبريل سنة ١٨٣١) بأن بروتوكولي ٢٠ و٢٧ يناير الذَين تضمنا قواعد الصلح بين هولندة وبلجيكا لا يمكن نقضهما وإبطالهما، وأعلن أنه يعتبر عدوًّا لبلاده أي امرئ يقبل التاج البلجيكي على غير الشروط التي كفلها بروتوكولا ٢٠ و٢٧ يناير.
وحذَّرت الدول (في ٢٥ يوليو) الملك وليم ضد استئناف العمليات العسكرية والحرب مع بلجيكا، ولكن الملك والشعب الهولندي معًا كانا لا يزالان يشعران بالمهانة التي لحقت بهما في نظر أوروبا؛ بسبب نجاح الثورة البلجيكية في سهولة في شهري سبتمبر وأكتوبر من العام السابق (١٨٣٠)، وقرَّر الملك متحديًا في جرأة تحذير الدول له، إقامة الدليل على أن هولندة في وسعها منفردة ودون أية مساعدة خارجية لها، الذود عن حقوقها وعن سلامة أراضيها، واندفع الشعب الهولندي وراء مليكه يريد الاقتصاص من البلجيكيين على ثورتهم، وتلقينهم درسًا قاسيًا لن ينسوه أبدًا.
وحينئذٍ أمكن بفضل وساطة الإنجليز إبرام الهدنة، وحصل الاتفاق على أن يخلي أمير أورانج (ولي العهد) الأراضي البلجيكية، فاجتاز الهولنديون الحدود عائدين هذه المرة إلى بلادهم (في ٢٠ أغسطس)، وأسرع الفرنسيون — بدورهم — بالانسحاب بقواتهم من بلجيكا، واجتمع المؤتمر في لندن ثانية للنظر في المسألة.
وهدد ليوبولد بالاستقالة إذا رفض المؤتمر الوطني قبول معاهدة الانفصال الجديدة، فوافق المؤتمر بالتصديق على المواد الأربع والعشرين في مجلس النواب بأكثرية ٥٩ ضد ٣٨ صوتًا، وفي مجلس الشيوخ بأكثرية ٣٥ ضد ثمانية أصوات، وعندئذٍ تم التوقيع على المعاهدة في لندن يوم ١٥ نوفمبر ١٨٣١، وبذلك اعترفت الدول نهائيًّا ببلجيكا دولة مستقلة ذات سيادة، وضمنت للدولة الجديدة استقلالها.
وتحدثت مقدمة المعاهدة عن الحوادث التي وقعت في شهر سبتمبر ١٨٣٠؛ أي الثورة التي أفضت إلى ضرورة تعديل التسوية التي وُضعت في سنة ١٨١٥ من أجل المحافظة على السلام في أوروبا، ورسمت المادة الأولى الحدود البلجيكية، بالصورة التي جاءت في بروتوكول ١٥ أكتوبر، فبقيت في حوزة هولندة مقاطعاتها التاريخية القديمة، وقلعة مايسترخت، ثم قسمت بين الدولتين كل من ليمبورج ولكسمبورج، وحصلت هولندة على الجزء الأصغر من لكسمبورج (ثلث مساحتها فقط)، بما في ذلك مدينة لكسمبورج ذاتها، على أن تكون للملك الهولندي السيادة عليها بوصفه غراندوقا لها فقط، وأما مصب نهر الشلدت بضفتيه فقد بقي في حوزة هولندة، كما أن هذا النهر (المادة التاسعة) قد فُتح للملاحة الحرَّة وفق المبادئ التي قرَّرها مؤتمر فينا بشأن الملاحة النهرية، وبمقتضى المادة الثالثة عشرة وُزِّعت الديون العامة القديمة بصورة جعلت نصيب بلجيكا منها ستة عشر جزءًا من واحد وثلاثين (وقد أُنقص هذا القدر إلى الثلث تقريبًا بعد ذلك في سنة ١٨٣٩)، ونصَّت المادة الخامسة عشرة على أن يكون ميناء أنتورب (أنفرس) ميناءً تجاريًّا فقط، وامتنع تحصينها. ثم إن المعاهدة اعترفت بحياد بلجيكا الدائم (المادة السابعة)، ومما تجدر ملاحظته أن حكومة بروسيا هي التي أَيَّدت أن تكون بلجيكا دولة محايدة من طراز الحياد السويسري.
