الفصل الثامن
إيطاليا: النضال «القومي» للتحرر من السيطرة الأجنبية
تمهيد
استمرت المشكلة الإيطالية تشغل أذهان السياسيين في أوروبا طوال القرن التاسع عشر،
وذلك على وجه الخصوص بين سنتي ١٨٣٠، ١٨٦٠، حيث استأثرت هذه المشكلة في هذه الحقبة
بنشاط الدبلوماسية الأوروبية، ولقد وجدت أوروبا نفسها متدخلة في نضال الطليان من
أجل الظفر بوحدتهم الوطنية، وتقويض عروش الحكومات المستبدة، حتى إن «المشكلة» لم
تعد خاصة بإيطاليا وحدها فحسب، وحتى إن مقدرات هذا البلد السياسية لم تعد منفصلة عن
مقدرات سائر الدول الأوروبية، وفي إيطاليا، كأكثر بلدان أوروبا في هذه السنين، كان
من المنتظر أن تتاح الفرصة بفضل النضال للتحرر من السيطرة الأجنبية، وتلك كانت في
إيطاليا سيطرة نمسوية، وإنشاء الحكومة الدستورية على أنقاض السلطات الاستبدادية،
لأن تتسلم «البورجوازية» مقاليد الحكم في الدولة القومية (الوطنية).
ومن الناحية «المثالية» والفكرية، كان لا يجب أن يكون عسيرًا تحقيق هذه الغايات
الوطنية والديموقرا طية؛ لأن إيطاليا لم تكن «مصطلحًا جغرافيًّا» — وهو التعبير
الذي وصف به «مترنخ» هذه البلاد — إلا من ناحية وجهتي النظر السياسية والتاريخية،
وفيما عدا ذلك، فلا جدال في أنه كانت هنالك «قومية إيطالية» محددة المعالم، تضافر
على إنشائها أن شبه الجزيرة الإيطالية ذات حدود جغرافية معينة، وأن شبه الجزيرة
الإيطالية هذه لم تكن تحوي عناصر (أو أجناس) غريبة أو أجنبية عن الإيطالية، وإن كان
هذا لا يعني أن اختلافات نفسية (سيكولوجية) عميقة، وأخرى متصلة بمسلك الأفراد، وطرق
معالجتهم شئون الحياة، تميز بين أهل نابولي وصقلية وروما، أو بين أهل الشمال وفي
ميلان، وبين أهل فلورنسة أو أهل بيدمنت وهكذا. ولكن تلك اختلافات «إقليمية» محلية،
وليست اختلافات عنصرية؛ أي ناجمة عن اختلاف في الجنس والعنصر، فهناك قطعًا «جنس»
إيطالي، بمعنى أن التقاليد الجغرافية من جانب، والحركات التاريخية والاقتصادية من
جانب آخر، قد أوجدت جماعة متجانسة بعد أن انصهرت في أردمة واحدة كل العناصر التي
كانت تقطن أصلًا شبه الجزيرة الإيطالية. بل إن هنالك دينًا واحدًا، ولغةً واحدةً،
يسود كلاهما شبه الجزيرة، والاشتراك في العقيدة واللغة أمر نادر الحصول. ولم تشهد
إيطاليا هرطقة، أو خروجًا على العقيدة الكاثوليكية، بل بقيت البلاد من أقصاها إلى
أقصاها كاثوليكية. كما انعدم من إيطاليا وجود أدب إقليمي ينبئ بأن هناك اختلافات
«روحية»، وهكذا فإن أحدًا لا يستطيع أن يتشكك في قيام «وحدة إيطالية» من الناحية
الذهنية أو الروحية، أضف إلى هذا كله أن أهل البلاد جميعهم كان يربطهم شعور الزهو
والافتخار بتراثهم المتخلف من أمجادهم الغابرة، على أيام الإمبراطورية الرومانية في
العصور القديمة، والبابوية العتيدة خلال العصور الوسطى، ولقد كانت هذه الأمجاد
السابقة الموضوع المفضل لدى دعاة القومية والوحدة الوطنية طوال قرن بأسره — القرن
التاسع عشر — يستثيرون به حمية مواطنيهم وليدفعوهم نحو العمل، فلا تجد متخلفًا عن
الركب، من كل «الدويلات» الإيطالية وشعوبها في الشمال والجنوب على حد سواء.
وهكذا فإنه لا سبيل إلى نكران أن هناك قطعًا «قومية إيطالية» وذاتية قومية، ولكن
الذي لم يكن له وجود حقًّا، إنما كانت العزيمة الصادقة، والإرادة القوية، التي تعمل
على نقل هذه القومية والذاتية الإيطالية، من عالم الفكر والروح إلى عالم الواقع
وميدان السياسة؛ أي إن المشكلة لم تكن البحث عن القومية، أو محاولة خلقها،
وابتداعها ابتداعًا؛ لأن القومية والذاتية الإيطالية كانت كائنة فعلًا، ولكن
المشكلة إنما كانت إتاحة الفرصة لهذه القومية والذاتية الإيطالية حتى تبرز إلى عالم
الوجود السياسي.
ومن الثابت أنه كان في سنة ١٨٣٠ فقط أن بدأت تُشاهد في إيطاليا حركة تهدف إلى
تحقيق الوحدة القومية أو الوطنية، فإنه قبل هذا الوقت كانت الغلبة لقوى التفكك على
عوامل الترابط والاندماج في إيطاليا، وذلك بسبب الأحوال الاجتماعية والسياسية
السائدة في شبه الجزيرة، فلم تستطع قوى الوحدة التغلب على غريمتها إلا بعد سنة
١٨٣٠، وتلك حقيقة تستبين من بحث الصعوبات التي اعترضت طريق الوحدة القومية والتي
كان مبعثها: «الترتيب» الذي وُضع لإيطاليا في مؤتمر فينا، والسلطان الذي صار للنمسا
في إيطاليا بموجب هذا «الترتيب» الإقليمي والسياسي، والظروف الاقتصادية والاجتماعية
التي عاشت فيها إيطاليا خلال العشرين سنة التالية على وجه الخصوص، للتسوية التي
وُضعت في فينا للمشكلة الإيطالية.
إيطاليا سنة ١٨١٥ و«النظام النمسوي»
لقد قامت «التسوية» التي وُضعت في فينا للمشكلة الإيطالية على قاعدة «تجزئة»
إيطاليا، ومع ذلك فقد كانت هذه «التجزئة» التي تمت على أيدي المؤتمر «عملية» ساعدت
في حد ذاتها على «تبسيط» الوضع في إيطاليا، إذا قيس النظام الذي أوجدته هذه
«العملية» بذلك الذي كان يسود شبه الجزيرة قبل حروب الثورة الفرنسية
ونابليون.
فبمقتضى التقسيم الذي حصل في فينا؛ قامت سبع دول، تألَّف بعضها من حجوم جعلت لها
قدرًا من الأهمية. من ذلك مملكة الصقليتين وعدد سكانها سبعة ملايين ونصف مليون
نسمة، ثم مملكة بيدمنت؛ سردينيا، وعدد سكانها أربعة ملايين، ثم مملكة لمبارديا
فينيشيا وعدد أهلها أربعة ملايين وربع مليون نسمة، ثم الولايات البابوية من مليونين
ونصف، وفيما عدا ذلك، فإن الدوقيات الثلاث — بارما، ومودينا، وتسكاينا — كانت أقل
في حجومها كثيرًا.
أضف إلى هذا، أنه كانت هناك «أوضاع» مؤقتة أوجدتها تسوية فينا، زادت من تعقيد
«النظام» الناشئ من قيام هذه الدول السبع. من ذلك؛ أن الإمبراطورة ماري لويز — زوجة
نابليون — أُعطيت مدة حياتها دوقيات جواستالا Guastalla وبليزانشي Plaisance،
وبارما، في حين نال البربون أصحاب هذه الدوقيات (الشرعيون) كتعويض لهم، إمارة لوقا،
على أن تعود لوقا إلى تسكانيا عند وفاة ماري لويز، ويسترد البربون عرش بارما
وأملاكهم الأخرى، وتوفيت ماري لويز في سنة ١٨٤٧، وكان عندئذٍ فقط أن عادت إمارة
لوقا إلى تسكانيا، وعاد البربون إلى بارما وإلى سائر إماراتهم. ومن ذلك أيضًا أن
ماريا بياتريش Maria Beatrice من أسرة
إست Este ووالدة فرانسو الرابع حاكم «دوق»
مودينا، احتفظت بامتلاك دوقية «ماسا-كراري» الصغيرة بصفة شخصية حتى سنة
١٨٢٩.
وكذلك فإن التقسيم أو التجزئة السياسية اصطدمت في أحايين كثيرة بالمصالح
والاعتبارات الاقتصادية. من ذلك أن إقليم الرومانا في الولايات البابوية كان من
الناحية الاقتصادية يتصل بسهل البو أكثر من اتصاله بروما، التي ارتبط بها إقليم
الرومانا سياسيًّا، وكذلك ففي حين كان إقليم أبروزي Abruzzi جزءًا من نابولي — ويقع هذا الإقليم إلى الشمال الشرقي —
وكذلك إمارتا بنيفنتو Benevento (وتقع وسط
نابولي)، وسبوليتو Spoleto، فقد جُعلت هذه مرتبطة
بالولايات البابوية وقسمًا منها، ولم تُضم إلى نابولي، ثم إن جزيرة صقلية استدارت
بظهرها من الناحية الاقتصادية لنابولي.
ولقد كان إغفال هذه الاعتبارات الاقتصادية، عند وضع «النظام السياسي» وتحديد
الترتيبات الإقليمية في شبه الجزيرة الإيطالية، من أهم العوامل التي عطَّلت مجهود
الوحدة القومية (الوطنية) في أول الأمر، ولو أنها في الوقت نفسه وبمضي الوقت قد
ساعدت على نجاح الحركة القومية ذاتها، من حيث إنها كانت من أقوى الأسباب التي ساعدت
على تفكك هذا النظام السياسي، وانهيار الترتيب الإقليمي الذي وضعه السياسيون في
فينا.
ولقد قام هذا «النظام السياسي»، الذي أُرسيت قواعده في مؤتمر فينا على حقيقة
واحدة؛ هي إخضاع الحكومات التي أُنشئت في إيطاليا لسلطان النمسا، سواء أكانت هذه
تحكم أجزاء من إيطاليا حكمًا مباشرًا، كما كان الحال في «لمبارديا فينيشيا»، أم أنه
كان لها نفوذ وسلطان غير مباشر على سائر الدول والإمارات الإيطالية. ولا شك في أن
العمل بمبدأ إرجاع أصحاب الحقوق الشرعية إلى عروشهم في إيطاليا، قد أيَّد سلطان
النمسا وسيطرتها عندما رجعت الأسرات الحاكمة القديمة — قبل عهد الثورة ونابليون
مصممة على استئناف سيرة الحكم، كما كان أيام النظام القديم Ancien Regime، فتناسى الحكام الراجعون قوة المبادئ التي نادت
بها الثورة الفرنسية ثم تغلغلت في إيطاليا في عهد الإمبراطورية النابليونية، وبحيث
صار أهل شبه الجزيرة الإيطالية، والمفكرون والقادة خصوصًا، من الطبقة البورجوازية،
ومن فريق المتنورين من النبلاء كذلك، لا ينظرون إلى المبادئ التالية كأنها مجرد
أوهام؛ المساواة أمام القانون، حرية الضمير والعبادة، حرية القول والرأي، حرية
النشر، حق المواطنين في الالتحاق بالوظائف العامة دون تفرقة أو تمييز، وقبل كل شيء
حق المواطنين في تأسيس الحكومة الوطنية (القومية)، والتي يساهمون في إدارة شئونها،
ولم يكن هناك مناص من أن يرتبط هؤلاء الحكام الراجعون بأوثق الروابط مع النمسا، وأن
ينهجوا في الحكم على منوالها، في نظير مؤازرتها لهم، وتعهدها بحماية عروشهم، وحكمت
النمسا في إيطاليا حكمًا رجعيًّا مستبدًّا، باعتبار أن هذا النوع من الحكومة ضروري
لاستقرار سيطرتها، ولدعم نفوذها في إيطاليا.
ولكن بعد سنة ١٨١٥، وبعد عهد الثورة الفرنسية ونابليون، في إيطاليا لم يعد متيسرًا
إغفال إرادة الشعوب، أو إهانة الشعور القومي، بل إن الاستهانة بمطالب الإيطاليين
«وبقوميتهم» سرعان ما حرك الثورات في إيطاليا، فلم تمضِ ثلاثون سنة على المعاهدات
التي أُبرمت والتسويات التي حصلت في فينا، حتى كانت قد بدأت في إيطاليا «حركة
إصلاح»، كانت متعارضة تمامًا مع المبادئ التي قامت عليها هذه المعاهدات ذاتها،
والتسويات التي تمت في فينا. ولقد كانت هذه «الحركة الإصلاحية» موجهة في صميمها نحو
غاية واحدة؛ التحرير من السيطرة النمسوية، وهي الحركة التي أفضت إلى الثورات التي
قامت في سنتي ١٨٤٨، ١٨٤٩، وكانت هجومًا عنيفًا على النمسا — الدولة التي كان
السياسيون في مؤتمر فينا، قد أرادوا أن يمكنوها من فرض سلطانها فرضًا على شبه
الجزيرة الإيطالية.
وكان مبعث المعارضة — ثم المقاومة — ضد النمسا، الأساليب التي اتبعتها هذه في
الحكم في إيطاليا، عندما اعتقد وزيرها «مترنخ» أنه لا يجب بحالٍ من الأحوال
الاستجابة لأي مطلب من مطالب الأحرار؛ لأن من شأن هذه الاستجابة إذا حصلت ولو مرة
واحدة، تشجيع هؤلاء على التقدم بمطالب أخرى؛ ولذلك فقد صمَّم «مترنخ» على أن يسود
الحكم المطلق والمستبد إيطاليا، بدعوى أن أية «تنازلات» من جانب النمسا لإرضاء
الأحرار سوف تؤدي حتمًا إلى توحيد إيطاليا في دولة ذات نظام جمهوري، وأن هذه
«التنازلات» سوف يترتب عليها كذلك قيام منازعات شديدة بين الجماعات المختلفة التي
سوف تتحلل إليها هذه «الدولة»، نتيجة لاختلاف العناصر التي يتألَّف منها سكانها؛
ولذلك فإن «مترنخ» كان قوي العزم منذ مبدأ الأمر وحتى يتجنب هذا الخطر، على إخماد
كل مظاهر الحياة المدنية في إيطاليا بحرمان الطليان من أية حقوق مدنية، وعلى وجه
الخصوص؛ القضاء قضاءً مبرمًا على أية رغبة في إقامة حكومات ذاتية.
ولقد كانت الظروف مهيَّأة للوزير النمسوي لتحقيق غايته، وذلك في الأقاليم التي
خضعت مباشرة لحكم النمسا «لمبارديا فينيشيا». في حين أنه أقام على عروش الدويلات
الأخرى في مودينا، وتسكانيا، حكامًا من النمسويين، وفي بارما حاكمة «دوقة» نمساوية،
ووعد كل هؤلاء كما وعد سائر الحكام في شبه الجزيرة، بإمدادهم بالعون فورًا عند أول
بادرة لأية حركة ثورية. وتحت ضغط هذا «النظام» — نظام مترنخ — صار الإرهاق الشديد
يشوب الحياة في إيطاليا، بل صار من المتعذر في أحايين كثيرة احتمال الحياة نفسها في
ظل هذا النظام.
ففي مملكة لمبارديا فينيشيا، صدر الأمر في ١٧ أبريل ١٨١٥ بوضع «نائب للملك» على
رأس المملكة، ولكن لتبسيط شئون الحكم والإدارة قُسِّمت المملكة إلى «دولتين» أو
حكومتين يفصل بينهما نهر المنشيو
Mincio،
الميلانية (نسبة إلى ميلان) على يمين النهر، والفينيشية (أو البندقية) على يساره.
فيحكم كل «دولة» منها حاكم يكون مقر أحدهما في ميلان والآخر في البندقية
Venice، ويتبعان مباشرة مجلس البلاط الملكي
Reichshofrath١ — ومن المعروف أن هذا المجلس كان تأسَّس على يد الإمبراطور مكسمليان
الأول سنة ١٥٠١ — وعلى ذلك فإن مملكة لمبارديا فينيشيا كانت مملكة واحدة اسمًا، في
حين أنها كانت في الواقع مؤلَّفة من مقاطعتين أو إقليمين يخضعان مباشرةً لعاصمة
الإمبراطورية النمسوية فينا.
ولم تجنِ هذه البلاد فائدة تُذكر من ارتباطها بدولة كبيرة كالنمسا؛ بسبب المركزية
الصارمة التي جعلت الفصل في شئون الإدارة والحكم من نصيب فينا البعيدة، الأمر الذي
أدى إلى تعطيل الأعمال. ثم كان من عوامل اختلال الإدارة؛ جهل النمسويين بشئون
الطليان. أضف إلى هذا أن الضرائب التي فُرضت على البلاد كانت ثقيلة، مرهقة، حتى إن
هذه المملكة التي كانت مساحتها لا تزيد على قسم من ثمانية عشر قسمًا من مساحة
الإمبراطورية النمسوية، ولا يزيد عدد سكانها على واحد على ثمانية من عدد سكان
الإمبراطورية، كان مطلوبًا منها تأدية ربع قيمة الضرائب جميعها الْمُحَصَّلة من
أنحاء هذه الإمبراطورية، وأُرغمت لمبارديا على تزويد العاصمة «فينا» بعد سداد
النفقات المحلية، كل سنة، بمبلغ أربعة وثلاثين مليونًا من الليرات، في حين دفعت
«فينيشيا» ثلاثة وعشرين مليونًا، وكان الغرض من نظام الضرائب الثقيل؛ القضاء على كل
الصناعات في لمبارديا فينيشيا، وعلى كل محاولة لإحياء أية صناعات أهلية بها، وذلك
حتى تبقى المملكة سوقًا مفتوحًا لمنتجات ومصنوعات النمسا، وهكذا حتى في شئون
التجارة استمرت لمبارديا فينيشيا تخضع لاستغلال النمسا، وتلقى حاملة البلاد
المفتوحة قهرًا.
ومع أن النمسا أبدت اهتمامًا بالتربية والتعليم في لمبارديا فينيشيا، زاد كثيرًا
على اهتمامها في سائر بلدان إيطاليا، فعمَّمت المدارس الأولية للبنين وافتتحت
المدارس الثانوية في المدن الرئيسية في المقاطعات، فقد أفسدت الأهواء والغايات
السياسية هذا العمل، فلم يثمر الاهتمام بالتعليم الثمرة المرجوة منه، وذلك عندما
أراد المسئولون النمسويون تنشئة رعايا يدينون بالطاعة ولم تكن لهم حاجة «بمواطنين
مستنيرين». فقال شيزار كانتو Cesare Cantù — صاحب
تاريخ إيطاليا، وغيره من التواريخ — إن المدارس تحقيقًا لهذه الغاية دأبت على إشاعة
العجز والقصور الذهني، وخلق جيل من متوسطي الذكاء بمحاربة كل نبوغ بين الناشئة
الطليان، وأكد مازيني Mazzini فيما بعد أن شعار
المسئولين في المدارس الأولية كان «خضوع الرعايا لصاحب السلطان عليهم، يجب أن يكون
كخضوع العبيد لأسيادهم.» وقد يكون في هذا القول شيء من المبالغة، ولكن الثابت أن
النمسا بذلت قصارى جهدها للقضاء على كل شعور وطني لدى الأطفال، وعلَّموا هؤلاء في
كتبهم المدرسية أن لمبارديا فينيشيا تؤلِّف جغرافيًّا جزءًا من النمسا. لقد كان
يُختار لملء كراسي الأستاذية بالجامعات، الناجحون في المسابقات التي تُجرى تحت
إشراف فينا، وأما هؤلاء الناجحون فكانوا دائمًا من الأدعياء والمبتدئين. على أن
الجدير بالملاحظة أن كليات الطب والرياضة على وجه الخصوص، بالرغم من الإهمال
والمعاملة السيئة، كانت تتميز بوجود بعض الأساتذة من العباقرة «الطليان»
حقًّا.
وخضعت «لمبارديا فينيشيا» لنظام صارم من الرقابة على المطبوعات والمنشورات، فكان
مقر محكمة الرقابة الرئيسية في فينا، وهي التي يتبعها في مختلف الأقاليم «مفتشون»
مزودون بسلطات محدودة وضيقة. فكانت ترد إلى فينا أصول الكتب التاريخية الكبيرة
وغيرها من المخطوطات ليفحصها الرقباء وهم الذين تعسفوا عند تأدية مهمتهم، فلم
يتورعوا عن «تصحيح» كتابات ومآثر «دانتي». كما منعت الرقابة نتاج طائفة من أعلام
الفكر المعاصرين الطليان من طراز جيطانو
فيلا نجييري
Gaetano Filangieri فمنعوا كتابه عن «علم التشريع»
٢ من التداول وشوهوه في أقسام منه، كما صادروا القصائد المفجعة التي
نَدَّدَ بها الشاعر الكونت فكتور
ألفييري
Vittorio Alfieri بالملكية والطغيان على السواء، ولم تكن هناك صحف سياسية
ما عدا جريدة «غازيتة» ميلان وجريدة البندقية، وكانت تشرف على إصدارهما الحكومة،
وفُرض على المملكة «لمبارديا فينيشيا» نظام للبوليس لم تفلت صغيرة ولا كبيرة من
حبائله، وكان يتكلَّف سنويًّا حوالي خمسة الملايين ليرة، وارتهن مصير الأفراد بما
يمكن أن يساور البوليس من سلوك بشأنهم، فلم يكن يتم تعيين أحد أو إسداء خدمة إلا
بعد أن يقدم البوليس تقريرًا شاملًا عنه، فانبث العملاء والجواسيس في كل مكان،
وتدخلوا في حياة الأفراد، وقاسى المواطنون هؤلاء من صلف الموظفين وعمال الحكومة
وكبريائهم وغطرستهم، وجهلهم وتدخلهم في شئونهم، ولم يكن هؤلاء المواطنون الطليان قد
نسوا نوع المعاملة التي لقوها على يد الإدارة الفرنسية، وهي التي اتسمت أعمالها
بالسرعة والتسامح، والقدرة على التكيف حسب الظروف والأحوال، حتى لقد اضطر «مترنخ»
نفسه إلى تحذير الإمبراطور من مغبة السياسة التي جرت عليها النمسا في لمبارديا
فينيشيا، فكتب: «تعلمون يا صاحب الجلالة، أن التباطؤ في تصريف الأمور، وتأجيل الفصل
منها، وما يقال عن رغبتنا في جرمنة المقاطعات الإيطالية جرمنة تامة، والطريقة التي
يجرى بها تأليف المحاكم، وما يحدث يوميًّا من تعيين النمسويين لملء وظائف القضاة
وغيرها من الوظائف العامة، إنما هي جميعها أسباب لاستفزاز الناس وإثارة غضبهم بصورة
مستمرة،؛ حتى إن ذلك ليلغي كل تلك المزايا التي تجنيها هذه البلاد «لمبارديا
فينيشيا» من حكومتنا بها، إذا قيست هذه الحكومة بغيرها من حكومات الدول الإيطالية
الأخرى.»
ولم يكن الحال في دوقية بارما بهذه الدرجة من السوء، فقد كانت الإرشيدوقة ماري
لويز صاحبة الحكم بها، ذات كياسة ورقة ولها ميول طيبة، فكان بفضل حكومتها أن
استقامت مالية بارما، وأُقيمت بالدوقية المباني الفخمة، وتأسَّس بها نظام واسع
للتربية والتعليم، وقويت العدالة. على أن ماري لويز خضعت خضوعًا كليًّا لإرادة
النمسا، إما بسبب أنها نمسوية، تدفعها صلات القربى (وهي ابنة الإمبراطور فرنسيس
«فرنسوا» الثاني) إلى ذلك، وإما لأنها تريد رعاية مصالحها الخاصة. أضف إلى هذا أنها
كانت متكاسلة، لا قدرة لها على المثابرة على العمل، ومنغمسة في الملذات، ووقعت
دائمًا تحت تأثير مبعوثي النمسا إلى بلاطها، ومع أن أحد هؤلاء الكونت ألبرت فون نايبرج Neipperg الذي لم يلبث أن تزوج منها،
كان ذا أثر طيب على ماري لويز، فقد خلفه رجل ضيق الفكر، لا هم له إلا الغنى السريع،
هو البارون وركلاين Werklein، سرعان ما تلاشت تحت
نفوذه كل آثار الحكومة الهادئة والطيبة في السنوات الأولى، وهكذا صار أهل بارما
يقاسون الأمرين من طغيان البوليس ومؤامراته على حريات الأفراد والجماعات، ومن جشع
موظفي الدولة المرتشين، ثم من مساوئ حكم فاسد يقوم على العسف والظلم والجهل والتعصب
الديني.
وفي مودينا، ومن مبدأ الأمر كان الناس أكثر تعاسة، عندما كان حاكمهم فرنسيس الرابع
طاغية من طراز «سيزار بورجيا» صاحب السمعة السيئة في تاريخ إيطاليا، ولكن دون أن
يكون متمتعًا بالشجاعة وقوة الإرادة، والشخصية، وهي الصفات التي كانت لهذا السياسي
الداهية، فكان فرنسيس صاحب ذكاء بقدر معين، ولكنه كان صاحب أطماع لا حد لها،
وكبرياء شامخة، كما كان صاحب قسوة بالغة، سهل عليه بسبب هذا كله أن يعتبر السلطة
طغيانًا وحكمًا استبداديًّا، ومنذ أن اعتلى العرش لم يتنكب عن السير في غير الطريق
الذي رسمه لنفسه، فمنح رجال الدين (الأكليروس) والنبلاء امتيازات عديدة، وهما
الطبقتان اللتان يعتمد عليهما العرش، وإنما في نظر «الشرعيين»؛ أي أصحاب الحقوق
المشروعة في الْمُلْك، الذين أُعيدت عروشهم إليهم بعد سقوط نابليون، وألقى فرنسيس
الرابع كل القوانين والمرسومات التي صدرت بعد سنة ١٧٩١، ثم سلك في حكومته طريق
السلب والنهب — سلب ونهب رعاياه، فأنفق من هذه الأموال «المنهوبة» قسمًا كبيرًا على
الأديرة، ثم إنه عهد بالتعليم إلى اليسوعيين (الجزويت)، وصار يضطهد اليهود، حتى
حُرم هؤلاء في عهده من حقوق المواطن، وجُرِّد القضاء من كل سلطاته، حتى صار القضاء
موضع سخرية كبيرة. ومع أنه قام ببعض المشروعات التي كان يهدف بها إلى إشباع نزواته،
مثل حب التظاهر والمباهاة، وذلك بإقامة نظام لبيع الغلال إلى الفقراء بأثمان
مُخَفَّضة، وعمل الترتيبات للعناية بالصم والبكم والمعتوهين، ثم الانكباب على تشجيع
الآداب والعلوم والفنون، فقد كانت هذه كلها مآثر لا تلبث أن تزول قيمتها إذا قيست
بالطرائق والوجوه التي كان ينفق فيها فرنسيس الرابع الأموال التي حصَّلها سنويًّا
من أهل دوقيته، وقد بلغت هذه ثمانية ملايين ليرة، عندما كان القسم الأكبر منها
تمتلئ به خزائنه الخاصة، ويجرى الإنفاق مما تبقى منه على البوليس، والجواسيس
والسجون؛ ولذلك لم يكن موضع دهشة، أن يكتب من وقت مبكر (١٨١٧) القومسيير النمسوي
روفيجو Rovigo في تقرير بعث به إلى فينا عن
الحالة في مودينا، أن بالبلاد موجة من التذمر شديدة، وأن عددًا كبيرًا من الأهلين
يودون رجوع «النظام» السابق؛ أي تحت السيطرة الفرنسية.
وفي تسكانيا قامت حكومة مستبدة ولكن من نوع الحكومات المحبة للخير، وذلك أن الأسرة
الحاكمة البائدة، من آل لورين Lorraine جريًّا على
تقاليد الحكم الهين في هذا الإقليم، حاولت تعزيز مركزها باتباع سياسة «متساهلة»،
تبغي التهدئة والتلطيف بدلًا من إهاجة النفوس واستفزاز الشعب، وتعمد إلى وسائل
الحيلة والمكر لنيل مآربها بدلًا من سلوك طريق الضغط والإرهاب والظلم، وكان غرض
الحكومة أن تتحول القوى الذهنية والفكرية من السير في طريق محفوف بالأخطار التي
تتهدد الدولة، فتسلك طريقًا تفيد منه الدولة، وذلك باستخدام هذه القوى الذهنية
والفكرية في مشروعات تعود بالنفع المادي على أهل البلاد، وتساعد على تحسين أحوال
معيشتهم، وعلى ذلك، صار العجز الذهني أو القدرة الذهنية المتوسطة طابع الدولة
الراجعة. حتى لقد صار يشكو جينو
كابوني Gino Capponi — أحد أعلام الفكر المعاصرين — «من تلك الكآبة العميقة
التي خيمت على العقل وحكمت عليه بالبطالة والكبح.» وهكذا قام في تسكانيا نوع من
الاستبدادية «الأبوية» كان من المتعذر محاولة هدمها؛ فتدخلت في حياة الأفراد، ومن
كل نواحيها طبقة كبيرة من الموظفين، الذين اتصفوا بالجهل، والعجرفة، والذين قضوا
أوقاتهم دون عمل، وإن عملوا سببوا المتاعب للناس، ولقد عُرف هؤلاء الموظفون باسم
السادس عشريين Sedicini، كما لو كان استلامهم
لمرتباتهم في اليوم السادس عشر من كل شهر هو أهم الوظائف التي يؤدونها شأنًا. ولقد
كان الجيش على قدر عظيم من العجز وقلة الكفاءة، مثله في ذلك مثل «البيروقراطية»
الحاكمة، فالجيش لم يكن قوة يعتد بها لصغر حجمه من جهة، ولانعدام النظام به، أو أي
شعور بالاحترام الذاتي، أو أية روح محاربة. حتى إن الجنود كانوا يتنادون فيما بينهم
باسم «الفيران»، وأما رئيس الوزراء في تسكانيا وهو الكونت فيكتور فوسومبروني Fossombroni، فكان خير مَنْ يمثل هذه
الحكومة؛ شديد الذكاء، متشككًا في قيم الأشياء والحياة، تعمد الكسل والتراخي، حتى
صار عاجزًا عن الإتيان بأي نشاط ذهني، أو في ميدان العمل؛ فلم يكن له من هدف إلا
الحياة الطويلة الناعمة الهينة المرحة.
وفي بيدمنت، بقي الناس على ولائهم للأسرة الحاكمة القديمة، فقوبل آل سافوي عند
عودتهم من المنفى بالتهليل والترحيب، وكان انتهاء الحكم الفرنسي من بيدمنت في (٢٠
مايو ١٨١٤) وعندئذٍ شهدت بيدمنت موكب هؤلاء الأمراء القدامى يدخل إلى تورين؛
ليستأنف الحكم بها. فيصف أحد أعلام الفكر الطليان في هذا العهد ماسيمو دازيجليو
Massimo D’azeglio وكان يبلغ السادسة
عشرة وقتئذ، وأحد أفراد الحرس المدني الذي اصطف لتحية الملك الراجع، فيكتور عمانويل
الأول؛ يصف عودة هذه الأسرة الحاكمة التي طال انتظار البلاد لها، فيقول: «لقد كنت
في الحرس في ميدان كاستللو،
٣ وإني لأذكر تمامًا وبكل وضوح منظر الملك وضباطه وحاشيته، لقد كانت
ملابسهم من الطراز القديم، ويكاد يبدو غريبًا لدرجة تدعو للسخرية؛ لأنهم كانوا
يستخدمون المساحيق، وتتدلى من رءوسهم الضفائر، ويرتدون قبعات يرجع عهدها إلى أيام
فردريك الثاني، ولكن في نظري وفي نظر كل الحاضرين، كانوا يبدون في أجمل بزة، وفي
خير ما يمكن أن يطلب منهم ارتداؤه حسب الأصول، ولقد قوبل الأمير الطيب بالتهليل
الكبير والطويل، الأمر الذي تأكد بفضله، لدى الأمير مقدار المحبة والعطف اللذين
يكنهما له رعاياه في تورين والذين تفيض قلوبهم ولاء له.» ومع ذلك فإنه سرعان ما
استبدل بهذا الحماس الفياض، شعورًا بالتذمر، بمجرد أن استقر بالملك المقام في عاصمة
ملكه القديمة، فقد أعلن فيكتور عمانويل أنه يشعر كَمَنْ أفاق من نوم استمر طيلة
الخمس عشرة سنة السابقة، وبدأ في التو والساعة يعامل رعاياه معاملة رجل أفاق من هذا
السبات الطويل، متناسيًا كل ما وقع من أحداث وطرأ من تغييرات تحت السيطرة الفرنسية،
أثناء السنوات العديدة التي قضاها فيكتور عمانويل مبعدًا عن العرش في المنفى،
فاستصدر قرارًا في ٢١ مايو ١٨١٤، صارت له شهرة في تاريخ «الحكومات الراجعة»
والرجعية إطلاقًا في السنوات التي تلت سقوط الإمبراطورية النابليونية. أما هذا
القرار فقد نصَّ على ضرورة خضوع رعاياه للقوانين الملكية الصادرة في سنة ١٧٧٠، وتلك
القوانين والمراسيم التي استصدرها أسلافه قبل ٢٣ يونيو ١٨٠٠، ونبذ كل ما عدا ذلك من
القرارات والقوانين، فكان معنى ذلك؛ تجاهل كل تلك الإصلاحات التي ظفرت بها البلاد
أيام السيطرة الفرنسية، وإعادة تأسيس نظام الحكم في العصور الوسطى القائم على تمتع
الطبقات بالامتيازات الواسعة، وحرمان البعض الآخر منها، والتضييق على الناس،
وتجريدهم من حرياتهم وحقوقهم.
ولم يلبث أن انقسم الأهلون إلى طوائف «الأتقياء والمطهرين» الذين لم يتعاونوا مع
الفرنسيين، ورفضوا ألقاب الشرف، أو أن يشغلوا الوظائف العامة في عهد سيطرتهم، ثم
فريق «الملوثين، وغير المطهرين» الذين تعاونوا مع الفرنسيين، وكان «المطهرون» وحدهم
هم الذين وقع عليهم الاختيار الآن لملء الوظائف. ولما كان هؤلاء من طراز لا يبعث
على الاحترام، فقد امتلأت الوزارة والمحاكم والجيش، ومختلف المصالح بأناس متوسطي
الذكاء، أو من الجهال الذين لا خبرة ولا دراية لهم بتصريف الأمور، والذين كان
كثيرون منهم تنقصهم الأمانة والاستقامة، وأما «الملوثون أو غير الأتقياء» فإنه وإن
لم تتخذ ضدهم إجراءات انتقامية — لأن الانتقام لم يكن من شيمة الملك الطيب — فقد
كانوا يعانون قسوة أدبية وذهنية عظيمة، تكاد تقرب على حد قول شيزار بالبو Cesare
Balbo في
شدتها من قسوة الاضطهاد ذاته والتعذيب البدني. على أن أهل بيدمنت بالرغم من أن
آمالهم قد تبددت في عهد الملكية الراجعة في بلادهم، قد استمروا على ولائهم لآل
سافوي الأسرة الحاكمة القديمة. ولم يمنع هذا الولاء الطبقات المثقفة على وجه الخصوص
من إظهار نفورهم واشمئزازهم من «بلاط» بقي نهبًا، يتنازع النفوذ بين أرستقراطية
«رجعية» متخلفة، وبين أعوان الكنيسة من طبقة رجال الدين الموصوفين بالتعصب وضيق
الأفق، ولم يتردد هؤلاء المثقفون في إظهار تبرمهم بهذا النظام، ونفاذ صبرهم من
ناحيته، ولقد كان ذلك قمينًا باسترعاء انتباه الحكام في بيدمنت، إلا أن رعاياهم قد
قطعوا شوطًا ملموسًا في طريق التقدم؛ بحيث قد صاروا الآن متيقظين تمام التيقظ، ولو
أن حكامهم أنفسهم قد أجازوا لأنفسهم أن يناموا في سبات عميق.
ولقد كانت أسوأ الحكومات الراجعة إطلاقًا في إيطاليا، حكومة الولايات البابوية،
ومملكة نابولي (الصقليتين). أما عن الولايات البابوية فقد اتفق الرأي، حتى بين
الذين لم يكونوا معادين للبابوية، على أن حكومتها كانت في أساليبها ونتائجها أشد
تعسفًا وسوءًا من حكومة النمسا ذاتها في لمبارديا فينيشيا. لقد أقامت النمسا حكمًا
استبداديًّا، صارمًا وعنيفًا لدرجة القسوة البالغة، ولكن هذا الحكم كانت تنظمه
طائفة من القوانين الثابتة، ويستند على نظام مالي لم يصعب على الأهلين احتماله في
لمبارديا فينيشيا بسبب رخائهم، ولكن الحال كان على خلاف ذلك في الولايات البابوية،
حيث أقامت الكنيسة حكومة أشد طغيانًا، وأفتك شرًّا من غيرها عندما كانت تسودها
الفوضى، وتغشى الشراهة الضارية أبصارها، فيبتدع نظامًا تعسفيًّا للضرائب ينوء تحت
عبئه الأهلون الذين عاش سوادهم الأعظم في عوز وفاقة، وبين عامي ١٨١٨ و١٨٤٨ حسب
شهادة أحد المعاصرين آتو فانوتشي
Atto Vannucci
انعدم كل أثر للعدالة في روما، فكان القضاة فاسدين مرتشين، ولم يكن المرء يأمن على
حياته أو ماله، تكفي إيماءة من أحد الأساقفة للقبض على الأفراد، وتتجسس ثلاث قوات
من البوليس على حياة الناس، في حين يجري العمل بنحو ثمانين قانونًا، كانت جميعها
متضاربة ومتناقضة وتتسم بالوحشية، وبقيت الإدارة مزيجًا من المصالح والمنظمات التي
ينقصها التجانس والتنسيق، والتي تسود بها الفوضى، ولقد وصف روما كذلك «ماسيمو
دازيجليو» في سجل ذكرياته
٤ بأنها خليط من الغش والخداع والانتهازية، ومراعاة الخواطر والجبن. حتى
إن «دازيجليو» كما قال: كان يحمر وجهه خجلًا أمام أصدقائه الأجانب كلما فكر أنه
إيطالي. لقد كانت عودة الحكم البابوي إلى هذه الولايات سببًا في تقوية سلطان
البابا، وزيادة تمتع رجال الدين بالإعفاءات العديدة وإعادة حبس الأملاك ووقفها على
الكنيسة، ثم استئناف أساليب التعذيب الوحشية القديمة. بل لقد بلغت حال الأهلين في
هذه الولايات البابوية درجة من السوء، جعلت مبعوث بيدمنت لدى الحكومة في روما، يكتب
إلى رئيسه في تورين: إن من المنتظر حدوث أزمة أساسية وحادة إذا استمرت الأمور على
ما هي عليه في روما، إن النتيجة الأكثر احتمالًا لهذه الأزمة التي من المعقول توقع
حدوثها، هي أن المدينة العظيمة سوف تصبح عاصمة كنسية وحسب، فلا تحتفظ بغير صورة أو
شبح سلطانها الزمني السابق.