ولقد صدَّقت كل من إنجلترة وفرنسا على هذه المعاهدة في ٣١ يناير ١٨٣٢، وصدَّقت عليها كل من النمسا وبروسيا في ١٨ أبريل، ثم جاء أخيرًا تصديق روسيا عليها في ٤ مايو ١٨٣٢.
إلا أن إبرام الدول لمعاهدة لندن (١٥ نوفمبر ١٨٣١) وتصديقها عليها، لم يكن معناه أن الدول قد وصلت إلى تسوية نهائية مع هولندة، فقد تقدَّم كيف أن وليم الأول قد رفض (منذ ١٢ يوليو) وقبل «حرب الأيام العشرة» بروتوكول الثماني عشرة مادة، ولم يكن منتظرًا وقد كان النصر حليفه في هذه الحرب الأخيرة أن يبدو أقل تصميمًا وتعنتًا؛ بل إن الأمل كان يحدوه لتوقع الحصول على شروط أفضل من تلك التي تضمنتها معاهدة لندن، فرفض التوقيع على «الأربع والعشرين مادة»، ورفض إخلاء أنتورب (أنفرس) — على مصب الشلدت — وكانت جيوشه لا تزال تحتلها، أو إخلاء أي مكان آخر لا يزال في حوزته فعلًا، وإن كانت تدخل — حسب المعاهدة — ضمن الأراضي البلجيكية.
وخلال خمس سنوات لم تُتخذ خطوات ما لتغيير الوضع الراهن، أو لتحويل وفاق لندن (٢١ مايو ١٨٣٣) إلى معاهدة نهائية، وحاول الملك الهولندي استمالة الحكومة الإنجليزية «بلمر ستون» لاستئناف المفاوضة ولكن دون طائل (أكتوبر ١٨٣٦)، وصار بمضي الزمن ينظر أهل لكسمبورج وليمبورج إلى انضمام إقليمهم إلى بلجيكا كأنما قد أصبح أمرًا مفروغًا منه، وساد الاعتقاد في بروكسل أن الأمر كان كذلك فعلًا، ولم يعد يزعج المملكة الجديدة أن معاهدة نهائية لمَّا تُبرم بعد مع هولندة.
ولكنَّ الهولنديين — على خلاف الحال في بلجيكا — كان يزعجهم أن يشهدوا بلجيكا وقد أخذ يزداد رخاؤها سنة بعد أخرى، وأن تبقى في حوزتها أقاليم وافقت الدول على إعطائها لهولندة (في ليمبورج ولكسمبورج)، وأن تزداد أعباؤهم المالية، وأن تُثقل الضرائب كاهلهم بسبب الجيش الذي اضطروا إلى تهيئته على قدم الاستعداد دائمًا لمواجهة الطوارئ، وأخيرًا فإن الملك نفسه لم يلبث أن رأى عدم جدوى الاستمرار في تعنته للأسباب نفسها التي ذكرناها، ولأنه صار يرى كذلك من الأفضل لصالحه عدم استئناف المفاوضة على الأسس التي قامت عليها في سنة ١٨٣٣ (والتي تضمنها وفاق لند المبرم في ٢١ مايو من هذه السنة)، والعودة إلى بروتوكول ١٥ أكتوبر ١٨٣١ بمواده الأربع والعشرين، كأساس للمفاوضة الجديدة، الأمر الذي يكفل إنهاء «الوضع الراهن» الذي كان قرَّره وفاق لندن، ويجعل ممكنًا استخلاص ليمبورج ولكسمبورج من قبضة بلجيكا.
وأثار اتخاذ هذه الخطوة من جانب الملك الهولندي — وعلى نحو ما كان متوقعًا — بلبلة في الأفكار كبيرة في بلجيكا، فقد حزَّ في نفوس البلجيكيين أن يُطلب إليهم وبعد مضي سبع سنوات التنازل عن أقاليم في حوزتهم لهولندة، كانوا قد أُرغموا على وجوب التخلي عنها إرغامًا بسبب هزيمتهم في الحرب (في سنة ١٨٣١)، وغضب البلجيكيون غضبًا شديدًا، وراح سياسيوهم يبذلون قصارى جهدهم مع الدول ذات الشأن للوصول إلى شرائط أوفق لمصالحهم، باعتبار أن الملك الهولندي كان رفض التوقيع على معاهدة الانفصال (والمواد الأربع والعشرين) في سنة ١٨٣١، وأنه قد اشترك بعد ذلك في المفاوضات التي أُجريت في عام ١٨٣٣ وأسفرت عن «وفاق لندن» في شهر مايو من هذه السنة، وكلاهما أمران يترتب عليهما إلغاء معاهدة الانفصال واعتبارها كأن لم تكن.