أما في نابولي فقد اعتلى ملكها فردنند الرابع العرش مرة ثانية، وتملأ فمه — على حد
قول بعض المؤرخين — الوعود الكاذبة، والأقوال الباطلة التي كان لا ينوي بتاتًا
الارتباط بها. فهو كان قد أصدر من مسينا في ٢٠ مايو سنة ١٨١٥ — بمناسبة عودته إلى
العرش، بعد هزيمة «مورا» في «تولينتينو» في ٢-٣ مايو — أصدر فردنند منشورًا وعد فيه
بالعفو العام، والإبقاء على الإصلاحات التي حصلت في عهد الملكيين الفرنسيين
السابقين؛ جوزيف بونابرت، ويواكيم مورا، واحترام حريات الأفراد وحقوقهم المدنية،
وتأييد حق الملكية، واستقلال القضاء، وفتح باب التوظف للجميع، ولكن فردنند الرابع
(الأول) الذي لم يكن من شيمته احترام وعوده، كان يتفاوض في الوقت نفسه مع
الإمبراطور النمسوي لإبرام معاهدة تحالف، اشتملت على مادة سرية تنص على أنه: لما
كانت هذه الارتباطات من أجل السلام الداخلي في إيطاليا، والتي أبرم بسببها الطرفان
المتعاقدان هذه المعاهدة، تحتم على كل منهما أن يحفظ دولته ورعاياه من وقوع رد فعل
أو حصول مستحدثات سريعة وبدع محفوفة بالمخاطر، قد يترتب عليها قيام اضطرابات جديدة؛
لذلك تَمَّ الاتفاق بين الطرفين المتعاقدين على أن ملك الصقليتين عند إرجاع حكومته
في مملكته، سوف لا يجيز أي تغيير لا يكون متفقًا مع أنظمة الملكية القديمة، ومع
المبادئ التي قرَّرها «الإمبراطور النمسوي» لإدارة شئون الحكم في مقاطعاته
الإيطالية. وقد أُبرمت هذه المعاهدة على نحو ما مرَّ بنا في موضعه في ١٢ يونيو
١٨١٥، وعلى ذلك فقد نُفذت في مملكة نابولي المبادئ التي قامت عليها الحكومة في
أملاك النمسا، وأما الأداة التي استُخدمت في تنفيذ هذه المبادئ فكان الأمير
كانوسا
Canosa أحد وكلاء الملكة كارولين
(زوجة الملك فردنند) سابقًا، ومن الذين أولوا رعايتهم اللصوص وقطاع الطريق، والعدو
اللدود لكل تقدم ولكل الآراء الحرَّة، ومع ذلك فقد أمكن حتى في هذا الوقت أن يشغل
وظائف الدولة الهامة حفنة من الأكفاء المقتدرين، الذين يُعزى إليهم الفضل في صدور
طائفة من القوانين الجديدة، والتي تدل على مهارة كبيرة في علوم التشريع والقانون،
ولكن لم تكن هذه القوانين تفيد شيئًا في دولة يوصم موظفوها الموكول إليهم تنفيذ هذه
القوانين الحكيمة بالرشوة والفساد، وبصورة أثارت اشمئزاز مبعوثي الدول وممثليها لدى
البلاط النابوليتاني، فكان المسئولون عن الأمن يحمون قُطَّاع الطرق واللصوص من
طائلة القانون، وكان هؤلاء الأخيرون يبسطون كذلك حمايتهم الشخصية على هؤلاء
المسئولين، وتأثر القضاة في أحكامهم بالخوف من ممثلي السلطة التنفيذية من جهة،
وبمقدار الرشاوى التي كانوا يأخذونها من المتقاضين، وصفوة القول: أن الانحلال كان
يسود الحياة «الحكومية» في مملكة نابولي، وينتشر فيها الفساد بالدرجة التي جعلت بعد
جيل من الزمان رجلًا مثل جلادستون
Gladstone
الوزير الإنجليزي المشهور، يصف حكومة البربون في نابولي بأنها كانت إنكارًا لكل ما
هو قدسي.
٥
صعوبات الحركة القومية
ولم تكن السيطرة النمسوية وحدها العقبة الكأداء في طريق الحركة القومية والوحدة
الوطنية، التي ما كان يمكن أن يظفر بها الإيطاليون إلا إذا قضوا على هذه السيطرة
النمسوية، وطردوا النمسا بقضها وقضيضها من إيطاليا. فلم تكن قوى الترابط والتماسك
بين «الوحدات السياسية» التي جُزئت إليها إيطاليا، ذات أثر كافٍ لخلق حياة عامة في
شبه الجزيرة الإيطالية.
فلم تكن هناك أوَّلًا، حياة اقتصادية مشتركة عندما ارتكزت في جوهرها الحياة
الاقتصادية في إيطاليا على الزراعة؛ أي على النشاط «الريفي» الذي كان معناه تدعيم
الحياة المحلية وتقوية أركانها في الأقاليم المختلفة. فكان لكل جهة سوقها الخاص
بها، منعزلًا عن الأسواق الأخرى، ويفصل كل إقليم عن الآخر حاجز من الضرائب الجمركية
المفروضة لحماية المصالح المحلية، أو التي كان الغرض منها كذلك؛ منع دخول منتجات
الأقاليم الأخرى إطلاقًا، ولم تكن بإيطاليا «عملة» أو نقد مشترك، أو موازين ومقاييس
واحدة معمول بها في كل «الدويلات» والإمارات. وتعطيل نشاط المصارف في كل مكان نتيجة
للقيود الثقيلة التي فرضتها القوانين عليها. فانعدم بسبب ذلك كله وجود الصناعات،
اللهم إلا إذا استُثنيت بعض صناعات نسج الحرير في لمبارديا وبيدمنت، ولم يوجد أي
نشاط تجاري كبير خارج جنوه وليقورنة وميلان، ولم يكن لدى إيطاليا ما تصدره إلى
الخارج سوى الحرير الخام من الشمال، وزيت الزيتون من جنوه ولوقا ونابولي، والكبريت
من صقلية. أما مجموع الصادرات من كل «الدول» والإمارات الإيطالية وقتئذ، فلم تكن
تزيد قيمتها عن حوالي ٤٥٠ مليون ليرة، وأخيرًا لم يوجد بإيطاليا بطبيعة الحال أي
جهاز حديث للاقتصاد. فلم يكن حينئذ في مقدور هذه الحياة الاقتصادية المحدودة
والقاصرة، أن تنشئ علاقات قوية تقوم على مصالح مشتركة بين مختلف الأقاليم، كما أنه
لم يكن من طبيعة هذه الحياة الاقتصادية إتاحة الفرصة ليجد المتعلمون والمجتهدون
الذين يريدون العمل المثمر منفذًا لنشاطهم.
وكما كانت هذه الحياة الاقتصادية من عوامل التفكك والعزلة الإقليمية في إيطاليا،
فقد كان للحياة الاجتماعية أثر في هذه الناحية لا يقل عن ذلك شأنًا، عندما كان سواد
الأهلين في إيطاليا من «الفلاحين»، أو كان حوالي ٦٠٪ على الأقل من الطليان يعملون
في الزراعة، ويعيش هؤلاء في تأخر ملحوظ؛ لتضافر عوامل عديدة على النيل من هذه
الطبقة وإضعافها. فهناك مرض الملاريا منتشر في بعض السهول الساحلية، وبحيث صارت هذه
الجهات إما صحراوية أو قليلة السكان جدًّا. ثم استمر العمل منذ قرون لإزالة الغابات
وهدمها، وقلع الأشجار من الجبال، وتعرضت تربة الأرض لفعل عوامل التعرية، ولم يتبع
الطليان نظامًا زراعيًّا مدروسًا (أو فنيًّا)، فكان محصول الحبوب متوسطًا أو
ضعيفًا، وبقيت الأساليب البدائية متبعة في زراعة الكروم وصنع الأنبذة، ولم يعرف
المزارعون المحاريث الكبيرة، بل استمروا يستخدمون المحاريث الرومانية القديمة،
وصفوة القول أن أقاليم قليلة زراعية فقط كانت على جانب من الثراء (القليل)، وتعرف
شيئًا عن أساليب الزراعة الحديثة، وذلك في المراعي الجميلة، وحقول الأرز في
لمبارديا وفي بيدمنت، وبعض الزراعات الصغيرة في حوض أرنو Arno (في فلورنسة)، كما كانت زراعة الزيتون وأشجار البرتقال
متقدمة في عدد من الجهات، وكان في لمبارديا ومملكة نابولي وفي بيدمنت أن انتشرت
الملكيات الصغيرة، وكانت هذه أصحابها من التجار في المدن، أو أنها كانت بقدر من
الضآلة يجعلها عاجزة عن إعاشة أصحابها، وأما الفلاحون سواء كانوا ملَّاكًا أو
مستأجرين، فقد عاشوا على وجه العموم عيشة مناسبة وإن كانت رتيبة؛ أي تسير على نهج
مألوف لا يتغير، ولكن السواد الأعظم — أي من غير هذه الطبقة بذاتها — قد عاشوا في
بؤس وضنك، فهم العمال الزراعيون الذين قام أودهم على الإحسانات وصدقات الجمعيات
التي عُرفت باسم «جمعيات المحبة والإحسان» لإسداء المعونة، والتي كانت جميعات
«كنسية»؛ أي مؤلَّفة من القساوسة ورجال الدين، كما تكفلت «المستشفيات» بهذا الواجب
أيضًا، ولم تزِد نسبة العمال الصناعيين على ١٥٪ من عدد السكان في إيطاليا، وكانت لا
تزال «الصناعة» في إيطاليا عبارة؛ إما حرفية أو مهنية، في المصانع والورش، وإما
منزلية، وكانت حياة هؤلاء «الصناع» محتملة بفضل اعتدال المناخ، ولقلة مطالب السكان
وحاجاتهم عمومًا، ولتعودهم على العيش في اعتدال في المأكل والمشرب إلخ، وكان هؤلاء
«العمال الصناعيون» من الذين تمتعوا بقسط كبير من الذكاء، ونال أكثرهم قدرًا لا بأس
به من المعرفة، ولكن انعدم من بينهم أي شعور «طبقي»؛ أي بأنهم يؤلِّفون طبقة قائمة
بذاتها منفصلة في كيانها عن سائر الطبقات في المجتمع، ولقد تعذر كسبهم إلى جانب
النشاط السياسي إلا بعد سنة ١٨٣٠، وذلك على يد جمعية «إيطاليا الفتاة» التي سيأتي
الكلام عنها في موضعه.
وفي إيطاليا لم ينشأ بين الطبقات الأخرى أي شعور بأن هناك «واجبًا اجتماعيًّا» نحو
سواد الشعب، الذي عرفنا أنه يتألَّف من الفلاحين بنسبة ٦٠٪ والصناع بنسبة ١٥٪، فلم
تسترعِ الأحوال التي عاش فيها هؤلاء انتباه أهل الطبقات الأخرى إلى إدراك أن هناك
«مشكلة اجتماعية» تتطلب معالجة وحلًّا. فلم يكن «للمسألة الاجتماعية» مكان في تفكير
قادة الرأي الأحرار، الذين قامت مبادئهم على الحرية الكاملة في شئون الاقتصاد،
ولكنهم أداروا ظهورهم لهذه المسألة، فبقي سواد الشعب بعيدًا عن مسرح السياسة، ولم
يقم بدور سياسي إلا في الحالات التي غلبه البؤس فيها، فاستفزه اليأس إلى الثورة
«الوحشية».
وإلى جانب هذه الكتلة الشعبية (الراكدة)، أو التي رضيت بالعيش في الظروف التي
ذكرناها دون أن تحرك ساكنًا، ضم إليه المجتمع الإيطالي كتلة ضخمة من القساوسة ورجال
الدين، بلغ عددهم (١٥٠) ألفًا، وتمتعوا بنفوذ عظيم على الأهلين، الذين عُرفوا
بالتمسك بأهداب الدين، واشتهروا بالتعلق بالمعتقدات الباطلة والأوهام، وانتمى
القساوسة وصغار رجال الدين إلى طبقات الشعب العادية، ولكن كبارهم والذين تألَّفت
منهم الهيئات الحاكمة والإدارية في الكنيسة، كانوا من بين الطبقات العليا في
المجتمع، ويفسر انتماء القساوسة إلى الطبقات الشعبية، لماذا صار كثيرون من هؤلاء من
عداد الوطنيين والأحرار في إيطاليا، وهم سوف يساهمون في الحركات الثورية، وعلى وجه
الخصوص في لمبارديا وفي صقلية، وكذلك فقد صار لموقف «الكنيسة» من الحركة القومية
والوطنية، ولموقف القساوسة ورجال الدين أثر بالغ في تطور هذه الحركة، ومع ذلك فقد
تمتع الأكيروس في إيطاليا بكل الامتيازات، ونجم من وجود هذه الطبقة الكنسية كل
المساوئ المرتبطة في كلا الحالين «بالنظام القديم»، وكان ضروريًّا لذلك أن يتجه
النشاط السياسي في الولايات البابوية، وأن يتبع الكرسي البابوي سياسة «رجعية»
تمامًا، تهدف إلى دعم الامتيازات التي تتمتع بها «الكنيسة»، وتأييد النفوذ الذي
لرجال الدين في إيطاليا، وكان هذا النفوذ على وجه العموم ضد كل الآراء والمبادئ
الحرَّة والقومية، واستمر الحال على ذلك حتى حدث «الانقلاب» الخطير الذي تسبب من
اعتلاء عرش البابوية، البابا بيوس التاسع، وهو البابا الذي أدار دفة السياسة
الكنسية في طريق الآراء الجديدة، فكان هذا التوجيه من العوامل الحاسمة التي ساعدت
ولا شك على تقوية الحركة القومية «والدستورية» الحرَّة في إيطاليا بعد سنة
١٨٤٦.
ولم يكن بإيطاليا «أرستقراطية عقارية» تستطيع الهيمنة على سواد الشعب وتوجيهه، فقد
وجدت فقط الممتلكات الشاسعة التي تملكها أسرات معينة في كلابريا (بالطرف الغربي من
الحذاء الإيطالي) وفي صقلية، ولكن الملاك لم يقيموا في أملاكهم، فلم يكن لهم أي
نفوذ على الأهلين بهذه الجهات، ومع ذلك فقد شهدت إيطاليا عددًا عظيمًا من النبلاء
موزعين في أنحائها؛ الكونتات خصوصًا في الشمال، والأدواق والأمراء في الجنوب، وحتى
إن ألقاب النبل هذه فقدت قيمتها كثيرًا بسبب الأعداد الضخمة من أولئك الذين تمتعوا
بها، ولقد كان في ميلان وحدها تقريبًا أن عاشت أرستقراطية على درجة من المقدرة،
سرعان ما صار لها نفوذ ملموس في كل أنحاء لمبارديا، كما وُجدت في بيدمنت أرستقراطية
إقطاعية وعسكرية كان لها كذلك أثر معين في حياتها، ولكن هذه الأرستقراطية
البيدمنتية بقيت على «خشونتها»، فلم يتهذب أعضاؤها أو تنتشر المعرفة والتنوُّر
بينهم بدرجة كافية، ولقد كان في فلورنسة أن عاشت أكثر الأرستقراطية تهذيبًا في
إيطاليا. أما هؤلاء الأرستقراطيون عمومًا فقد عاشوا في المدن عيشة «ضيقة»؛ إذ لم
يكونوا أثرياء بالدرجة التي يتطلبها العيش في أسلوب متفق مع مراتبهم النبيلة، فلم
تختلف حياتهم عن حياة أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية) العالية. على أن هؤلاء
الأرستقراطيين كانوا شديدي التمسك بالامتيازات التي لهم، وذلك لسبب جوهري هو أن
كيانهم نفسه — أي قدرتهم على العيش والحياة — كان رهنًا ببقاء هذه الامتيازات، وعلى
وجه الخصوص؛ ذلك الامتياز الذي أعطاهم الحق في شغل وظائف الحكومة، واستشرى الفساد
بينهم، وتطرق الانحلال إلى صفوفهم، خصوصًا في روما والبندقية ونابولي. ولم يكن
مستغربًا لذلك أن يبرز من بين هذه الطبقة الأرستقراطية جماعة من النبلاء الذين
امتزجوا مع البورجوازية في حركات التحرير القومي وتأييد المذاهب الحرَّة. من هؤلاء:
سانتا روزا Santa-Rosa، وباندييرا Bandiera، ودازيجليو، وكافور، وغيرهم
كثيرون.
على أن أهم الطبقات إطلاقًا التي تألَّف منها المجتمع الإيطالي، والتي كانت بمثابة
«القوى الاحتياطية» التي اعتمدت عليها إيطاليا في تحقيق وحدتها القومية والوطنية
وتأييد المبادئ الحرَّة (الديموقراطية)، كانت الطبقة المتوسطة
(البورجوازية).
ولقد كان في عهد السيطرة الفرنسية، أن بلغت هذه الطبقة «البورجوازية» ذروة رفعتها،
عندما أمدوا «الحكومة» بالموظفين والضباط والمهندسين، وكان من بينهم الْكُتَّاب
والمفكرون، ولقد غذت الجامعات من الناحية الذهنية هذه الطبقة، حيث زخرت إيطاليا
بالجامعات التي بلغ عددها وقتئذ أربعًا وعشرين، يؤمها حوالي الأربعة أو الخمسة عشر
ألف طالب. أما أكبر هذه الجامعات، فكانتا اثنتين؛ إحداهما: في بولونا، والثانية: في
نابولي، وتليهما في المرتبة الثانية: الجامعات في تورين، وبادوا، وبافيا، وروما …
إلخ وأُمسحت الفوارق الطبقية من هذه الجامعات، فجلس شباب النبلاء مع شباب
البورجوازية جنبًا إلى جنب، وتألَّف من مجموع الأساتذة والطلاب طائفة من الناس
كثيرًا ما خضعت لنزوات أهوائها، تهزها الأحداث سريعًا، وتعمد إلى العمل والنشاط عند
أول بادرة، واستمتع الأساتذة بنفوذ عظيم على طلابهم، وأمدَّ الأساتذة والطلاب
جميعًا الحركة القومية والوطنية بالعناصر والقوى اللازمة لقيامها ولبقائها. فكانت
جامعة بولونا مركز الحركة الثورية في سنة ١٨٣١، وكان الأساتذة والطلاب في جامعة
بيزا Pisa وجنوه وبافيا أول المتطوعين في
ثورات سنة ١٨٤٨.
ولقد اضطر هؤلاء الطلاب عند تخرجهم إلى الاشتغال بالطب أو بالقضاء؛ ليحصلوا على
لقمة العيش في مجتمع لم تتوفر فيه أسباب النشاط الاقتصادي، وجعل الالتحاق بوظائف
الحكم والإدارة مقصورًا على أهل الطبقة الأرستقراطية، كما كان الجيش مغلقًا في
وجوههم بسبب قصر الترقيات فيه على أبناء الأرستقراطيين؛ أي النبلاء وحدهم. أما
الباب الآخر لكسب العيش، فكان الاشتغال بالأدب، وعلى وجه الخصوص «بالصحافة»، ومع
ذلك فقد اعترضت صعوبات كثيرة هذه الصحافة؛ بسبب الاصطدام المستمر مع «الرقابة»،
ولقد كانت الرقابة صارمة وقاسية لدرجة تأثرت بها حياة الطباعة والنشر (والحياة
الذهنية تبعًا لذلك) في إيطاليا، فلم يصدر خلال أربع سنوات بتمامها بين ١٨٣١، ١٨٣٥
سوى (٢٨٣١) مطبوعًا فقط في كل أنحاء البلاد، كانت أكثرها مع ذلك مجرد «طبعات»
معادة.
ولقد قاسى أهل هذه الطبقة المتوسطة، التي تألَّفت داخل جدران الجامعات من ظروف
الحياة السياسية السائدة والأحوال الاجتماعية، فكان عناؤهم شديدًا من «أنظمة» عملت
الحكومات الراجعة على دعمها؛ فشعروا بالمرارة، واحتدم في نفوسهم الغيظ من نوع
الحياة التي أوجدتها هذه «الأنظمة»، فكان من المنتظر أن تقوم «الثورة» عند حدوثها
على أكتافهم؛ الثورة التي أرادوا منها إزالة هذه الأنظمة التي ضمنت «السيطرة
النمسوية» بقاءها، طالما بقي النمسويون أصحاب السلطان ويفرضون حكمًا استبداديًّا
على الأهلين في كل أنحاء إيطاليا.
وهكذا لم يكن المجتمع الإيطالي يضم إليه العوامل أو القوى التي تجعل منه مجتمعًا
واحدًا ذا أغراض مشتركة مُوَحَّدة، ولكن هذا المجتمع — كما رأينا — كان يحتوي على
عناصر وقوى متفرقة، مستمدة من الأحوال السائدة في مختلف جهات شبه الجزيرة
الإيطالية، وهي أحوال الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتشابهة، بالرغم
من «ظاهرة المحلية» التي كانت لها، والتي كان ممكنًا أن تزود هذا المجتمع، بمجرد أن
يكتمل الشعور بوجود هذا التشابه نفسه، بنخبة من المفكرين والزعماء الذين يتولون
قيادة «الحركة القومية» الوطنية (والدستورية) وتوجيهها.
على أنه مما يجدر ذكره هنا؛ أن المساهمة في «المجالس البلدية» كان فيما مضى الشكل
الوحيد الذي اتخذته المشاركة في الحياة العامة بإيطاليا، حتى إذا خضعت شبه الجزيرة
لسيطرة الفرنسيين، ألغى نابليون هذه المجالس. ثم حرصت الحكومات الراجعة بعد نابليون
على عدم إحيائها، وإعادة تشكيلها، وعلى ذلك فقد تعذر على كل ذلك «الرأي» الذي بدأ
يتكون، وكل ذلك النشاط الذهني الذي أخذ يبحث عن منفذ له، أن يجد الأداة التي
تُمَكِّنه من فعل ذلك، وكان ضروريًّا أن يقترن هذا البحث ويسفر في الوقت نفسه عن
تحطيم النظام القائم، الأمر الذي تسنى حدوثه عند اشتعال الثورات الوطنية لنصرة
المبدأ القومي والمذهب الحر.
ولقد كان من الطبيعي أن تستأثر الاعتبارات المحلية باهتمام الأهلين في مجتمع مثل
الذي شهدناه، كان موزعًا في «جماعات» منعزلة عن بعضها بعضًا، ولم يكن يهتم بما يمكن
تسميته بالمسائل العامة، والتي كان من المتعذر تولد الشعور بها؛ أي بأن هناك
اعتبارات «عامة» تربطها تيارات عامة.
ومع ذلك فقد وجد الإيطاليون في مختلف الدويلات أو الإمارات القائمة بشبه الجزيرة
الإيطالية، أنهم إنما يصطدمون بنظام واحد، نظام الحكومة المستبدة، والتي تفاوتت
درجات استبدادها، والمساوئ المتولدة منها، بين مكان وآخر فقط، فلم يوجد لدى هذه
الحكومات المستبدة رقابة على الطريقة التي تُفرض أو تُجبى بها الضرائب، ولم يكن
الحكام في هذه الدويلات والإمارات مسئولين أمام أي إنسان عن السلطات التي
يمارسونها، ولم يكن للأهلين (أو الشعوب) أي صوت «استشاري» فيما يصدر من قوانين
ويُوضع من تشريعات. وَجُرِّدَ هؤلاء من أية حقوق تكفل لهم حرية الاجتماع، وتشكيل
الجمعيات، حتى تلك العلمية أو الزراعية، ولم تكن هناك إدارة أو حكومة «منظمة» إلا
في مملكة لمبارديا فينيشيا، وفي بيدمنت، وكان يوجد بهاتين «مجالس إقليمية»، ولو أن
هذه لم تكن ذات نشاط وكانت محرومة من كل سلطة حقيقية، وفي كل هذه الدويلات منع نظام
الرقابة الصارم الأهلين من المشاركة في أي نشاط سياسي، وتحتم عند الرغبة في نشر
كتاب من الكتب أن يحصل الناشر على تصريح أو إذن بالنشر من الرقابة. وتحتم في بعض
جهات إيطاليا أن «يأذن» السلطات الكنسية بالطبع، مهما كان نوع الكتب المراد طبعها،
حتى ولو كانت هذه تتناول موضوعات اقتصادية. وكان طبع الكتب ونشرها عملية ذات تكاليف
باهظة، ويستغرق الحصول على موافقة «الرقابة» على الطبع والنشر زمنًا طويلًا، وفي
حالات كثيرة كان يتعذر «خروج» كتاب من دويلة أو إمارة إلى أخرى، واجتياز فواصل
الحدود المحلية. ولم توجد صحافة بالمعنى الصحيح في إيطاليا، وفي سنة ١٨٣٣ لم يكن في
كل إيطاليا متداولًا أكثر من مائة مجلة أو جريدة دورية من مختلف الأنواع، ولعل أخطر
المثالب والعيوب في الأنظمة والهيئات «الحكومية» في إيطاليا وقتئذ، كانت تلك
المشاهدة في نظام القضاء. فانفردت تسكانيا وحدها من بين كل الدويلات الإيطالية
بأنها يمكن اعتبارها دولة «حديثة» من هذه الناحية «القضائية»؛ ففي تسكانيا وحدها،
كان هناك قانون جنائي مستند على قواعد مستنيرة، وفيما عدا «تسكانيا»، ثم «لمبارديا
فينيشيا» لم يكن يوجد بأية دويلة أخرى محاكم على درجة معقولة من التنظيم والكفاية،
وقامت المحاكم الاستثنائية في كل مكان، وفي الولايات البابوية على وجه الخصوص، ثم
في بيدمنت لحماية مصالح «الكنيسة». ولم يكن يوجد نظام المحلفين إلا في تسكانيا وفي
نابولي، وفي تسكانيا وفي بارما وحدهما؛ كانت جلسات المحاكم والإجراءات القضائية
علنية، وأما القوانين المعمول بها في كل هذه الحكومات، وخصوصًا في الولايات
البابوية وفي دوقية بارما ومملكة بيدمنت، فكانت على درجة كبيرة من الخلط والتشويش
والتضارب، وأخيرًا انتشرت المحاكم السرية في كل مكان لمراقبة أية يقظة سياسية،
واستخدمت في هذه المحاكم السرية وسائل التعذيب البدني والأدبي، وكان من أجل اجتثاث
كل عناصر الحياة السياسية الْمُحَرَّمة على الشعب، أن اعتمدت الحكومات على جيش كبير
من العسس والشرطة والأعوان، الذين اكتظت بهم إيطاليا في هذا العصر، وانتشرت
الجاسوسية في المقاهي والمسارح وما إليها، وفي البيوت، وحتى في أماكن العبادة
و«الاعتراف».
الجمعيات السرية والكاربوناري Carboneria
ولقد كان من المتوقع أن يسفر هذا «النظام» المتسم بالرجعية والاستبداد عن نتيجة
واحدة؛ النضال ضد المساوئ والشرور المقترنة به، والتي عانى منها الأهلون عناءً
شديدًا، وكان هذا الكفاح هو المسألة الرئيسية التي شغلت الإيطاليين في عهد هذه
الحكومات الرجعية، بعد ١٨١٥.
ومما تجدر ملاحظته أنه كان كفاحًا «محليًّا»، فلم يكن هناك كفاح في مجهود عام
مشترك، ومن أجل إنقاذ إيطاليا من هذه الكوارث التي حلَّت بها بسبب «النظام» القائم؛
بل كان الغرض من هذا الكفاح إزاحة المظالم «المحلية» التي ناء تحت أعبائها الأهلون
في كل إقليم. مما كان معناه أن الفكرة الحرَّة — بمعنى إنهاء الطغيان المحلي، مبعث
الشرور التي نزلت بالأهلين — كانت المتغلبة على أية فكرة «قومية»، وجاءت هذه الفكرة
«الحرَّة» في ترتيب ظهورها قبل الفكرة الوطنية القومية.
ثم إن هذا الكفاح أو النضال «المحلي» حدث متفرقًا؛ أي في كل بلد أو جهة منعزلًا
عنه في البلدان والأقاليم الأخرى. فالمناضلون في دويلة أو إمارة من الإمارات يعملون
بمعزل عن نظرائهم في الدويلات الأخرى، ويقصرون جهودهم على العمل في داخل حدود
بلادهم؛ أي إنه كان نضالًا مُجَزَّءًا وَمُوَزَّعًا، ولم يكن مستطاعًا القيام بهذا
النضال إلا بواسطة الجمعيات السرية؛ لأنه كان ممنوعًا اللجوء لغير ذلك من وسائل،
وتعذر اتصال هذه الجمعيات السرية بعضها ببعض، فكان ذلك من أسباب بقاء النضال
«محليًّا»، ولم يمكن إطلاقًا تنسيق جهود هذه الجمعيات، وانعدم وجود هذا التنسيق
فعلًا.
على أن أعضاء هذه الجمعيات السرية كانوا متشابهين في كل مكان قامت به هذه، فهم
دائمًا من البورجوازيين (أهل الطبقة المتوسطة) الأحرار، ومن المثقفين، ومن الضباط،
كما كان من بينهم كذلك عدد من النبلاء الذين تأثروا بالآراء التي جاءت بها السيطرة
الفرنسية السابقة، أضف إلى هذا أنه كان لهذه الجمعيات السرية أهداف وأماني واحدة،
ولو أنه انعدم وجود حركة عامة جماعية لتحقيق هذه الأهداف والأماني.
ولما كان الغرض المباشر (وهو ما كان يتمثل في هذه الأهداف والأماني) ينحصر في
مكافحة المساوئ والشرور «المحلية»؛ أي تلك التي تمخض عنها نظام «لحكم القائم في كل
إقليم على حدة»، فقد ضمت إليها هذه الجمعيات السرية عناصر «محلية»، وصار من
المتوقع، وعلى نحو ما حدث فعلًا أن يسبق العمل المادي أي تفكير نظري، أو وجود غايات
ومُثل عليا. فتألَّف نضال الجمعيات السرية من سلسلة من حركات التمرد والعصيان وحبك
خيوط المؤامرات، ومحاولة تحريك الأهلين على الثورة، وكان الغرض من كل هذا «النشاط»
تحقيق غايات عاجلة، بإزالة المساوئ موضع الشكوى، فلم يشغل الجمعيات السرية التفكير
في ابتداع مبدأ عام، أو بث الدعوة لعقيدة سياسية أو وطنية معينة.
وعمدت الحكومات إلى مقابلة حركات «النضال» المتفرقة هذه على أيدي الجمعيات السرية،
بحركات مضادة للمقاومة المتفرقة كذلك؛ أي تأسيس الجمعيات المناهضة، مما جعل
الجمعيات السرية — من جانب الأهلين المتآمرين على الحكومات، ثم من جانب هذه
الحكومات ذاتها ضد هؤلاء المتآمرين عليها — تنتشر في كل أنحاء إيطاليا، وتزيد
«النضال» تعقيدًا.
ولا جدال في أن تغلغل روح الحزبية بين الطليان، كان من أهم الأسباب التي ساعدت على
انتشار الجمعيات السرية، وسَهَّلَ استمالتهم إلى هذا النوع من النشاط «السري» بفضل
الأثر الذي تركه في نفوسهم وفي حياتهم دائمًا، الانخراط في المنظمات السرية، ولأنهم
وجدوا في العمل السري نفسه إرضاء لغريزتهم الثائرة والمكبوتة، والتي تولدت من
الخضوع سنوات طويلة لحكم استبدادي ثقيل، ولقد أخذت تنتشر الجمعيات السرية في
إيطاليا، عندما بدأت تنهار السيطرة النابليونية في شبه الجزيرة، وانتهت أمجاد تلك
الانتصارات العسكرية التي بهرت الإيطاليين، وبعثت الآمال من جديد في إمكان التحرر
من هذه السيطرة الأجنبية، فكان قبل سقوط نابليون حينئذ؛ أن تألَّفت في بولونا جمعية
راهدجي Raggi، وفي مانتوا Mantua جمعية شينتري Centrl،
وفي ميلان: الجمعية المناوئة لأوجين بوهارنيه Anti-Eugeniani، وفي إيطاليا العليا الجمعية الماسونية Massoneria، وفي نابولي جمعية الكاربوناري،
وصارت هذه الجمعيات تزاول نشاطها سرًّا، وكان لكل واحدة من هذه الجمعيات أمانيها
وغاياتها الخاصة بها، ولكنها كانت متفقة على شيء واحد هو مقاومة السلطات الحكومية
التي أقامها الفرنسيون في شبه الجزيرة. ثم ما لبثت هذه الجمعيات السرية أن تكاثرت
بعد تسوية فينا (١٨١٥)، عندما قضى «النظام» الذي أوجدته هذه التسوية للحكم في
إيطاليا على كل أمل في إمكان تأسيس الحكومات الحرَّة، وتزايد نشاط الجمعيات السرية،
كما صارت أكثر جرأة.
وينعقد الرأي على أن هذه الجمعيات السرية كانت متفقة في مسألة واحدة، هي تحقيق
الاستقلال القومي وإنهاء السيطرة الأجنبية، وفيما عدا ذلك لم يكن هناك أي تنسيق —
كما ذكرنا — لنشاطها، ولم يكن لدى الجمعيات برامج معينة للمستقبل بعد نيل
الاستقلال.
وأما الجمعيات المضادة التي أنشأتها الحكومات لمقاومة هذه الجمعيات السرية فكانت
متعددة؛ ففي نابولي قامت جمعية كالديراري
Calderari، التي أعاد وزير البوليس في نابولي تنظيمها في سنة
١٨١٦، أو شودرونييه
Chaudrenniers؛ أي النحاسين ضد
«الكاربوناري»، أو شاربونييه
Charbonniers؛ أي
الغمامين، وفي الولايات البابوية سُمِّي أعضاء الجمعيات الرجعية، الكنسية، بأصحاب
الإيمان المقدس
San-Fedistes،
٦ وفي بيدمنت سُمِّي هؤلاء بالفدرائيين
Federati أو بالأدلفيين
Adelfi، الذين تألَّفت منهم جمعيات كاثوليكية مناوئة
للجمعيات السرية التي للأحرار، ولقد وجد في إيطاليا الوسطى نوع من التفاهم بين
حكومات الدوقيات المختلفة والأمراء، حكام هذه الدوقيات في تلك المنظمات أو الجمعيات
التي عُرفت باسم كونسيستوريو
Consistorio، وكان
ينتمي إلى هذه الجمعيات عدد عظيم من الناس، مثال ذلك؛ أن عدد المنتسبين لجمعيات
«الأدلفي» وغيرها، بلغ في مدينة ليشي
Lecce في كعب
الحذاء الإيطالي (في مملكة نابولي) حوالي أربعين ألفًا، أكثرهم من المسلمين.
ومع ذلك فقد كانت أهم هذه الجمعيات وأوسعها انتشارًا جمعية الكاربوناري، التي كان
مقرها الرئيسي في مملكة نابولي، ويبدو أنها تأسَّست حوالي عام ١٨٠٧ في جبال هذه
البلاد، وتألَّفت من المشتغلين بحرق الخشب لإنتاج الفحم في غابات كلابريا، وكان
الغرض من تشكيلها طرد الفرنسيين من البلاد، ولقد نُظمت «الكاربوناري» في محافل
ويلتحق بها الأعضاء بعد تأدية طقوس معينة، فيحلفون اليمين لطاعة أوامر رؤسائهم،
وتخضع هذه المحافل لتوجيه «محفل أعلى»، وبلغ عدد أعضاء الكاربوناري في مملكة نابولي
حوالي ستين ألفًا في سنة ١٨١٦، كان من بينهم كثيرون من اللصوص وَقُطَّاع الطريق
الذين أذوا سمعة الجمعية بارتكابهم مختلف الجرائم، وكثر عدد الكاربوناري كذلك في
الولايات البابوية، خصوصًا في إقليم «رومانا»، ثم في الإمارات الخاضعة لسلطات
النمسا، وخصوصًا في لمبارديا، وكان بعد انتهاء السيطرة الفرنسية من إيطاليا أن صار
غرض «الكاربوناري» طرد النمسويين من شبه الجزيرة، والعمل من أجل توحيد إيطاليا
وتأسيس الحكومة الدستورية بها، ولم يعد الفرنسيون أعداء الكاربوناري، بل صار هؤلاء
أصدقاءهم الآن وتحالفوا معهم.
وإلى جانب «الكاربوناري» تزايدت أهمية الجمعيات الماسونية (أي البنائين الأحرار)،
ولو أن أغراض كل منهما اختلفت عن الأخرى عندما كان الكاربوناري من المتآمرين
والمستعدين دائمًا لقيادة الثورة المسلحة ضد النظام القائم، في حين استهدفت
الماسونية أغراضًا إنسانية، ومع ذلك فقد انتمى أعضاء الجمعيتين إلى الطبقة المتوسطة
(البورجوازية) التي كانت تدين بالمبادئ الحرَّة، والتي وقفت موقف المعارضة الشديدة
ضد سلطة رجال الدين (والقساوسة)، ثم ضمت الجمعيتان إليها الضباط والعسكريين
المتذمرين من الحكومات الراجعة، ويبدو أنه كانت هناك صلات سرية تربط بين هاتين
الجمعيتين عن طريق بعض رؤسائهما وزعمائهما الذين انتموا للجمعيتين معًا وفي وقت
واحد.
أما هؤلاء الإيطاليون الثوريون، أعضاء الجمعيات السرية التي ذكرناها فقد عجزوا عن
تنظيم حركة ثورية أصيلة؛ بل كان كل ما فعلوه أنهم حرَّكوا الأهلين للقيام «بثورات
مُقَلَّدة» وحسب، محتذين في حركتهم حذو الثورات التي حدثت خارج بلادهم، والتي
شجعتهم على القيام بحركتهم، وأعدوا لثورتهم برامج مستوحاة كذلك من الخارج — أي من
البلاد الأجنبية — فأسفرت جهود هذه الجمعيات السرية «والكاربوناري» عن ثورتين؛
الأولى: في سنة ١٨٢٠، ١٨٢١، وكانوا يقلدون في ذلك الثورة التي قامت في إسبانيا سنة
١٨٢٠، والثانية: بين سنتي ١٨٣٠، ١٨٣٢، وتعتبر هذه «امتدادًا» إذا صح هذا القول، أو
من «نتائج» ثورة يوليو في فرنسا.
ثورات ١٨٢٠ و١٨٢١
أما ثورة ١٨٢٠، فقد بدأت في نابولي، حيث غضب الضباط والعسكريون الذين خدموا في جيش
«مورا»، والذين عُرفوا كذلك باسم الموراتيين Muratists — من حرمانهم من الترقية في عهد الحكومة الراجعة،
وصاروا كذلك يطالبون بالدستور، ومع أن أكثر هؤلاء الضباط كانوا من «الكاربوناري»
فإنهم لم يتآمروا على الحكومة، ولم يجرؤ زعماؤهم على المجازفة بتحريك الثورة، فكان
على أيدي اثنين من صغار الضباط في سلاح الفرسان هما؛ موريللي Morelli وسلفاتي Salvati، أن
بدأت الثورة في مقر معسكرهم في بلدة نولا Nola،
يوم ٢ يوليو ١٨٢٠، بالمناداة بحياة الملك والدستور! وغادرا مع فرسانهم (١٢٧) نولا
إلى أفللينو Avellino، يرفعون علم الكاربوناري
المثلث الألوان — الأسود والأحمر والأزرق — فانضم إليهم حاكم هذا المكان الأخير،
وعدد من الناس، واستأنفوا السير قاصدين إلى العاصمة «نابولي».
ولم تكن أعداد هؤلاء الزاحفين كبيرة، فلم تتألَّف منهم سوى «مظاهرة» قوامها بعض
عناصر الجيش، والجمعيات الثورية، ويسهل القضاء عليها لو أن الحكومة سيرت ضدها
قواتها، ولكن الوزراء كانوا ضعافًا ومترددين، وأما الملك «فردنند الرابع» — أو الأول
٧ — فكان جبانًا استبد به الرعب والهلع عندما بلغه النبأ، فانتهز
«الثوار» فرصة التردد الذي ظهر من جانب الحكومة، فتشجعوا على المضي في حركتهم،
وتزايد عددهم، وأخذوا ينشئون الصلات مع «مراكز» الثورة الأخرى. وفي ليل ٤-٥ يوليو؛
استطاع الجنرال جوجليلمو بيبي
Guglielmo Pepe،
وكان من الكاربوناري، الفرار من نابولي، بمجرد أن حامت حوله الشبهات، فصار يحرض
الأهلين على الثورة، وتزعم الحركة، وأشار الوزراء المرعوبون على الملك بالتسليم
والتظاهر بتأييد الثورة، حيث إنهم لا يقدرون على كبح جماحها، وعلى ذلك فقد حضر خمسة
من الكاربوناري صبيحة يوم ٦ يوليو إلى بلاط الملك، وباسم الشعب الذي قالوا: إنه قد
صار مسلحًا عن بكرة أبيه، أرغموا الملك على قبول الدستور الإسباني الصادر في سنة
١٨١٢؛ وهو الدستور الذي سبق الحديث عنه، عند ذكر نضال الأحرار ضد نظام الحكم المطلق
في إسبانيا.
وبمجرد ذيوع الخبر بقبول الدستور، وحصول تغيير في الحكومة ينهي الظلم والاستبداد،
اعتقد أهل نابولي أن عهدًا جديدًا قد بدأ، ولكنه قد فات هؤلاء الذين رحبوا ببداية
هذا العهد الجديد، أن هنالك النمسا تقف بالمرصاد للقضاء على هذه الأماني الوطنية،
ولم يدخل في حسابهم أن مليكهم سوف يغدر بهم سريعًا؛ لأن الخيانة والغدر كانا من
شيمة الملك فردنند.
ولقد أضعف النظام «الدستوري» الجديد استقرار الاضطرابات الداخلية وإثارة الخواطر،
من ناحية، وإصرار «الكاربوناري» على الاستئثار بكل سلطة، ثم تطرف الأحرار، الذين
دلَّ مسلكهم على أنهم لم يكونوا محنكين، وتعوزهم الخبرة، ومع ذلك فقد كان من
المستطاع بقاء «الدستور»، ودعم الحكم الدستوري تدريجيًّا لو أن النمسا لم تتدخل
لتقضي سريعًا على كل فرصة قد تساعد على ذلك. فقد بدأ «مترنخ» ينشط من وقت مبكر،
فأرسل منذ ٢٥ يوليو إلى مختلف الحكومات في ألمانيا منشورًا يبلغها أن النمسا لا
تستطيع السكوت على ثورة نابولي، وأنها سوف تبعث بجيشها إذا لزم الأمر لإخضاع هذه
الثورة، وأراد مترنخ الحصول على موافقة الدول العظمى قبل بدء التدخل. فكان في مؤتمر
«ترباو» أن استطاع مترنخ أن يظفر في الظروف التي عرفناها عند الكلام عن «الاتحاد
الأوروبي»، ببروتوكول «ترباو» المشهور في ١٩ نوفمبر ١٨٢٠، الذي يقرِّر مبدأ
«التدخل» لإخضاع الثورات الداخلية التي تقلب نظام الحكم في دولة من الدول، والتي
يُخشى من أخطارها على الدول الأخرى، وحضر الملك فردنند المؤتمر الذي انعقد بعدئذ في
«ليباخ» فتنكر للدستور، ولشعبه بعد أن كان قد أقسم اليمين المغلظة لصيانة الدستور
والمحافظة عليه، ومما كان قد جعل البرلمان في نابولي يوافق على ذهابه إلى المؤتمر،
ووافق المؤتمرون في «ليباخ» على أن يذهب جيش من النمسا لإعادة النظام في نابولي (٨
يناير–١٢ مارس ١٨٢١)، وعلى ذلك فقد أعلن برلمان نابولي الحرب التي أرادها الجنرال
«بيبي» وأرادها الشعب النابوليتاني، الذي اعتقد أن مليكه إنما تخلى عن الدستور وحنث
في يمينه، تحت ضغط الدول فقط، وطلب الكاربوناري الحرب كذلك، ولكن هذه الرغبة العامة
في الحرب ضد النمسا لم يكن مبعثها تصميمًا قويًّا من جانب الشعب، أو التطلع لكسب
انتصارات مجيدة؛ بل صدرت عن حماس مستند على التهوين بشأن الجيوش النمسوية التي سوف
تصطدم بها القوات النابوليتانية، وتولى «بيبي» قيادة هذه القوات الأخيرة التي لم
تلبث أن انهزمت على أيدي النمسا بالقرب من ريتي Rieti في ٢٧ مارس ١٨٢١، وكانت هذه الهزيمة ضربة قاصمة، قضت على
كل مقاومة، فلم يجرؤ سوى ستة وعشرين نائبًا من أعضاء البرلمان على الموافقة على
احتجاج ضد النمسا، وفي ٢٣ مارس؛ دخلت القوات النمسوية نابولي؛ لتعيد الحكومة
المطلقة، ورجع الملك فردنند إلى عاصمة ملكه، وقُضي على ثورة نابولي. ومع ذلك فقد
بقيت جذوة الوطنية مشتعلة ولم تنطفئ بالرغم من اعتقاد المنتصرين أنهم قد أخمدوها؛
وذلك لأن هؤلاء راحوا في صلابة وعناد يحكمون البلاد حكمًا تعسفيًّا، يقوم على
الاضطهاد والعنف والقسوة الباطشة.
وعلى أنه في حين كانت تتعاون مؤامرات البربون الغادرة من ناحية وتهور الثوار من
ناحية أخرى على فشل هذه الثورات في نابولي، كانت الثورة تقوم في أقصى الشمال
الإيطالي في بيدمنت، ولقد كان حتى في هذه الجهات ينتمي كثيرون لجمعية الكاربوناري،
خصوصًا من الجيش، وهذا إلى جانب الجمعيات السرية الأخرى التي كان أعضاؤها من
الطبقات الأحسن حالًا في المجتمع البيدمونتي، وأما هذه الجمعيات جميعها، وسواء كانت
برامجها متفاوتة في الجرأة، فقد كانت تهدف إلى غرض واحد؛ هو طرد النمسويين من
إيطاليا، وتشترك في صيحة واحدة هي المناداة بالدستور. ولقد كان مما شجَّع الناس على
الاعتقاد بأن ملك بيدمونت فيكتور عمانويل سوف ينتهي به الأمر إلى الانضمام إلى
الحركة بمجرد إعلانها، أن الملك كان كريم الخلق، طيب النفس، ثم إن القائمين على
الحركة كانوا من الأسرات المحترمة، ورجالًا معروفين بالقدرة والكفاءة، وفي وسع
الملك أن يضع فيهم ثقته. من هؤلاء كان الكونت كارلو دي سان مرزانو Marzano ياور الملك، وجياشينتو دي كوللينو Giacinto di Collegno قائد المدفعية،
والأمير ديللا شيسترنا Cisterna، والكولونيل
ريجيس Regis، والكونت سانتوري دي سانتا روزا Santorre de Santa Rosa، وغير
هؤلاء كثيرون، من الذين كانوا مقربين في بلاط الملك، أو يشغلون الوظائف الهامة في
الحكومة.
وأثارت أنباء الثورة التي وقعت في نابولي الشعور في هذه الدوائر، ولدى كل أولئك
الذين تاقت نفوسهم لحصول تغيير في الحكم، وفي ٢٩ يوليو سنة ١٨٢٠، كتب أحد الذين
عاصروا هذه الحوادث، سيلفانا كوستادي
بوريجار Beauregard: «نحن واقفون على حافة هاوية سحيقة؛ فاللافتات التي لا
عدد لها ولا حصر لها تطالب بدستور شبيه بدستور الكورتيز الإسباني (أي دستور ١٨١٢)،
وتتساقط على الملك العرائض من غير توقيع، يطالب فيها أصحابها بالدستور، وإن القلم
ليعجز عن وصف حمى هياج الشعور التي انتابت جميع الناس. لقد قلبت الحوادث التي وقعت
في نابولي رءوسنا وأصابتنا بالدوار.»
وكانت خطة المتآمرين؛ إشعال الثورة في اللحظة التي يكون فيها الجيش النمسوي
مشتبكًا مع الثوار في نابولي. إلا أن استعدادات جدية لم تُتخذ، بالرغم من أن الحماس
كان عظيمًا للثورة. ثم انعقدت الآمال على ولي العهد شارل ألبرت، برنس (أمير)
دي كارينانو Carignano، الذي اعتقد المتآمرون
أنه زعيمهم، واعتقدوا أن الجيش سوف يتبعه عندما يحين موعد العمل، وأن الملك سوف
يتبع الجيش بالضرورة في تأييد الثورة. ولم يستجب شارل ألبرت لدعوة الثوار؛ بل إن
شارل ألبرت لم يلبث أن قضى بكل شدة على الثورة «الثانية»، حتى قامت بعد ذلك في سنة
١٨٣٣، ومع ذلك فقد ضحى شارل ألبرت بعرشه عندما تنازل لابنه «فيكتور عمانويل
الثاني»، ورضي بالمنفى بعد اشتباكه في الحرب مع النمسا (١٨٤٨-١٨٤٩) وهزيمته في
الحرب؛ الأمر الذي أثار جدلًا طويلًا حول موقفه من قضية القومية في إيطاليا، ولقد
لقي مسلكه أثناء ثورة ١٨٢١، وعدم استجابته للثوار، مؤيدين كثيرين، تطرف فريق منهم،
فوصف هذه «الخطوة» بأنها كانت تدل على شجاعة وجرأة سياسية عظيمة، في حين كانت هذه
الخطوة مبعث اتهامات عنيفة من جانب سواد الناس، الذي عبر أحد الشعراء المعاصرون عن
شعورهم؛ جيوفاني بيركيت Berchet في قصيدة يلعن
فيها أمير دي كارينانو «شارل ألبرت» باسم الأمم جميعها.
وكان التناقض يبدو في مسلك شارل ألبرت، ولكنه كان تناقضًا في الظاهر فقط. فقد قال
متهموه: إنه غدر بأصدقائه في ثورة ١٨٢١ بعد أن كان قد وعدهم بتأييد «حركتهم»، وأنه
تعقب بالتشريد والنفي والموت، الأحرار الذين قاموا بثورة ١٨٣٣، ولكن لم يمكن، بعد
دراسة وبحث اتصلا سنوات، التأكد من حقيقة الوعود التي بُذلت «للثوار»، بل كانت مجرد
«رغبة» فسَّرها الثوريون بأنها نوايا محددة، أو كانت نية مُبَيَّتة لتأييد الحركة،
تحوَّلت بسبب الظروف القهرية إلى «رغبات» لم تتحقق، على أنه من الثابت أن شارل
ألبرت بسبب التريبة التي نالها والصدقات التي عقدها وبسبب ميوله الذهنية، وطرائق
التفكير التي اعتادها كان يعطف على الآراء والمبادئ التي نادى بها «سيزار بالبو»،
وكونت كارلو دي سان مرزانو، وجياشينو دي كوللينو. ولكن من الثابت كذلك أنه أجابهم
عندما اتصلوا به، بأن مسلكه سوف يخضع لما يمليه عليه واجبه وولاؤه لشخص الملك، ولقد
كان هذا الواجب نحو شخص الملك، ونحو تقاليد الأسرة المالكة وفهمه للولاء لصالح آل
سافوي، هو الذي منعه من المساهمة في حركة ١٨٢١، ويرى كثيرون أن الامتناع عن تأييد
هذه الحركة كان عملًا حكيمًا من جانبه؛ لأن غرض الإصلاح الذي قامت من أجل تحقيقه لم
يلبث أن انقلب إلى محاولة لطرد النمسا، لم يكن قادة الثورة والمشرفون على تحريكها
على استعداد للسير فيها. ثم إن اشتراك «شارل ألبرت» في هذه الحركة بأغراضها التي لم
تكن لها أصلًا، كان معناه؛ انخراطه في زمرة الثوريين، ومن شأن ذلك إنهاء حياته
«السياسية» وحرمان البلاد من الزعامة التي أفادت منها كثيرًا. وفيما يتعلَّق بموقفه
من حوادث ١٨٣٣، فلا شك في أنه كان قاسيًا كل القسوة في معاملة الثوار، ومعاقبتهم،
ولكن لا ينبغي نسيان أن هذه الثورة حدثت في بداية ملكه، وحينما كان الملك «شارل
ألبرت» موضع شبهات النمسا، وهي الدولة التي لا شك في أنها لن تتردد في إقصاء أي
أمير إيطالي يبدو أنه يميل لمؤازرة الأحرار والآراء الحرَّة. أضف إلى هذا أن شارل
ألبرت كان يعتقد بأن هذه الحركات الثورية سوف تُفضي إلى نتيجة واحدة هي إضعاف أسرته
«آل سافوي» وتحطيم سمعتها، وإضعاف الجيش البيدمنتي، أو القوة التي اعتقد شارل ألبرت
من الواجب إدخارها لتأدية خدمة وطنية كبرى في الوقت المناسب. ويتفق رأي المؤرخين
على أن عاطفة عارمة كانت يتأجج لهيبها في صدره هي الكراهية للنمسا، وهو شعور، في
الظروف السائدة وقتئذ بإيطاليا لا جدال في أنه كان «وطنيًّا» وله ما يسوغه، ولقد
بقي هذا الشعور بالكراهية للنمسا تفيض به نفسه في كل أدوار حياته، منذ أن كان
صبيًّا يريد أن يمحو العار بطرد النمسويين من إيطاليا، إلى وقت ذهابه إلى المنفى
بعد هزيمة نوفارا Novara في سنة ١٨٤٩، عندما أعلن
وهو في «نيس» إلى «سانتا روزا»: أن النمسويين سوف يجدونه — من غير شك — في صفوف
الجيش المحارب ضدهم، جنديًّا نشيطًا، في أي وقت، وفي أي مكان يمكن فيه إنشاء حكومة
تعمل لإنزال جيش في الميدان ضد النمسا. فيقول الأستاذ كارلو سيرجي Sergé — أحد المؤرخين الطليان: إن هذه الكراهية للنمسا،
والاعتقاد بأنها يجب أن تخرج إلى حيز الوجود في صورة أعمال البطولة العسكرية
والحروب، حتى تصبح ذات أثر فَعَّال، كان يتألَّف منهما المبدأ الوحيد الذي آمن به
شارل ألبرت طوال حياته، والبرنامج الذي التزم به طوال عمله كملك، وهو إيمان لم يضع
نهاية له سوى وفاة صاحبه في المنفى في «أوبرتو» بالبورتغال (في ٢٨ يوليو ١٨٤٩).
وأما البرنامج فقد حالت الهزيمة دون تنفيذه فكان «التراث» الذي خلَّفه لولده فيكتور
عمانويل الثاني، وكان هذا أسعد حظًّا من أبيه.
أما الثورة التي اشتعلت في بيدمنت، فقد بقي شعارها فترة من الوقت: «يحيا الملك»!
فقد رفعت حامية ألسندرا Alessandria علم الثورة
المثلث الألوان، وهو علم مملكة إيطاليا القديمة، من الأخضر والأبيض والأحمر، وذلك
في ١٠ مارس ١٨٢١ قبل أن تصلهم أنباء هزيمة «ريتي» في ٧ مارس، وطالب الثوار بالدستور
الإسباني وبالحرب ضد النمسا، التي لا يجد الملك طريقًا للانفكاك من قبضتها. وامتدت
الثورة بكل سرعة فحذت حامية «تورين» حذو حامية «ألسندرا» في ١٢ مارس، وتردَّد
المسئولون وجبنوا عن اتخاذ إجراءات حاسمة ضد الثورة، فرفض الملك فيكتور عمانويل
الأول نصيحة أولئك الذين أشاروا عليه بالنزول على رأس الجند الموالين له للقضاء على
الثورة بضربة واحدة فاصلة، ولقد كان الملك لا يريد التخلي عن وعوده للنمسا، وهي
الدولة التي أبلغه «سان مرزانو» مندوبه لدى مؤتمر «ليباخ» وعند عودته من هذا
المؤتمر، بأنها مصممة على التمسك بالحكومة الاستبدادية في إيطاليا، ثم إنه كان لا
يريد في الوقت نفسه أن يتحمل مسئولية سفك دماء رعاياه في حرب أهلية؛ ولذلك فقد قرَّ
رأي الملك على التنازل عن العرش لأخيه شارل
فيلكس Félix كارلو
فيليتشي Carlo Felice.
ولكن «كارلو فيليتشي» كان وقتئذ متغيبًا في «مودينا»، فعهد بالوصاية إلى شارل
ألبرت، أمير كارنيانو، الذي وجد نفسه مضطرًّا تحت ضغط الثوار الذين كانوا يطالبون
«بالدستور» إلى الاستجابة لمطلبهم، وقد كتب كارلو فيليتشي يفسِّر مسلكه: أنه أبلغ
الثوار؛ أن ليس في مقدروه إدخال أي تغيير على قوانين الدولة الأساسية، والتي يجب أن
تنتظر صدور القرارات والمراسيم من الملك الجديد، وأن أي شيء يجريه هو سوف يكون ملغى
ولا وجود له، ولكنه سوف يجيز لهم إعلان الدستور الإسباني، معلَّقًا بموافقة مليكهم،
وذلك تفاديًا لحصول مذبحة ووقوع الاضطرابات التي كانت تتهدد البلاد.
وهكذا صدر الدستور، وطربت تورين لإعلانه طربًا عظيمًا، ولكن لم تمضِ أيام خمسة
وحسب، حتى كان قد جاء من مودينا قرار أصدره «كارلو فيليتشي» يلغي إجراءات اتُّخذت
من غير موافقته، ويأمر شارل ألبرت بمغادرة تورين فورًا. فكان أمام الأخير أن يختار
بين أمرين؛ إما أن يتخلى عن الثوار، وإما أن ينحاز إليهم، فيعلن الثورة على الملك،
وعلى رئيس الأسرة «آل سافوي». فاختار التخلي عن الثوار وإطاعة أمر الملك.
وأشاع ذهاب شارل ألبرت الفوضى في صفوف الثوار، بالرغم من الجهود الخارقة التي صار
يبذلها أنصار هذه الثورة، خصوصًا «سانتوري دي سانتا روزا»، الذي كان يشغل منصب وزير
الحربية، وازداد نشاط الرجعيين أنصار الحكم المطلق، ولقوا كل تشجيع من جانب الملك
«كارلو فيليتشي»، الذي طلب من «سانتا روزا» الاستقالة، وطلب من القيصر إسكندر العون
والمساعدة، وحشد هذا الأخير مائة ألف، في حين كان الجيش النمسوي قد بلغ الحدود،
وأعلن «سانتا روزا» أن الملك أسير النمسويين، وحاول أن يسير بجيش يؤلِّف الطلاب
قسمًا منه لمهاجمة لمبارديا، فلم يلبث أن وقع الاصطدام بين فريق من البيدمنتيين
بقيادة الجنرال دي لاتور La tour تؤازرهم القوات
النمسوية التي عبرت نهر التشينو Ticino، وبين فريق
البيدمنتيين الثوار بقيادة الكولونيل ريجيز Regis،
وذلك في واقعة نوفارا في ٨ أبريل ١٨٢١، فانهزم «الثوار» وتلاشى الأمل في الظفر
بالحرية.
وكان بعد هزيمة «نوفارا» أن قصد أكثر زعماء الثورة وقادتها إلى «جنوه»، يريدون
الذهاب منها بحرًا إلى إسبانيا؛ طلبًا للنجاة بأنفسهم، وحيث كانت لا تزال الثورة
ناجحة هناك، وكان في «جنوه» أن شهد «جويزبي مازيني» وهو لا يزال شابًّا يافعًا (في
السادسة عشرة من عمره)، هؤلاء المحاربين الذين يبدو عليهم الفقر، وتعلو وجوههم مسحة
من الحزن والكآبة، بل ويتقدم أحد هؤلاء من والدة البطل المكافح فيما بعد يمد إليها
يده، ويطلب إحسانًا باسم «أولئك الذين شُرِّدوا وَنُفوا من إيطاليا.» وشهد «مازيني»
والدته والدموع تسيل من عينيها تضع في يد هذا السائل عطيتها. فيكتب «مازيني»: أنه
كان في ذلك اليوم أن مثلت في ذهنه، بصورة مبهمة، لأول مرة، ليس فكرة الوطن والحرية،
ولكن فكرة أن «من الممكن، وكذلك من الواجب؛ النضال والكفاح من أجل أن يظفر المرء
بالحرية لبلده.»
وخلال سنتي ١٨٢٠، ١٨٢١، لم تقُم حركات ثورية في بقية إيطاليا، ولو أن «مؤامرات»
كثيرة كانت تُحاك خيوطها، الأمر الذي أزعج الحكومات المختلفة، وخصوصًا في لمبارديا
فينيشيا، حيث كشف البوليس عن عدد كبير منها، لا شك أنه قد غالى كثيرًا في وصف
خطورتها، حتى تأتي إجراءات القمع أكثر شدة وصرامة، وكان من بين الذين قبض عليهم
البوليس، طائفة من الأعلام، ومن أهم هؤلاء؛ الكونت فردريجو
كونفالونييري Frederigo
Confalonieri.
وكان «كونفالونييري» زعيمًا للأحرار في لمبارديا، ويتراسل مع أنصار الحركة والعمل
في بيدمنت، ولكن لم يوجد دليل يثبت مدى نشاطه في تنظيم صفوف الأحرار في لمبارديا،
أو ربطهم بالعمل وفق برنامج معين؛ بل الثابت أن مبعث إدانة «كونفالونييري» كانت
الرغبة في العثور على «متهمين» بأية وسيلة، وليس نتيجة الاستناد على اتهامات صحيحة.
ولم يُقبض على «كونفالونييري» إلا في ١٣ ديسمبر ١٨٢١ بعد إخماد ثورة بيدمنت، وعودة
الهدوء القائم على الإرهاب إلى نصابه في كل مكان. ولما كان «كونفالونييري» لا يشعر
بأنه قد ارتكب إثمًا في حق النمسا، فقد بقي ينظر بعدم المبالاة إلى سحب الشك
والشبهات تتجمع حوله، حتى إنه لم يستمع لتحذيرات نفر من المسئولين أصدقائه الذين
أرادوا إنقاذه وأشاروا عليه بالفرار إلى سويسرة. فقُدِّم إلى المحاكمة بتهمة
الخيانة، وطلب «مترنخ» من المشرفين على هذه المحاكمة في ميلان، أن يصدروا حكمًا لا
يجعل ممكنًا في وسع هذا الكونت زعيم الأحرار، أن يظهر مرة أخرى على مسرح الحوادث،
في صورة مَنْ صار ضحية لطغيان السلطة الاستبدادية، وعلى ذلك فقد تفنن قضاة
«كونفالونييري» ومتهمون في تلفيق التهم وابتكار البراهين والأدلة المزيفة للصق هذه
التهم به، وانتهى الأمر وكما كان متوقعًا، بإصدار حكم الإعدام عليه، وتوسطت أسرة
«كونفالونييري» تطلب الرحمة من الإمبراطور النمسوي نفسه في «فينا»، فكان بعد لأي
وعناء أن استبدل السجن المؤبَّد بالإعدام، وصدر الأمر بإرسال الكونت إلى
سبيلبرج
Spielberg في مورافيا
Moravia ليُسجن بقلعتها. وعبثًا حاول «مترنخ»
أثناء رحلة الكونت إلى محبسه أن ينتزع منه معلومات تكشف عن حقيقة العلاقات بين
المتآمرين في لمبارديا وبين شارل ألبرت. وكان من الذين سجنوا مع «كونفالونييري»
جماعة من الذين أُدينوا بنفس التهمة وهم كثيرون.
٨
على أن تدابير القمع التي اتخذتها الحكومات بعد ثورات ١٨٢٠-١٨٢١، لم تفلح مع
صرامتها، خصوصًا في لمبارديا، في إطفاء جذوة الثورة فقد بقيت هذه متقدة تحت سطع
الهدوء الذي ظهر كأنما صار يسود كل إيطاليا، ومن وقت لآخر، بقيت الثورة تطل برأسها،
وسببت هذه «الحركات» إزعاجًا كبيرًا للبوليس، الذي اشتدت أساليبه في مطاردة الثوار،
قسوة قسوتها على وكان في ١٨٢٨ أن قامت ثورة في شيلنتو Cilento بمقاطعة ساليرنو Salerno بمملكة نابولي، نتيجة للظلم الذي أرهق به الأهلين
فرانسوا الأول — الذي خلف الملك فرنند أو فرانتي على العرش. فأرسل الملك أحد قواده
ديل كاريتو Del Carretto لإخماد الثورة،
وارتكب الأخير الفظائع أثناء تأدية هذه المهمة، فصار ينقل رءوس القتلى في أقفاص من
الحديد، تتبعه في جولته من قرية إلى أخرى.
ومع ذلك فإن هذه «الحركات» جميعها لم يكن لها من أثر سوى استثارة رد الفعل الغريزي
ضد الظلم الذي حلَّ بالناس أو الضنك الذي أخذ بتلابيبهم. وكان واضحًا في كل هذه
الحركات التي ذكرناها أن العنصر العسكري، كان هو الذي قامت أهم هذه الثورات في
١٨٢٠، ١٨٢١ على أكتافه، ولم يكن «الثوار» يتمتعون بأية تربية سياسية، وانعدم لذلك
وجود أي برنامج لديهم، وَسَهَّلَ عليهم لذلك أن «يستعيروا» دستور ١٨١٢ الإسباني؛
ليصبح شعارهم المطالبة به، ثم إن أعضاء البرلمان سواء في نابولي أو تورين، والذين
كان عليهم مواجهة الموقف ومحاولة معالجته كانوا من طراز متوسطي القدرة على التفكير
الناضج والعمل المثمر وتعوزهم الكفاءة ونشاط الذهن.
ولا جدال في أن هذه الثورات في سنتي ١٨٢٠، ١٨٢١ لم تكن تستهدف أغراضًا وطنية أو
قومية؛ لأن مبعثها لم يكن العمل على طرد النمسا من إيطاليا، أو تحقيق الوحدة
الوطنية، كما افتقرت كل هذه الثورات إلى التنظيم والتنسيق، فكان من السهل إخمادها.
فكفت واقعة «ريتي» في ٧ مارس لتصفية الثورة في نابولي، وواقعة «نوفارا» في ٨ أبريل
١٨٢١ لتصفية الثورة في بيدمنت، وفي كلا الحالين كان للتدخل النمسوي أقوى الأثر في
تصفية هذه الثورات.
ولقد كانت تدابير القمع التي أوجبت هذه الثورات على الحكومات اتخاذها على درجة
شديدة من العنف والقسوة، فعمدت هذه الحكومات إلى «تطهير» الجيش ودواوين الحكومة من
العناصر المشتبه في ولائها للنظام الرجعي القائم، ومن جهة ثانية استطاع أكثر قادة
الثورة سواء في نابولي أو في بيدمنت الهرب إلى الخارج ليتألَّف منهم الرعيل الأول
من المهاجرين الطليان في سويسرة وفي إنجلترة، وبعد حين في فرنسا كذلك.
ولكن مما يجدر ذكره أن هذه الحركات لم تستثر سواد الشعب «للعمل»، فبقي الأهلون
يقفون موقفًا سلبيًّا، بكل معنى السلبية، من ثورات ١٨٢٠، ١٨٢١.
ثورات ١٨٣٠، ١٨٣١
ولقد كانت الثورات التالية التي قامت في إيطاليا في غضون ١٨٣٠، ١٨٣١ إحدى نتائج
الثورة التي قامت في فرنسا في يوليو ١٨٣٠ — إذا صح هذا القول — وحلقة لاحقة من
حلقات هذه الثورة.
فقد حدث بعد فشل الثورات الأولى (١٨٢٠-١٨٢١)، أن صارت الحكومات تتعقب الجمعيات
الثورية، وثقلت وطأة الرقابة البوليسية عن ذي قبل، وقوي سلطان النمسا في إيطاليا
أكثر من أي وقت مضى، فجنودها يحتلون نابولي وأنكونا، ولسنوات طويلة مقبلة، وكذلك
قلعة فراره Ferrara، ووقع على كاهل النمسا عبء
إخماد الثورات في إيطالية، وصارت النمسا بفضل هذا المركز القوي تطمع كذلك في امتلاك
تسكانيا ورومانا، وانبث عملاؤها وجواسيسها في كل أنحاء إيطاليا.
وكان لهذه السيطرة النمسوية من الناحية القانونية أثر طيب، من حيث إنها جعلت شعور
البغض والكراهية ضد النمسا يسود كل إيطاليا، وهو الشعور الذي كانت قد ظلت تشعر به
إيطاليا الشمالية وحدها. فأثارت أطماع النمسا الآن وقوتها مخاوف الأمراء في أجزاء
إيطاليا الأخرى، وهم الذين صاروا الآن يتحدون سلطانها، فاستطاعت بيدمنت والولايات
البابوية أن تُلحقا الفشل بكل الآراء والمشروعات النمسوية التي أرادت إنشاء علاقات
مشتركة، أو اتحادات فدرائية بينها وبين الدويلات الإيطالية، فرفضت بيدمنت والولايات
البابوية مجرد الدخول في اتحاد للبريد مع النمسا. بل إنه كان لهذه السطوة التي
تمتعت بها النمسا رد فعل كذلك من نوع آخر، ظهر في أطماع بعض الدويلات الإيطالية مثل
دوقية مودينا التي أراد أميرها «فرنسوا الرابع» توسيع أملاكه على حساب «لمبارديا
فينيشيا» التي تملكها النمسا، وعلى حساب الولايات البابوية، وقد شجعت هذه الرغبة
التوسعية الأحرار في مودينا على بلوغ مآربهم، إذا هم أيَّدوا أطماع الملك، وكان
زعيم الأحرار شيرو مينوتي Ciro Menotti وهو من
التجار — ولا يثق في الثورات ذات الأهداف «الجمهورية» — قد استطاع إقناع الدوق
فرنسوا الرابع بأن الثورة الفرنسية، ثورة يوليو ١٨٣٠، سوف تجدد عهد الاضطرابات في
إيطاليا، وأن الدوق سوف يعثر في هذه الاضطرابات على الفرصة التي تمكنه من توسيع
حدود إمارته، وبالفعل أنشأ الدوق صلات قوية مع زعيم الأحرار في مودينا، بالرغم من
عداء هؤلاء الأحرار لحكومته.
أما هذه الحركات الثورية فقد انتقلت من الجنوب (نابولي) أو من «بيدمنت» — مسرح
الحوادث في سنتي ١٨٢٠، ١٨٢١ — إلى إقليم الرومانا القسم الشمالي من الولايات
البابوية، والسبب في ذلك أن البابا بيوس السابع ووزيره كونزالفي Consalvi، كانا يتبعان سياسة هدوء وسلام في هذه الأصقاع، لم
تلبث أن حلَّت محلها لوفاة البابا (١٨٢٣) ثم وزيره (١٨٢٤) سياسة قائمة على الرجعية
والحكم الاستبدادي الشديد على أيدي البابا التالي؛ «ليو الثاني عشر ١٨٢٤–١٨٢٩»
ووزيره الكاردينال ريفارولا Rivarola في ١٨٢٥
خصوصًا. فقد تعقب البابا ووزيره الكاردينال (الكاربوناري)، وألقيا بالكثيرين في
السجون، وحكما على عديدين بالنفي والتشريد، والاعتقال والحجر السياسي Precetto Politico، فلا يغادرون مدنهم، ولا
يخرجون من بيوتهم بعد غروب الشمس، ويبلغون البوليس عن وجودهم كل أسبوعين، ويتقدمون
«للاعتراف» كل شهر. كما طلب من كل فرد التبليغ عن أعضاء الجمعيات السرية، فإذا
قَصَّرَ أحد الناس في ذلك كان الليمان عقوبته.
وعلى ذلك فإنه سرعان ما صارت «رومانا»، و«بارما»، و«مودينا» مراكز للحركة الثورية
الجديدة، وفي هذه المرة اتخذت الحركة طابعًا مختلفًا عن طابعها السابق في
١٨٢٠-١٨٢١، فقد صارت تضم إليها عناصر من الطبقة المتوسطة (البورجوازية) أكثر من
العناصر العسكرية؛ أي صارت تضم إليها البورجوازيين الأحرار الذين ناصبوا حكومة
القساوسة وأصحاب الامتيازات، أو الطبقات الممتازة العداء، وثمة فارق آخر هو أن
الثورة في هذه المرة كانت تعتمد على عامل «خارجي» هو قيام ثورة يوليو المعروفة في
باريس، وإعلان حكومة باريس تمسكها بمبدأ «عدم التدخل»، فقد أعلن الماريشال
سباستياني Sebastiani وزير خارجية لويس
فيليب: لقد قام الحلف المقدس على مبدأ التدخل الذي قضى على استقلال كل الدول
الصغيرة، ولكن المبدأ المضاد لهذا المبدأ — أي عدم التدخل — والذي أقرَّته الحكومة
الفرنسية، وتعد بأنها سوف تعمل لتأييده. يكفل أن يتمتع العالم قاطبة بالحرية
والاستقلال، واعتقد الأحرار اللاجئون في باريس أنهم سوف يلقون كل تعضيد من حكومة
لويس فيليب. وكان المسئول عن ذيوع هذا الاعتقاد الجنرال «جوجليلمو بيبي» السابق
الذكر، الذي استطاع أن ينال من الجنرال «لفاييت» وعدًا بإمداد الثوار بالمال
والأسلحة، ومن فرنسا بذل اللاجئون الطليان — في باريس خصوصًا — قصارى جهدهم لتحريك
الثورة في وطنهم، وفي باريس تألَّفت «لجنة لتحرير إيطاليا»، أعدَّت النشرات
والكتيبات لتوزيعها في أنحاء إيطاليا، وبذلت المحافل الماسونية جهودها كذلك لتأييد
هذه «الدعاية»، وأراد المهاجرون الطليان في باريس تحريك الثورة في الولايات
البابوية، منتهزين فرصة وفاة البابا بيوس الثامن (١٨٣٠) وخلو الكرسي البابوي فترة
من الوقت مِمَّنْ يشغله، وكان بعض هؤلاء اللاجئين يريدون تنصيب جيروم بونابرت، أو
ولدا لاوجين بوهارنيه ملكًا على روما — ولقد كان لويس نابليون مشتركًا في هذه
المؤامرة، ولكنهم جميعًا كانوا يريدون إنهاء حكومة القساوسة «ألسان فيدبست» أصحاب
الإيمان المقدس، وهكذا تهيَّأت الأسباب لقيام حركة ثورية.
وكان السبب المباشر في اشتعال الثورة حادث خيانة دوق فرنسوا الرابع في مودينا،
وتنكره للأحرار، بعد أن تبيَّن له أنه لن يلقى تأييدًا في مشروعاته التوسعية من
ناحية الملك الفرنسي لويس فيليب، ولما كان يخشى من انكشاف مضالعته مع الثوار أمام
النمسا، وصار يريد إقامة الدليل القاطع لحكومة فينا على ولائه لها، فقد نكص على
عقبيه تمامًا وَدَبَّرَ مكيدة لزعماء الأحرار، فألقى القبض على هؤلاء وهم مجتمعون
بمنزل «مينوتي» في ٣ فبراير ١٨٣٠، وكان من بين المقبوض عليهم «مينوتي» نفسه، وبعث
«فرنسوا» في طلب الجلاد لإعدامهم بعد أن اتهمهم بالتآمر على خلعه من العرش، ولم
يمنع فرنسوا من إعدام «مينوتي» في التو والساعة سوى ذيوع النبأ وقت وصول الجلاد إلى
مودينا، عن قيام الثورة في «بولونا»، مما جعل الدوق الذي استبد به الخوف والهلع مما
قد يخبئه له المستقبل إذا نجحت الثورة، يلجأ إلى «مانتوا» للتحصن بقلعتها، ويجر معه
إليها «مينوتي» وهو مُصَفَّد بالأغلال؛ لينفذ فيه حكم الإعدام بعد أيام
قليلة.
وهذه الخيانة استثارت جمعيات «الكاربوناري» على القيام بالثورة في مودينا وفي
بولونا في ٤، ٥ فبراير، ولم تلبث أن امتدت الثورة من هذين المكانين، فصارت في بحر
أسابيع ثلاثة فقط تشمل كل وسط إيطاليا، ووصلت الثورة إلى أمبريا Umbria في قلب الولايات البابوية.
وفي ٩ فبراير ١٨٣١ تألَّفت حكومة مؤقتة في بولونا أعلنت سقوط الحكومة البابوية،
ودعت للاجتماع «مؤتمرًا وطنيًّا» وانعقد هذا المؤتمر يوم ٢٥ فبراير، وَسَمَّى نفسه:
«مجلس نواب المقاطعات أو الأقاليم الحرَّة في إيطاليا»، وَسَمَّى الدولة التي شرع
في تأسيسها «المقاطعات أو الأقاليم المتحدة». على أن الحركة بقيت «محلية» وحسب،
وذلك بالرغم من العبارات التي وصف بها الثوريون المؤتمر «الوطني» الذي دعوا إليه،
أو الدولة «الإيطالية» التي أرادوا تأسيسها من المقاطعات أو الأقاليم «المتحدة». ثم
تألَّفت حكومة مؤقتة كذلك في كل من «مودينا» و«بارما» فاستأثر بالسلطة في كل من
منهما «ديكتاتور» يعاونه ثلاثة قناصل.
وَسَيَّرت النمسا جيوشها على بارما وعلى مودينا، وأوقعت الهزيمة بالأحرار والحكومة
المؤقتة في كل منهما في ٢٥ فبراير، ٦ مارس على التوالي، وسرعان ما نهض الدليل
القاطع على أن هذه كانت حركات محلية وليست وطنية أو «متحدة»، أو «إيطالية»، عندما
أراد جيش الأحرار من بارما ومودينا بعد الهزيمة الالتجاء إلى «رومانا»؛ ليعيد تنظيم
قواته، فعمدت الحكومة المؤقتة في رومانا إلى تجريده من السلاح بموجب القاعدة
المعمول بها وقتئذ بالنسبة للقوات المتحاربة «الأجنبية» التي لا تأتي لاجئة إلى أي
مكان غير موطنها، وأعلنت الحكومة في رومانا قرارها: «بأنه لا يجب لأحد منا التدخل
في المنازعات التي تحصل بين جيراننا.» ودلَّ هذا الموقف على مقدار ما كان ينقص
الأحرار «الثوريين» من تضامن واتحاد، بالرغم من أن هذه الحركات الثورية لم تكن
تفصلها مسافات بعيدة عن بعضها بعضًا.
بل توفرت الأدلة على ضعف هذه الحكومة المؤقتة في «رومانا»، عندما جعل الخوف من
«الارتباكات» هؤلاء الثوريين يبادرون بكل سرعة إلى وقف حركة حاول بها جيش صغير من
الأحرار بقيادة الجنرال سيركو جناني Sercognani
مهاجمة روما — وكان يعمل بهذا الجيش ابنا لويس بونابرت «وهما شارل ولويس نابليون» —
في ١٩ فبراير ١٨٣١، وبمجرد أن زحف النمسويون الحدود يوم ٢١ مارس، وتجنبوا الاشتباك
مع جيش الثوار عند ريميني Rimini، وكان هؤلاء
بقيادة الجنرال تزوكي Zucchi. فعمدت الحكومة إلى
الهرب إلى «أنكونا»، وهناك سلمت يوم ٢٧ مارس مقابل وعد بالعفو العام. أما «سيركو
جنالي» وجماعته، فقد قصدوا إلى سبوليتو Sboleto،
وهناك استمع «سيركو جناني» لنصيحة رئيس الأساقفة ماستائي Mastai (وهو البابا بيوس التاسع فيما بعد)، وَسَرَّحَ
قواته.
وهكذا أرجع النمسويون حكومة البابا في الولايات البابوية، وقصر الأحرار مطالبهم
على إنشاء «حرس مدني»، وإدخال بعض الإصلاحات التي كانت «مدنية» متعلِّقة بالحقوق
المدنية أكثر منها «سياسية». من ذلك؛ رفض هيئة المحامين العمل بقانون جديد من صنع
حكومة البابا، ثم إنهم حتى يتسنى لهم مقاومة القوانين الجديدة طلبوا اجتماع
البرلمان، ولكن البرلمان لم يكن يحوي إلا أعضاء عن قسم فقط من الولايات البابوية.
بل إن الأهلين، والأحرار أنفسهم، لم يلبثوا أن رحَّبوا بالقوات البابوية التي حضرت
من روما لاحتلال «رومانا»، فاستولت في طريقها إلى هذه الأخيرة على فورلي وشيسينا Cesena،
ورحَّب أهل البلاد بالجيوش النمسوية التي جاءت لاحتلال هذه الأماكن «كمنقذين»
لهم.
وأسفرت الثورة التي قامت في إيطاليا الوسطى (١٨٣٠-١٨٣١) عن نتيجة هامة من حيث إنها
جعلت من الثورة الإيطالية مسألة سياسية؛ بمعنى أن الدول عمدت إلى التدخل كخطوة
مقابلة للتدخل النمسوي ضد الثورة، ولما كان فيما ظهر من تصميم من جانب فرنسا — لم
يثمر شيئًا بسبب خوف لويس فيليب من الحرب — لتأييد مبدأ عدم التدخل. فاجتمعت الدول
في مؤتمر، ورأى مندوبوها تقديم مذكرة Memorandum
إلى البابا جريجوري السادس عشر، الذي خلف بيوس الثامن، يوصون باتخاذ بعض الإصلاحات
«الوقائية»؛ أي التي تحول في نظرهم دون قيام ثورات في المستقبل، ولكن بالرغم من
رغبة البابا في الإصلاح عارض الكراولة التنازل عن سلطتهم.
على أن الجديد في ثورة ١٨٣٠-١٨٣١ هذه، والذي يميزها من الثورات السابقة، وذلك عدا
«الشعارات» والعبارات التي أتت بها والتي لم تكن ذات أهمية كبيرة، كانت العناصر
التي تألَّفت منها هذه الحركة، فقد كان هناك إلى جانب المشتغلين بالقانون، فئات من
التجار، الأمر الذي يدل على زيادة انتشار المبادئ الحرَّة، وتغلغلها في أوساط جديدة
في المجتمع، وزيادة على ذلك فإن هذه الثورة في سنتي ١٨٣٠، ١٨٣١ كانت على ما يبدو
متحررة من المصالح الذاتية والأغراض أو الأطماع الشخصية، أكثر من الثورة السابقة في
سنتي ١٨٢٠، ١٨٢١. فلم تكن العناصر العسكرية الدعامة التي قامت عليها الحركة، ولم
يكن تحقيق النفع الشخصي الغرض الذي أرادت تحقيقه، ومع ذلك فالذي يجب ذكره أن هذه
الثورات في ١٨٣٠، ١٨٣١ — ومثلها في ذلك مثل الثورات السابقة في ١٨٢٠، ١٨٢١ لم يفكر
أصحابها إطلاقًا في التوجه بالدعوى إلى صفوف الشعب للاشتراك في الحركة، بل على
العكس من ذلك أزعجت هذه الثورات أهل القرى والمدن الصغيرة الذين شعروا بالخزي
والعار من حركة أعلنت سقوط السلطة البابوية، ودلَّت هذه الحقيقة ذاتها على أنهم
كانوا معادين للثورة — وبالرغم من النداءات المتكررة التي صدرت عن القائمين
بالثورة، فقد ظلت بقية إيطاليا دون حراك، فلم يسهم أحد في الثورة المشتعلة في إقليم
«رومانا».