وأصرَّ مؤتمر لندن على ضرورة تنفيذ معاهدة الانفصال في القسم الخاص منها بالتسوية الإقليمية، فلم تفِد محاولات البلجيكيين في تعديل بنود هذه المعاهدة إلا في موضع واحد فقط؛ هو إنقاص نصيب هؤلاء من الديون التي كان عليهم سدادها بموجب هذه المعاهدة.
وفي ١٩ أبريل ١٨٣٩ وقَّعت هولندة معاهدة مع الدول الخمس «في لندن» إنجلترة وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا، حلَّت محل معاهدة لندن القديمة المبرمة في ١٥نوفمبر ١٨٣١، والتي لم تكن هولندة مشتركة في التوقيع عليها؛ فاعترفت هولندة رسميًّا الآن بانحلال الاتحاد مع بلجيكا (المادة الثالثة)، وفي ملحق لهذه المعاهدة من أربع وعشرين مادة رُسمت الحدود بين بلجيكا وهولندة، ووُضعت تسوية لمسألة الديون، ونُظمت شئون الملاحة في نهري الشلدت والموز، وتقرَّر حياد بلجيكا الذي وُضع بفضل ما جاء في صلب المعاهدة وفي ملحقها تحت ضمان الدول الخمس، وفي اليوم نفسه أُبرمت معاهدتان أخريان؛ إحداهما مترتبة على المعاهدة السابقة، وبين بلجيكا وهولندة لتقرير صلات الود والسلام بينهما، والأخرى بين الدول الخمس وحدها لتأكيد ضمان حياد بلجيكا مرة ثانية. ثم إن بلجيكا وهولندة أبرمتا معاهدة لتأكيد صلات الود والصداقة على أسس دائمة، وذلك في لاهاي في ٥ نوفمبر ١٨٤٢.
ولقد بقيت معاهدة ١٩ أبريل ١٨٣٩ الوثيقة الدولية التي صار يستند عليها الوضع في بلجيكا في كل السنوات التالية، إلى أن أُلغيت بمقتضى المادة الواحدة والثلاثين من معاهدة الصلح في فرساي في ٢٨ يونيو ١٩١٩.
الأراضي المنخفضة بعد الانفصال
وشمل تشجيع وليم الثاني غزو المبادئ الحرة الكنيسة، وكان القائمون على هذه الحركة جماعة من رجال الدين الذين أرادوا مقاومة التَّزمت الصارم الذي عُرفت به العقيدة الكلفينية، وبدءوا من سنة ١٨٣٤ ينفصلون علنًا عن الكنيسة الكلفينية (الرسمية)، ولم تفِد اضطهادات الحكومة شيئًا في وقف هذه الحركة، بل تزايد نجاح «الانفصاليين»، ولم يلبث وليم الثاني أن وافق على الترتيبات التي أجازت لهؤلاء الانفصاليين أن يؤسسوا كنيسة معترفًا بها وذات كيان خاص بها.
وساد التذمر بسبب موقف الملك من مطالب البلاد الدستورية، وتزايد هذا التذمر وسط الطبقات العاملة؛ بسبب انتشار وباء أصاب محصول البطاطس، غذاء الطبقات الفقيرة الرئيسي، وقد ظل هذا المرض يفتك بالمحصول خلال سنوات ١٨٤٥–١٨٤٧؛ حتى وجد أهل هذه الطبقات أنهم صاروا محرومين من أهم عنصر غذائهم، في حين ارتفعت أسعار المأكولات؛ فقامت الاضطرابات والمظاهرات الصاخبة والالتحامات في كل مكان، وعمدت الحكومة إلى استخدام القوات العسكرية لإخماد هذه الاضطرابات، ولقد كانت هذه القلاقل مع ذلك مظهرًا من مظاهر رد الفعل العام الذي حدث من مدة طويلة ضد مبدأ الأوتقراطية الذي قامت عليه الحكومة، والذي ظل يقوى شيئًا فشيئًا، ويتزايد خلال كل السنوات السابقة، حتى بلغ ذروته في سنة ١٨٤٨.