وتعددت أسباب فشل هذه الثورات، ثم الثورات السابقة في ١٨٢٠، ١٨٢١، ولعل أهم هذه
الأسباب، وكما شاهدنا، أنها كانت حركات «محلية» بحتة في تنظيمها، فلم يكن يتعدى
نشاط المتآمرين، أو تتجاوز الأغراض التي أرادوا تحقيقها حدود مقاطعتهم، ولم يكن
سواد الشعب الإيطالي يدرك أن جهودًا يبذلها أهل الشمال في بيدمنت، قد يفيد منها
المناضلون في إقليم «كلابريا» في الجنوب، أو أن أسباب التذمر والسخط واحدة في كل
أنحاء إيطاليا، أو أن الأهلين في الشمال يجب أن يتحدوا مع الأهلين في الجنوب، وهكذا
فكان الذين فطنوا إلى ذلك حفنة من الأفراد فقط، ولقد أشرنا سابقًا إلى أن التنسيق
كان منعدمًا بين كل الثورات التي حدثت. ففي سنة ١٨٢١ قامت الثورة في نابولي وفي
بيدمنت (على خطوط متوازية)، إذا صح هذا التعبير؛ أي جنبًا إلى جنب، ومع ذلك لم
تتوحد جهود الفريقين، وإذا كان أهل بيدمنت أبدوا اهتمامًا بالثورة في نابولي،
والنضال بين نابولي والنمسا، فهم قد فعلوا ذلك على أمل أن ينتهزوا الفرصة حتى
يفيدوا من الضعف الذي قد يلحق خصومهم «النمسويين» بسبب هذا النضال في الجنوب، وكتب
الجنرال «بيبي» في مذكراته، وهو الذي أدرك قيمة قيام الثورتين معًا في الشمال
والجنوب وفي وقت واحد؛ لو أن البيدمونتيين قد قاموا بثورتهم يوم أول مارس، بدلًا من
عاشره، أو لو أنهم أبلغوني خططهم، لكانت الأمور سارت في إيطاليا في طريق يُفضي إلى
نتائج أسعد كثيرًا مما يسود الاعتقاد به.
ومع ذلك فإن فشل الثورات التي حدثت في سنوات ١٨٢٠، ١٨٢١، ثم ١٨٣٠، ١٨٣١ لم يكن
معناه القضاء على الحركة الثورية وانتهاؤها، بل بقيت هذه الحركة ولم يقضَ عليها،
والسبب في ذلك؛ أنها أحد جوانب مظاهر الخلق أو المزاج الإيطالي المعروف بميله إلى
النشاط السري والمؤامرة، والتمرد، والعصيان، ولو أنه من المتعذر خلق حركة قومية أو
وطنية من الحركات المنبعثة من هذه الميول وحسب.
النشاط الذهني: الرومانسيَّة «أو الحركة الابتداعية التصورية»٩
ولقد كانت الحركة «الرومانسيَّة» أو الرومانتيكية التي بدأت في هذا الحين، من أهم
العوامل إلى جانب الحركات الثورية التي ذكرناها في تشكيل الحوادث، وأعمق أثرًا،
بفضل نتائجها الثقافية والذهنية في مستقبل شبه الجزيرة الإيطالية، لقد سبق أنْ
ذكرنا كيف أنَّ الصعوبات والعقبات كانت تعترض الشباب الذي تخرج في الجامعات
الإيطالية، وذلك بسبب النظام السياسي والاجتماعي السائد، والذي جعل هؤلاء الشباب
المثقفين لا يجدون منفذًا لنشاطهم ولحيويتهم المتدفقة، أضف إلى هذا أنَّ الضغط
السياسي، كان شديدًا بدرجة أثقلت كاهل جميع الناس، حتى أولئك الذين لم يكونوا من
طراز «العمليين»، ولم يكونوا يميلون للثورة أو على استعداد للانخراط في جماعة
الثوريين، ولقد انصرف هؤلاء الناس من شباب الجامعات، ومن غير «الثوريين» إلى الحياة
الذهنية، يبحثون فيها عن منفذ أو متنفس لنشاطهم، ثم ساعد على ذلك، فشل الثورات
السالفة الذكر، فكان هذا الفشل من الحجج التي استند عليها الاتجاه نحو النشاط
الذهني، فكان حينئذ أن أخذ الشعور باليقظة القومية، يتجه اتجاهًا «روحيًّا»؛ أي
يحاول التعبير عن وجوده في ميدان الأدب، والحياة الذهنية، أكثر من الاتجاه نحو
ميدان العمل، وكانت «الرومانسية» — الحركة الابتداعيَّة التصوريَّة — في الأدب أعمق
هذه الحركات الذهنيَّة أثرًا في هذا العصر في شبه الجزيرة الإيطالية، وقامت المدرسة
الرومانسية — على أثر سقوط مملكة إيطاليَّة وانتهاء السيطرة الفرنسيَّة — كحركة
احتجاج ضد الأنظمة القديمة، وطغيان التقاليد، وكرمز للتعاطف بين «الأدب» وروح
المجتمع العصري، وبهذا المعنى، عظم النضال بين هذه «الرومانسية» وبين المدرسة
«الكلاسيكية»، التي بلغت أوجها ضد السيطرة النمسوية في إيطاليا، فانحاز الأحرار إلى
«الرومانسية»، في حين كان الرجعيون أنصار «الكلاسيكيين». ولقد اعتبر الرومانسيون
الأدب السلاح المشرع في وجه الطغيان، والوسيلة التي يمكن بها إذاعة المبادئ
الوطنية.
وبدأت الحركة الرومانسية في إيطاليا في سنة ١٨١٦، عندما أصدر الشاعر «جيوفاني
بيركيت» ١٧٨٣–١٨٥١ منشوره عن المبادئ الرومانسية التي صار يدعو لها، والتف حول
«برشيت» طائفة من الْكُتَّاب، كان منهم الشاعر جبراييلي
روسيتي Gabriele
Rossetti، الذي وصف في قصائده ثورة نابولي في سنة ١٨٢٠. كما التف
حول «برشيت» عدد من نبلاء «ميلان» المثقفين والأدباء، ولقد دافع هؤلاء الْكُتَّاب
عن «أدبهم» الرومانسي الجديد، ضد المدرسة الكلاسيكية، وصاروا يحملون على أنصار هذه
المدرسة الأخيرة، حملة من النقد اللاذع، وذلك على وجه الخصوص في مجلة الموفق أو المصالح Il Conciliatore، وهي المجلة التي ظهرت
في سنة ١٨١٨ واستطاعت خلال هذه السنة والسنة التالية (١٨١٩) أنْ تصدر (١١٨) عددًا،
بالرغم من الرقابة الصارمة، وشكوك البوليس وعدائه الشديد.
ولقد نشب نضال عنيف بين هذه المجلة، ومجلة الكلاسيكيين والرجعيين، والتي كانت تلقى
التأييد من النمسا، ونعني بذلك مجلة
«المكتبة الإيطالية Biblioteca Iitaliana، وكان مطلب هؤلاء الرومانسيين نظم مقطوعات من
الشعر، تنبض بالحياة، وتتفق مع روح الشعب وعقائده وآماله، في الوقت الذي تكون فيه
كذلك أكثر سهولة وسلاسة من الشعر الكلاسيكي، ومن ميلان، امتدت الحركة الرومانسيَّة
حتى شملت أقاليم إيطاليا الأخرى، ومع ذلك فقد كانت الرومانسيَّة في إيطاليا أقل
تطرفًا وأقل من نظيراتها في بقية أوروبا؛ وذلك لأن إيطاليا احتفظت، وكما كان
متوقعًا، بالأصول الكلاسيكية.
ومن وجهة النظر، المتعلِّقة بيقظة الروح الإيطاليَّة القومية، تتميز هذه الحركة
الرومانسيَّة، بأنها تعمد إلى التنقيب عن الموضوعات التي تثير انتباه واهتمام أناس
من غير المشتغلين بالأدب والمثقفين، الأمر الذي جعل هذه الحركة تحتك بأماني سواد
الشعب، وبمشاعر الجماهير وأحاسيسهم ومعتقداتهم، وبما في ذلك فئة المتعصبين لآرائهم
ومعتقداتهم، ولقد جعل هذا الاحتكاك «الرومانسيين» يستمدون من الذكريات التاريخية
وتقاليد الماضي وأمجاد الطليان الغابرة، مادة وافرة لكتابتهم، وكان هذا الماضي الذي
أراد الرومانسيون إحياءه في كتابتهم؛ عهد النهضة الأدبيَّة والفنيَّة في إيطاليا،
الذي تميز بالنضال من أجل الحرية، والذي ازدهرت فيه الجمهوريات الإيطاليَّة، وكان
المؤرخ الإيطالي سيموندي
Simond قد فرغ من كتابة تاريخها.
١٠
وثمة ميزة أخرى لهذه الحركة، هي أنَّ أصحاب المدرسة الرومانسيَّة الجديدة قد طوعوا
العاطفة، والروعة الأدبيَّة والفنيَّة لخدمة التربية الوطنية، فتخلوا عن الفكرة
الكلاسيكيَّة بشأن الثقافة الأدبية الخالصة وَالْمُفَرَّغة في قوالبها المحددة، بل
إنهم تخلوا كذلك أو إنهم لم يقروا نظرية «الفن من أجل الفن»، التي نادت بها مدارس
الأدب والفن الأوروبية الأخرى المعاصرة، فلم يكن الأدب في نظر أكثر هؤلاء
الْكُتَّاب الرومانسيين إلَّا وسيلة لتأكيد وتدعيم الآراء الحرَّة السياسية، ولقد
كان المحررون الرئيسيون في مجلة «إيلكو نشيلياتوري» من الذين اشتركوا في حوادث ١٨٢١
السياسية، ومن هؤلاء: «كونفالو نييري» الذي عرفنا أنه ترأس الحركة في ميلان، في حين
كان سيلفيوبيلليكو
Silviopellico رئيس تحرير
المجلة، من الذين قُبض عليهم كذلك، وسُجن مع «كونفالونييري» في قلعة «سبيلبرج»،
ولقد تحدث سيلفيوبيلليكو عن محبسه عندما نشر بعد خروجه من السجن (١٨٣٠) كتابًا
بعنوان «محابسي»،
١١ نال شهرة واسعة في أوروبا، كان أول ظهوره في سنة ١٨٣٢، وقد قصَّ فيه
صاحبه قصة حبسه، وكان لهذا الكتاب رد فعل أدبي وروحي عميق في إيطاليا، وذلك بسبب
البساطة التي عرض بها «بيلليكو» شكاواه، والروح «الدينية» التي تخللت صفحات الكتاب،
روح التسليم والاعتماد على رحمة الله في تخفيف البلوى التي نزلت بساحة صاحبه، ولو
أنَّ الكتاب كان يعرض إلى جانب ذلك المطالب الوطنية ويسوق الدعاوى لتأييدها، على
طريقة الثوريين القدامى، ثم كان «جيوفاني برشيت» أحد الذين تعرضوا للاضطهاد، حتى
إنه اضطر للهرب والالتجاء إلى إنجلترة التي عاش بها حتى سنة ١٨٢٩، والتي أخذ ينظم
وهو بها ابتداء من سنة ١٨٢٤ القصائد الوطنيَّة المليئة بالحيوية والحماس، ثم إنَّ
«جبرائيلي روسيتي» لم يلبث أنْ اضطر هو الآخر إلى الفرار، كما اضطر آخرون من
الْكُتَّاب الرومانسيين إلى الهرب، ولو أنهم لم يكونوا «ثوريين»، مثل كارلو بورتا
Porta، أو توماسو جروسي
Tommaso Grossi. وهكذا صار الامتزاج تامًّا، بين الرومانسيَّة
والمبادئ الحرَّة، وبين الرومانسيَّة والوطنيَّة الإيطاليَّة.
وكان في تسكانيا أن ازدهر مركز هام لهذه الحركة الأدبية والمؤيِّدة للمبادئ
الحرَّة، فتأسَّست في فلورنسة على يد أحد الأدباء؛ بيترو فيوسو Pietro
Vieusseu
شبه دائرة أدبيَّة، أو ندوة يجتمع فيها الْكُتَّاب من كل أنحاء إيطاليا، وتُقرأ
فيها كتابات المؤلفين. وكان «فيوسو» من أصل سويسري، وكان يشتغل بالتجارة في
أونيليا Oneglia (على الساحل البيدمنتي) قبل
أنْ يستقر به المقام في فلورنسة، وقد أسَّس «فيوسو» في سنة ١٨٢٠ بالاشتراك مع نبيل
من الأحرار، هو الماركيز «جينو كابوني» سبقت الإشارة إليه، وقد سُمِّيت هذه المجلة
أنتولوجيا Antologia المنتخبات من الشعر
والنثر، وقد أمدَّها بالمقالات كبار الْكُتَّاب مثل؛ كارلو ترويا Troya، و«توماسو جروسي»، والكونت جياكومو ليوباردي Leopardi، ثم جوزيبي «يوسف» مازيني
وغيرهم، ولقد كان برنامج هذه المجلة، وكما جاء في تصريحات هؤلاء الْكُتَّاب أنفسهم؛
تقديم أو وصف إيطاليا، وبيان ما هي في حاجة إليه في الميدان الْخُلقي، وفي الآداب،
ومعاونة إيطاليا لتصبح قادرة على التعرف إلى ذاتها، ولبناء مثل أعلى يتوجه إليه
الطليان بأنظارهم، لا يكون محليًّا متعلِّقًا بالبلديات، ولكن وطنيًّا (قوميًّا).
ولم تنتشر هذه المجلة «أنتولوجيا» انتشارًا واسعًا، فلم يزد عدد المشتركين فيها على
خمسمائة وثلاثين وحسب، ولكن نفوذها وتأثيرها كان عظيمًا، فقد تألَّفت حول هذه
المجلة أو بواسطتها «مدرسة» تخصصت في دراسة دانتي Dante، الشاعر الوطني — الإيطالي — العظيم، كما نشأت من جهة
أخرى «مدرسة» تاريخية؛ أي من المؤرخين الذين كان من أعلامهم؛ «كارلو ترديا» في
نابولي، و«سيزار بالبو» في تورين، و«جينو كابوني» في فلورنسة.
تلك إذن كانت ملامح الحركة الرومانسيَّة، فهي تمثل — كما شاهدنا — ثورة ذهنيَّة في
إيطاليا، ويقظة الروح الإيطالي، الذي يجب أنْ نذكر دائمًا، أنه قد ارتبط دائمًا ومن
أول الأمر بالمبدأ الحر، والفكرة الوطنيَّة، ولم يكن الكاتبان البارزان، من أعلام
هذه المدرسة الرومانسيَّة من المشتغلين بالسياسة، ومع ذلك فقد كان لهما أثر هام في
بناء «الروح الإيطالية»، وأمَّا هذان الكاتبان فكانا: أليساند ومانزوني Manzoni، و«جياكومو ليوباردي».
وينتمي «مانزوني» الذي عاش بين ١٧٨٥، ١٨٧٣ إلى أسرة نبيلة من ميلان، ولو أنه تخلى
عن لقب الكونتية الذي يحمله، وبدأ «مانزوني» حياته الأدبيَّة والفكريَّة كأحد
تلاميذ المدرسة الكلاسيكية، وذلك في اتجاهاته الذهنية، وفي الموضوعات التي عالجها،
كما استمد آراءه الفلسفية في الوقت نفسه من «الفلسفة» السائدة في القرن الثامن عشر،
ولكن «مانزوني» لم يلبث أنْ استرجع إيمانه وعقيدته الدينية المسيحية عند زواجه.
ومنذ سنة ١٨١٢ بدأ نتاجه الجدي في الأدب، حينما نشر سلسلة من «التسابيح المقدسة»
١٢ استمرت حتى سنة ١٨٢٢، وأيَّد «مانزوني» المنشور الذي أذاعه «بيركيت» عن
الميادين الرومانسية في الأدب، كما أيَّد في الوقت نفسه المبادئ الحرَّة، وفي مارس
١٨٢١ نظم «مانزوني» لتحية الثورة التي حصلت في بيدمنت قصيدة بعنوان (مارس ١٨٢١) لم
ينشرها صاحبها مع ذلك إلَّا في سنة ١٨٤٨، كما كتب بعد شهور قصيدة أخرى بمناسبة وفاة
نابليون، الذي قضي في منفاه، في سانت هلانه يوم ٥ مايو ١٨٢١. والتفت «مانزوني» إلى
الأدب المسرحي، فكتب تمثيليتين من النوع التراجيدي، استمد حوادثهما من وقائع
التاريخ الإيطالي؛ الأولى بعنوان «الكونت دي كارمانولا»
١٣ في سنة ١٨٢٠، والأخرى بعنوان أديلكي
Adelchi، وذلك في سنة ١٨٢٢. وقد عنى «مانزوني» بسرد حوادث هاتين
المسرحيتين التاريخيتين في مقطوعات من الشعر الْمُنَغَّم، أكثر من عنايته بأمر
الحبكة المسرحية، أمَّا في «كونت دي كارمانولا» فقد أظهر المؤلِّف عواقب النزاعات
الداخلية السيئة، وكيف أنَّ الأجانب فقط هم الذين يفيدون منها، وصار يحذر النظارة
من مغبة الخلافات والحروب الأهلية، ويوجه اللوم والتأنيب العنيف لكل مَنْ يثير هذه
المنازعات أو يشترك بها، ويلح في ضرورة التكتل في وجه العدو الأجنبي. وكان الشعر
الذي صاغ به «مانزوني» هذه المعاني، يفيض بالحماسة التي ملأت صدور صاحبه، حتى إنَّ
بعض هذه المقطوعات سرعان ما صارت «أغنيات» وأناشيد وطنية، يرددها الطليان ويتغنون
بها، ولقد تضمنت المسرحية الأخرى «أديلكي» إشارات للموقف السائد وقتئذ في إيطاليا
كانت بدرجة من الوضوح، جعلت «الرقباء» يحذفون منها عبارات (أو مقطوعات من الشعر)
كثيرة، ولم يسع أحد هؤلاء إلَّا أنْ يكتب في هامش إحدى الصفحات: ماذا يظن بنا السيد
مانزوني! هل يعتقد أننا لا نفهم المعاني التي يريدها؟
على أنَّ «مانزوني» لم يلبث أنْ ترك جانبًا الأدب المسرحي؛ لينشر بعد سنة ١٨٢٥
القصة التي خلدت اسمه، وكانت عن الذين عقدوا خطوبة الزواج، وكانت «رواية» تاريخيَّة
ورمزيَّة في الوقت نفسه، وقد نُشرت هذه في سنة ١٨٢٧،
١٤ ولكن ذلك كان نتاجه في ميدان القصص؛ لأنه سرعان ما انكب بعد ذلك على
دراسات نقد الأدب، والفلسفة، واللغويات، وكان واضحًا في كل كتابات «مانزوني»
وتفكيره أنه «مسيحي» قبل أي اعتبار آخر.
فالعاطفة الدينية في اعتباره هي منبع القوة والشجاعة، والدين هو المحبة بين البشر،
ثم هو الذي يقدم المثل الأعلى للمساواة والعدالة، ومبعث الأصل والرجاء لدى الذين
وقع عليهم الظلم، ولقد اعتقد «مانزوني» أنَّ الأدب يجب أنْ يخدم أغراضًا نافعة،
وأنْ يساعد على إحياء إيطاليا خلقيًّا (روحيًّا) واجتماعيًّا. وفي رأي «مانزوني»
أنَّ من الواجب إعادة تربية الأمة خلقيًّا وروحيًّا قبل المطالبة بالحرية السياسية
لها، فصار ينصح بالتريث والاعتدال، وطول الأناة، ولكن دون التخلي عن الأماني
والمطالب المراد تحقيقها. ولما كان «مانزوني» بطبعه متفائلًا فقد آمن بانتصار مثله
الأعلى عن الخير والعدالة، وذلك في وقت قريب.
وهكذا لم يكن «مانزوني» بحالٍ من الأحوال «ثوريًّا»، بل كان على العكس من ذلك
«مربيًّا» يريد تربية الأمة، خلقيًّا وروحيًّا واجتماعيًّا، ولقد كان له أعظم
النفوذ وأعمقه في بناء إيطاليا من هذه الناحية الخلقية والروحية، وفي صنع الشعور
القومي، وهو نفوذ من نوع النفوذ الذي كان «لسيلفيوبيلليكو»؛ أي إنه كان نفوذًا
تربويًّا وخلقيًّا، وليس سياسيًّا بصورة مباشرة.
أمَّا «جياكومو ليوباردي»، فقد عاش بين ١٧٩٨، ١٨٣٧، أي إنَّ حياته كانت قصيرة،
والحديث عن نشاطه وحياته يجب أنْ يكون أكثر سهولة من الحديث عن حياة ونشاط
«مانزوني». ففي تاريخ الأدب، يعتبر «ليوباردي» من عداد المدرسة الكلاسيكيَّة، في
حين كان في حياته وشخصه يمثل الرومانسيَّة بسبب الحياة المليئة بالآلام التي كان
يعيشها، ولأنه كان «متشائمًا»، ومن وجهة النظر القومية، يسهل كذلك تحديد موقف
«ليوباردي»، من حيث إنه كان متأثرًا ولا شك بالروح الوطنيَّة (القومية)، فحزَّ في
نفسه حزًّا عميقًا أنْ يرى إيطاليا وقد نزلت بها المذلة والمهانة، وأنها قد صارت
تسير في طريق التدهور منذ سنة ١٨١٥، ولكنه في الوقت نفسه كان يحمل حملة شديدة على
حركة الأحرار، وينقد هؤلاء نقدًا عنيفًا. وينتمي «ليوباردي» إلى عام الفكر الجديد
والدراسات الجديدة، بفضل نتاجه الأدبي واللغوي الأول، ولقد كان في سنة ١٨١٨ أن نشر
«ليوباردي» أغنيتيه الوطنيتين عن «إيطاليا» وعن «التعصب المزمع إقامته في فلورنسة
لدانتي»، ثم لم يلبث أنْ نشر في سنة ١٨٢٠ قصيدة لتحية أحد أمناء المكتبات
أنجيلو مائي Mai — كان قد وُفِّقَ في الكشف
عن بعض المخطوطات القديمة «الكلاسيكية»، وهذا النتاج كان القدر الذي ساهم به
«ليوباردي» في الأدب الوطني، فهو يعرض على إيطاليا الْمُهَانة والذليلة حالًا،
صورًا من عظماء الرجال في الزمن الغابر، والذين طلب من أبناء البلاد أنْ يترسموا
خطواتهم، ويعرض دروسًا من البطولة والشجاعة، تضافرت على كتابتها أقلام كبار
المؤلفين أو عظماء الرجال في الماضي، ويريد أنْ يتلقنها الإيطاليون في عصره، وعقد
«ليوباردي» آمالًا واسعة على الشباب فهو يوجه حديثه لهم دائمًا، وهو يعتمد عليهم في
إمداد الوطن بأجيال من الفتوة المتينة والوثيقة التي كانت إيطاليا في حاجة لها،
يقابل ذلك أنَّ «ليوباردي» في أخريات أيامه، عمد إلى تناول جماعة الأحرار الإيطالية
بالنقد، فهو ينقد شدة ثقتهم في أنفسهم، والتي لا مبرر لها في نظره، ويعيب عليهم عدم
كفايتهم وعجزهم، ولا يرى خيرًا في برامج الإصلاحات الحرَّة، وتهكم بأشخاص الأحرار
والوطنيين القوميين، وأظهرهم في صور تبعث على الزراية بهم، فسرد في آخر قصائده
المعروفة (١٨٣٧)؛ قصة النضال بين الجرذان والضفادع، وهي القصة التي نُسبت خطأ
لهومر Homer صاحب «الإلياذة» المشهورة؛ فكان
الجرذان في قصيدته هم أهل نابولي، والضفادع هم القساوسة، والسراطين — جمع سرطان —
هم النمسويين.
ذلك إذا كان القدر الذي ساهم به كل من «أليساندرو مانزوني» و«جياكومو ليوباردي» في
الحركة القومية (الوطنية)، وحركة التحرير الإيطالية، وهو قدر في حد ذاته كان
ضئيلًا، ولكنه كان على جانب كبير من الأهمية، إذا قيس بالأثر الذي خلَّفه كجزء من
التراث الأدبي والروحي (وَالْخُلقي) الذي صار لإيطاليا.
هذا، ولقد كان بعد سنة ١٨٣٠ أنْ زاد تشكيل وبروز الطابع أو الظاهرة السياسية التي
بدأت بقيام الحركة الرومانسية، حتى إنه ليصح القول بأن الأدب الإيطالي بعد هذا
التاريخ يكاد يكون صورة لحركة المبادئ الحرَّة، يكاد يكون بأكمله مكرسًا لشئون
السياسة؛ (أي أدبًا سياسيًّا)، ويضع الفن تحت حكم الاعتبارات السياسية، بل لقد بدأ
الْكُتَّاب يزجون بأنفسهم في ميدان العمل والنشاط الإيجابي، وصار كثيرون منهم
«ضحايا» لقضية الحرية — قضية المبادئ الحرَّة — مثلهم في ذلك مثل «سيلفيوبيلليكو»
الذي مرَّ بنا ذكره، من الذين اشتركوا في حوادث ١٨٢١، واتخذت هذه الحركة، صورة
الانكباب على التراث الأدبي القديم، وخصوصًا على آثار «دانتي»، فبلغ عدد المرات
التي أُعيد فيها نشر «الكوميديا الإلهية» المشهورة أكثر من مائتين، وذلك فيما بين
سنتي ١٨٣٠، ١٨٧٠ فحسب، كما ظهرت دراسات عديدة عن هذا الشاعر، لعل من أهمها كانت
الدراسة التي نشرها في سنة ١٨٣٠ عن «حياة دانتي» الكاتب الإيطالي إريفابيني Arrivabene ثم تلك التي نشرها «سيزار بالبو» في
سنة ١٨٣٩.
وفي الوقت نفسه بدأ الإيطاليون يهتمون بالأقاصيص والأساطير، ومجموع العادات
والتقاليد المورثة، والمعتقدات وما إليها، مِمَّا يُعرف باسم الفلكور Folklore. كما أخذوا يهتمون بدراسة اللغة، فنشر
نيقولو توماسيو Niccolo Tommaseo في سنة ١٨٣٠
«معجمًا للمترادفات»، وكان «توماسيو» إيطاليًّا وُلد في دلماشيا، ثم استقر به
المقام في فلورنسة، ثم اهتم «توماسيو» بالأدب، فنشر في سنة ١٨٣٧ رواية تاريخيَّة
بعنوان «دوق أثينا»، ثم نشر في سنة ١٨٤١ مجموعة (أو ديوانًا) من الأغاني الشعبية
جمعها من تسكانيا وكورسيكا، والأقاليم الأليرية (دلماشيا وساحل الأدرياتيك الشرقي)،
ثم شرع في إعداد «معجم للغة الإيطالية» لم ينتهِ منه ولم ينشره إلا في سنة
١٨٥٥.
وإلى جانب الدراسات اللغوية والفولكور عنيت المدرسة الرومانسية بالدراسات
التاريخية، فتأسَّست في تورين في سنة ١٨٣٣ جمعية للتاريخ الوطني؛ أي لدراسة تاريخ
البلاد، وفي سنة ١٨٤٢ تأسَّست في فلورنسة جمعية «المحفوظات التاريخية الإيطالية»
والتي كان أهم المساهمين في نشاطها المؤرخ «جينو كابوني» صاحب تاريخ «جمهورية
فلورنسة»، وكان من بين المؤرخين الآخرين؛ «كارلو ترويا» — وقد سبقت الإشارة إليه —
وهو من نابولي، نشر في سنة ١٨٣٩ تاريخًا لإيطاليا في العصور الوسطى، ثم نذكر من
هؤلاء؛ ميسكيلي آماري Michele Amari الذي نشر في
سنة ١٨٤٢ تاريخًا لمذابح صقلية أو سيشليا التي وقعت في سنة ١٢٨٢، وذهب ضحيتها
الفرنسيون بهذه الجزيرة، خصوصًا في باليرمو Palermo على أيدي السيشليان، ثم إنه نشر بعد ثلاث سنوات (١٨٤٥)
تاريخًا للمسلمين في صقلية، ولقد سبقت الإشارة إلى «سيزار كانتو» وهو المؤرخ الذي
نشر في سنة ١٨٣٢ «تاريخ لمبارديا في القرن السابع عشر»، ثم أخذ ينشر ابتداء من سنة
١٨٤٥ «تاريخًا للعالم»، ولقد استرعت دراسة القانون القديم انتباه العلماء
والمثقفين، فنشر كاتانيو Cataneo في سنة ١٨٤٤
بحوثه في «القانون المدني والطبيعي في لمبارديا»، وكانت هذه دراسة على جانب عظيم من
الأهمية.
وكان إلى جانب هذه الكوكبة من العلماء والمؤرخين والأدباء والْكُتَّاب إلخ؛ أنْ
نمت واتسعت حركة النشر وإصدار المطبوعات الدوريَّة، حقيقة تعطلت مجلة «أنتولوجيا»
في سنة ١٨٣٣، ولكن مجلات أخرى لم تلبث أنْ ظهرت إلى الوجود، وكان عددها كبيرًا،
منها واحدة باسم «المرشد في التربية»، ظلت تظهر من ١٨٣٥–١٨٤٥، وأخرى باسم
«إيطاليا»، وهكذا.
ولقد كان طبيعيًّا أنْ يتجه هذا الأدب الهادف إلى التربية والتهذيب نحو السياسة،
ولكن هذا الاتجاه نفسه يمكن ملاحظته كذلك، في الأدب الروائي، ومع أنَّ الفكرة أو
الموضوعات التي تعرضها الروايات أو القصص في هذا العصر، لم تكن مستوحاة من الأحداث
أو التطورات السياسية مباشرة، فمن الثابت أنه كان لهذا النوع من الأدب، أثر بالغ من
الناحية السياسية ذاتها، في نفوس المعاصرين، وعلى الخصوص قصص (أو روايات) —
فرنسيسكو جويراتزي
Guerrazzi (١٨٠٤–١٨٧٣) وهو
من ليفورنة، كان عنيفًا في كتاباته، ملتهب العواطف والمشاعر، بدأ حياته الأدبيَّة
في سن العشرين، وفي سنة ١٨٣٦ ظهرت قصته المشهورة عن «حصار فلورنسة»،
١٥ وهو الحصار الذي انتهى في سنة ١٥٣٠ بخضوع فلورنسة بعد دفاع عنيد لآل
مديشي، الذين كان انتزعها منهم الفرنسيون أثناء «الحروب الإيطالية» المعروفة في
القرن السادس عشر، فاستردها ألسندرودي
مديشي
Medici، وقد ألهبت هذه القصة (الرواية) شعور الشباب الإيطالي،
وكانت أسمى تصانيف «جويراتزي» إطلاقًا، كتب صاحبها إلى «مازيني» يقول: إنه إنما كتب
هذا الكتاب (أو القصة)؛ لأنه كان يعجز عن امتشاق الحسام في معركة فعليَّة، ولقد
راحت إحدى الصحف السرية التي يصدرها الأحرار وقتئذ باسم الرائد أو المبشر
Percursore توصي بقراءة هذه القصة «كل الإيطاليين
الذين تعمر قلوبهم بالولاء لبلادهم، والذين يريدون الوقوف على مدى الخزي والعار،
ودرجة الطغيان الكريه والبغيض، اللذين حلا بالبلاد سنوات طويلة بسبب سفه الأجانب
الجنوني، أو ما كانت تنفثه في صدورهم الأطماع الخبيثة.» ولقد استمرت هذه الصحيفة
تقول: إنَّ هذا الكتاب (أو القصة) قد جعل الرعب والهلع يستبد برجال البوليس، الذين
شبهتهم الصحيفة بذلك الابن أرغوس
Argus الذي كان
لأحد آلهة اليونان في أساطيرهم القديمة، له مائة عين ولا ينام إلَّا باثنين منها
فقط، فصار البوليس المرعوب يفتش الدور والأبنية تفتيشًا دقيقًا؛ ليصادر ما قد يعثر
عليه من نسخ من هذا الكتاب لإتلافها، ولم تكن «حصار فلورنسة» القصة الوحيدة من هذا
النوع التي كتبها «جويراتزي»، بل كانت له قصص (روايات) أخرى تاريخيَّة من هذا
الطراز نفسه.
ولقد صار الشعراء كذلك يرقون في قصائدهم بالعاطفة الوطنية أو السياسية إلى القمة،
ومن هؤلاء: ترنتزيو مامياني
Terenzio Mamiani
كونت، ديللا روفيري
Rovere، وكان من رجال السياسة
في الولايات البابوية، وقد أخذ ينشر ابتداء من سنة ١٨٢٩ طائفة من الترانيم
والتسابيح والقصائد، ثم كان من هؤلاء الشعراء كذلك: جيوفاني نيكوليني
Niccolini أحد الأساتذة من فلورنسة، ومؤلِّف عدد من
«الدرامات» المنظومة شعرًا مثل: «أنطونيو فوسكاريني»
١٦ (في سنة ١٨٢٧)، التي نقد فيها الحكومات المطلقة، ثم «لودوفيكو سفورزا»
١٧ التي رسم فيها صورة لملكية تقوم على المبادئ الحرَّة، قال «نيكوليتي»:
إنها ضرورية لإحياء إيطاليا وبعثها من جديد (١٨٣٧)، وفي إحدى دراماته: «جيوناني دي بروشيدا»
١٨ هاجم مساوئ الحكم النمسوي والمظالم التي يوقعها النمسويون بالشعب،
وأمَّا أهم مسرحياته — المنظومة شعرًا — فكانت «أرنالدو دا بريزبا»
١٩ (في سنة ١٨٤٧)، والتي أبان فيها: كيف أنَّ البابا والإمبراطور كانا
متحدين في الماضي والحاضر في إذلال إيطاليا، وتصفيدها بأغلال العبودية، وإلى جانب
«مامياني» و«نيكوليتي» يحتل نفس المكانة: جوبرتي
جويستي
Giusti صاحب القصائد التهكمية اللاذعة ضد الحكومة، والتي لم يكن
يجرؤ أحد على طبعها، والتي صار يتداولها الناس سرًّا، وكانت قصائده تفيض بالكراهية
ضد النمسويين، ثم ضد الديماجوجيين؛ أي الزعماء الذين يعتمدون في زعامتهم على تحريك
عواطف الطبقات الدنيا الجامحة. وأخيرًا، فقد أخذ كاتب وشاعر آخر هو: أنجيلو بروفيريو
Brofferio ينشر ابتداء من سنة ١٨٣١
أغنيات باللهجة البيدمنتية، كلها كذلك مليئة بالتهكم اللاذع ضد الحكومات
القائمة.
وهكذا أصبح الأدب في إيطاليا، أدبًا سياسيًّا، ومما يجب ذكره؛ أنَّ أكثر هؤلاء
الْكُتَّاب والمؤلِّفين والشعراء الذين ذكرناهم، سوف يكونون من بين المشتركين في
حركات ثورة ١٨٤٨؛ وعلى ذلك ففي وسعنا القول: أنه بين ١٨١٥–١٨٤٨، وعلى الخصوص ابتداء
من سنة ١٨٣٠، قد أخذ يحدث اندماج كامل بين الحياة الذهنية في إيطاليا، والأماني
القومية الوطنية، ولقد كان الدور الرئيسي الذي قام به «الأدب» الذي استعرضنا خصائصه
في هذا العصر، هو تربية الشعب الإيطالي، وتشكيل روح إيطالية وطنية عامة بصورة
مطردة، لا يلبث أنْ يشتعل لهيبها، فيشمل إيطاليا بأسرها.
على أنه قبل الانتقال إلى دور العمل والنشاط الثوري في سنة ١٨٤٨، كانت هذه «الحركة
الأدبية» قد أفضت إلى نتيجة هامة معينة، هي تطهير وتنقية الحركة الثورية، والارتفاع
بها إلى مُثل وأهداف أسمى من مجرد محاولات «محلية» إلى جهد أوسع ينشد غايات
«وطنية»، أو قومية أوسع مدى وأعمق أثرًا في نتائجها، ولقد بدأت الحركة الثورية تتخذ
منذ ١٨٣٠ شكلًا مختلفًا عما كان لها سابقًا، وذلك تحت زعامة وإرشاد «مازيني»، وبفضل
تأسيس جمعية «إيطاليا الفتاة» على يد «مازيني» نفسه.
مازيني وجمعية إيطاليا الفتاة٢٠
ولقد كان من أسباب تحول الحركة الثورية، من المحلية إلى الإقليميَّة إلى الوطنية
الإيطالية؛ أي التي تشمل كل إيطاليا، ذلك الهوان الذي شعر به الطليان من جراء إخفاق
جمعيات «الكاربوناري»، وكان طبيعيًّا أنْ يجعلهم الفشل الذي أصاب «الكاربوناري»
والهوان الذي شعر به الإيطاليون، يتحولون إلى الحياة الذهنية والفكرية؛ ليجدوا في
هذا الحقل النظري منفذًا لنشاطهم، ولقد كان للتأثير التربوي الذي أحدثته الحركة
الرومانسيَّة في الأدب نفس النتيجة، من حيث إنه أضفى أهمية جوهرية على العامل أو
العنصر الروحي والْخُلقي، وتحت هذين التأثيرين إذن الشعور بأنهم كانوا مخدوعين
بجدوى العمل المادي؛ (أي الثوري)، ثم الخضوع لنفوذ التوجيه التربوي الذي كان للحركة
الرومانسية، نقول: إنه كان تحت هذين التأثيرين إذن أنْ صار الأحرار الإيطاليون
يدركون ضرورة العمل من أجل تطهير الحركة الثورية، وإعطائها معنى روحيًّا يسمو بها
عن مستواها النفعي والإقليمي المحدود، وأمَّا الحركة الثورية في ثوبها هذا الجديد،
فقد تجسمت في شخص يوسف «جوزيبي» مازيني.
ويوسف مازيني كان من أسرة بورجوازية، وُلد في جنوه في ٢٢ يونيو ١٨٠٥، لأب نال بعض
الشهرة كطبيب وكأستاذ للتشريح بجامعة جنوه، ويدين بالمبادئ الديموقراطية طول حياته،
ولأم عظيمة النشاط ومتدينة، ويُعزى لانحدار مازيني من هذا الأصل الجنوي، تلك
الكراهية التي شعر بها ضد ملكيته بيدمنت التي حطمت أو منعت في ١٨١٥ إعادة استقلال
جنوه، وضمت هذه الأخيرة إلى أملاكها. وتلقى مازيني تعليمه أوَّلًا في أحضان أسرته،
ثم التحق بجامعة جنوه فحصل منها على إجازة الدكتوراه في القانون، وهكذا نشأ مازيني
وأتمَّ تربيته في بيئة علم وثقافة، وتسود بها المبادئ المثالية. ولقد بدأ حياته
الأدبيَّة (سنة ١٨٢٨)؛ أي وهو في سن الثالثة والعشرين بكتابة سلسلة من المقالات
التي نشرتها صحيفة تجارية كانت تصدر في جنوه (دليل جنوه)،
٢١ كان محررها قد وافق على نشر إعلانات أو تعليقات بسيطة على بعض الكتب
المطبوعة حديثًا، لم تلبث أنْ استحالت تدريجيًّا إلى مقالات كاملة في الأدب، وقد
نفذ «مازيني» في مقالاته هذه الحركة الرومانسيَّة وجهة نظر العمل السياسي؛ أي إنه
أعاب عليها الاقتصار على التفكير النظري وحسب، ولكن لم تنتهِ سنة ١٨٢٨ حتى كان
البوليس قد عطَّل هذه الصحيفة، فوجد «مازيني» منفذًا آخر لنشاطه في صحيفة «دليل ليفورنة»
٢٢ التي أسَّسها «فرنسسكو جويراتزي» في ليجهورن
Leghorn «في تسكانيا» من طراز الصحيفة السابقة. وطلب «جويراتزي»
من «مازيني» أنْ يمد صحيفته بالمقالات، وفي مقالاته الجديدة حمل «مازيني» مرة أخرى
على الحركة الرومانسيَّة، ومع أنَّ الرقابة لم تكن في تسكانيا صارمة بالدرجة التي
كانت بها مثيلاتها في الحكومات الأخرى، فقد استرعت جرأة الصحيفة المتزايدة، وعلى
الخصوص العنف الشديد الذي اتسمت به إحدى مقالات «مازيني» الأخيرة، انتباه الرقابة
التي بادرت بتعطيل الصحيفة. وعندما حدثت ثورة يوليو ١٨٣٠ المعروفة في باريس، وقامت
الاضطرابات والثورات في إيطاليا الوسطى، حامت الشبهات حول «مازيني» بسبب انضمامه
إلى جمعية الكاربوناري — وذلك منذ الوقت الذي بدأ يكتب فيه مقالاته «بدليل جنوه» —
فقبض عليه البوليس وألقى به في السجن في سافونا
Savona بتهمة التحريض على إحدى حركات العصيان والثورة، فبقي
بالسجن ستة شهور، ومُنع من الإقامة بجنوه، ووُضع تحت المراقبة، ففرَّ إلى كورسيكا
(فبراير ١٨٣١) ومنها إلى مرسيليا.