وبفضل التعديلات التي أُدخلت على الدستور وصدر بها القانون الأساسي الجديد، أُنقصت سلطات الملك، بينما زيدت حقوق البرلمان وسلطاته زيادة كبيرة، فلم يعد الملك هو الذي يعين أعضاء «المجلس الأعلى» أو الغرفة الأولى (وعددهم ٣٩ عضوًا)، بل صارت المجالس (البرلمانات) المحلية في الولايات هي التي تنتخب هؤلاء مِمَّنْ يدفعون أعلى قدر من الضرائب المباشرة، وصار أعضاء «المجلس الأدنى» أو الغرفة الثانية ينتخبهم مباشرة المواطنون الناخبون الذين يدفعون ضرائب عقارية اختلفت فئاتها باختلاف المكان أو المقاطعة، وتحدد عدد أعضائه بنسبة واحد لكل خمسة وأربعين ألفًا من السكان، وفي حين تُركت للملك السلطة التنفيذية، وللبرلمان السلطة التشريعية، صار الملك يتولى سلطاته بواسطة وزرائه الذين تقرَّرت مسئوليتهم أمام البرلمان الذي صار من حقه إلى جانب اقتراح القوانين تعديل مشروعات ما يُعرض عليه منها، والموافقة على الميزانية أو رفضها، وهي التي تقرَّر عرضها عليه سنويًّا، وقد جُعلت جلسات البرلمان علنية، وفيما عدا ذلك نصَّ الدستور على حرية العبادة، وتوسيع سلطات البرلمان لتشمل شئون المستعمرات، ووضع التعليم الابتدائي تحت رقابة الدولة مع منح الحرية التامة للتعليم الخاص، وضرورة إصلاح الإدارة المحلية في المقاطعات والقرى وتنظيمها على أساس العمل بمبدأ الانتخاب.
ولقد تناول الإصلاح فيما بعد «مجالس الطبقات» أو البرلمانات المحلية، فقُسمت هولندة إلى إحدى عشرة مقاطعة لكل منها مجلسها، ولكن بعد أن أُلغي مبدأ الطبقات القديم الذي قامت عليه هذه المجالس، فصار الناخبون الذين لهم حق انتخاب أعضاء البرلمان الأعلى هم الذين ينتخبون أعضاء هذه المجالس المحلية التي غدت هيئات تشريعية صحيحة وإن احتفظت باسمها القديم: مجلس الطبقات.
ومنذ ١٨٤٨، أُدخل على الدستور تعديلات طفيفة، كان أهمها ما حدث في سنة ١٨٨٧ من حيث توسيع حقوق الانتخاب، حتى صارت تشمل كل مَنْ يملك عقارًا للسكنى، أن يدفعوا أجرًا لسكنهم — على غرار ما كان يحدث في إنجلترة — فزاد عدد الناخبين بسبب هذا التعديل من مائة وأربعين ألفًا إلى حوالي الثلاثمائة ألف. ثم لم يلبث أن زاد عدد الذين صار لهم حق الانتخاب بفضل تعديل آخر في سنة ١٨٩٦ — أُدخل في عداد هؤلاء فئات جديدة من طراز الأولين، فارتفع العدد إلى حوالي سبعمائة ألف ناخب، أو بنسبة واحد لكل سبعة من السكان (وأما حق الانتخاب العام ومبدأ التمثيل النسبي فقد أخذ بهما الدستور في سنة ١٩١٧).
بلجيكا بعد الاستقلال
لقد رضخ البلجيكيون للشروط القاسية التي أملتها عليهم الدول في سنة ١٨٣٩ بشعور مختلط من الحزن والغضب، لإرغامهم — كما عرفنا — على التخلي لهولندة عن أجزاء من لكسمبورج وليمبورج اللتين اعتبروهما أراضي بلجيكية منذ ١٨٣١، واللتين شاطر أهلوها هذا الشعور نفسه، وهم الذين صاروا بلجيكيين تمامًا في عواطفهم ومشاعرهم، ولكنَّ البلجيكيين صاروا الآن ينعمون باستقلالهم، ووجب عليهم أن يصونوا هذا الاستقلال بالتغلب على المصاعب التي تولدت من معاهدة ١٩ أبريل ١٨٣٩؛ اضطلاعهم بقسم من ديون هولندة، وتعويق ملاحتهم في نهر الشلدت بسبب القيود التي وُضعت عليها.