وكان أثناء سجنه في «سافونا» بإقليم جنوه، أنْ استطاع «مازيني» تحديد العناصر التي
تألَّفت منها عقيدته السياسية.
ولما كان «مازيني» قد وصل إلى مرسيليا في اللحظة تقريبًا التي اعتلى فيها شارل
ألبرت عرش بيدمنت في ٢٧ أبريل ١٨٣١، فقد بادر «مازيني» بإرسال كتاب باسم
«الإيطاليين»، يُذَكِّر فيه الملك الجديد أنه وهو ولي للعهد، كأمير «كارنيان» كان
مقتنعًا بفكرة تحرير إيطاليا، ويهيب به أنْ يصغي لصوت إيطاليا الذي لا ينتظر غير
كلمة واحدة، كما قال مازيني: «حتى يصبح صوتك أنت.» ثم استطرد يقول: «هلم ضع نفسك
على رأس الأمة، واكتب على رايتك: الاتحاد والحرية والاستقلال! هلم وأنقذ إيطاليا من
البرابرة!» ولكن مازيني لم يظفر بجواب على رسالته إلى شارل ألبرت، بل كان من أثر
هذه الرسالة أنْ صدر الأمر بإلقاء القبض عليه، إذا هو حاول العودة إلى إيطاليا،
فكان في ذلك انفصام كل علاقة بين ملكية بيدمنت ومازيني.
وأقام مازيني في مرسيليا، وأسَّس بها جمعية وصحيفة باسم «إيطاليا الفتاة» في سنة
١٨٣٢، واشترط «مازيني» أنْ يلتحق بجمعيته الشباب والرجال دون الأربعين فقط، وتألَّف
أعضاؤها من رجال القانون والأطباء، والأساتذة من أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية)
بصفة عامة، والذين كان من بينهم: جوزيني
جاريبالدي
Garibaldi أحد ضباط البحرية التجارية، وأمَّا أهم الذين تعاونوا
مع مازيني في هذه الجمعية، فكان الأشقاء رافيني
Ruffini «جاكوبو» و«أجوستينو» و«جيوفاني»،
٢٣ ثم ميليجاري
Melegari، ثم ميشيل بوناروتي
Buonarotti، وهذا الأخير كان من الذين
انضموا «بابيف» وحركته الاشتراكية في عهد حكومة الإدارة في فرنسا، كما كان أحد
الذين حَرَّضوا على الاضطرابات التي أثارها الحزب الجمهوري في باريس (يونيو ١٨٣٢)،
وكانت إيطاليا الفتاة جمعية سريَّة ترمي إلى العمل الثوري، وتهدف في الوقت نفسه إلى
«تربية» الشعب، وتلقينه المبادئ الحرَّة والوطنية (القومية)، وعلى ذلك فإنه لم تمضِ
سنة واحدة على تأسيسها حتى كانت قد بدأت حياتها (١٨٣٣)، بالنزول إلى ميدان العمل
وتدبير المؤامرات في إيطاليا استعدادًا للثورة، وفي العام التالي وَسَّع «مازيني»
نطاق جمعيته كما وسَّع برنامجها، وأسَّس في «برن» بسويسرة في ١٩ أبريل ١٨٣٤:
«أوروبا الفتاة»،
٢٤ وكان «مازيني» قد تآمر على إشعال الثورة في بيدمنت، ولكن هذه المؤامرة
أخفقت، وكان «جاكوبو رافيني» من بين الذين قبضت عليهم حكومة شارل ألبرت، وَخَيَّرته
هذه بين الإعدام أو إفشاء سر المتآمرين والكشف عن أشخاصهم، فآثر «رافيني» الانتحار،
ولما كانت الحكومة الفرنسية قد أمرت بنفيه وعطلت صحيفته في مرسيليا، فقد اضطر
«مازيني» أخيرًا إلى الذهاب إلى سويسرة، فبلغ جنيف في شهر يوليو ١٨٣٣، وحاول تجهيز
حملة من البولنديين والألمان والفرنسيين، الذين كانوا يعيشون في المنفى خارج
أوطانهم، بالإضافة إلى المنفيين في سويسرة، وكان غرضه الزحف على بيدمنت، ولكن هذه
الحملة فشلت لأسباب كثيرة، بعد أنْ تجمع أفرادها (القليلون) عند الحدود بالقرب من
«سان جوليان»، فتفرقت يوم ٤ فبراير ١٨٣٤، ولم تكن تطلق رصاصة واحدة، وفي بداية سنة
١٨٣٧ وصل مازيني إلى لندن وبصحبته الأخوان: أجوستينو وجيوفاني رافيني، ومن لندن
انكب «مازيني» على توجيه الحركة الإيطالية، ثم أسس بها في سنة ١٨٤٢ مجلة جديدة
بعنوان الرسولية أو الحوارية
الشعبية
L’Apostolato Populare.
وكان «مازيني» أثناء هذا كله موضوعًا تحت رقابة شديدة من جانب البوليسَين
الإنجليزي والفرنسي، يحصيان عليه كل حركاته وسكناته.
ولا جدال في أنه كان لمازيني تأثير عظيم على المحيطين به، والذين يقرءون كتاباته
لمظهره الجذاب من ناحية، ولتعصبه لآرائه وتمسكه بالمثل العليا من ناحية أخرى، فهو
لا أطماع ذاتية له، ويعيش عيشة جد وتقشف. ويعترف المتصلون به أنه يتمتع بشخصية
ساحرة، وهو صاحب بلاغة وطلاقة، ويكتب بأسلوب باهر ومفعم بالحماسة، ويجعل كل كتاباته
ونشراته وكراساته ورسائله مع الذين يكاتبونه من مختلف البلدان، تنبض بالحياة، ظفر
بمحبة الأحرار الطليان — وذلك أمر طبيعي، ولكنه ظفر كذلك بمحبة الجمهوريين أو
الأحرار الفرنسيين، وأعجب به عدد من النساء اللواتي اتصلن به مثل؛ الكاتبة الفرنسية
جورج صاند George sand، والكونتيسداجول D’agoult، والبرنسيس بلجيو جوسو Belgiojoso وهكذا، ولقد كان بفضل هذا كله أنْ صار «مازيني»
شخصية رومانسية تحيط بها هالة من البطولة؛ ولهذا السبب نفسه وطوال السنوات التي بقي
فيها على مسرح السياسة، استمر «مازيني» صاحب نشاط عظيم الأثر، فهو قد صار زعيمًا
للحركة الثورية في إيطاليا، ولكنه قد صار كذلك مشجعًا للحركة الثورية الدولية
وراعيًا لها، وهو الذي راد الحركة الثورية، التي بقيت حتى هذا الوقت متخبطة في
أغراضها، وعاجزة عن تعيين أهدافها؛ راد هذه الحركة الثورية ليس ببرنامج كامل فحسب،
بل وبعقيدة سياسية ووطنية ينبع منها نشاطها.
فقد شاهدنا كيف نقد «مازيني» الحركة الرومانسيَّة، وعاب «مازيني» على الرومانسيَّة
إنها كانت مدرسة تؤيِّد النزعة الفرديَّة، ولا رسالة سياسية ووطنية قومية لها. وعلى
خلاف ما كان يأخذ به «مانزوني» أحد أعلام هذه المدرسة؛ اعتقد «مازيني» أنَّ إصلاح
الفرد لا يأتي إلَّا كنتيجة من النتائج المترتبة على إجراء الإصلاحات السياسية؛
ولذلك فالواجب أنْ يكون العمل السياسي هو موضوع الأدب، «فالرومانسيَّة — كما يقول —
ينبغي أنْ يكون غرضها تزويد إيطاليا بأدب قومي (أهلي) أصيل؛ لتدافع ببلاغة عن
الآراء التي تعتمد عليها الحركة القوميَّة والمطالب التي هي ضروريَّة لها.»
ولقد نقد «مازيني» كذلك جمعيات «الكاربوناري» والمبادئ والتعاليم المستندة عليها،
فعاب على «الكاربونارية»
٢٥ افتقارها إلى العقيدة الثابتة، والقوى الروحيَّة (الأدبيَّة)، وقبل كل
شيء أنه لم تكن لها أهداف اجتماعية، فلم تعد برنامجًا للإصلاحات اللازمة في التشريع
(القانون) وفي التربية والتعليم، وصمَّم «مازيني» على استبعاد أعضاء «الكاربوناري»
من جمعياته، وأخذ يوجه لهم النصح والإرشاد حتى «يضعوا الشباب على رأس الثورة!»
ويطلب منهم: «أنْ يشعروا الشباب بأن دورًا نبيلًا في انتظارهم ليقوموا به، وأنْ
يشعلوا في صدورهم نار الحماس، بإطرائهم وتأكيد ثقتهم في قدرتهم وقوتهم، ثم عليهم
أنْ يطلقوهم بعد ذلك على النمسويين.» وكان واضحًا أنَّ تحرير الشعب ذهنيًّا وتربيته
اجتماعيًّا وخلقيًّا، أمران لا غنى عنهما لإمكان تحرير إيطاليا وبعثها، وذلك نفسه
ما لم يكن يدخل في تفكير «الكاربوناري» وحسابهم.
ومع ذلك فقد اتفق مازيني مع «الكاربوناريين» في ضرورة العمل بطريق الجماهير؛ أي
الاعتماد على سواد الشعب في القيام بالحركات الثورية؛ لأن الحركة الثوريَّة التي لا
تقوم على أكتاف الشعب سوف تتعرض للفشل دائمًا، فلا يعود الشعب حينئذٍ ينظر إلى
الحركات الثورية إلَّا بعين الزراية، وكعمل مبعثه الغرور والطيش أو الغواية؛ ولذلك
فقد وجب أنْ يجذب الشعب إلى الثورة الأمر الذي لا يحصل إلَّا إذا صار لهذا الشعب
«مثل أعلى» يسترشد به ويريد تحقيقه؛ وعلى ذلك فقد طلب مازيني من الكاربوناريين أنْ
«يذكروا للشعب أنهم يريدون تحريره من طغيان الأمراء الحاكمين، ودفع الإهانات التي
تأتيه من الموظفين، والظلم الذي يقع عليه من الأغنياء وأصحاب الامتيازات، وعليهم
عندما تبدأ الجماهير تتحرك نحو الثورة، وعندئذٍ فقط أنْ يتجهوا إلى لمبارديا، يدعون
لإشعال الحرب ضد النمسويين.» وواضح أنَّ «مازيني» كان يستنكر كل تلك الثورات
المرتجلة التي أثارها الكاربوناريون دون الاستناد إلى برامج معينة، والتي كانت
حركات محلية، ومع ذلك فقد عمد «مازيني» إلى تحريك عدد من الثورات المشابهة لهذه
الثورات المحلية (والكاربونارية) ذاتها.
ولقد كانت ثورة الشعب الإسباني ضد نابليون ونجاحه في طرد الغزاة الأجانب، هي المثل
الظاهر أمام عينيه دائمًا، ووصل «مازيني» من دراسته لهذه الثورة إلى نتائج محددة،
أهمها أنَّ المتطوعين الذين تعمر قلوبهم بالإيمان أعلى مرتبة، وأعظم مقدرة في الحرب
من الجيوش النظامية، وأنَّ الجنود النظاميين إنما يكون نصيبهم دائمًا الهزيمة أمام
الحركات الشعبيَّة، ولكن حتى تتسنى استثارة الجماهير أو الكتل الشعبية، كان
ضروريًّا أنْ يزود هؤلاء بمثل أعلى هو «الوطن» تعمل الكتل الشعبية حينئذٍ لإنقاذه
من السلطان الأجنبي. ولقد كان «مازيني» أول مَنْ زود الحركة الثورية الإيطالية
ببرنامج وطني أو قومي، عندما كانت الحركة الثورية قبل هذا الوقت قبل كل شيء حركة
محلية ومبعثها المبادئ الحرَّة وحسب، فصارت الآن بفضل مازيني حركة قومية، وفكرة
القومية عند مازيني نقية صافية، تسمو عن العناصر الروحية المجردة، فهو يقول عن
الأمة: إنها تعني مجموع المواطنين الذين يتكلمون لغة واحدة ويمارسون مشتركين وعلى
قدم المساواة؛ الحقوق السياسية والمدنية؛ وذلك من أجل تحقيق غرض مشترك هو تنبيه
وإيقاظ القوى الاجتماعية واستكمالها بصورة مطردة. ثم هو يُعَرِّف كذلك القومية
بأنها: «الفكر المشترك، والمبدأ المشترك، والهدف المشترك.» فالأمة هي «اجتماع كل
الناس الذين تربطهم اللغة والاعتبارات الجغرافية المعينة، والدور الذي عهد به
التاريخ إليهم ليقوموا به، فيعرف هؤلاء أنَّ لهم مبدأ واحدًا، ويسيرون بحكم قانون
موحد نحو تحقيق غرض واحد ومعين، وتتألَّف الحياة القوميَّة «الأهليَّة» من ذلك
النشاط المتسق، الناجم من استخدام كل القوى الفردية التي يحتويها المجتمع أو اجتماع
هؤلاء الناس؛ لتحقيق هذا الغرض الفرد.» وواضح أنَّ هذه العبارات التي عَرَّفَ بها
«مازيني» القوميَّة، إنما كانت تفسر معنى وفكرة يقظة الشعور القومي، وبداية ظهور
المبدأ القومي، والأسباب والعوامل التي وراء هذه اليقظة والبداية.
ولقد ارتفع «مازيني» بهذه المعاني أو المدركات التي أتى بها لمدلول القومية، إلى
أقصى درجات المثالية عندما قال: «إنَّ الوطن قبل كل شيء إنما هو شعور المرء بأن
هناك وطنًا، فليست الأرض التي تمشي عليها، وليست الحدود التي تقيمها الطبيعة بين
أرضك وأرض الآخرين، واللغة العذبة التي تتجاوب أصداؤها فيها، إلَّا الشكل الظاهر
للوطن، أمَّا إذا لم تكن روح الوطن تقطن في محراب حياتك المقدس الذي اسمه الضمير،
فإن هذا الشكل الظاهر يشبه حينئذٍ جنة جامدة لا نفس فيها ولا حياة لها، وتكونون
أنتم قبرًا لا اسم له، كتلة أو جمهرة من الأفراد، ولكن ليس شعبًا، فالوطن هو
الإيمان به، فإذا كان كل واحد منهم له هذا الإيمان، ويصبح مستعدًا لإراقة دمه في
سبيل الوطن، فعندئذٍ فقط أنتم تملكون وطنًا وليس قبل ذلك بتاتًا!» ولا جدال في أنَّ
هذه المعاني التي أتى بها مازيني للوطن وللقومية، كانت تسمو كثيرًا على كل تلك
المعاني والمدركات المحدودة والإقليمية، وذات الطابع النفعي التي اقترنت بفكرة
العمل الثوري، والتي أتت بها «الكاربونارية».
بل إنَّ «مازيني» قد ارتقى بفكرة القومية، بدرجة تجاوز بها المعنى القومي أو
الأهلي؛ ليسمو بها إلى المعنى «الإنساني»، فقال: «إنَّ القومية شيء آخر كذلك،
فالقومية هي نصيب الشعب الْمُعطى له من فعل الله؛ ليساهم به في كد الإنسانية
واجتهادها، هي رسالة الشعب والواجب الذي عليه تأديته على الأرض، حتى يمكن أنْ تتحقق
فكرة الله على هذه الأرض، ثم هي العمل أو الفعل الذي يعطي الشعب حق ذكره في عالم
الإنسانية، وهي التعميد الذي يعطي الشعب طابعه الْخُلقي وعلامته، وَيُقَدِّر له
المكان الذي ينزل به بين الشعوب التي هي إخوته.» فلا يقف الجهد أو الفعل القومي إذن
عند حدود أمة واحدة فقط، أو أنه يستنفد قوته بمجرد خروج أمة واحدة إلى عالم الوجود،
فالواجب الملقى على عاتق الجهد أو الفعل القومي، إنما هو واجب أكثر اتساعًا وضخامة،
وذلك عندما عَرَّفَ «مازيني» الإنسانية بأنها اتحاد أو اجتماع الأوطان وارتباطها
ببعضها بعضًا، وأنها تحالف الأمم من أجل تأدية رسالتها على الأرض.
وفي ضوء هذه المعاني إذن للوطن والقومية والإنسانية، يصبح سهلًا إدراك الغاية من
تأسيس «جمعية إيطاليا الفتاة»، والفكرة المنبثق إنشاؤها منها، ومدى ارتباط «إيطاليا
الفتاة» بهذه الفكرة ذاتها، فكرة القومية؛ بل إنَّ محبة مازيني للبولالنديين — الذي
عرفنا أنهم قاموا بثورتهم الأهلية ضد روسيا سنة ١٨٣١ — ورغبته في حدوث الاتفاق
والتفاهم و«الصلح» بين هؤلاء البولنديين والديمقراطيين الروس، إنما يفسرها نفس هذا
«الواجب» الذي يشعر «القوميون» أنهم مقيدون به نحو الإنسانية قاطبة، ونحو هذه
الإنسانية اعتبر «مازيني» أنَّ لكل شعب من الشعوب رسالة خاصة به عليه تأديتها،
أمَّا رسالة الشعب الإيطالي، رسالة إيطاليا، فقد عَظَّمها مازيني وَفَخَّمها
تفخيمًا، على غرار ما فعل «جويزبي الفييري» من قبل، أو ما كان يفعله الرومانسيون
الآن الذين يعظِّمون روما القياصرة وروما البابوات — القياصرة والبابوات الذين
فرضوا سلطانهم على العالم، والذين وحدوا هذا العالم وبسطوا عليه ألوية السلام —
وعقد مازيني آمالًا كثيرة على «إيطاليا الثالثة» إيطاليا في العهد الجديد، الذي
يعيد ذكرى إيطاليا في عهدي المجد والفخار السابقين، إيطاليا الثالثة التي سوف تقوم
بنفس الدور، وتضطلع بنفس المهمة، ولم يعترف «مازيني» بأمة أو دولة أخرى إلى جانب
إيطاليا في استطاعتها أنْ تقوم بدور المرشد للحضارة والمدنية، وبما في ذلك فرنسا
التي يعترف لها الأوروبيون في مجموعهم بالقدرة على القيام بهذا الدور.
وهكذا يستبين أنَّ مازيني كان صاحب عقيدة مؤسَّسة على فلسفة سامية لفكرة القومية
وللمبدأ القومي، فقد كان في إدراكه لمعنى القومية يرقى بها إلى أسمى مظاهرها
وأشكالها، وبالنسبة لإيطاليا كانت الفكرة القومية عند وضعها موضع التنفيذ، هي
انقطاع كل صلة بعمل الثوريين الإيطاليين في الماضي، فاختلف الأثر الذي حدث في نفسه
نتيجة لرد الفعل الذي كان لهذه الحركات الثورية الأولى، عن الأثر الذي خلَّفته هذه
في نفس «سيسموندي» المؤرخ الإيطالي مثلًا، الذي كتب في نوفمبر ١٨٣٠:
أنه ينحاز إلى صفوف الملكية إذا حصل — وذلك أمر محتمل الوقوع جدًّا —
أنَّ ملكًا من بيدمنت أو من نابولي أمدَّ الإيطاليين بهذا الثمن، بنواة
جيش، وبمخازن للأسلحة والذخائر.» ثم استمر يقول: «إنه يريد الاستقلال
ومتمسك به؛ ولذلك فهو يريد القوة ويعتمد عليها أكثر من رغبته في الحرية
والتمسك بها.
ولقد وافق مازيني على أنَّ الأمراء والملوك في وسعهم نجدة القضية الوطنية أو
القومية، بفضل القوة الفعلية التي يأتون بها لخدمة هذه القضية، ولكن هذه الفائدة لا
يلبث أنْ تزول قيمتها أمام طائفة كبيرة من المحاذير، وبسبب كل تلك الغيرة التي يشعر
بها الملوك نحو بعضهم بعضًا، حتى إنه لا يحسن كثيرًا رفض هذه النجدة، ثم إنَّ
مازيني حمل حملة عنيفة في تصنيف صغير نشره في سنة ١٨٣٣ على الفكرة الفدرائية «اتحاد
إيطاليا اتحادًا فدرائيًّا»؛ لأن هذا النوع من الاتحاد إنما هو تأييد لنظام
البلديات (أو حكومة المجالس البلدية) المحلية الإقليمية، وليس مبعثه سوى الأهواء
الوضيعة التي سوف تنهش أرض شبه الجزيرة كما تنهش الديدان الجيف. ولم يكن في وسع
مازيني أنْ يظن خيرًا في الأمراء أو الملوك الإيطاليين، أو يرجو منهم نفعًا كقوة
تعيد الحياة إلى إيطاليا وتبعثها بعثًا جديدًا، فليس هناك سوى وسيلة واحدة في رأيه
لخلق الأمة والارتقاء بإيطاليا إلى ذلك السمو الروحي المتفق مع رسالتها، تلك هي
الوحدة، والوحدة وحدها فقط، وبطبيعة الحال على شريطة أنْ تقترن هذه الوحدة بالحرية
التي هي في الوقت نفسه شرطًا لهذه الوحدة، ثم تصبح كذلك نتيجة لها، ومعنى اقتران
الوحدة بالحرية؛ أنْ تتخذ بالضرورة شكل هذه الوحدة السامية النظام الجمهوري، فالمثل
الأعلى الذي يدين به مازيني إذن هو أنْ تتوحد إيطاليا، وأنْ تسود بها المبادئ
الجمهورية، وأنْ يجري الحكم فيها لصالح الشعب نفسه.
ولقد افترق مازيني عن المسيحية، ثم عن الكنيسة التي اعتبرها العقبة الكأداء في
طريق الوحدة الأهلية، ولكن هذا لا يعني أنَّ مازيني لم يكن مع ذلك مؤمنًا بوجود
الله، فهو قد جعل شعار عقيدته: «الله والشعب والإنسانية»، وكانت عقيدته السياسية
درسًا في الأدب والتهذيب في الوقت نفسه، فيقول: «إنَّ الحياة رسالة، والفضيلة هي
التضحية، والتضحية وحدها هي القدسية والطهارة.» ولقد كان بطريق التعظيم «لدين»
القومية والتعظيم للحرية، أنْ صار لمازيني نفوذ عظيم، يفوق كثيرًا أي نفوذ قد يتمتع
به زعيم حزب من الأحزاب، أو هيئة مسلحة معينة، أو رئيس إحدى الجمعيات السرية،
فجمعيات «إيطاليا الفتاة» كانت تُقَدِّس مازيني تقديسًا فهي تؤمن به، وتخضع خضوعًا
مطلقًا لتوجيهه وإرشاده، ثم إنَّ مازيني بسبب هذا المظهر «الديني» الذي كان لقيادته
وتوجيهاته، لم يكن يقبل المناقشة في أية آراء يبديها، أو أية أحكام يصدرها، بل كان
يثق ثقة مطلقة في صدق آرائه وأحكامه، وأنه على صواب، ويسير في طريق الحق دائمًا،
الأمر الذي جعله نتيجة لهذا كله يرتكب أخطاء كثيرة، ويكلف الإيطاليين تضحيات لا
فائدة منها ولا طائل تحتها، ولكن من الواجب الاعتراف أيضًا بأن هذه «المثالية» هي
مبعث عظمة مازيني، والسبب الذي جعله يختلف عن كل الثوريين الذين ظهروا على مسرح
النضال الأول.
الثورات «المازينية»
ولقد كان من المنتظر أنَّ بتجنب «مازيني» السير في الطريق الذي سارت فيه
«الكاربونارية»من قبل، وهو الذي نقدها وعاب عليها «عملها الثوري» للأسباب التي
عرفناها، ولكن مازيني لم يلبث أنْ سلك نفس الطريق، فهو ذو طبع حاد، وصاحب نشاط مفرط
مع اشتياق عظيم للعمل، وهو «مثالي» لا يقيم وزنًا للتضحية مهما عظمت في سبيل مثله
العليا، بل يرى التضحية ضرورية، وسببًا للزهو والافتخار، فكان ذلك منشأ تلك
المحاولات الثورية التي قام بها «مازيني» وأعوانه أعضاء «إيطاليا الفتاة» في
السنوات التالية، وهي المحاولات التي كانت تنتهي بالفشل بعد أنْ تتكبد خسائر في
الأرواح فادحة، ولم يفد شيئًا أنَّ العقيدة التي أتى بها مازيني كانت مُطَهَّرة من
الشوائب التي التصقت بالكاربونارية، فقد عمد مازيني إلى اتخاذ نفس الأساليب، بل
وصار يسوغ ذلك بقوله: إنَّ الظروف وحدها قد فرضت هذه فرضًا، وهي الظروف الناشئة من
طبيعة تكوين هذه الجمعيات السرية (جمعيات إيطاليا الفتاة) ومن المؤامرة.
فلم يمضِ عام واحد من تشكيل «إيطاليا الفتاة» حتى شرعت هذه الجمعية في سنة ١٨٣٣
تُهَيِّئ لتحريك الثورة في مودينا، وفي مملكة سردينيا «بيدمنت»، ولكن سرعان ما
اكتُشفت المؤامرة، وأُلقي القبض على عديدين، ونُفذ حكم الإعدام في طائفة منهم في
جنوه وفي ألسندريا. وقد سبق أنْ رأينا كيف آثر «جاكومو رافيني» الانتحار على الموت
شنقًا، أو إفشاء سر الجماعة، وقد صدر الحكم بإعدام مازيني لرفضه الحضور أمام
المحكمة، وكان «مازيني» قد فرَّ إلى سويسرة، وفي سويسرة أسَّس مازيني — كما عرفنا —
«أورو بالفتاة»، وصار يجهز في الوقت نفسه (١٨٣٤) حملة ضد بيدمنت، هي التي كنا أشرنا
إليها عند ذكر سيرته. وكان «مازيني» يُهَيِّئ حملة مزدوجة بقيادة أحد المغامرين
الجنرال رامورينو Ramorino، كان مولده في سافوي،
وخدم في جيش نابليون، وشغل أحد مناصب القيادة في الثورة البولندية سنة ١٨٣١، وكان
غرض هذه الحملة الوصول إلى شامبري Chambery (في
سافوي)، على أنْ يخرج قسم من قواتها من سويسرة، بينما يخرج القسم الآخر من
جرينوبل Grenoble (في فرنسا بالقرب من حدود
سافوي)، وفي الوقت نفسه تشتعل الثورة في جنوه وفي غيرها من المدن «في بيدمنت»،
وتنفذت هذه الحركة في فبراير ١٨٣٤ ولكنها فشلت، واستطاع غاريبا لدى الذي كان يقود
الحركة في جنوه، الفرار في الوقت المناسب إلى أمريكا الجنوبية، ونجح مازيني في
العودة سالمًا إلى سويسرة، ثم في الذهاب منها بعد ذلك إلى إنجلترة (١٨٣٦).
وفي الوقت الذي حصلت فيه هذه المحاولة ضد بيدمنت، وكانت تُحاك في مملكة نابولي
خيوط مؤامرة عسكرية، لم تلبث أنْ ظهرت آثارها في نولا Nola وفي غيرها من الجهات، ولكن قُضي على هذه الحركة كما قُضي
على الحركة الشمالية، ووُضع نتيجة لذلك كل الثوريين تحت الرقابة الصارمة، وضاعف
الجواسيس نشاطهم، وتشدَّدت المحاكم في العقوبات التي أصدرتها على الثوريين المقبوض
عليهم، ثم كان بعد ثلاث سنوات من هذه الحوادث أنْ قامت حركة ثانية (١٨٣٧)، حينما
انتهز مازيني وأنصاره فرصة انتشار وباء الكوليرا في صقلية، والهلع الذي استبد
بالأهلين الذين اتهموا الحكومة بتسميم الآبار لإفناء الشعب وإبادته، مما جعل
الاضطرابات تسود الجزيرة، كما انتهز «مازيني» فرصة حصول المجاعة في إقليم
أبروتزي Abruzzi الشمالية الشرقية في نابولي
لتحريك الاضطرابات في المملكة، ولكن سرعان ما صارت «اللجان العسكرية» تتعقب
الثوريين وتطاردهم، وتقبض على المشبوهين، واتخذ الملك فردنند الثاني (١٨٣٠–١٨٥٩) من
هذه الاضطرابات ذريعة لإلغاء ما كان متبقيًّا من حقوق وحريات لأهل صقلية، وبحثت
الحكومة عن الصلات التي ربطت هذه الحركات «بإيطاليا الفتاة»، فبدأت من ثَمَّ محاكمة
كبيرة لم تنتهِ إلَّا في سنة ١٨٤١، وذلك عقب قيام محاولة على أيدي الأحرار في
أكويلا Aquila «بإقليم أبروتزي» أثبتت الصلة
بين الجمعيات المازينية وبين هذه الثورات الجنوبية.
وحوالي سنة ١٨٤٣ قامت محاولة ثالثة، وكان الغرض تهيئة اشتعال الثورة في وقت واحد
في كل من مملكة نابولي، وفي رومانا (بالولايات البابوية)، وفي تسكانيا. ولكن الذي
حدث أنَّ المتآمرين على الثورة في كل واحدة من هذه الجهات، كانوا ينتظرون أنْ تبدأ
الحركة على أيدي إخوانهم في الجهة الأخرى؛ حتى إنَّ ثورة ما لم تشتعل في أي واحدة
منها، بل انكشف ستر المؤامرة، وقبضت الحكومة على المشبوهين، خصوصًا في رافينا Ravenna، وفي بولونا — بالولايات البابوية —
واستطاع بعض المشبوهين الهرب؛ للقيام بحرب العصابات في جبال «الأبناين» بقيادة
الآخرين موراتوري Muratori، اللذين اضطرا بعد فترة
من الوقت إلى الفرار إلى تسكانيا ملتجئين بها.
أمَّا هذه المحاولات الفاشلة، فقد أثارت شيئًا من خيبة الأمل، حتى إنَّ «مازيني»
لم يلبث أنْ اعترف أنَّ هذه الحركات العسكريَّة المنعزلة عن بعضها بعضًا، والتي
يراد بها محاربة الحكومات القائمة، إنما هي جهود عديمة الفائدة، وأنَّ من الواجب
الانتظار؛ حتى يتم امتزاج أكبر بين مختلف الجماعات في كل الأقاليم الإيطالية،
لمحاولة القيام حينئذٍ بحركة واسعة وعظيمة، على أنَّ ترويض النفس على الصبر كان
مهمة شاقة على الشباب من أعضاء «إيطاليا الفتاة» الذين ملأتهم حماسًا دعاية مازيني
نفسه، وجعلتهم تواقين للعمل الثوري، خصوصًا الأخوان أيتليو Attilio وإميليو Emilio باندييرا Bandiera،
وهما نبيلان من البندقية، ويعملان ضابطين بالبحرية النمسوية، (التي يقوم بالخدمة
فيها الطليان وأهل دلماشيا خصوصًا)، وتأثرا بالتعاليم المازينية تأثرًا عظيمًا،
وكان مازيني يريد الاعتماد عليهما في تحريك الثورة في إيطاليا الوسطى، ولكن سرعان
ما وقف البوليس في نابولي على أمرهما، كما فتحت الحكومة الإنجليزية الرسائل
المتبادلة بينهما وبين مازيني الذي كان يقيم بإنجلترة. ثم اطلعت حكومة نابولي على
المؤامرة، فدَّست نابولي عليهما الجواسيس الذين هَيَّئوا لهما إمكان تزعم ثورة
وهمية في كلابريا، واعتقد الشقيقان أنَّ بوسعهما قيادة حرب العصابات في جنوب شبه
الجزيرة بسهولة أكثر، مما لو دارت هذه الحرب في الشمال. وفي مايو ١٨٤٤ ترك الشقيقان
الخدمة، فهربا من الأسطول حين وقوفه عند جزيرة «كرفو»، فنزلا مع أتباعهما وكانوا
عددًا صغيرًا في كلابريا في ١٦ يوليو؛ ليجدوا كمينًا في انتظارهم، فكان مصير زعيمي
الحملة «باندييرا» مع سبعة آخرين الإعدام رميًا بالرصاص، وسقطوا وهم يهتفون: «لتحيا
إيطاليا»!
لقد أثار مقتل أيتليو وإميليو باندييرا موجة من الألم في كل إيطاليا، الألم وهياج
الشعور الذي يفسرهما أنَّ الشقيقين كانا حديثي السن، ومن أسرة عريقة بالبندقية، كما
أنهما أبديا شجاعة خلقية كبيرة، ولقد دَلَّ هذا الحادث على مدى التغلغل الذي بدأ
يصير للحركة القومية (الوطنية) في الجنوب.
على أنَّ فشل حركة الشقيقين «باندييرا» كانت بمثابة ضربة قاتلة أصابت جمعية
«إيطاليا الفتاة»، لقد نصحهما «مازيني» بعدم القيام بهذه الحركة كعمل بعيد كل البعد
عن عين الحكمة والصواب، ولكن مسئولية فشل «الثورة» في كلابريا سرعان ما أُلقيت على
كاهل «مازيني» و«إيطاليا الفتاة»، ومع ذلك فقد حدثت حركة صغيرة أخرى في إقليم
«رومانا» في السنة التالية (١٨٤٥)، بدأت في ريميني Rimini وكان نصيبها الفشل كذلك.
أمَّا ما أسفرت عنه الدعاية (البروباجندا) المازينية وهذه المحاولات «للعمل»
وتحريك الثورة، فهو أنَّ بعض الأقاليم بشبه الجزيرة الإيطالية صار عدم الاستقرار
يسود به عشية الثورة الكبرى «ثورة ١٨٤٨»، وخصوصًا الولايات البابوية التي أضافت
فوضى الإدارة بها سببًا آخر لزيادة عدم الأمن والاضطراب، والتي تكاثرت بها خلايا
الجمعيات السرية، والتي شهدت إلى جانب هذا كله — وكما كان الحال في مملكة نابولي —
عصابات اللصوص المسلحين يقطعون الطرق الرئيسية.
ولكن كل هذه القلقلة وهذا الهياج والاضطراب لم يسفرا عن نتيجة، فقد فشلت هذه
الحركات الثورية جميعها، وكانت بمثابة قوى بددها أصحابها سدًى، فلم يجنِ النشاط
الثوري من كل «المؤامرات» المازينية سوى فائدة واحدة، هي ازدياد قائمة «المستشهدين»
من الأحرار الطليان، ولقد كان تفضل الذكريات التي بقيت حية عن هؤلاء المستشهدين، أن
قوي الإيمان بالوطن، وذلك أثر «روحي»، وأمَّا من الناحية العملية و«المادية»
المباشرة، فلم يكن لهذه المؤامرات والحركات المازينية أي أثر.
ومنذ ١٨٤٠ طرأ «تعديل» على الأفكار وأسلوب العمل في إيطاليا، وجرى هذا «التعديل»
بمحاذاة الحركة الثورية المازينية، ثم اتخذ الشكل الذي صارت تُعرف به الحركة
القومية بعد ذلك، وهو «البعث» أو «الإحياء».
حركة البعث أو الإحياء Risorgimento
بدأ هذا «التعديل» الهام الذي حدث في إيطاليا منذ سنة ١٨٤٠ كما ذكرنا، وكان
تغييرًا طرأ على الذهن وعالم الفكر، وعلى الفعل أو عالم الواقع، من حيث إنَّ
الحوادث التي شاهدناها قد أدت إلى استنكار «المبادئ» أو المثل التي أتت بها
الكاربونارية ورفضها، هذا من ناحية، ثم حصل من ناحية أخرى أنْ صارت مخترقة الحدود
التي كانت تفصل فصلًا تامًّا في الماضي بين كل «دولة» وأخرى في شبه الجزيرة
الإيطالية، مما نجم منه جميعه، أنْ أصبح مستطاعًا تشكيل حركات لم تعُد منعزلة عن
بعضها بعضًا، كما كان الحال حتى هذا الوقت، بل صار ممكنًا أنْ تقوم حياة قومية
وطنية (أو أهلية)، وأنْ يبحث المفكرون والعاملون في شرائط هذه الحياة الوطنية
القومية، وهذه الحركة الجديدة (الأهلية) صار يُطلق عليها اسم الإحياء أو البعث Risorgimento، وقع أنَّ «البعث» كان
اسمًا لصحيفة تأسَّست فقط في سنة ١٨٤٧، فقد صار يستخدم هذا «المصطلح» في معناه
العام لوصف هذه الحركة.
والذي يجب ملاحظته أوَّلًا؛ أنَّ شرائط الحياة الاجتماعية في إيطاليا، وإنْ كانت
قد تبدَّلت، فإن هذا التبدُّل لم يكن كاملًا ولم يحدث في كل أنحاء إيطاليا، أو
بدرجة واحدة، بل كان في مجموعه يدل على أنَّ إيطاليا التي كانت متأخرة ومتخلفة حتى
هذا الوقت، قد بدأت تسير في طريق الجدة والحداثة؛ أي شرعت تأخذ بأساليب جديدة في كل
نواحي حياتها.
فمن ناحية التقدم المادي، تأثرت حياتها الزراعية بوجه الخصوص، وهي التي استمرت
أساس الحياة الإيطالية، وأفادت إيطاليا الشمالية من نظام إداري كان يفضل غيره
كثيرًا في الأقاليم الأخرى، وذلك تحت السيطرة الفرنسية أوَّلًا، ثم السيطرة
النمسوية أخيرًا في لمبارديا وبيدمنت — وكان كافور Cavour أحد هؤلاء النبلاء الذين اشتهروا في بيدمنت بحسن إدارة
أملاكهم واستغلال أراضيهم؛ ثم أسَّس النبلاء في تسكانيا جمعية زراعية، ولقد عنى
النبلاء بإذاعة التعليم الفني الزراعي، وجمعوا المجالس الزراعية من الملاك،
ومستأجري الأرض أو الملتزمين بها، وافتتحوا المدارس الزراعية، وأنشئوا نوعًا من
البنوك الريفية لتنمية رءوس الأموال المستخدمة في الزراعة، وفي كل مكان تشكَّلت
الجمعيات الزراعية لنشر الأساليب الجديدة المتبعة في الزراعة، ثم نمت وتقدمت
الزراعات الرئيسية؛ زراعة الأرز والذرة، وبدأت تربية المواشي بطرق يمكن القول بأنها
كانت علمية بعض الشيء لإنتاج اللبن وصنع الجبن، ونمت صناعة تكرير السكر إلى جانب
صناعة النسيج، خصوصًا لنسج الحرير والأقطان. وفي تسكانيا بدأ العمل لتجفيف
المستنقعات واستصلاح أرضها للزراعة؛ أي في المناطق المغمورة بالماء والموبوءة
بالملاريا على طول ساحل البحر، ولقد بدأت قبل ذلك تنمو بعض المدن ويتزايد حجمها،
فصار عدد سكان ميلان، يتجاوز من مدة طويلة مائة ألف نسمة، وسبقها الآن في هذا
المغمار كل من جنوه وتورين. وفي الجنوب؛ شهدت مدينتا نابولي عهدًا من البذخ
والفخامة، على أنَّ الذي يجب ذكره كذلك؛ أنَّ هذا النمو والتقدم المادي وجد في
إيطاليا الشمالية سببًا معطلًا له، وذلك في صورة المصنوعات الألمانية التي أُقيم
نظام الضرائب الجمركية في النمسا وفي لمبارديا فينيشيا لتشجيعها وترويجها. أمَّا في
الجنوب، فقد كان ظاهرًا أنَّ حياة البذخ والفخامة التي عاشتها مدينة نابولي، إنما
كانت على حساب الريف الذي أُثقل كاهله بسبب الضرائب الثقيلة التي حَصَّلها الملاك
من الفلاحين المشتغلين في أراضيهم.
وإلى جانب الزراعة نمت وتطورت أساليب الحياة المادية، عندما أُنزلت إلى البحر في
نابولي في سنة ١٨١٨ أول مركب تسير بالبخار، وعندما تأسست في نابولي كذلك أول شركة
للملاحة في سنة ١٨٢٣، لم تكن مع ذلك ذات أهمية فريدة في إيطاليا، حيث قد تأسست في
جنوه شركة بوباطينو Bubattino للملاحة، وقد أدركت
هذه الشركة شهرة كبيرة، ولقد مُدَّت خطوط السكك الحديدية في إيطاليا، فنالت الشركات
امتياز مَدِّ هذه الخطوط منذ ١٨٣٦ في نابولي، وفي سنة ١٨٣٧ في لمبارديا، وفي سنة
١٨٣٨ في تسكانيا، وبدأت هذه الشركات نشاطها دون إمهال، فافتُتح أول خط للسكة الحديد
بين نابولي وبورتيشي Portici سنة ١٨٣٩، ثم افتُتح
الخط الثاني بين ميلان ومونتزا Monza في العام
التالي (١٨٤٠)، وكان هذان الخطان يصل أحدهما بين العاصمة ومقر الملك الصيفي في
نابولي، والثاني يربط بين العاصمة ومقر الحاكم الصيفي في لمبارديا فينيشيا، ومع ذلك
فقد بدأ مد خط للسكة الحديد بين ميلان والبندقية في سنة ١٨٤٠؛ ولهذا الخط — كما هو
ظاهر — أهمية اقتصادية محققة، وفي سنة ١٨٤٢ افتُتح القسم الأول من هذا الخط بين
بادوا Padua، وميستر Mestre (الواقعة غربي مدينة البندقية)، في حين صار تشغيل الخط
بين ليقورنه (ليجهورن) وبيزا (في تسكانيا) في سنة ١٨٤٤، وبدأ العمل في شبكة الخطوط
الحديدية في بيدمنت في سنة ١٨٤٥.
ولقد بقيت «الولايات البابوية دولة متخلفة، لم تتذوق طعم هذه الحياة الجديدة، ولو
أنها كانت لا تزال في الوقت نفسه نهبًا للفوضى الناجمة من اختلال الإدارة وسوء
الحكم من جهة، وانتشار السلب والنهب على أيدي عصابات قطاع الطرق من جهة
أخرى.
أمَّا التقدم الذي شهدناه، فلم يكن مقصورًا على نواحي الحياة الماديَّة
«والعمليَّة» فحسب، بل شمل كذلك ميدان الفكر، عندما دار البحث حول الأسس التي قام
عليها هذا التقدم المادي، وفي الآراء التي انبعث منها، مما جعل متيسرًا تطور
التفكير في مبادئ الاقتصاد السياسي وقواعده، وإفساح المجال لقبول آراء ريشارد كوبدن Cobden الاقتصادي الإنجليزي (١٨٠٤–١٨٦٥)
الذي نادى بحرية التجارة، وناقش أهل الفكر والرأي هذه المبادئ الاقتصادية الجديدة،
وتحدثوا عن وجوب خفض الضرائب الجمركية بين الإمارات والدويلات الإيطاليَّة، ولقد
بدأت تظهر معالم الحركة العلمية عدا ذلك، في المناقشات التي اشترك فيها العلماء من
البلاد المختلفة وفي عقد المؤتمرات العلمية التي قام على تنظيمها كل من «شارل
بونابرت» أحد أبناء «لوسيان» — شقيق الإمبراطور نابليون — ثم السير جون باورنج Bowring أحد الأحرار الإنجليز المعروفين، وكان
وقتئذ مقيمًا بإيطاليا، وكانت هذه أول الأمر مؤتمرات من العلماء الطبيعيين، فلم
تلبث حتى صارت تبحث كل العلوم، فاجتمع المؤتمر الأول بمدينة «بيزا» سنة ١٨٣٩، ثم
انعقد المؤتمر الثاني في تورين سنة ١٨٤٠، وصارت هذه المؤتمرات تُعقد بعد ذلك
سنويًّا في فلورنسة (١٨٤١)، وبادوا (١٨٤٢)، ولوقا (١٨٤٣)، وميلان (١٨٤٤)، ونابولي
(١٨٤٥)، وجنوه (١٨٤٦)، والبندقية (١٨٤٧)؛ أي إنَّ هذه المؤتمرات انعقدت في أماكن
متفرقة في إيطاليا في طول البلاد وعرضها، باستثناء ولايتين أو إمارتين فقط،
الولايات البابوية ودوقية مودينا، ولقد منع حكام هاتين «الدولتين» رعاياهما من حضور
هذه المؤتمرات العلمية، ومع أنَّ هذه المؤتمرات كانت أصلًا ومن حيث المبدأ علميَّة
وفنيَّة، فقد كان ظاهرًا أنَّ من المتيسر، وعلى نحو ما حصل، أنْ تتجاوز المسائل
موضع البحث والمناقشة، النطاق الفني والعلمي الْمُعَيَّن لها في البرامج
الْمُعَدَّة لأعمال هذه المؤتمرات، وأنْ تتناول المناقشة مسائل ذات صبغة عامة؛ أي
تثير اهتمامًا عامًّا، فلا تختص بعنايتها مسائل وموضوعات «محلية»، أو مما قد يثير
اهتمامًا إقليميًّا وحسب؛ وذلك لأنه يستميل فرض نطاق معين على العلم يجعله محصورًا
في دائرة إقليمية أو محلية ضيقة، وكذلك من المتعذر مناقشة مبادئ الاقتصاد السياسي
في نطاق إمارة أو دويلة معينة، بل إنَّ البحث في هذه المؤتمرات لا بُدَّ أنْ يتناول
الموضوعات التي تهم إيطاليا في مجموعها كله. أضف إلى هذا أنه صار يتقابل في هذه
المؤتمرات العلمية أناس من مختلف الأقاليم والإمارات (والحكومات) الإيطالية، بشكل
جعل ممكنًا أنْ ينمو نوع من الفكر المشترك أو الروح العامة، مثال ذلك أنَّ البحث في
موضوع تنظيم السكك الحديدية أو الدور الذي سوف تقوم به هذه الخطوط الحديدية
للمواصلات السريعة، تناولت المناقشة في هذه المؤتمرات ليس مشاكل النقل وحسب، ولكن
ما يمكن أنْ تؤديه هذه السكك الحديدية من خدمات كذلك، كأحد العوامل المساعدة على
ربط مختلف الأقاليم بعضها ببعض، وكعنصر لذلك من عناصر الوحدة والاتحاد بين الناس
والإمارات (الحكومات) المتعددة في إيطاليا، فيدور التفكير حول إنشاء خطوط للمواصلات
الحديدية تستهدف الصالح العام أو المشترك لكل إيطاليا، فتبحث هذه المؤتمرات العلمية
إنشاء خط للسكة الحديد يمتد على طول الساحل، مبتدئًا من جنوه؛ ليمر بليفورنه
(ليجهورن) وسيفيتا فيكيا Civita-Vecchia حتى يصل
إلى نابولي، ومعنى ذلك — على حد تعبير دازيجليو — تزويد الحذاء الإيطالي بالرباط
اللازم له، وهكذا أخذت تتحدد في إيطاليا معالم اقتصاد أهلي (أو قومي)؛ ليحل محل ذلك
الاقتصاد «الانعزالي» الذي توزع بين الدويلات والإمارات المتعددة في نشاطه وأهدافه
الإقليمية والمحلية في الماضي.
والذي يجب ذكره أنَّ هذا التقدم الذي حصل في الميدان العلمي والفني، كان من أثره
زيادة تأييد مركز الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، ودعمه من الناحيتين الاجتماعية
والسياسية، وذلك على وجه الخصوص في إيطاليا الشمالية؛ أي في لمبارديا، وبيدمنت،
وتسكانيا.
ولقد كانت نتيجة هذا التقدم الفني والعلمي، ثم ابتداء اقتصاد سياسي ذي أهداف
وغايات قومية ووطنية أهلية عامة — كما كان من نتائج الشعور بخيبة الأمل الذي أوجده
انهزام «الكاربونارية» وفشلها — ثم إخفاق «المازينية» في «الحقل المادي» — أي
الحركة الثورية المباشرة — نقول: كان من أثر هذا كله أنْ اتسع أفق التفكير السياسي،
واتسعت القواعد التي قامت عليها المثل العليا السياسية بالصورة التي سوف نعرضها في
هذه الدراسة، ذلك أنَّ أساليب جديدة قد تقرَّرت الآن، مغايرة لأساليب الكاربونارية
والثورات المحلية، وأنْ صارت الفكرة القومية تسمو على الفكرة الثورية، وجذبت الحركة
السياسية اهتمام أناس آخرين غير الديمقراطيين، فصارت الفكرة السياسية تضم المجتمع
بأسره، بمعنى أنه لم يعد يعتنق فكرة العمل السياسي حفنة من العسكريين المتذمرين، أو
من البورجوازيين — أهل الطبقة المتوسطة — الذين حُرموا من المناصب، كما لم تعد
الفكرة القومية مشدودة إلى برامج الأحرار وحسب ومرتبطة بها.
واتخذت الآراء «القومية» الجديدة وسائل عدة للإفصاح عن وجودها، وعُرف الداعون لها
باسم المعتدلين Moderati.
وكان المهاجرون الطليان هم الذين بدءوا الدعوة لهذه الآراء الجديدة، عندما نشر في
باريس في سنة ١٨٣٦ «نيقولو توماسيو»، وقد سبق الكلام عنه، كراسة صغيرة بعنوان:
«آمال إيطاليا الجديدة»:
٢٦ عبارة عن نداء مُوَجَّه للقساوسة — رجال الدين — وللأمراء؛ ليتعاونوا
في العمل من أجل إحياء إيطاليا، وكان في هذه الكراسة أنْ ظهرت للمرَّة الأولى فكرة
أنْ يتولى زعامة حركة البعث والإحياء هذه «بابا» مُصلح، فيغدو هذا البابا الْمُصلح
المحور الذي تدور حوله حركة البعث، ثم كان من هؤلاء مهاجر آخر — مَرَّ بنا ذكره —
هو «مامياني»، وكان من المشتغلين بالقانون والفلسفة، نشر في باريس منذ ١٨٣٥-١٨٣٦
كتابًا في الفلسفة عن «تجديد الفلسفة الإيطالية القديمة». كما نشر ابتداء من سنة
١٨٤٢ «تاريخًا للأدب»، كان دراسة للشعراء الإيطاليين في العصور الوسطى، أمَّا ما
يهمنا من أمر «مامياني» الآن، فهو أنه نشر في سنة ١٨٤١ في باريس كراسة بعنوان؛
«رأينا عن الشئون الإيطالية»، وفي هذه الكراسة تكلم صاحبها قبل كل شيء عن استقلال
إيطاليا كحقيقة ثابتة، سواء حدث ذلك عاجلًا أو آجلًا بأن تخوض إيطاليا غمار الحرب
بزعامة أحد أمرائها الطليان، ولكن «مامياني» كان يرى ضروريًّا توفر شرائط معينة
للظفر بهذا الاستقلال، أهمها أنْ تشغل الارتباكات والأزمات السياسية النمسا، بصورة
تمنعها من الدفاع جديًّا عن مملكتها في لمبارديا فينيشيا، كما يجب أنْ يتربى الشعب
تربية سياسية كان لا يزال مفتقرًا إليها، كما أنَّ انضمام الطبقات العليا إلى صفوف
المطالبين بالاستقلال ضروري. وزيادة على ذلك أعدَّ «مامياني» برنامجًا واسعًا
للإصلاح الاجتماعي، يُعيد للشعب كرامته وطمأنينته، وحتى يعيش في أمن وسلام، وهو
برنامج يميل للاشتراكية الْمُخَفَّفة؛ لرفع مستوى الشعب قليلًا، ولضمان تعاونه مع
العاملين من أجل الإصلاح والاستقلال معًا، وسوف يشترك «مامياني» في ثورات ١٨٤٨،
ولكن كراستي «توماسيو» و«مامياني» لم يتلقيا الذيوع والانتشار الواسع، وتنحصر
أهميتها في أنهما ينهضان دليلًا على ذلك التغيير الذي طرأ على الفكر، وتلك حقيقة
لها خطرها في المجتمع الذي سبق أنْ ذكرنا أنه عالم كاثوليكي، تتغير به الآراء
وتتشكَّل تحت تأثير الكاثولكية الديمقراطية التي تربط نفسها بشخص الفيلسوف الإيطالي
روزميني
A. A. Rosmini (١٧٩٧–١٨٥٥)، ولقد كان
المؤرخ «سيزار كانتو» — وسبقت الإشارة إليه — من بين هؤلاء الكاثوليك
الديموقراطيين، كما كان منهم: روماجنوسي
G. D. Romagnosi، أحد أساتذة جامعة بادوا، ولا جدال أنَّ عوامل معينة
ساعدت على حصول هذا التغيير في الآراء التي انتشرت وقتئذ في العالم الكاثوليكي في
إيطاليا، وأهم هذه العوامل؛ الأثر الذي كان لكتابات «مانزوني» و«سيلفيوبيلليكو»، ثم
استرجاع البابوية سمعتها الغابرة بفضل التواريخ التي نشرها «كارلو برويا» و«جينو
كابوني»، أو بفضل برنامج الإصلاح الذي أعدَّه للكنيسة «رفائيل لامبروسكيني»
(١٧٨٨–١٧٧٤)
Lambruschini Raffaello، وبذلك تهيَّأ
الرأي العام بسبب هذه الحركات، أو التيارات الفكرية التي كانت سباقة في ظهورها؛
لقبول البرنامج الذي أتى به «جيوبرتي»، والتحمس للآراء التي احتواها كتابه عن
المكانة الرفيعة التي يتمتع بها الطليان خلقيًّا وحضاريًّا بين شعوب العالم.
جيوبرتي Gioberti٢٧
أمَّا «جيوبرتي» — الذي عاش من (١٨٠١–١٨٥٢) — فكان من رجال الدين البيدمنتيين من
تورين، ملتحقًا بخدمة البلاط كاهنًا، لم يلبث أنْ اتُّهم بالاتصال بجمعية إيطاليا
الفتاة، فألُقي القبض عليه، ونُفي من تورين في سنة ١٨٣٣، فأقام لاجئًا في باريس في
مبدأ الأمر ثم انتقل إلى بروكسل. وكان جيوبرتي يشتغل أصلًا بالفلسفة، ويعمل لوضع
نظام ميتافيزيقي (مختص بالتفكير فيما وراء المادة)، ومع ذلك فقد كان «جيوبرتي» صاحب
فلسفة كاثوليكية واسعة، وصفها ذات يوم «لمازيني» بقوله: إنَّ كاثوليكيته «مطاطة»
بدرجة تجعلها تتسع لإدخال كل العالم في حظيرتها، وكانت هذه النشأة الفلسفية هي مبعث
الآراء التي آمن بها جيوبرتي؛ أي اعتقاده بقوة الفكرة والرأي، وبأن المحبة يجب أنْ
تسود علاقات الناس، كما أنَّ هذه التنشئة الفلسفية هي سبب استنكاره للعمل الثوري،
ومع ذلك فلم يكن «جيوبرتي» ثابتًا على رأي واحد، فهو متقلب النشاط ويطرق ميادين من
العمل والرأي متعددة ومختلفة عن بعضها بعضًا، فهو بعد اشتراكه في حركات «إيطاليا
الفتاة» الثورية، ثم انكبابه بعد ذلك على دراسة الفلسفة، لا يلبث أنْ يعتنق الفكرة
القومية، فينشر في سنة ١٨٤٣ مؤلَّفه الذي نال شهرة مثيرة، وهو الكتاب الذي نشره في
بروكسل بالعنوان الذي سبقت الإشارة إليه: «تصدُّر أو زعامة الإيطاليين الْخُلقيَّة والمدنية».
٢٨
ولم تكن فلسفة «جيوبرتي» إلَّا سلسلة من الأقيسة والبراهين للتدليل على صحة آرائه
السياسية، عندما ارتكزت عقيدته على أساس واحد واستغرق نشاطه الذهني التفكير في
موضوع جوهري، هو «وطنيته» الصادقة التي يغذيها كبرياؤه الإيطالي، في حين كان لا
يستطيع إغفال أنه في الوقت نفسه من القساوسة، وأنه «محافظ» في مذهبه، وتلك جميعها
اعتبارات يستبين منها الاتجاه الذي تحتم أنْ تسير منه آراؤه، وتتشكَّل بفضلها
عقيدته ومبادئه، فمحبة الوطن، محبة إيطاليا، والعمل من أجل رفعة شأنها القاعدة
الأساسية لكل تفكيره ونشاطه، ومع أنه حاول أنْ يستمد من «التاريخ» الأدلة والبراهين
على عظمة إيطاليا، وتبوئها مكان الصدارة بين الأمم في الماضي والحاضر، فقد كان
واضحًا أنَّ محبته لإيطاليا ورغبته في تمجيدها، كانا المَعين الذي استخلص منه كل
الأدلة «المنطقية» التي راح يسوقها في أثر بعضها بعضًا لتشكيل صورة — كانت خيالية
أكثر منها تاريخية — لبلاده إيطاليا، التي أراد لها الزعامة على كل الأمم، ولقد
أثبت «جيوبرتي» نفسه نوع الفلسفة التي يسوغ بها هذه المحاولة عندما قال: «إنَّ من
المتعذر على أمة أنْ تحتل المكان اللائق بها بين أمم العالم، إلَّا إذا اعتقدت أنها
أهل لملء هذا المكان.» ولقد كان طبيعيًّا أنْ يدور البحث حينئذٍ حول تلك «الرسالة»
التي كان على إيطاليا تأديتها في الماضي والحاضر، والتي يحق لها أنْ تفخر بها،
فأقام «جيوبرتي» الحجة في كتابه — وبوسائله — على أنَّ الرومان هم الذين نشروا
مبادئ العدالة في العالم، وأقاموا صرح القانون، وأنَّ «المسيحية» قد لقنت العالم
دروس السلام والمحبة؛ أي إنَّ إيطاليا في عهدين من عهود التاريخ هي التي وضعت أسس
الحضارة في العالم، فهي صاحبة الفضل على البشر، ثم راح «جيوبرتي» يُبَيِّن لماذا
كانت أوروبا مركز العالم، ولماذا كانت إيطاليا مركز أوروبا، ففسَّر «الحقيقة»
الأخيرة بقوله: إنَّ إيطاليا هي مهد «الرجال ذوي القوى الحيوية الكبيرة» — أو
الدينامية — فالطليان في رأيه هم سلالة شعوب ما قبل التاريخ الذين قطنوا باليونان،
وجزر الأرخبيل، وسواحل آسيا الصغرى وإيطاليا، وهم — أي هذه الشعوب — الذين ينحدرون
مباشرة من صلب «يافث» الابن الثالث لنوح — عليه السلام — وكانت هذه الأرومة العريقة
هي منشأ الصدارة والزعامة التي صارت لإيطاليا، والتي تتمثل فيما ظهر من «شخصيات»
عظيمة، كان لنشاطها أثر بارز في مقدرات العالم، ويسوق «جيوبرتي» الدليل على صحة
قوله، فيذكر: «ميرابو» رجل الثورة الفرنسية المعروف، ثم «نابليون بونابرت»، باعتبار
أنهما من أصل إيطالي، وهما من رجال العمل، ثم يذكر في ميدان الفكر والفلسفة: القديس
أنسليم Anselme (١٠٢٣–١١٠٩) رئيس أساقفة
كانتربري، وتوما الأكويني Aguinas (١٢٢٦–١٢٧٤)،
باعتبار أنهما كذلك من أصل إيطالي، ثم القديس بونافنتور Bonaventure (١٢٢١–١٢٧٤) وكان مولده في تسكانيا، ثم يذكر في ميدان
العلوم: «أرشميدس» و«جاليليو» وهكذا، وذلك كله إلى جانب أعلام الشعراء والفنانين
وَالْكُتَّاب الذين ظهروا في عصر النهضة الأدبيَّة والفنيَّة في إيطاليا.
ويرى «جيوبرتي» أنه يجب أنْ توحي بالتفاؤل، وتبعث على الرجاء هذه العظمة التي كانت
لإيطاليا في الماضي، وهذه الصدارة أو الزعامة التي كانت تتمتع بها، ولكن حتى يتسنى
لإيطاليا أنْ تسترجع في هذا العالم الحديث مكان الصدارة الذي كان لها، يجب أنْ يتحد
الإيطاليون، ولكن ليس بطريق القوة، بل يكون اتحادًا سلميًّا، ويجب أنْ يظفر
الإيطاليون بالاستقلال، وأمَّا هذا الاتحاد فيكون مؤسسًا على التقاليد الإيطالية،
كما يقول «جيوبرتي» هي الاتحاد بين إيطاليا الزمنية أو العلمانية وبين البابوية؛
لأن الإيطالي لن يكون إيطاليًّا صحيحًا إلَّا إذا كان كاثوليكيًّا، ولصنع هذا
الاتحاد؛ يتحتم على كل الطبقات في المجتمع خدمة «الدولة»، وهو يدعوها لتأدية هذه
الخدمة، فالنبلاء عليهم أنْ يسوغوا ألقاب الشرف والنبل التي لهم، بإظهار ضروب
البسالة والتنازل عن امتيازاتهم، واحترام مَنْ هم أدنى مرتبة منهم، والقساوسة ورجال
الدين عليهم أنْ يسوغوا المكانة التي بلغوها، بأن يعلِّموا أنفسهم، وأنْ يتحرَّروا
من «مشاغل الدنيا»، وأنْ يكونوا متسامحين. بل ويدعو «جيوبرتي» جماعة اليسوعيين
للاشتراك في هذا الجهد القومي، صنع الاتحاد، اتحاد إيطاليا، وأمَّا الأمراء
الحاكمون، فالواجب عليهم؛ القيام بالإصلاح في كل النواحي، وأنْ يمنحوا رعاياهم
المجالس الانتخابية، وأنْ يمنحوا الصحافة الحرية، وأنْ يلغوا القيود المفروضة على
الطباعة، ومن بين هؤلاء الأمراء الحاكمين وَجَّه «جيوبرتي» دعوة خاصة لملك
بيدمنت.
وهكذا إذا اتحد الإيطاليون، وإذا تعاونت كل الطبقات، يصبح متيسرًا إنشاء إيطاليا
المتحدة، والتي تتخذ حينئذٍ شكل اتحاد كونفدرائي من عدد من «الدول» تحت سلطان
البابا وتوجيهه، فلم يكن «جيوبرتي» يعتقد بإنشاء إيطاليا «موحدة» — فهو لا يدين
بمبدأ «الوحدة» الإيطالية، هذا من ناحية، ثم إنه أراد من ناحية أخرى أنْ يكون
البابا على رأس هذا الاتحاد الكونفدرائي؛ لأن «الكنيسة» كما قال، هي التي تولَّت
دائمًا — وعلى نحو ما جرت به التقاليد — توجيه إيطاليا وقيادتها. وفي رأي «جيوبرتي»
أنَّ هذا النوع من الاتحاد الكونفدرائي يلائم العبقرية الإيطالية، ويتيح الفرصة
لهذه العبقرية حتى تكشف عن نفسها وتتحقق، وهي عبقرية تلائمها الملكيَّة،
والأرستقراطيَّة، والفدرائيَّة معًا وفي وقت واحد، وذلك الاتحاد الكونفدرائي بزعامة
البابا هو الذي يُمَكِّن إيطاليا عند حدوثه من العثور مرة أخرى على ذلك الدور الذي
اضطلعت به في الماضي، والذي ينتظرها في الحاضر، ونعني بذلك تزعم الإنسانية لقيادتها
وإرشادها، حتى تبعث إيطاليا العالم من جديد، وعلى غرار ما فعلت في الزمن
الغابر.
تلك كانت الآراء التي عرضها «جيوبرتي» في كتابه عن الزعامة أو الصدارة الإيطالية،
ومما هو جدير بالملاحظة، أنَّ «جيوبرتي» مع رغبته في حصول تغيير بعيد الأثر في
إيطاليا، فقد كان في تفكيره أو في آرائه السياسية والاجتماعية «محافظًا» لدرجة
كبيرة، وذلك عندما كان يبذل قصارى جهده للتمسك بكل قوة بما هو قائم فعلًا، فهو لا
يفكر في «وحدة» إيطالية، ولكنه يبغى «اتحادًا» بين الإيطاليين، وهو اتحاد يعترض
وجوده أو إنشاؤه إجراء إصلاح خُلقي أو أدبي (روحي)، ورضاء الجميع عنه، وتعاونهم
بنية طيبة لتحقيق هذا الاتحاد وإنجاحه، ولم يشأ «جيوبرتي» أنْ يتناول معول الهدم
لتحطيم شيء من البناء (أو النظام) القائم.
ولقد كان هناك تقارب بين النظريات التي أتى بها «جيوبرتي»، وتلك التي قال بها
«مازيني»، وذلك من ناحية التفاؤل بالخير، والأمل والرجاء الذي أحيته في النفوس،
والشجاعة التي بعثها في الصدور؛ من أجل العمل على رفعته شأن إيطاليا، والاستناد إلى
ذكريات المجد التالد، والتنبؤ بالمستقبل العظيم الذي ينتظر إيطاليا، ثم إنها تقترب
كذلك من «نظريات» مازيني من ناحية الاتفاق على أنَّ لإيطاليا «رسالة» تؤديها، وأنَّ
هناك استقلالًا يجب عليها أنْ تظفر به، وفيما عدا ذلك، اختلف «جيوبرتي» عن «مازيني»
في عدة مسائل: أولها: «كنسيِّته»، وهي التي جعلت النظام الذي جاء به «جيوبرتي»
يستند على الكنيسة، في حين كان «مازيني» ضد «الكنيسة».
وثانيها: أنَّ «جيوبرتي» استنكر الثورة ورفضها كإجراء يتُخذ لبناء النظام الاتحادي
الذي أراده، في حين أنَّ «مازيني» جعل الثورة العنصر الجوهري في برنامج
عمله.
وثالثها: أنَّ «جيوبرتي» هدف لإنشاء اتحاد كونفدرائي بين الإيطاليين، ولم يستهدف
قيام وحدة إيطالية، فرفض تبعًا لذلك «الجمهورية» التي أراد «مازيني» تأسيسها،
الجمهورية التي تُقصي عنها الأمراء الحاكمين، والحكومات والدول القائمة فعلًا في
إيطاليا؛ أي الجمهورية التي لم يكن يتسنى إنشاؤها إلَّا على أشلاء هؤلاء الأمراء
والحكومات الموجودة فعلًا، والتي تَمَسَّك «جيوبرتي» قدر استطاعته ببقائها.
ونحن إذا تمعنا الآراء والنظريات التي أتى بها «جيوبرتي» لوجدنا عددًا من المسائل
يتفق فيها رأيه، مع الآراء والنظريات التي نادى بها الفيلسوف الألماني «فيشته» — من
حيث ابتداع فكرة «الوطن الأم» والدور الحضاري الذي قامت به الأمة — في الوطن الأم —
في الماضي، والذي ينتظر منها تأديته في المستقبل، وهو الدور الذي أسنده «فيشته» إلى
ألمانيا، على نحو ما أسنده «جيوبرتي» إلى إيطاليا. ولقد اتفق «جيوبرتي» و«فيشته» في
شعور الكراهية ضد فرنسا والفرنسيين، وإنْ اختلفت أسباب هذه الكراهية لدى «جيوبرتي»؛
لأن «فيشته» كان يكتب في الوقت الذي خضعت فيه ألمانيا وبروسيا لسيطرة الفرنسيين،
وكان «يدوس عليهما نابليون بحذائه.» فقد كان الفرنسيون في نظر «جيوبرتي» لا يصلحون
إلَّا لأحد الأمرين؛ إمَّا للعمل على نشر الفوضى الفلسفية، وإمَّا لإقامة صرح
الاستبدادية. وقد حمل «جيوبرتي» حملة عنيفة على السياسة الفرنسية في إيطاليا بين
سنتي ١٧٩٦ و١٨١٤، ونقد نقدًا لاذعًا النتائج التي أسفرت عنها هذه السياسة.
أمَّا الأثر الذي أحدثه نشاط «جيوبرتي» فكان عظيمًا، فنال كتابه شهرة واسعة،
واستأثر فور صدوره باهتمام الإيطاليين، سمحت الرقابة في تسكانيا وبيدمنت بدخوله إلى
البلاد، وقد ذكرنا أنَّ كتاب «الرياسة أو الصدارة» كان قد نُشر في بروكسل — كما
أجازت تداوله بين رعاياها الولايات البابوية بسبب ميوله واتجاهاته الكنسية، وعلى
ذلك فإنه سرعان ما نفدت طبعة الكتاب الأولى — من ١٤٠٠نسخة؛ حيث قد أقبل على قراءته
«المحافظون»، كما اطمأن إليه المتخوفون بطبعهم من كل غير مألوف، والذين يجتنبون
العمل المتسم بالقوة والعنف؛ لأن «جيوبرتي» لم يكن يدعو في كتابه إلى «العمل»
المباشر، وعلاوة على ذلك فقد كان من المتيسر أنْ يجد كل فريق من القراء ما يناسب
طاقته وقدرته على العمل، ويتلائم مع المكان المعين له في المجتمع، وذلك في «الدعوة»
التي وجهها «جيوبرتي» لكل الطبقات الإيطالية من أجل توحيد جهودها لإنشاء أو صنع
إيطاليا (المتحدة)؛ فَرحَّب القساوسة ورجال الدين بكتاب «الصدارة»؛ بسبب الدور الذي
هيَّأه «جيوبرتي» لهم، واعتنق الآباء الفرنشسكان والدومينكان خصوصًا الآراء ذات
الانعطافات الشعبية، في حين هاجم اليسوعيون هذه الآراء، وبرز إلى عالم الوجود بفضل
هذا كله حزب جديد هم جماعة نيو جلف أو الجلف
الجديد Neo-Guelfs، والمعروف أنَّ الجلفيين في العصور الوسطى كانوا أنصار
البابا ضد الإمبراطور، الذي سُمِّي أنصاره بالغبللين Ghibellins — وكان النيوجلفيون السلالة المباشرة للرومانسيين من
مدرسة «مانزوني»، وهم العاطفيون الذين يعظمون تراث الماضي وذكرياته، ويُقدِّسون
الكاثوليكية، ويجلِّون البابوية باعتبار أنَّ الكاثوليكية ذاتها متجسدة بها مكانًا
رفيعًا.
على أنَّ الآراء والنظريات التي أذاعها «جيوبرتي» استثارت كذلك طائفة من النقاد
ضدها؛ النقاد من أعداء النمسا، الذين وجدوا أنَّ «جيوبرتي» أغفل الكلام عنها في
كتابه، ثم النقاد من أعداء حكومة البابوات الزمنية (أو العلمانية)، فلقد اصطدمت
نظريات «جيوبرتي» مع الوقائع عندما كانت الولايات البابوية — وعلى نحو ما عرفنا —
مسرحًا لأشد أنواع الفوضى الحكومية في إيطاليا، وعلى وجه الخصوص في إقليم رومانا،
(من الأملاك البابوية)، وكان من الحقائق التي يتعذر إخفاؤها أو تجاهلها؛ أنَّ
الفساد منتشر في حكومة البابا الرومانية بدرجة خطيرة، وتلا في الترتيب من ناحية
الفساد هذه حكومة نابولي وحدها فقط، واعترض على «جيوبرتي» ناشر آخر — سبقت الإشارة
إليه — هو: «جيوفاني نيكوليني» فقال: إنه كان يجدر «بجيوبرتي» بدلًا من انتظار
إحياء إيطاليا وإنعاشها على يد البابا، أنْ يبدأ قبل كل شيء بتخليص إيطاليا من نفوذ
البابوية.
سيزار بالبو
ولقد كان أكبر هؤلاء النقاد إطلاقًا الذين حملوا على الآراء والنظريات التي
احتواها كتاب «جيوبرتي»، الكاتب الإيطالي، والذي سبقت الإشارة إليه كثيرًا، «سيزار
بالبو» الذي عاش من سنة ١٧٨٩ إلى سنة ١٨٥٣، وكان «بالبو» ابنًا لأحد وزراء فيكتور
عمانويل ملك بيدمنت، خدم بعض الوقت ضابطًا في الجيش، وانتهى به الأمر بعد حياة
متقلبة إلى الانكباب على دراسة التاريخ، فبدأ ينشر في سنة ١٨٣٠ «تاريخًا لإيطاليا
تحت سلطان البرابرة»، وكان «بالبو» أكثر كلمة من «جيوبرتي»، فمع أنه كان من
المعجبين بهذا الأخير، إلَّا أنه لم يعقد الأمل على البابوية مثلما فعل «جيوبرتي»
وجماعة «النيو جلف»، بل عقد «بالبو» كل آماله على تورين وملكية بيدمنت، والتف
البيدمنتيون أنصار بيت سافوي حول «البيان» الذي تضمنه كتابه عن «أماني إيطاليا وآمالها».
٢٩
أمَّا هذا الكتاب فقد صدر في باريس في سنة ١٨٤٣ بعد شهور قليلة من صدور كتاب
«الصدارة أو الزعامة» لجيوبرتي، وقد أهدى «بالبو» كتابه له، وفي «أماني إيطاليا
وآمالها» «بالبو» بما ظهر في كتابات «جيوبرتي» من كراهية شديدة لكل ما هو أجنبي، ثم
تهكم من مطالبه التي تغالى فيها كثيرًا، كدعوته لاسترداد كورسيكا من فرنسا، فتساءل
«بالبو» ساخرًا؛ إذا كان الطليان لا يريدون كذلك استرداد وتحرير فيومي Fiume، أو راجوزا Ragusa (على شاطئ الإدرياتيك المقابل)، أو جزيرة مالطة أو غيرها
من الأماكن التي فقدتها إيطاليا؟ وعلاوة على ذلك خالف «بالبو» صاحبه في الرأي
القائل بأن إيطاليا كانت صاحبة الصدارة والزعامة في الماضي، أو في الحاضر، وقبل كل
شيء أُخذ على «جيوبرتي» أنه لم يُعَيِّن الشرط الأساسي، والذي يجب أنْ يمهد لانتقال
إيطاليا من الحال التي هي عليها لتحتل المكان المرموق لها، ويقصد «بالبو» بذلك؛
الاستقلال. فيقول: «وبدون استقلال الوطن لن يكون لكل الأشياء الطيبة الأخرى أي نفع
أو قيمة، بل تكون في حكم العدم والفناء.» ومعنى الاستقلال المنشود هو طرد النمسويين
من إيطاليا.
على أنَّ «بالبو» كان يرى أنَّ الإيطاليين عاجزون في الوقت الحاضر، وفي هذه اللحظة
بذاتها عن طرد النمسويين؛ لأنه كانت تعوزهم القوة اللازمة لفعل ذلك، سواء كان
الأمراء الحاكمون، أو كان الشعب الإيطالي؛ هو مصدر هذه القوة، في حين تعذر في الوقت
نفسه الاعتماد على مساعدة تأتي من الخارج من أي دولة أجنبية، على نحو ما ثبت لديه
من موقف الملك الفرنسي «لويس فيليب» وحكومته من ثورات ١٨٣٠، ١٨٣١.
وفي هذه الظروف إذن تقدم «بالبو» برأي جديد عندما قال: إنَّ من الواجب انتظار سنوح
الفرصة بوقوع حادث خارجي لزحزحة النمسويين وطردهم من إيطاليا، وسوف تسنح هذه الفرصة
قريبًا؛ بسبب انحلال الإمبراطورية العثمانية وتوقع انهيارها، وخسارة أملاكها،
وانشغال النمسا بموضوع تصفية هذه الإمبراطورية، لرغبتها أنْ تنال أملاك العثمانيين
في البلقان نصيبًا لها من «التركة» العثمانية، وعندئذٍ قد يتسنى إقناع النمسويين
بالتنازل عن لمبارديا فينيشيا.
على أنَّ بالبو كان يتفق مع جيوبرتي، من حيث إنَّ الاتحاد الكونفدرائي هو الشكل
الذي يجب أنْ يتخذه اتحاد إيطاليا، ومن حيث إنَّ الإصلاح الروحي أو الْخُلقي ضروري
بين الطليان، ثم إنه كان كذلك متفائلًا في إمكان إنعاش الروح الإيطالي، والارتقاء
بأخلاق الإيطاليين، وفي رأيه: أنَّ أمة من عشرين مليون نسمة، إنما هي أمة لا يقدر
على قهرها أحد، إذا هي كانت متحدة وكان أهلها على خلق عظيم. ووصل بالبو إلى نفس
النتيجة التي وصل إليها «جيوبرتي»، وهي؛ «أنَّ كل فرد عليه أنْ يؤدي واجبه الْمُسند
إليه في عمله، والله تعالى سوف يتولى عندئذٍ أمر كل ما يكون متبقيًّا بعد
ذلك.»
ولكن بالبو على خلاف ما فعل جيوبرتي، لم يضع البابا على رأس الاتحاد المنشود، بل
خرج بحل جديد للمشكلة، هو التطلع إلى البيت المالك في بيدمنت لقيادة الحركة وزعامة
الاتحاد، على أساس طرد النمسويين من إيطاليا، ومع ذلك فقد كان هذا التطلع إلى
الملكية في بيدمنت، بمثابة «البداية» أو الإشارة للحل الذي ارتآه «بالبو»، والذي
سوف يتطور فيما بعد بطريقة أخرى.
بل إنَّ «جيوبرتي» نفسه لم يلبث بعد قليل أنْ أدخل عددًا «من التحفظات» على
نظرياته، فأصدر في سنة (١٨٤٥-١٨٤٦) مؤلفًا جديدًا بعنوان: «المقدمة»
٣٠ لكتاب «الرياسة أو الصدارة» السابق، تجنب فيه اليسوعيين الذي كان
وَجَّه إليهم الدعوة في كتابه الأول، كما أسقط من دعوته ملوك البربون في نابولي، بل
إنَّ «جيوبرتي» لم يلبث بعد مضي بعض الوقت أن تخلى كذلك عن مبدأ تحويل البابا سلطات
«زمنية» «علمانية».
ملكية بيدمنت ودور شارل ألبرت
وهذا التوجيه الفكري الجديد نحو الملكية البيدمنتية، والذي بدأه بالبو سرعان ما
وجد تربة خصبة في إيطاليا الشمالية، حتى إنه لم تلبث أنْ تشكلَّت «عقيدة» جديدة سوف
يكون لها أثرها البالغ في المستقبل حول الزعامة التي سوف تقوم بها الملكية
البيدمنتية؛ لتحرير إيطاليا، وبناء وحدتها القومية.
والملك البيدمنتي وقتئذ هو شارل ألبرت، أمير كارنيان المعروف، والذي اعتلى العرش
في شهر أبريل ١٨٣١، والذي تحدثنا عن مواقفه من الحركات الثورية في السنوات العشرين
والثلاثين السابقة، والذي كان وهو لا يزال أميرًا يعتنق مبادئ الأحرار، فلم يلبث
أنْ تنكر لها عند اعتلائه العرش، وربط نفسه بسياسة القمع العنيفة التي اتبعتها
النمسا لإخماد الحركات الثورية في إيطاليا، فتعقب بالقسوة البالغة على وجه الخصوص
جماعات «إيطاليا الفتاة» في سنة ١٨٣٣، وتخلى من ذلك الحين عن المبادئ الحرَّة التي
كان يدين بها، فصار يتملكه الرعب والهلع من ذكر «الدستور»، واشتهر بالتردد حتى عُرف
«بالملك المذبذب»، والذي يدور مع الأهواء كدوارة الريح،
٣١ ومع ذلك فقد كان يشعر بتأنيب الضمير؛ بسبب أعمال القسوة التي ارتكبها
بسبب سياسة القمع والتشريد التي اتبعها، وتحركت في نفسه الرغبة في نيل محبة الشعب،
وكانت تساوره هو نفسه بعض المخاوف عندما قيل: إنه «معرض إمَّا لطعنة خنجر يسددها له
الكاربوناريون، وإمَّا الموت بقطعة من الحلوى «الشيكولاتة» المحشوة بالسم يقدمها له
اليسوعيون.» فهو متشكك دائمًا في نوايا المحيطين به، ولا يريد الوقوع تحت تأثير
نفوذ معين، وهو جد حريص على سلطاته ويغار عليها غيرة عظيمة، ويحول دون الاعتداء
عليها من جانب أحد، الأمر الذي جعله يقاوم نفوذ اليسوعيين ونفوذ الكنسيين، وذلك
نفسه من الأسباب التي أوحت إليه آراء «الجاليكانية» أي الاستقلالية عن كنيسة روما،
والتي جعلته عندما تهيَّأت الفرصة يدخل في نضال مع رئيس أساقفة تورين، الذي أراد
إخضاع مدارس المعلمين لنفوذ الكنسيين. وأخيرًا فإن شارل ألبرت كان نحيلًا ضعيفًا لا
يتمتع بصحة طيبة، وتلك كلها أسباب صار يتعذر على شارل ألبرت معها أنْ ينهج سياسة
صريحة لا لبس فيها ولا إبهام، والثابت أنَّ شارل ألبرت قد عمد إلى التخلص تدريجيًّا
من الأحرار في حاشيته؛ حيث إنه لم يعد يحتفظ منهم في مراكز الحكم سوى رجل واحد هو
الكونت دللا مرجريتا
Della Margherita، وكان
«يمينيًّا»؛ أي من المحافظين، ومع ذلك فقد عيَّن في إحدى الوزارات إلى جانبه أحد
«أنصاف الأحرار»: المركيز عمانويل دي
فيلامارينا
Villamarina الذي عُرف بكراهيته للكنسيين وإنْ لم يكن معدودًا من
الأحرار.