وكان من أخطر المسائل التي جابهتها وزارة «نوثومب»، والتي اختلف بشأنها الكاثوليك الأحرار اختلافًا عظيمًا، مسألة التعليم الابتدائي العام، ومع ذلك استطاعت الوزارة استصدار قانون في ٢٣ سبتمبر ١٨٤٢ لتنظيم شئون هذا التعليم بصورة تنال رضى المعتدلين من الفريقين، أدخل التربية الدينية ضمن برنامج التعليم العام، وألزم المجالس الريفية أو مجالس القرى (القومونات) بنفقات مدرسة ابتدائية على الأقل في كل «قومون»، على أن تقوم الدولة والولاية (أو المقاطعة) بنفقات المدارس التي لا يتوفر لدى هذه المجالس الريفية الموارد اللازمة للإنفاق عليها.
وأبدت وزارة «نوثومب» مهارة واعتدالًا في ممارسة شئون الحكم، مكَّناها من البقاء مدة طويلة، إلى أن أُجبر «نوثومب» على الاستقالة في يونيو ١٨٤٥، عندما أتت الانتخابات الجديدة بأكثرية في البرلمان معارضة لحكومته؛ والسبب في ذلك أن البلاد كانت تمر منذ سنة ١٨٤٣ في أزمة صناعية ومالية خطيرة، وعندما عجزت صناعة النسيج اليدوية في بلجيكا — في فلندرا وبرابانت خصوصًا — عن منافسة هذه الصناعة التي استخدمت الآلات في إنتاجها، في إنجلترة؛ فنقصت تجارة الصادر من الكتان البلجيكي إلى النصف في أقل من أربع سنوات، ومن بين حوالي نصف مليون عامل يعتمدون في عيشهم على هذه الصناعة، صار كثيرون متعطلين ويعمد أكثرهم إلى التسول، ويهلك جوعًا عديدون منهم. ومثلما حدث في هولندة في سنة ١٨٤٥، فتك الوباء بمحصول البطاطس، غذاء الطبقات الفقيرة، ثم جاء محصول القمح في سنة ١٨٤٧ رديئًا، وارتفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعًا فاحشًا؛ فاكتظت الشوارع والقرى بالمتسولين، ولم يمنع وقوع الاضطراب إلا تدخل الحكومة السريع، التي اتخذت من الإجراءات ما كفل تخفيف شدة الأزمة.
ولقد استطاعت وزارة روجيه بعد انقضاء أزمة ١٨٤٨، أن توجه عنايتها لإنجاز ما وعدت به وهو تنفيذ برنامج واسع للإصلاح النيابي والبرلماني، فجعل حق الانتخاب للذين يدفعون ضرائب مباشرة قدرها عشرون فلورين فقط، سواء عند الانتخاب للبرلمان أو لمجالس المقاطعات (الإقليمية) أو مجالس القرى (الريفية)، وكان ذلك في صالح الأحرار — الطبقة البورجوازية — حيث قد ضوعف بسببه عدد الناخبين في المدن، في حين لم يزِد عدد الناخبين في الريف بالنسبة نفسها، وظهر أثر هذا التغيير في نتيجة الانتخابات التالية؛ إذ كان عدد الأحرار خمسة وثمانين، في حين بلغ «الكاثوليك» ثلاثة وعشرين فقط. فاستطاعت الوزارة الاعتماد على أكثرية عظيمة في «الغرفة الثانية»، فتسنى لها اتخاذ عدة إجراءات عادت بالنفع على الطبقات العاملة، والمشتغلة في التجارة؛ من ذلك تأسيس بنك أهلي، وبنك للتوفير والضمان، وإنقاص أو إلغاء ضرائب الوارد على الأغذية والمأكولات، وتمويل الدولة لعدة مشروعات عامة لصالح المتعطلين والفقراء، وعنيت الحكومة ثانية بشئون التعليم.
أما الملك ليوبولد فقد وافاه أجله في ١٠ ديسمبر ١٨٦٥ وهو في سن الخامسة والسبعين بعد حكم استمر أربعًا وثلاثين سنة، أظهر خلالها من صفات الحكمة والكياسة في توجيه البلاد، ما ساعد الدولة البلجيكية الحديثة على التغلب على الصعوبات العديدة التي اعترضت طريقها، حتى تدعمت أركانها، ونال الملك بفضل الخدمات الوطنية التي أسداها احترام شعبه له وثقته في شخصه، واحترام أوروبا كذلك.