ولا يعتبر شارل ألبرت ملكًا دستوريًّا، بل ويتعذر اعتباره كذلك — باستثناء بعض
اللحظات القصيرة — من الأحرار، ولكن بالرغم من تردده و«الإبهام» الذي يحيط عمومًا
بسياسته، فإن هذه السياسة كانت ترتكز على دعامتين، مستمدتين من واقع أنه أمير
(حاكم) إيطالي، ومن شأنهما جلب محبة الشعب؛ أولاهما: إصلاحاته، وثانيتهما: موقفه
المُعادي للنمسا. حقيقة حرص شارل ألبرت كل الحرص على سلطاته، ولكن في رأيه يجب أنْ
تكون الملكية ذات ضمير، وأنْ تعمل لإسعاد رعاياها، وأنْ تعتمد في تأدية مهمتها على
أرستقراطية متنورة ومتقدمة، وحقيقة لم يكن لديه في سياسته برنامج لإصلاحات معينة صح
العزم على إجرائها، ولكنه آمن بضرورة إقامة حكومة نظامية وعادلة، فنشرت اللجان
القانونية التي شكَّلها «مجموعات القوانين» المعروفة باسم «الألبرتية» Codes Albertiens (١٨٣٧–١٨٤٧)، وهي التي
تأسَّس عليها فيما بعد القانون الإيطالي، وكانت هذه من أعظم القوانين تقدمًا
واستنارة، إذا استثنى التشريع الخاص بالزواج الذي ترك الزيجات الكاثولكية خاضعة
لقوانين الكنيسة، وإذا استثنى كذلك عدم التعرض لامتيازات الكنسيين، ولقد ألغت السنن
الإقطاعية في سردينيا، وهي البلاد الوحيدة في إيطاليا التي ظلَّ القانون يؤيِّد هذه
السنن الإقطاعية بها، وشجَّع شارل ألبرت عمل الخير لخدمة الإنسانية، فأنشأ صناديق
للتوفير، وملاجئ للعجزة، ومستشفيات للولادة … ثم شجَّع الحياة الثقافية في بلاده
بمنح الإعانات المالية للهيئات العلمية، وإصلاح التعليم الأولي أو الابتدائي،
وتشجيع جامعة تورين على الأخذ بالأساليب الحديثة في البحث والدراسة، وكان وزير
معارفه — سيزار الفييري — معدودًا من الأحرار بدرجة كافية، ثم إنه اهتم بالمسائل
الاقتصادية، فمنح المساعدات المالية للنهوض بالصناعة، وألغى النقابات، وبدأ يمد
السكك الحديدية، وفي سنة ١٨٣٣؛ قام مشروع بمد خط من جنوه إلى بحيرة «ماجيوري» لقي
معارضة من جانب الممولين النمسويين في لمبارديا فينيشيا، الذين أرادوا إنشاء خط آخر
يجري بين ليفورنة «ليجهورن» وتريستا، فلا يجعل تجارة البحر المتوسط تصل إلى جنوه
وبيدمنت، بل تتحول إلى النمسا، ثم إنَّ هذا الخط «ليفورنة — تريستا» سوف يجعل
ممكنًا بانتهائه عند تريستا؛ الاتصال بخط أوروبي آخر، يربط بين هذه الأخيرة
وأوستند Ostend عبر ممر برنر Brenner.
ولقد أظهرت هذه الإصلاحات بيدمنت بمظهر الدولة «الحديثة» لدرجة معينة، كما أضفت
على سياسة الملك مظهر السياسة «الحرَّة»، ولقد أجاز شارل ألبرت للشاعر وصاحب
الأغاني من الأحرار أنجيلو بروفيرو
Profferio
(١٨٠٢–١٨٦٦)، أنْ يستأثر بتوجيه صحيفة «ساعي بريد تورين»،
٣٢ بصورة أكثر جرأة نحو المبادئ الحرَّة، وأجازت الرقابة في بيدمنت تداول
كتاب «جيوبرتي» عن «الرياسة أو الزعامة» المعروف، وأجاز شارل ألبرت عقد المؤتمر
العلمي الثاني في تورين سنة ١٨٤٠. وفي سنة ١٨٤٢ أسَّس جمعية زراعية قومية أو أهلية،
حيث اشترك بها البيدمنتيون مع الذين حضروا من لمبارديا فينيشيا في مناقشة الموضوعات
المطروحة للبحث، مما ينهض جميعه دليلًا على أنه كان هناك بدرجة ملموسة تقدم في طريق
الحياة العصرية أو «الحديثة»، وعدول عن القديم في بيدمنت.
وأصاب شارل ألبرت في ميدان آخر، قدرًا أوفى من المحبة الشعبية، وذلك في علاقاته مع
النمسا، فلم تكن يومًا صلاته طيبة مع هذه الدولة، ولم تلبث أنْ ساءت ثم زادت
توترًا، وحدث أول اصطدام بين هاتين الدولتين حول مسألة السكة الحديد في سنة ١٨٣٣،
التي أرادت بيدمنت مدَّها من جنوه إلى بحيرة «ماجيوري»، وحمل شارل ألبرت للوزير
النمسوي (مترنخ) كراهية كبيرة، واتهمه بأن حاول منعه من إعلاء العرش وأحاطه
بالعملاء والجواسيس، ولقد حاول وزيره «دللامرجريتا» أنْ يثنيه عن هذا العداء في سنة
١٨٣٥، ولكن دون طائل. وفي سنة ١٨٣٩ كان الملك يتحدث عن «حمل البندقية على كتفه
للخوض في حرب ثانية ضد النمسا»، ثم وضع اصطدام «اقتصادي» بين بيدمنت ومملكة
لمبارديا فينيشيا في سنة ١٨٤٣، حول مسألة بيع الملح للمقاطعة «الكانتون» السويسرية
تشينو Ticino، وكانت هذه تتزود بحاجتها من
الملح من لمبارديا، وكان قد أبرم اتفاق بين لمبارديا وبيدمنت، تخلَّت بموجبه هذه
الأخيرة عن المعاملة مع «تشينو»، ولكن حدث في سنة ١٨٤٣؛ أنْ اتجه أهل «تشينو» إلى
بيدمنت يطلبون حاجتهم منها، عندما لم يأتِهم الملح من لمبارديا، ووافقت بيدمنت على
بيع الملح لهم، ولكن الدولة في بيدمنت كانت تحتكر الملح؛ ولذلك فقد اتهمت النمسا
بيدمنت بأنها خرقت الاتفاق السابق بين الدولتين. وإلى جانب هذا الحادث وقعت
«اشتباكات» بين حراس ودوريات الحدود بين بيدمنت ولمبارديا خلال سنة ١٨٤٣ كذلك، فصار
الملك يهدد بأن تتولى بيدمنت الدفاع عن «تشينو» والنضال إلى جانبها ضد النمسا،
وإرسال صرخة الحرب المدوية من أجل استقلال لمبارديا. وفي أكتوبر ١٨٤٤؛ أبرمت النمسا
مع تسكانيا وبارما معاهدة «فلورنسة» للتجارة، ومن غير السماح لبيدمنت بالانضمام
إليها. وفي سنة ١٨٤٦؛ احتج الملك على الضرائب الجمركية العالية التي فرضتها النمسا
على الأنبذة المستوردة من بيدمنت (أبريل)، وعندما أُخذ عليه أنه بسياسته سوف يجعل
بيدمنت تفقد أسواق النمسا، كان جوابه: «أنَّ بيدمنت إذا خسرت النمسا فهي سوف تكسب
إيطاليا، وفي وسع إيطاليا حينئذٍ أنْ تعمل بنفسها.» وعندما يذهب «دازيجليو» إلى
رومانا، في ظروف سيأتي ذكرها، وعد الملك بإعطاء إيطاليا — عندما يحين الوقت المناسب
— السلاح الذي لديه والمال الذي في خزائنه، ومع ذلك وبالرغم من كل ما حدث، فلا يجب
المغالاة في تقدير قيمة هذه التصريحات والوعود المتتابعة؛ لأن شارل ألبرت ظلَّ
أمينًا على مبدأ الملكية — بالمعنى الذي ذكرناه — ولم يمنعه عداؤه للنمسا من عقد
قران ولي عهده دوق سافوي (فيكتور عمانويل الثاني فيما بعدُ) من أميرة نمسوية، إلَّا
أنَّ تصريحات الملك والتي كانت تتميز نغمتها بالإخلاص، ثم احتكاكاته المتكررة
بالنمسا، جعلته يمثل في نظر الإيطاليين المعارضة والعداء ضد النمسا، وأكسبته لذلك
قدرًا معينًا من عطف الشعب ومحبته.
ولقد شجَّع هذا الوضع المزدوج في إيطاليا وفي بيدمنت على تأليف حزب بيدمنتي
إيطالي، قوامه طبقة النبلاء في بيدمنت، حيث كان النبلاء على رأس الحكومة بها:
النبلاء الذين يفخرون بأمجاد تاريخ بلادهم الماضية، وتقاليدهم العريقة المتمثلة في
كراهيتهم وعدائهم للنمسا، وهم الذين يضطلعون بالعبء الأكبر من شئون الإدارة والحكم
في بيدمنت، فكان اضطلاعهم بهذه الأعباء مبعث رغبتهم في إنشاء الحكومة الطيبة
دائمًا، وبغضهم للأساليب المستحدثة و«للبدع» في الحكومة واحتقارهم «للنظريات». وكان
بعض هؤلاء النبلاء متأثرين لدرجة معينة بالآراء الحرَّة؛ نتيجة اختلاطهم «بالأجانب»
ومعرفتهم لهم أثناء أسفارهم في فرنسا وإنجلترة، (ويمثل الكونت كافور هذه الفئة خير
تمثيل)، وهم يريدون أنظمة للحكم أكثر اتفاقًا مع ميول الشعب؛ أي أكثر مجلبة لرضائه،
ولكنهم لم يكونوا ولن يصبحوا إطلاقًا «ديمقراطيين»، ولقد كان هؤلاء النبلاء
البيدمنتيون كذلك أعداء للسلطة البابوية، ولا تشدهم إلى الكنيسة روابط قوية،
واستهدفوا دائمًا عظمة بيدمنت، واتساع رقعتها، ورفعة شأنها، ولكن على حساب
لمبارديا، ولو أنهم كانوا يخشون في الوقت نفسه من الدخول في نضال مسلح لتحقيق هذه
الرغبة؛ لاعتقادهم أنَّ الحرب إذا وقعت لن تكون من قوات متكافئة، وهؤلاء النبلاء
البيدمنتيون كذلك صاروا يميلون لأن تتحد إيطاليا اتحادًا «كونفدرائيًّا»، يتيح
الفرصة لتنظيم «دفاع مشترك» عن كل البلاد، ولإنشاء اتحاد جمركي بها، ولكنهم كانوا
كذلك يخشون في الوقت نفسه من أنْ تنتزع «ميلان» أو روما من «تورين» الدور الرئيسي
الذي يريدونه لها في هذا الاتحاد.
وهكذا كان تفكير هؤلاء النبلاء البيدمنتيون، يتميز لدرجة معينة «بالصبغة» القومية
(أو الأهلية) الإيطالية، بل إنَّ بعض هؤلاء النبلاء وإنْ كان عددهم ضئيلًا، قد
ارتقى تفكيرهم إلى مستوى المناداة بالوحدة الإيطالية، من طراز يقرب قليلًا من
الفكرة التي أتى بها «جيوبرتي»، ولو أنهم اتجهوا بفكرتهم اتجاهًا آخر، خالفوا فيه
صاحب كتاب «الرياسة أو الزعامة» الإيطالية، من حيث إنهم أرادوا بيدمنت وليس
البابوية أنْ تقود الحركة القومية، وأنْ تتزعم الاتحاد الإيطالي، فكانوا «علمانيين»
في اتجاهاتهم الفكرية والسياسية، وليسوا «كنسيين»، وكان «ماسيمو دازيجليو» أهم
هؤلاء النبلاء الذين نادوا بزعامة بيدمنت.
دازيجليو Massimo D’azeglio
وكان دازيجليو (١٧٩٨–١٨٦٦) صهرًا «لمانزوني»، وصديقًا «لسيزار بالبو»، وذا ولع
بالفنون، فهو مصور يرسم اللوحات، وهو روائي يكتب القصص، ونشر بعض الروايات في سنة
١٨٣٣، ثم في سنة ١٨٤١ أحدثت شيئًا من الدوي، ثم إنه كان في حياته إيطاليًّا أكثر
منه بيدمنتيًّا، فعاش في روما، وفي فلورنسة، بقدر الوقت الذي عاشه في تورين، ثم لم
يلبث أنْ انغمس في السياسة، فدبَّج يراعه العدد الوفير من الكراسات والمقالات، وظهر
في كتاباته أنه يعطف على الآراء الجديدة، والتي تدعو إلى التقدم والارتقاء، ولكنه
كان في ذاته فاتر الهمة، لا يفكر في أنْ يصبح في حياته أو نشاطه قدوة
للآخرين.
وفي خريف سنة ١٨٤٥؛ اضطلع دازيجليو «بمهمة» في إقليم «رومانا» من الأملاك
البابوية، لا يزال مصدرها مجهولًا، أو غير متفق عليه؛ هل كان «دازيجليو» هو الذي
ابتكر هذه «المهمة» لنفسه، أو أنَّ الدعوة جاءته من «رومانا»؟ من أهل هذا الإقليم
أو من الوكلاء البيدمنتيين الذين ينشطون هناك للدعوة لزعامة بيدمنت؛ لأن المهمة
التي أخذها «دازيجليو» على عاتقه كانت ترويج الدعوة لبيدمنت، وإذاعة الآراء التي
اعتنقها «النبلاء» البيدمنتيون، الذين أرادوا «اتحادًا» إيطاليًّا تتزعمه بيدمنت
وآل سافوي — البيت الحاكم بها — ولقد كان أهل «رومانا» يخشون أنْ يقضي البابا
«جريجوري السادس عشر» نحبه في أي وقت، وأنْ يتبع هذه الوفاة ثورة تحركها «إيطاليا
الفتاة» واحتلال نمسوي لإخماد الثورة.
وقصد «دازيجليو» إلى رومانا حينئذ يبشر بزعامة بيدمنت واتحاد إيطاليا، ويدعو أهل
رومانا لأن يضعوا ثقتهم في شارل ألبرت وفي زعامته، واستطاع «دازيجليو» أنْ يكسب
أنصارًا كثيرين، بالرغم من الذكريات السيئة عن شارل ألبرت التي كانت لا تزال عالقة
في أذهان «الرومانيين»، وبالرغم من أنَّ شباب الأحرار في رومانا كانوا يؤثرون
الاعتماد على جهودهم «الجمهورية»، ولكن «دازيجليو» فشل في إخماد النزعة لإشعال
الثورات المحلية، وعلى ذلك فإنه لم يكد يغادر «رومانا»، حتى قام «الكاربوناري»
بحركة إرهابية عنيفة في «ريميني»؛ وذلك للانتقام من الاضطهاد، والقمع الشديد الذي
عمدت إليه الحكومة البابوية عقب ثورة الشقيقين «موراتوري»، ولقد سبق أنْ ذكرنا كيف
اضطر الثوار في «ريميني» بعد ذلك إلى الفرار عبر الحدود إلى «تسكانيا» لاجئين
بها.
أمَّا هؤلاء الثوار في «ريميني» فكانوا قد أصدروا منها نداءً مُوَجَّهًا إلى
«الأمراء والشعوب في أوروبا»، صاغ عبارته المؤرخ الإيطالي فاريني
Farini،
٣٣ حمل الثوار فيه على الحكومة البابوية، وطالبوا بالإصلاح، وكان الإصلاح
الذي طالبوا به ضئيل القيمة، ومن طراز الإصلاحات الوقائية التي كانت قُدِّمت للبابا
في سنة ١٨٣١، وقد سبقت الإشارة إليها في موضعه.
وَهَيَّأت هذه الثورة في «ريميني» الفرصة لدازيجليو؛ حتى ينشر سرًّا في فلورنسة في
سنة ١٨٤٥ كتيبًا عن «الحوادث الأخيرة في رومانا»،
٣٤ تناول فيه بالشرح والتعليق أسباب وطبيعة الثورة الفاشلة، وحمل فيه حملة
عنيفة على حكومة البابوية وعلى سياستها، بصورة تحطم آمال كل أولئك الذين خُيِّل
إليهم أنَّ البابوية في وسعها النهوض بإيطاليا وبعثها وإحيائها، ولو أنَّ
«دازيجليو» أكد احترامه العميق لرأس الكنيسة الكاثوليكية؛ لأنه يخشى من حدوث انقسام
يقضي على الرابطة الوحيدة التي كانت لا تزال من الناحية الشكليَّة «والرسميَّة»
تجمع بين الإيطاليين في نوع من الاتحاد المرموق، فأوضح وجوه الاختلاف بين المبادئ
السليمة والحكيمة التي يجب أنْ يقوم عليها صرح الحكومة البابوية، والتي ادعت هذه
تمسكها بها، وبين الطريقة أو الأساليب الفعلية التي يُجرى بها تنفيذ هذه المبادئ،
وفي رأيه أنَّ البابا كان لا يجهل أنَّ البلاد تخضع لنوع من الاضطهاد والاستبداد
الحكومي يطمس معالم الفكر، ويقضي على العدالة، ويذيع الفوضى في الإدارة الحكومية
والاضطراب في شئون الاقتصاد والمال، ولا يمكن أنْ يجهل البابا وجود الاحتكارات
الحكومية التي تخنق التجارة، ولا وجود العسكر من السويسريين المرتزقة الذين تعتمد
عليهم حكومة البابوية في تأييد سلطتها الاستبدادية، ولا وجود القتلة وسفاكي الدماء
من جمعيات «أصحاب الإيمان المقدس».
San-Fedistes الذين سبقت الإشارة إليهم، أنصار
الكنيسة الرجعيين، ولا يمكن أنْ يجهل البابا أنَّ هناك مقاومة عنيفة لكل ما هو جديد
أو يشتَم منه أنه جديد، ولكل نشاط في ميدان التربية والتعليم، ومقاومة ضد السكة
الحديدية، وضد المصارف، وضد الجمعيات الزراعية، وضد المؤتمرات العلمية، ولقد أصرَّ
«دازيجليو» لهذا كله على اعتبار البابوية المسئولة عن هذه الحال السيئة في
«أملاكها»، وأصرَّ على ضرورة أنْ تتخلى البابوية عن «قيادة السفينة التي ما عادت
تسير في الطريق الذي يرسمه لها سكانها»، بل يقتضي الواجب البابوية إنهاء السلطات
الاستبدادية التي لرجال الإدارة في أملاكها، ويتحتم عليها أنْ تؤمن رعاياها على
استقرار «العدالة المدنية» على الأقل، على نحو ما تفعله النمسا ذاتها مع رعاياها،
وقال «دازيجليو»: إنَّ من المتعذر استناد الحكومة البابوية على الضغط والبطش؛ لأن
السلطة اليوم إنما تستند على الرأي العام، وعلى إرادة وموافقة المحكومين وحسب،
وواجب على البابا لذلك أنْ يرضخ لهذه «السلطة» الأخيرة، ولا يصطدم بها.
ولقد توجَّه «دازيجليو» بعد ذلك بطائفة من النصائح إلى الأحرار فامتدح شجاعتهم،
وهم الذين حركوا الثورات الإقليمية المحلية، واستعدادهم للتضحية، ولكنه عاب عليهم
إثارة هذه الاضطرابات «الضئيلة القيِّمة»، والتي ليست بحالٍ من الأحوال هي الطريق
الصحيح إلى الاستقلال، والأحرار في رأي «دازيجليو» لا يزالون أقلية في الأمة، وفي
رأيه لا يصح لهذه الأقلية أنْ تعمم الأمة في معارك، أو ثورات لا تعرف نتائجها،
شبهها «دازيجليو» بلعب الحظ عندما يرمي أحد الأفراد قطعة نقود في الهواء ليقبضها
باليد بعد سقوطها، ثم يتقدم فرد آخر لمعرفة وجهها، فإن جاء تخمينه صحيحًا؛ كسب
الرهان، فيعرِّض الأحرار بهذه الطريقة مستقبل الأمة للخطر، وينحدرون بالبلاد إلى
هوة المنازعات الداخلية أو الحروب الأهلية المحطمة لكيانها، أضف إلى هذا أنَّ هذه
الثورات المحلية إذا استمرت سوف تنقل النضال أو الجهاد القومي ذي الأهداف والغايات
الكبرى، إلى فورات أو انتفاضات محلية ذات آثار محدودة، فتستنفد هذه الثورات
الإقليمية «الصغيرة» جهود الأمة، وتصرفها عن الجهاد الأعظم، وتشتت جهود أبنائها
سدًى، ونصح «دازيجليو» بأن الوقت لم يحِن بعد للثورة المسلحة التي يجب أنْ يشترك
فيها الإيطاليون جميعهم، طالما أنَّ النمسا كانت مهيَّأة دائمًا لسحق هذه الثورة
بقوة السلاح، بل يجب على إيطاليا أنْ تتذرع بالصبر، قبل الدعوة للمقاومة المسلحة
والثورة، وأنْ تبذل التضحيات، وذلك برفض كل إذلال «روحي» يراد فرضه عليها. ولما كان
التذرع بالصبر عملًا شاقًّا على الشعوب الواقعة تحت نير الظلم والطغيان، فالطريق
الآخر غير طريق الثورة والاصطدام المسلح إنما هو الاحتجاج — احتجاج الرأي العام
الشديد بقوة، وبصورة دائمة، والجدير بالملاحظة هنا أنَّ «دازيجليو» كان مؤمنًا بقوة
الرأي العام، وبقدرته على انتزاع الشيء الكثير — لصالح المحكومين — من الحكومات
المستبدة الغاشمة، ثم نصح «دازيجليو» الأحرار، وطلب منهم أنْ يولوا وجوههم شطر
بيدمنت باعتبار أنَّ بيدمنت هي القوة الوحيدة التي في استطاعتها «صنع»
إيطاليا.
ولقد أدرك هذا الكتيب نجاحًا عظيمًا، وسرعان ما أفضى ذيوعه إلى إنشاء حزب جديد، هو
حزب الأليبرتيين Albertiste أنصار بيدمنت وأنصار
ملكها شارل ألبرت، وانضم كثيرون من شباب الجمهوريين إلى هذا الحزب الجديد، وهؤلاء
الجمهوريون هم الذين صُدموا في آمالهم بسبب إخفاق الثورات المحلية السابقة، وانضم
إلى «الألبرتيين» كذلك كل أولئك الذين لم يؤمنوا بقدرة البابوية على إحياء إيطاليا
وبعثها، ثم أولئك الذين انصرفوا عن «إيطاليا الفتاة»، بل لقد تزايدت أهمية هذا
الحزب الجديد سريعًا، حتى إنَّ «مازيني» لم يلبث أنْ رأى ضروريًّا التفاوض مع
أعضائه، وحاول الاتفاق مع «الألبرتيين» على أساس أنْ يتخلَّى «مازيني» عن الدعوة
للجمهورية، في نظير أنْ يتخلى «الألبرتيون» بدورهم عن فكرة الاتحادية الكونفدرائية،
وأنْ يؤيِّدوا «الوحدة» الأهلية الإيطالية.
وفي بيدمنت كان للحزب تنظيم قوي على رأسه «دازيجليو»، كما كان من أعضائه؛
«مامياني» و«كافور»، وإنْ بقي «سيزار بالبو» بعيدًا عنه، وتضافرت أقلام رؤساء الحزب
للكتابة في «المجلة الجديدة»،
٣٥ التي نقلوا إليها طائفة من المقالات من الصحف والمجلات الفرنسية مثل
«جورنال دي ديبا»، ومجلة العالمين المشهورة،
٣٦ كما نقلوا إليها المقالات من الصحف والمجلات الإنجليزية، وهم الذين
أسَّسوا في سنة ١٨٤٧ الصحيفة الجديدة البعث
Ilrisorgimento، ولقد وجَّهوا الدعوة صريحة إلى شارل ألبرت، وطلبوا منه
أنْ يتزعم الحركة القومية، فكتب كافور: «لقد دقت الساعة؛ لتتسلم ملكية سافوي زمام
الزعامة»، فكان على يد هذه المدرسة البيدمنتية إنْ أمكن أنْ يتشكَّل مستقبل
إيطاليا، ولكن بعد سنوات كثيرة، وبعد الثورة التي قامت في سنة ١٨٤٨.
وعشية هذه الثورة (١٨٤٨)، لنا أنْ نتساءل إذن بعد كل الأحداث (والوقائع) التي
مرَّت، والتيارات الذهنية المقترنة بحركتي «الرومانسيَّة أو الرومانتيكيَّة والبعث
والإحياء»، وظهور جماعة «المعتدلين» أصحاب المذاهب السياسية، التي نادى بها رجال من
طراز جيوبرتي، أو «دازيجيليو» و«بالبو»، ثم حركة «الإصلاح» في بيدمنت خصوصًا —
نقول: يحق لنا أنْ نتساءل ماذا كان الموقف في إيطاليا عشية ثورة ١٨٤٨.
من الناحية السياسية؛ لم يطرأ تغيير على هذا الموقف؛ فهناك مجموعة من الدول
والإمارات إلخ، منفصلة عن بعضها بعضًا، والنمسا لا تزال صاحبة الحول والطول في
إيطاليا، والحكومات المستبدة تنشر طغيانها في كل أنحاء البلاد، ولكن على العكس من
ذلك من الناحية الخلقية الأدبية والروحية، كان قد طرأ تغيير شامل على الموقف،
فالمثقفون جميعهم من الآن فصاعدًا قد صاروا يعتنقون الفكرة القائلة بضرورة إزالة
الحدود التي تفصل بين الدويلات المتعددة؛ ليتسنى إنشاء دولة إيطالية واحدة ووطن
إيطالي واحد، ولقد اختلفت رغبات الإيطالية بشأن «الشكل» الذي يجب أنْ تتخذه هذه
الدولة الواحدة، الوحدة والجمهورية؛ شعار الثوريين الذين حرَّكوا الثورات المحلية
الأولى، والذين بدأ نشاطهم، كما شاهدنا سنة ١٨٣٠، ويمثل هؤلاء «المازينيون»، واستمر
نشاطهم في سلسلة من الثورات الصغيرة والفاشلة بعد ذلك، ثم كان هناك «المعتدلون» منذ
١٨٤٠ وهم الذين لم يربطوا الفكرة الإيطالية، وإنشاء الوطن القومي الإيطالي بالفكرة
الثورية، وصاروا يشكِّلون بفضل ذلك عنصرًا «محافظًا» في تاريخ الحركة القومية، ومع
ذلك فقد تنوعت الحلول التي ارتآها هؤلاء «المعتدلون» للمشكلة الإيطالية، فهناك
أنصار البابوية مثل؛ «جيوبرتي» و«الجلفيين الجدد»، ثم هناك خصوم الحكومة البابوية
الذين أرادوا تجريدها من كل سلطة، مثل: جياكومو
دوارندو
Giacomo Durando (١٨٠٧–١٨٩٤)، صاحب «القومية الإيطالية»،
٣٧ ثم لويجي توريللي
Luigi Torelli صاحب
«أفكار عن إيطاليا»،
٣٨ ثم هناك الذين أرادوا الاستقلال قبل كل شيء، ولم يكونوا يهتمون بالحقوق
الدستورية مثل: «بالبو»، ويقابل هؤلاء من الطرف الآخر أولئك الذين يضعون الحقوق
الدستورية، والحريات في مرتبة أعلى من الاستقلال «من النمسا». وأخيرًا كان هناك
الذين يؤيِّدون «توسع» بيدمنت، ويريدون لها الزعامة حتى تصنع لإيطاليا كيانًا
سياسيًّا واحدًا، وهؤلاء هم الذين سوف تتزايد أعدادهم تباعًا.
وهكذا كانت الحركة القومية عشية أحداث ثورة ١٨٤٨، مزيجًا من الأهداف والتيارات
المختلفة والمتضاربة، ولكن الذي لا شك فيه أنَّ الشعور القومي أو الروح القومي قد
صار متيقِّظًا، ويعم كل إيطاليا ويتغلغل في كل الأوساط والطبقات.
ولكن هذا الشعور أو الروح القومي لم يكن هناك مناص من «تجسده» في شكل الدولة
القومية والوحدة الأهلية، وبجانب «الثوريين» الذين فقدوا اعتبارهم بسبب الفشل الذي
أصابهم كل مرة حاولوا فيها الثورة، كان أكثر الإيطاليين يعتقدون أنَّ العمل لتحقيق
هذه الوحدة الأهلية قد بات قريبًا، ولما كانت قد تبددت آمالهم في الحصول على أية
معاونة من الخارج؛ بسبب تخلي فرنسا عنهم، فقد صاروا يعتمدون على أنفسهم هم وحدهم في
تحقيق آمالهم، وصار شعارهم مقالة شارل ألبرت نفسه: «ستعمل إيطاليا وحدها».
٣٩
البابوية «المصلحة» بيوس التاسع
ولقد كان ذلك هو الموقف في إيطاليا، عندما حدث في (أول يونيو ١٨٤٦) أنْ تُوفِّي
البابا جريجوري السادس عشر، ووقع اختيار مجلس
الكرادلة
Conclave؛ على الكاردينال جيوفا في ماريا ماستا في فيريني
٤٠ ليعتلي كرسي البابوية باسم البابا بيوس التاسع (١٤ يونيو)، وكان
«ماستائي» البابا الجديد ينحدر من أسرة نبيلة ريفية من سينيجاليا
Sinigalgia من الأملاك البابوية، ولد سنة ١٧٩٢
وبدت عليه عوارض داء الصرع؛ مما أجبره على مغادرة الكلية التي كان يتعلم بها في
فوليترا
Volterra بتسكانيا، كما أنَّ نوبات
الصرع هذه استمرت تنتابه تارة في شكل هياج عصبي، وأخرى في صورة اندفاع متهور، هي
التي تُفَسِّر كثيرًا من الأحداث التي وقعت خلال بابويته. ولقد عاد «ماستائي» إلى
سينجاليا في سنة ١٨٠٩، وبقي بها حتى عودة البابا بيوس السابع إلى روما (سنة ١٨١٤)،
عند انتهاء عهد السيطرة الفرنسية في إيطاليا. وفي هذه الفترة (١٨٠٩–١٨١٤) قيل عن
«ماستائي»: إنه كان متصلًا بالبنائين الأحرار «الماسون»، وبالكاربوناري. ولو أنه لا
يوجد أي إثبات على أنه كان متصلًا فعلًا بجماعة الثوريين، أو أنه انحرف في شيء عن
تقاليد أسرته التي كانت تقاليد «كنسية» بحتة.
وقصد «ماستائي» إلى روما في سنة ١٨١٤، يبغي الظفر بمركز في وظائف الحكومة
البابوية، ولما لم تسعفه صحته الضعيفة في الالتحاق «بالحرس البابوي»، ما حصل على
وظيفة صغيرة بإحدى ملاجئ الأيتام (١٨١٦)، ثم لم يلبث أنْ انخرط في سلك الكهنوت،
وعُهد إليه بمهمة دينيَّة وسياسيَّة معًا في سنة ١٨١٧ إلى «شيلي» بأمريكا الجنوبية،
فلم يعد منها إلَّا سنة ١٨٢٥، فعيَّنه البابا ليتو الثاني عشر رئيسًا لمستشفى
القديس ميخائيل، ثم رقَّاه بعد عامين رئيسًا لأسقفية «سبوليتو».
وفي هذا المكان الأخير، ومع أول احتكاك بين «ماستائي» والثوريين الطليان في سنة
١٨٣١، وذلك عندما اضطر الجنرال «سيركو جناني» بعد إخفاقه في محاولة مهاجمة روما إلى
الانسحاب إلى «سبوليتو»، وتسريح قواته بناءً على نصيحة «ماستائي» في الظروف التي
سبق أنْ عرفناها.
وفي سنة ١٨٣٢ نُقل «ماستائي» إلى مطرانية إيمولا
Imola، وفي ١٨٤٠ رُقِّي كاردينال وبقي يحتفظ بمطرانيته، وشهد
وهو في «إيمولا» سلسلة من المؤامرات، والثورات، وإجراءات القمع، والتدخل النمسوي،
وإلقاء القبض على الناس وحبسهم، والحكم بالنفي والتشريد على طائفة منهم، وإعدام
طائفة أخرى، فأغضبته هذه «التجربة» وأزعجته، وصار يحتج عليها لدى الحكومة البابوية
الرئيسية، فعدَّته هذه من طراز أبيه جريجوار
Grégoire صاحب الشهرة المعروفة في تاريخ الثورة الفرنسية،
٤١ وقد أغضب عمل البلاط البابوي «ماستائي»، وكان «ماستائي» في هذا الوقت
على صلات ودية وثيقة بأحد شباب الأحرار المثقفين: الكونت جويزيبي باسوليني
Pasolini، وتربطه روابط الصداقة كذلك
بزوجه أنطوانيتا باسي
Bassi، وكانا يقطنان بالقرب
من «إيمولا»، وقد تأثر بابا المستقبل بهذه الصداقة تأثرًا عميقًا، سواء من حيث
انجذابه إلى أسلوب المعيشة الهادئة، والرجعية في هذا الوسط، ومن حيث اطمئنانه إلى
ولاء «باسوليني» وزوجه وصدق نواياها، حتى صار يثق بها ثقة كبيرة، ولقد تناقش
ثلاثتهم كثيرًا في إمكان التوفيق بين «الدين» و«التقدم»، بين العقيدة الكاثوليكية
والمبادئ الحرَّة، التوفيق بينهما من الناحيتين المنطقية والعملية، كما بحثوا
التباين والاختلاف العظيم بين الأماني الإيطالية، وما يجب إنجازه من وسائل
لتحقيقها، وبين الطرائق والأساليب التي تتبعها البابوية والحكومة النمسوية في
الحكم، والتي يتعذر معها تحقيق هذه الأماني، ولقد ساعدت هذه المناقشات على أنْ
يعتنق «ماستائي» بصورة من الصور الآراء التي نادى بها «المعتدلون» المصلحون، وأنْ
يقف بوقف المعارضة من أنصار الرجعية والحكومة المستبدة من جهة، وأنصار الحركات
الثورية المازينية من جهة أخرى.
ومن المحتمل أنَّ «ماستائي» ما كان يعير هذه الموضوعات ذاتها انتباهًا خاصًّا، أو
أنه كان يعني تتبع الطريق الذي سلكته الآراء الداعية للمسالمة بين العقيدة
الكاثوليكية والمبادئ الحرَّة، وهي التي صارت جزءًا من برنامج الحركة
الرومانتيكيَّة الحرَّة في سنة ١٨٣٠، والتي جعل تحددها الآن شباب القساوسة، ورجال
الدين ينجذبون دون شعور منهم إلى مقاومة الرجعيين الذين يريدون طمس الفكر، وإلى
مقاومة اليسوعيين، ومع ذلك فالثابت أنَّ «ماستائي» كان في قرارة نفسه يعطف على هذه
الحركة، التي اتسع نطاقها بفضل «أدب الإصلاح»، مِمَّا دَبَّجَه يراع المصلحين
المعتدلين، فصارت تشمل كل المشكلات السياسية في إيطاليا، ولقد شاهدنا كيف أنَّ
هؤلاء المعتدلين مثل: «جيوبرتي» و«بالبو»، وَكُتَّاب الإصلاح الآخرين قد بنوا كل
خططهم لتحرير إيطاليا، وإنقاذها من وهدتها على فكرة «المسالمة» هذه؛ ولذلك فقد سهل
على «باسوليني» وزوجته أنْ يستثيرا اهتمام «ماستائي» بالمشكلات السياسية، وأنْ
يجعلاه في آخر الأمر يأسف أشد الأسف لسوء الأحوال السائدة، ويتطلع إلى مستقبل أفضل،
اعتقد «ماستائي» أنَّ قليلًا من الرفق والتسامح، وشيئًا من الروح المسيحية الصحيحة،
كلاهما قمين بفعل ذلك، وكان بفضل أصدقائه «آل باسوليني» أنْ تسنى «لمستائي» قراءة
كتاب «جيوبرتي» عن رياسة أو زعامة إيطاليا، وكتاب «بالبو» عن آمال إيطاليا، ثم
مُؤَلَّف «دازيجليو» عن حوادث رومانا وثورتها الأخيرة، وهكذا نتيجة لهذه الدراسة
التي تناولت آراء المصلحين المعتدلين من ناحية، ولمشاهداته من ناحية أخرى، وهي التي
وقفته عن فظائع وسائل القمع والإرهاب الرجعي، صار من الممكن بناء تلك «الشخصية»
التي احتلت مكان الصدارة في تاريخ الحركة القومية الإيطالية، باسم البابا بيوس
التاسع، الثلاث السنوات التالية قبل حوادث ١٨٤٨.
وكان عند ذهاب «ماستائي» لحضور مجمع الكرادلة عقب وفاة جريجوري السادس عشر في سنة
١٨٤٦، أنْ أفصح الكونت «باسوليني» عَمَّا كان يجول بخاطره، من حيث استطاعة
«ماستائي» إذا صار انتخابه لكرسي البابوية، أنْ يضع موضع التنفيذ تلك الآراء
والمبادئ التي بحثها في «إيمولا»، ومع ذلك فقد كان واضحًا أنَّ الأحوال في أوروبا
في اللحظة التي حصل فيها انتخاب «ماستائي» للبابوية (يونيو ١٨٤٦)، لم تكن ملائمة
لتطبيق مبادئ الإصلاح الحر؛ بسبب تلك الموجة من الرجعية التي كانت تجتاح أوروبا
وقتئذ، والتي لا معدى عن إثارتها الصعوبات في طريق البابا إذا شاء الظهور بمظهر
المحب للإصلاح، وتنفيذ نواياه الطيبة.
فقد كان في هذه الآونة، أنْ انفصمت عرا «التحالف الودي» بين إنجلترة وفرنسا؛ بسبب
الزواج الإسباني، ووجد لويس فيليب الملك الفرنسي نفسه مرغمًا على الارتماء في أحضان النمسا،
٤٢ وكانت سياسة النمسا في كل مكان مؤسَّسة على الرجعية، ومقاومة الآراء
والمبادئ الحرَّة.
وبدأ «بيوس التاسع» في هذه الظروف بأبويته، كَمَنْ لا يدري ما الطرق التي يجب
اتباعها للبدء في تنفيذ برامج إصلاحاته، ولكنه لم يلبث أنْ لقي كل معاونة من جانب
اثنين من رجال الدين: جراتزيوس Graziosi، وكان
«كنسيًّا» مثقفًا متنورًا، ثم كوربولي
بوسي Corpoli Bussi — وهو سكرتير — البابا.
وكان صاحب ميول يمكن اعتباره بفضلها اليوم في عداد «الكاثوليك
الاشتراكيين».
ولقد انضم إلى هذين الكونت بلليجرينو
روسي Pellegrino rossi مستشار البابا، والذي اشتهر بفلسفته «الحرَّة»، وكراهيته
لليسوعيين، وكان هؤلاء الثلاثة هم المسئولين عن أول إجراء سياسي عظيم الأهمية، صدر
عن البابا الجديد؛ إعلان العفو العام في ١٦ يوليو ١٨٤٦، وشمل هذا العفو كل المذنبين
سياسيًّا والمشبوهين، ولقد كان ذلك إجراء جعل من الناحية السياسية البابا بيوس
التاسع، باعث النهضة السياسية في إيطاليا.
وكان لإعلان العفو العام أعمق الأثر، ليس في روما وحدها أو في سائر الأملاك
البابوية وحسب، أو حتى في إيطاليا بأجمعها، بل لقد تعدى أثره حدود إيطاليا حتى تشعر
به أوروبا، بل العالم بأسره، والحقيقة أنَّ صدور «العفو العام» على يد أحد
البابويات، كان بمثابة عود الثقاب الذي أُلقي على كومة من المواد القابلة للاحتراق،
ولم يكن يدور في خلد بيوس التاسع أنَّ الأمر سوف يكون على هذه الدرجة من الخطورة
عندما استجاب لعاطفته ولنصح مستشاريه، فسواد الناس في كل أنحاء إيطاليا وأوروبا
يتوقون لتغيير يحدث، ومنذ سنة ١٨١٥ كانت تتزايد الرغبة تدريجيًّا في إجراء
الإصلاحات الاجتماعية والسياسية، وهو شعور «تفاقم» منذ سنة ١٨٣٠ وصار لا يمكن دفعه،
وفي إيطاليا حيث كانت الحاجة أشد لهذا التغيير ولهذه الإصلاحات، كانت النمسا القوة
التي اعتمد عليها الرجعيون في محاربتهم لأماني الأحرار، وإخماد حركتهم، وكان لذلك
طبيعيًّا أنْ يعتبر موجهًا ضد النمسا كل إجراء «مستحدث» يصدر لتأييد المبادئ
الحرَّة، وكان أدعى لاستثارة حفيظة النمسا، صدور «العفو العام» على يد بيوس التاسع؛
لأن هذا الإجراء لم يكن إجراء «صغيرًا» أو ضئيل القيمة، بل إنه كان في جوهره إجراءً
أعاد الكرامة للوطنية الإيطالية، وذلك بالرغم من كل تلك «التحفظات» التي أُحيط بها،
وكان صدوره على يد البابا — رئيس الكنيسة وزعيم العالم الكاثوليكي الروحي — بمثابة
الاعتراف بأن الأعمال التي كانت تُعد إجرامية إنْ هي إلَّا فضائل، يجب تكريم
أصحابها، وذلك في وقت اشتد فيه النضال في طول أوروبا وعرضها بين الرجعيين
والأحرار.
على أنَّ الذي يجب ذكره كحقيقة تُفَسِّر تطور التاريخ الإيطالي في السنوات
التالية، أنَّ بيوس التاسع على خلاف الوزير النمسوي «مترنخ»، لم يكن يتوقع، أو أنه
كان يدور في ذهنه إطلاقًا؛ أنَّ «إعلان العفو العام» هذا معناه الحرب مع النمسا،
ومؤداه استقلال إيطاليا، والحقيقة أنَّ «إعلان العفو العام» كان إجراءً «مبهمًا»
يحتمل تأسيس ترتيبين اثنين عليه؛ إمَّا الرغبة في «المسالمة» والتوفيق بين «العقيدة
الكاثوليكية» والمبادئ الحرَّة، وإمَّا الانحياز الصريح إلى جانب الأحرار ضد
الرجعيين، ولقد تكفل منطق الحوادث وحده بعد ذلك بإظهار هذا «الإبهام» وفضحه، ثم
بإزالته، وكان بهذا المعنى إذن أنَّ حَرَّك الثورة وبدأها في إيطاليا «إعلان العفو
العام» هذا الذي أصدره البابا بيوس التاسع.
ولقد كانت الإصلاحات التي تمت على يد البابا بعد «إعلان العفو» بطيئة وقليلة وغير
كافية، وفي كثير من الحالات متضاربة وغير مترابطة، بل إنَّ العمل على «علمانية»
الحكومة؛ أي تحريرها من النفوذ الكنسي استمر أملًا أو حلمًا تهفو له الأفئدة،
بالرغم من الحاجة الملحة إليه، ومع ذلك فقد بقي البابا يتمتع بمحبة شعبية، عندما
صار الجميع — ما عدا اليهود — يتمتعون بقسط من الحريات الفردية. وقَدَّرَ «بلليجرنو
روس» قيمة الإصلاحات التي تَمَّت على يد البابا، عندما كتب يصف حكومة البابوية
بأنها «ليست مثالية»، وأنها لا تعدو أنْ تكون «مجرد فكرة»؛ أي ليست حكومة بالمعنى
الصحيح، والحقيقة أنَّ البابا ما كان يفعل شيئًا إلَّا تحت ضغط المظاهرات الشعبية،
وتكرَّر ذلك حتى صار معروفًا عنه ذلك للجماهير، وللزعماء الشعبيين، خصوصًا
أنجيلو برونتي Brunetti، الْمُلَقَّب
بشيشيروكيو Ciceruacchio تدليل شيشرون Cicero، والذي كان يبدو صديقًا للبابا، وصارت
المظاهرات «نظامًا» ثابتًا في روما، وعلى ذلك كانت الحكومة منزلقة في منحدر قد
يقودها إلى كارثة محققة عند أول بادرة اختلاف بين رئيس هذه الحكومة، وبين الشعب
الخاضع لها، ومع ذلك فقد صار الرجعيون ينددون بالبابا ويصفونه «بالماسونية»
والكاربونارية، بل لقد صاروا يطعنون في شرعية أو قانونية انتخابه للبابوية، مَمَّا
يدل على مقدار الكراهية لشخصه التي صار يشعر بها هؤلاء، وبلغ مخاوفهم منه، ولقد
عَبَّرَ عن هذه المشاعر «مترنخ» نفسه، عندما قال في حديث له مع الماركيز
سولي Sauli، ممثل مملكة بيدمنت لدى بلاط
فينا: «لقد كنا مستعدين لوقوع أي شيء، ما عدا اعتلاء بابا من الأحرار كرسي
البابوية، أمَّا وقد صار لنا الآن بابا من الأحرار، فلن يدري إنسان ماذا يقع بعد
ذلك.»
وحوالي نهاية العام نفسه (١٨٤٦)، لم تلبث أنْ بدأت تشير الدلائل إلى صدق نبوءة
«مترنخ»، كما بدأ ينكشف المعنى الذي كان «لإعلان العفو العام»، ويزول عنه الإبهام
الذي لابسه، وذلك عندما أخذ أثره يمتد إلى خارج حدود الولايات البابوية، فاحتفلت
جنوه بذكرى مرور مائة عام على طرد النمسويين منها (١٧٤٦)، وفي ميلان أُقيم الحداد
العام حزنًا على وفاة «فردريجو كونفالو نييري» — أحد شهداء قلعة «سبيلبرج»
٤٣ — الذي توفي في قرية عند سفح «سان جوتارد» أثناء عودته إلى إيطاليا؛
ليشهد بزوغ فجر العهد الجديد، «على كنيسة القديس بطرس في روما»، بل إنَّ المؤتمر
العلمي الذي انعقد في جنوه في هذه السنة (١٨٤٦)، سرعان ما اتخذ نشاطه مظهرًا
سياسيًّا لدرجة أنْ سُمِّي «مؤتمرًا وطنيًّا»، وكان عن هذا «المؤتمر» أنْ صدر
الاقتراح بالاحتفال بمرور الذكرى المئوية لطرد النمسويين من جنوه، وقد وُجِّهت
الدعوة لكل «إيطاليا» حتى تشترك في هذا الاحتفال، فأُوقدت النيران في الأكوام
المنثورة على طول جبال «الإبنين»، فكان معنى هذا كله تأكيد تلك الحقيقة التي كانت
روما لا تزال تحاول إغماض عينيها عنها، وهي وجود العلاقة المباشرة بين الإصلاحات
«الحرَّة»، والرغبة الملحة في الاستقلال القومي، ولم يخطئ الوزير البيدمنتي «ديللا
مرجيتا» عندما كتب من روما — وكان قد ذهب يستطلع الأحوال بها — إلى شارل ألبرت؛
ليست الثورة في حاجة لأن تُصنع، فإنما هي قد تَمَّ صُنعها فعلًا!
وفي الدويلات الإيطالية الأخرى، مثل؛ تسكانيا ولوقا ومودينا وبارما، ظهر التأثر
بموقف البابوية «الْمُصْلِحة» في ذلك الحماس الشعبي الذي أخذ يتزايد حماسًا لمجرد
الإصلاح وحسب، وحَرَّكَ هذا الحماس المشاعر خصوصًا في نابولي وصقلية، وقامت
المظاهرات الوطنية في بيدمنت في كل مناسبة، وخصوصًا عند انعقاد «المؤتمر الزراعي»
في مورتارا Mortara، وهي هيئة علميَّة خدمت نفس
الأغراض فيما يتعلق بمملكة بيدمنت، التي خدمتها «المؤتمرات العلميَّة» بالنسبة
لإيطاليا.
وتوقع شارل ألبرت أن تعمد النمسا إلى وضع كل أنواع الصعوبات في طريق البابا المصلح
لعرقلة نشاطه، وتوقع أنْ يؤدي ذلك إلى نشوب الحرب، وتطلع شارل ألبرت إلى خوض غمار
هذه الحرب المنتظرة إلى جانب «البابا» وللدفاع عنه، حيث إنَّ الاشتباك في حرب مع
النمسا دفاعًا عن رئيس الكنيسة الكاثوليكيَّة، كان يتفق مع مبادئ الملك البيدمنتي،
واتجاهاته السياسيَّة والدينيَّة، ثم إنَّ شارل ألبرت استمر في الوقت نفسه ينفذ
برامج الإصلاح في مملكته، ولم يلبث أنْ نَحَّى وزيره «المحافظ» أو اليميني «ديللا
مرجريتا»، وَخَفَّف من وطأته على المنفيين السياسيين، فبدأ هؤلاء يعودون إلى الوطن،
وَخَفَّف شيئًا من صرامته مع الصحافة، ثم إنه عَيَّن وزيرًا للتربية والتعليم،
الماركيز سيزار الغييري دي سوستيجنو Di Sostegno
من المعروفين بميولهم المتحررة، والذي قيل عنه إنه كان على صلات سرية بالأحرار في
لمبارديا.
ولم يكن غريبًا أنْ يوجد «أحرار» بمملكة لمبارديا فينيشيا، الواقعة تحت الضغط
والاستبداد النمسوي، فقد صار منتهيًا ذلك العهد الذي تميز برضى الأهلين النسبي أو
على الأقل تسليمهم بما شاءته الأقدار لهم، ومن المحتمل أنَّ سكان الريف كانوا قليلي
المبالاة بما يجري حولهم، ولكن الثابت أنَّ الطبقة المتوسطة (البورجوازية) في
المدن، كانت تضمر عداءً شديدًا للنمسا، وصار النبلاء ورجال الدين، وهم الطبقات
الممتازة يترسمون خطى هؤلاء البورجوازيين تدريجيًّا، فانقسم حزب الأحرار إلى
فريقين: «المازينيين»، وأنصار شارل ألبرت، والذين كانوا أعداء للنمسا ولا غاية لهم
إلَّا طرد النمسا وحسب، ولقد تبدى الشعور الشعبي بوضوح في ميلان عند الاحتفال
بجنازة «كونفالو نييري»، ثم في فينيشيا عندما حصل الاحتجاج الشديد ضد مشروع
الحكومة؛ لمد السكة الحديد بين ميلان والبندقية، ولقد كان من بين الذين وَقَّعوا
على احتجاج شديد اللهجة، قُدِّم للحكومة بهذه
المناسبة كل من؛ دانييل مانين Daniele Manin،
وبيترو باليوكابا Paleocapa، وفالنتينو باسيني Pasini، وثلاثتهم سوف يصبحون من قادة
الثورة المقبلة، ولقيت كتب «جيوبرتي» ومؤلفات سائر «المصلحين» رواجًا عظيمًا،
وسبَّب تداولها المتزايد متاعب كثيرة للسلطات في لمبارديا فينيشيا، ومبعث هذه
المتاعب؛ أنَّ المسألة في هذه «المملكة» لم تكن مسألة إصلاح وحسب، بل كانت كذلك
مسألة قومية؛ رغبة أهل هذه المملكة الإيطاليين في التحرر من سيطرة النمسويين وإنهاء
حكومتهم، فلم يحمل رواج هذه المؤلفات إذن غير معنى واحد فقط؛ إثبات القومية وطرد
النمسا، كما أنَّ كل مظاهرة في صالح البابا ليو التاسع، أو لتأييد النظام الذي
اقترن باسمه كان معناه زيادة الخرق اتساعًا مع النمسا. ولقد استمرت هذه الحركات دون
انقطاع إلى الوقت الذي عُقد فيه تاسع المؤتمرات العلمية، وآخرها في مدينة البندقية
في سنة ١٨٤٧، والذي كان من نتيجة الخطب النارية التي أُلقيت به، أنْ قبضت السلطات
على اثنين من خطبائه؛ «دانييل مانين» و«نيقولو توماسيو».
وصارت في روما الإصلاحات، سيرًا بطيئًا — كما
سبق أنْ ذكرنا — ثم إنها لم تكن كافية، فلم تلبث أن عُزي السبب في ذلك إلى ما كان
لليسوعيين وللحزب الرجعي من نفوذ «سري»، استخدموه لعرقلة الإصلاح وإبطاله؛ ولذلك
فقد علت الهتافات لأول مرة في ١٠ مارس ١٨٤٧؛ للمناداة بحياة البابا ليو التاسع
«وحده!» وعلى نحو ما جرت به العادة، ترتب على هذه «المظاهرة»، أنْ وافق البابا في
٢١ أبريل على تشكيل «مجلس استشاري».
٤٤
ومن المعروف أنَّ «جيوبرتي» في كتابه «الرياسة أو الزعامة» يميل لإنشاء المجالس
الشورية؛ للحد من غلواء الحكومات الأوتقراطية، ولكن «جيوبرتي» أراد في الوقت نفسه
أنْ تكون هذه المجالس الشورية الخطوة الأولى نحو إقامة الحكومة الدستورية، أمَّا
البابا فقد شاء أنْ يكون إنشاء المجلس الاستشاري أقصى ما يستطيع الذهاب إليه في
إصلاحاته، وعلى ذلك فقد استمرت تشتد موجة التذمر، والسخط يومًا بعد يوم، وصار من
المتعذر وقفها.
نهاية عهد «الإصلاحات» وبوادر الثورة
ومن الأخطاء التي ارتكبتها حكومة البابوية، أنها وافقت على تشكيل «حرس مدني» في
٣٠ يونيو ١٨٤٧، تحت تأثير «المعتدلين» بزعامة «دازيجليو»، وبمشورة «روسي» مستشار
البابا الذي أراد كسب «المعتدلين»، وذلك بالرغم من احتجاج الوزير كردينال جيتزي Cizzi، الذي كان معتبرًا زعيم الكنسيين
الأحرار، والذي كان أحد المرشحين (المحبوبين من الشعب) لكرسي البابوية.
ولما كان قد قرب موعد الذكرى الأولى «لإعلان العفو العام»، فقد استعد الأهلون
لإحيائها بحماس عظيم، حتى حدث فجأة أنْ تطايرت الشائعات عن وجود اتفاق سري بين
النمسا، والكرادلة المعارضين واليسوعيين، وبعض سفاكي الدماء من رجال الشرطة القدامي
أيام البابا السابق جريجوري السادس عشر؛ لإثارة الاضطرابات في إيطاليا الوسطى، وذلك
حتى تتذرع النمسا بهذه الاضطرابات؛ للتدخل والقضاء بضربة قاصمة على «نظام الإصلاح»
الذي اعتبرته «ثورة» جامحة.
وبمجرد أنْ بلغت الشائعات الزعيم الشعبي «شيشيروكيو» — أنجليو برونتي — بادر بوقف
استعدادات الاحتفال، وألقى القبض على كبار رجال «المعارضة»، وبقدر استطاعته زود
«الحرس المدني» بالأسلحة، وأصرَّ على طرد حاكم روما، وإنشاء هيئة قضائية للتحقيق،
وكتب «جيوبرتي» في كراسة عن هذا الموضوع: «وإذا ازدهت روما القديمة بخطيبها
شيشيرون، فإنه ليحق لروما الحديثة أنْ تفخر هي الأخرى بخطيبها شيشيروكيو!» ومع أنَّ
كثيرين يعتقدون أنَّ «شيشيروكيو» استطاع إنقاذ روما من هذه المؤامرة، فإن المؤرخين
الكنسيين ينفون هذا الزعم نفيًا قاطعًا، وفي رأي فريق من هؤلاء أنَّ «المؤامرة» لم
يكن لها وجود إلَّا في أخيلة الجماهير، ويعزو فريق آخر السبب إلى مجرد الرغبة في
مهاجمة «الرجعيين» وهكذا، ومع ذلك فهناك حقيقتان تدعمان وجود المؤامرة؛ الأولى:
قيام حركات رجعية في وقت واحد في عدد من المدن الإيطالية لا تقل عن عشرة، والثانية:
احتلال قسم من «فِرَّارة» فجأة بقوات نمسوية يوم ١٧ يوليو ١٨٤٧. ولقد سبق هذا
الاحتلال أنْ تقدمت النمسا على لسان وزيرها «مترنخ» بغرض تدخلها المسلح. وقد أبلغ
«مترنخ» هذا العرض إلى السفير البابوي في فينا، ثم أبلغه ثانية الوزير النمسوي لدى
روما؛ الكونت لوتزو Lutzow إلى الكردينال «جيتزي»،
فلما رفضت روما هذه العروض عمد «مترنخ» إلى تحريك الفتن والاضطرابات في إيطاليا
الوسطى؛ كي يجد بسببها ذريعة للتدخل المسلح، وإذا قامت الاضطرابات، صار من المنتظر
إمَّا أنْ يطلب البابا نفسه «تدخل» النمسا، ومن المحتمل أنْ يقضي التدخل عندئذٍ إلى
القضاء نهائيًّا على الحركة برمتها، بدعوى ضرورة إعادة النظام إلى الأملاك البابوية
وإيطاليا، وإمَّا أنْ يتعذر استمالة البابا لدعوة النمسويين للتدخل، وعندئذٍ يكفي
غزو واحتلال «فِرَّارَة»؛ لاستثارة الشعور في إيطاليا، ولجعل وقوع الحرب في النهاية
أمرًا لا مفر منه؛ ولذلك يرى كثيرون أنَّ هناك ما يدعو للاعتقاد بوجود هذه المؤامرة
الرومانية «العظيمة»، ولو أنها لم تكن تتعدى مرحلة التشكيل الأولى.
وأيًّا ما كان الأمر، فقد نجح «مترنخ» نجاحًا تامًّا في إدراك غايته الثانية، من
حيث إنَّ احتلاله المفاجئ «لفرارة» في ١٧ يوليو ١٨٤٧ قد أجبر إيطاليا ولما تستكمل
استعدادتها على «بدء العمل»، أمَّا احتلال «فرارة»، إلى جانب الثورة التي حدثت في
«بلرمو» في صقلية بعد ذلك (في ١٢ يناير ١٨٤٨)، وهي الثورة التي اختتم بها «عهد
الإصلاحات» في إيطاليا، وافتتح بها «عهد الدساتير»؛ أي استصدار الدساتير في
الدويلات والإمارات المختلفة؛ فإنهما يحددان بداية الثورة التي اشتعلت سنة ١٨٤٨ في
إيطاليا.
ويؤكد المؤرخون من الأحرار والجمهوريين أنَّ البابا بيوس التاسع كان على اتفاق خفي
مع «مترنخ» في هذه الآونة، وذلك «تأكيد» تعوزه الأدلة، بل إنَّ هناك ما يدعو إلى
الجزم بأن العكس كان صحيحًا، فالثابت أنَّ بيوس التاسع احتج لدى فينا على احتلال
فرارة، وهي من الأملاك البابوية (على الحدود بين فينيشيا ورومانا)، واضطر «مترنخ»
إلى التسليم بحق البابا في هذا الاحتجاج، ولو كان هناك اتفاق سري بين الرجلين، لما
تردد «مترنخ» لحظة واحدة في إذاعته لتبرير الاحتلال، بل إنَّ «مترنخ» لم يلبث أنْ
كرَّر مظاهراته العسكريَّة ضد «فرارة» يوم ١٧ أغسطس ١٨٤٧، وعاد بيوس التاسع فكرَّر
هو الآخر احتجاجاته مرة ثانية، ومع أنَّ النمسا احتفظت بحقها في بحث المسألة من
الناحية القانونية، فقد اضطرت إلى إخلاء المدينة وبقيت تحتل قلعة فرارة وحسب، (وفق
نصوص معاهدات سنة ١٨١٥)، ثم إنَّ «مترنخ» بدلًا من أنْ يعقد تفاهمًا أو تحالفًا
سريًّا مع البابا وقتئذٍ راح يصفه في رسائله الخاصة، بأنه من الماسونيين (البنائين
الأحرار) ومن الكاربوناريين، والرجل الذي لا يدري غير السماء كيف أمكن انتخابه
لكرسي البابوية؟!
لقد وضع «مترنخ» خططه لمواجهة الثورة والحرب في إيطاليا، وأينعت هذه الخطط ثمارها،
وتهيَّأ «مترنخ» للتدخل وهو مطمئن إلى تفوقه العسكري، وإلى أنَّ الموقف السياسي في
أوروبا سوف يطلق يده في إيطاليا، فقد سبق أنْ أشرنا إلى انقطاع العلاقات بين فرنسا
وإنجلترة، وانضمام الأولى إلى النمسا؛ خوفًا من العزلة وعجزها لذلك عن المضي في
تشجيع حركة الإصلاح في إيطاليا حتى لا تغضب حليفتها الجديدة، ومع أنَّ إنجلترة
شجَّعت الإصلاح، حيث قد اضطرها قطع الصلات مع فرنسا إلى القيام بدور «الدفاع عن
الحرية»، الذي كانت فرنسا قد ورثته عن الثورة الفرنسية، وصارت لذلك تشجع البابا
وسائر الحكام الطليان على المضي في طريق الإصلاح، وتتفاوض مع الحكومة البابوية،
وأوفدت إليها أحد رجالها؛ لورد مينتو Minto لهذه
الغاية، فقد أوضح «مينتو» للبابا أنَّ إنجلترة لن تحرك إصبعًا لمساعدة البابا أو
غيره من الحكام والأمراء، إذا تدهورت «الإصلاحات» إلى حركة ثورية ضد النمسا، أمَّا
عن بروسيا والروسيا، فقد كانتا وعلى نحو ما هو منتظر منهما إلى جانب النمسا، وسرهما
كثيرًا أنْ تريا الاستعدادات تجري في النمسا؛ لإخماد الثورة التي يوشك بركانها على
الانفجار في إيطاليا، وهكذا أطلقت يدا مترنخ وصار في صالحه العمل بكل سرعة وعدم
تفويت الفرصة، فكان ذلك منشأ «المؤامرة الرومانية»، واحتلال فرارة المفاجئ.
ولا جدال في أنَّ هذين الحدثين؛ المؤامرة واحتلال فرارة، قد زادا من محبة الشعب
للبابا بيوس التاسع، ولا جدال كذلك في أنهما قد زادا من كراهية هذا الشعب وعدائه
للنمسا، فوجَّه «مازيني» في ٨ سبتمبر ١٨٤٧ إلى البابا دعوة فريدة من نوعها، تعيد
للأذهان رسالته إلى شارل ألبرت في سنة ١٨٣١، فطلب من البابا الآن أنْ يتولى صنع
وحدة إيطاليا، وأنْ يتولى كذلك إصلاح الكنيسة. وفي فلورنسة؛ ظهرت الرغبة في إنشاء
«حرس مدني»، وقوبلت بالرفض من جانب حكومتها تحت ضغط من النمسا، فقامت الاضطرابات في
ليقورنة (ليجهورن) — اشترك فيها الكاتب الروائي «جويراتزي» — وأُرغمت الحكومة على
إجابة هذا الطلب، ثم لم يلبث الأحرار في ليقورنة أنْ راحوا يطالبون بالدستور،
وتشكَّلت في هذا الوقت أول وزارة من الأحرار في تسكانيا برياسة الماركيز
كوزيمو ريدولفي Cosimo Ridolfi، وفي بيدمنت
نشطت الرغبة في العمل الإيجابي داخل «المؤتمر الزراعي»، وقرأ سكرتير الملك الخاص في
اجتماع حصل في بلدة كاسال Casale من أعمال
مونتفرات Montferrat رسالة من الملك بشأن
احتلال «فرارة» كانت بمثابة النداء للحرب، ولقيت الرسالة بهذا المعنى كل ترحيب في
حماس وطني شديد في «تورين» و«جنوه»، وفي كل مكان في بيدمنت، ووجد الملك شارل ألبرت
— «الملك المذبذب» والذي يدور مع الأهواء «كدوارة الريح» — نفسه في إحدى دوامات
التردد الملازم له، فهو مصمم ولا شك على الحرب، ولكنه يدرك أنَّ دعوة مجلس نيابي
(دستوري) يجب أنْ يسبق هذه الحرب، وأنْ يمهد لدخولها، وخشي أنْ تؤدي هذه الخطوة
«الدستوريَّة» إلى ذيوع الفوضى، وانتشار الاضطرابات في المملكة، وعلى ذلك فقد صار
يجنح للسلام في اللحظة التي تهيَّأت فيها جميع الأسباب لنشوب الحرب مع النمسا، ولكن
كان قد سبق السيف العزل، ولم يعد هناك من الآن فصاعدًا أي مجال للتراجع، أمَّا
السبب في ذلك فقد كان السخط، وشعور الناس الذين سيطروا على نفوس الناس في لمبارديا
فينيشيا من جراء سياسة القمع، والبطش المتطرفة التي اتبعتها النمسا في هذه المملكة.
ولقد كانت هذه سياسة في رأي كثير من المؤرخين، أُرغمت النمسا عليها إرغامًا، حيث
وجد النمسويون أنفسهم منساقين انسياقًا إلى اتباعها، مثلما وجدت الدويلات والإمارات
الإيطالية أنها منساقة انسياقًا كذلك إلى الزجِّ بأنفسها في «دوامة» الإصلاحات على
المبادئ الحرَّة، مع ما يترتب حتمًا على هذه الإصلاحات من نتائج خطيرة، هي الثورة
والحرب.
ذلك بأن الحركة — حركة الإصلاح — التي كان بدأها البابا سرعان ما صارت أصداؤها
تتجاوب في كل أنحاء إيطاليا، ثم أفضت إلى نتائج ذات أهمية بالغة في عدد من الحالات
المعينة، وخصوصًا في «مملكة الصقليتين» — أو نابولي — حيث كانت «الثورات الماضية»
وثورات ١٨٢٠ بنوع خاص، قد خلَّفت آثارها في صورة سلسلة غير منقطعة من المؤامرات
والثورات، وتعود أهل «الصقليتين» على حياة المؤامرة والتمرد والعصيان هذه، ولا شك
أنَّ سوء الحكم والإدارة البالغ في مملكة نابولي، كان السبب المباشر والرئيسي لها،
ولقد حدث في شهر يوليو ١٨٤٧ أن نشر أحد شباب المحامين لويجي ستمبريني
Settembrini ما أسماه «احتجاج شعب الصقليتين»
٤٥ وكان اتهامًا فضح صاحبه فظائع حكم «آل بربون» في نابولي وصقلية، كما
دلَّ على أنَّ أهل «الصقليتين» مصممون على العمل كقسم من الحركة العامة في إيطاليا
وفي نطاقها، وفي «احتجاجه» دعا «ستمبريني» إلى «حمل السلاح» كالعلاج الوحيد لإنهاء
الفوضى وسوء الحكم من البلاد. وعبثًا حاولت الحكومة وقف خطر الثورة الداهم بتخفيف
الضرائب، وبذل الوعود إلخ؛ لأن «الاحتجاج» الذي نشره «ستمبريني» إنما كان يعبر عن
شعور عام بالسخط والتذمر والغضب، بل إنَّ دعوته للثورة لم تلبث أنْ وجدت صدى في
جهات عدة، فقامت الثورة في أغسطس ١٨٤٧ في «مسينا» بصقلية، وفي «ريجيو» بإقليم
كلابريا ثم في نابول، ولكن قُضي على هذه الثورات سريعًا، ونُظمت بدلًا منها
«المظاهرات» الصاخبة المستمرة من نمط المظاهرات التي أرغمت في روما البابا بيوس،
وفي فلورنسة حاكمها ليوبولد الثاني، على قبول الإصلاح والتي كان من المتوقع كذلك أن
تخيف فردنند الثاني ملك نابولي وترغمه هو الآخر على الإصلاح.
وبدا كأنما الخوف قد صار يملك على الملك لبه فعلًا، وبخاصة عندما انهالت عليه
الاحتجاجات التي نشرتها الصحف ضده في تسكانيا وروما، ثم بعث إليه أحرار بيدمنت
وروما «عريضة» يطالبونه فيها بأن يحذو حذو الحكام الإيطاليين الآخرين، والذين أخذوا
بمبادئ الإصلاح، وقد وقَّع على هذه «العريضة» كوكبة من الزعماء الأحرار؛ كاميلو دي
كافور، وسيلفيوبيلليكو، وكارلو الفييري دي سوستجنو، وميشيل أنجلو قاطاني
دي سيرمونيتا Caetani Di Sermoneta، ومع ذلك
فقد أسفرت هذه العريضة عن شيء واحد فقط؛ طرد أسوأ وزراء الملك، وتعيين نفر من ذوي
السمعة الحسنة في مكانهم.
ولقد اختار الصقليون هذا الوقت للانفصال كلية عن الثوريين في نابولي، وقرروا
الاستقلال بحركتهم، ومن الغريب أنهم بدءوا «ثورتهم» بإعلان أنهم قد حددوا يوم
١٢ يناير ١٨٤٨ لقيام هذه الثورة.
وإزاء هذه الاضطرابات المتزايدة والانحدار السريع في طريق الثورة، كان لا مناص من
أنْ يحدد البابا موقفه من هذه الأحداث في وضوح، ولقد فعل بيوس التاسع ذلك عندما صار
يحتج بكل شدة ضد الحرب التي لا يريدها بحالٍ من الأحوال ضد النمسا، ويؤكد أنَّ
إنشاء «المجلس الاستشاري» هو أقصى ما يمكن أنْ تبلغه إصلاحاته الداخلية، ولكن
احتجاجاته وتأكيداته ذهبت سدًى؛ لذيوع الاعتقاد أنَّ البابا سوف يرضخ دائمًا لمنطق
الإقناع، مهما تنوعت وسائله، ولضغط الظروف والحوادث، ولقد افتتح فعلًا «المجلس
الاستشاري» قبل نهاية العام (١٨٤٧)، ونال هذا المجلس من ضروب الدعاية والإعلان
شيئًا كثيرًا؛ لإقناع الناس بأنه «الحكومة» الفعلية، وبأنه «برلمان» حقيقي، وتأسيس
«مجلس البلدية» في روما على قاعدة انتخابية واسعة، وانبرى هذا المجلس يطالب
«بالدستور» وقامت المظاهرات، وَأُعِدَّت برامج الإصلاح، والتي كان من بين المطالب
التي نادت بها؛ طرد اليسوعيين الذين تزايد السخط عليهم، وتَحَيَّرَ البابا أي الطرق
يسلكها؛ الاستجابة لمطالب الشعب، أو الاستماع لنصح الرجعيين، وتحذيرهم له من
الأخطار التي قد تتهدد العقيدة والدين؛ نتيجة المضي في «الإصلاحات» التي يريدها
الشعب والأحرار.
وكان عندئذٍ أنْ تمكنت النمسا يومي ٢، ٣ يناير ١٨٤٨ من إخماد الاضطرابات التي كانت
حصلت في ميلان وغيرها من المدن في لمبارديا، وذلك بأن أوقفت مذبحة فظيعة بالمواطنين
العزل من السلاح، الحدث الذي أثار موجة من الغضب عارمة اجتاحت كل أنحاء إيطاليا،
ولقد سجل «دازيجليو» هذا الشعور المليء بالألم والحزن والغضب في كتيبه عن «النضال
والكفاح في لمبارديا»،
٤٦ أمَّا في روما فقد أُقيم «مأتم» لضحايا البطش النمسوي زاد النار
المشتعلة في النفوس ضد النمسا تأججًا وضرامًا.
ثورة ١٨٤٨
وتعين الثورة التي حُدِّد لقيامها في «بليرمو» بصقلية يوم ١٢ يناير ١٨٤٨ نهاية عهد
«الإصلاحات»، كما أنها تعين — كما ذكرنا — بداية عهد الثورة في إيطاليا، وفي بليرمو
بدأت الثورة فعلًا يوم ١٢ يناير، ولم يأتِ يوم ٢٧ يناير حتى كانت قد نجحت نجاحًا
كاملًا، وهزم الثوار القوات المرسلة من نابولي، وتحرَّرت الجزيرة بأجمعها ما عدا
قلعة مسينا، وَقَبِلَ الملك المفاوضة مع الثوار الذين أعلنوا «دستور سنة ١٨١٢»
٤٧ وشكَّلوا حكومة مؤقتة، وشرع البرلمان في ١٨ أبريل يبحث قرارًا بخلع
أسرة بربون من الحكم في صقلية.
وكانت «العروض» التي قدمها الملك إلى شعبه في صقلية؛ أي منحهم دستورًا، كان قد
اضطر قبل ذلك «لتقديمها» إلى شعبه في نابولي، تحت ضغط حوادث الثورة ذاتها في صقلية،
والمظاهرات المستمرة في نابولي، فأصدر قرارًا في ٢٩ يناير ١٨٤٨ بالقواعد التي يقوم
عليها «الدستور»، فكان فردنند الثاني أول حاكم في إيطاليا تنازل عن حقوق دستورية
لشعبه.
ويبدو أنَّ ملك نابولي أراد بهذه الخطوة أنْ يدفع دفعًا «حركة الإصلاح»، التي لم
يكن يستهدف الملوك والأمراء منها سوى مجرد الإصلاح المادي والاجتماعي وحسب، كما
أراد أنْ يعاقب البابا بيوس التاسع على «الارتباك» الذي سببه بمشروعاته الإصلاحية،
فسوف يجد البابا نفسه مضطرًا لأن يحذو الآن حذو ملك نابولي، فيمنح هو الآخر شعبه
«دستورًا». وسوف يجد الحكام الإيطاليون الآخرون أنهم مرغمون أيضًا على فعل ذلك، حتى
أولئك الذين يستندون على مظاهرة النمسا لهم. ولقد أسفرت التجربة الدستورية في
نابولي عن نتيجة عجيبة، عندما أدى منح الحقوق الدستورية الواسعة الأهلين الذين
عاشوا أجيالًا طويلة في ظل الضغط والاستبداد الحكومي، أدى إلى دفع البلاد فجأة ودون
سابق إنذار إلى هوة سحيقة من الفوضى، عجزت عن انتشال البلاد منها وزارات الأحرار
الثلاث التي تشكَّلت في أثر بعضها بعضًا، خلال المائة يوم التي تلت استعداد هذا
الدستور في نابولي.
وصح ما توقعه ملك نابولي، من حيث إن منحه الدستور لشعبه سوف يضغط على أيدي غراندوق
تسكانيا «ليوبولد الثاني»، والبابا بيوس التاسع، ولكن في بيدمنت؛ وصل شارل ألبرت
بعد تردد طويل إلى قرار مستقل، فهو قد أدرك أنَّ الحرب لا محالة واقعة مع النمسا،
واعتقد أنه لن ينجُ منها إلَّا إذا استمال إليه الأحرار في بيدمنت، وكان هؤلاء
بمبادئهم الحرَّة قوة يعتد بها، فأذاع بيانًا بتاريخ ٨ فبراير ١٨٤٨، يعلن فيه قواعد
الدستور Statuto الذي أراده لشعبه، ثم شكَّل
وزارة جديدة برياسة «سيزار بالبو»، ولم يُنشر البيان رسميًّا إلَّا يوم ٥ مارس. وفي
١٧ فبراير، أُذيع دستور Statuto كذلك في تسكانيا،
وحاول البابا التهرب من إعلان الدستور في أملاكه، فوجَّه خطابًا بابويًّا لأتباعه
في ١٠ فبراير، يطلب فيه من الله أنْ «يبارك إيطاليا»، ثم خطب في اليوم التالي
الجماهير من شرفة قصر الكويرينال في روما Quirinal،
ومع أنه في كل مرة، قد أوضح تمامًا أنه لن يمنح شعبه دستورًا، ولن يطرد اليسوعيين،
ولن يدخل في حرب مع النمسا، فقد تناسى الناس كل ما ذكره البابا ما عدا «مباركة
إيطاليا»، وصار يتنازع البابا الحذر من خطورة الأحداث التي تكاد تعصف بالبلاد
وقتئذٍ، هذا من ناحية، ثم من ناحية أخرى؛ التأثر بالحماس الشعبي الذي كان له فعل
السحر في نفسه. وأخيرًا لم يلبث أنْ وافق في ١٠ مارس على تشكيل وزارة كل أعضائها
تقريبًا من العلمانيين، كان منهم: ماركو
مينجيتي Minchetti، أحد متطرفي المعتدلين من إقليم رومانا، والكونت «جوزيبي
باسوليني» صديق البابا الذي عرفنا الكثير عنه، ثم جوزيبي جاليتي Galletti من رجال السياسة، وفي ١٤ مارس أصدر البابا
«الدستور».
غير أنَّ الذين وضعوا هذا الدستور كوَّنوا لجنة من الكنسيين، قاموا بهذا العمل تحت
ستار من الكتمان والسرية، فلم تعلم شيئًا عنه الوزارة التي كان واجبها تنفيذ هذا
الدستور، الذي كان عبارة عن مجموعة متضاربة ومختلطة من السلطات التنفيذية
والتشريعية، وتلقي بعضها بعضًا، لم يسَع مستشار البابا «بلليجر ينوروسي» عندما وقعت
عيناه على هذا الدستور إلَّا أنْ يصارح بيوس التاسع برأيه فيه، فوصفه بأنه تقرير
«للحرب بين صاحب السلطات وبين الشعب في أشكال قانونية»، وكان نقدًا صريحًا وجديرًا
بصاحبه ذلك الذي أظهر خطر هذا الدستور وعجزه، ولكن أحدًا وسط الحماس العظيم الذي
رحَّب به الشعب صدور الدستور، لم يلقِ بالًا لذلك.
ولقد كان في أثناء ذلك كله أنْ ذاع نبأ الثورة التي طوحت بعرش لويس فيليب في فرنسا
(٢٤ فبراير ١٨٤٨)، فقوبل هذا النبأ بفرح وحماس عظيمين في إيطاليا، وفي وسط هذا
الحماس العظيم كذلك الذي رحَّب به الإيطاليون بهذه الأخبار، لم ينتبه أحد للحقيقة
التي كان يجب تمعنها، وهي أنَّ الدساتير الإيطالية الأربعة بما في ذلك الدستور الذي
أصدره البابا، كانت جميعها بدرجات قد تكبر أو تقل صورًا دقيقة للدستور الفرنسي
الصادر في سنة ١٨٣٠، والذي قامت عليه «ملكية بوكيو» في فرنسا، وهي الملكية التي
تقوضت عروشها الآن، ولم يستطع «دستورها» الصمود في وجه «الثورة»، ولم يكن للناحية
الاشتراكية في ثورة فبراير ١٨٤٨ في فرنسا، ما يقابلها في الثورة التي قامت في
إيطاليا، أو أن نظيرتها في الثورة الإيطالية كانت ضئيلة، ولكن الذي لا شك فيه أنَّ
الناحية السياسية لثورة باريس، كان أثرها عظيمًا في تقوية آمال الإيطاليين
الراديكاليين المتطرفين، وتشجعيهم على المضي في نشاطهم، والحقيقة أنَّ الثورة
الباريسية كانت ذات أثر مباشر، أقرب في كل من ألمانيا والنمسا، فلم تمضِ أيام
معدودات حتى قامت يوم ١٣ مارس ١٨٤٨ في «فينا» نفسها (المدينة الأمينة)، التي اشتهرت
بولائها دائمًا للإمبراطورية ولآل هابسبرج! وهكذا صارت تترى في أثر بعضها بعضًا على
ميلان والبندقية؛ أنباء الثورة في صقلية، وأنباء إعلان الدستور في أربع دويلات
إيطاليا، وأنباء الثورة «الجمهورية» في باريس، وأخيرًا في يوم ١٧ مارس أنباء الثورة
في فينا وسقوط «مترنخ»، وفراره من النمسا.
أمَّا نبأ سقوط مترنخ وفراره، فقد كان الشرارة التي أوقدت العاصفة، فقد تهيَّأ
الإيطاليون من مدة طويلة لإشعال هذه العاصفة واستقبالها، فما لبثوا حتى هبوا الآن
هبة واحدة، مدفوعين بشعور وطني متحد، أدهش ليس النمسا وحدها وحسب، بل وكذلك
الثوريين الذي رسخ في نفوسهم إيمانهم بالثورة. وأمام هذا الخطر المفاجئ عجزت
الحكومة في لمبارديا فينيشيا عن فعل شيء، فقامت الثورة في ميلان في ١٨ مارس، وفي
مساء ٢٢ منه؛ اضطر الماريشال فون رادتزكي Radetzky
(١٧٦٦–١٨٥٨) قائد القوات النمسوية، الذي يبلغ الثمانين من عمره، وخير ممثل للصرامة
المتوحشة التي تطغى على الروح العسكرية في الجنس النمسوي وقتئذٍ، اضطر إلى مغادرة
المدينة، وذلك بعد قتال عنيف استمر طيلة خمسة أيام في الشوارع التي أُقيمت فيها
المتاريس؛ لمقاومة حوالي ١٨–٢٠ ألفًا من العسكر النمسوي الذين أصمهم دق النواقيس،
وأعياهم التعب والجوع، وأفقدهم الثقة في نفوسهم؛ صمود خصومهم وعنادهم، فاستولى
اليأس على قلوبهم. وأثناء هذه الأيام الخمسة
المجيدة Cinque Giorante، لم يكن الجيش النمسوي يواجه مجرد جمهور من الجماهير، بل
إنَّ «أمة» بأسرها قد انبرت لنزاله، فكل طبقات المجتمع كانت هناك تقاتل النمسويين،
وقد اتحدت قلوبهم على تحقيق غرض واحد؛ إمَّا تحرير الوطن، وإمَّا الموت فداءً له.
ولقد كان هذا العزم الثابت هو الذي كفل لهم النجاح في هذه المعركة، ولقد خشي
النمسويون أنْ تمتد الثورة إلى الريف، فتنتشر في أرجاء المملكة، ثم إنهم خشوا أنْ
تعمد بيدمنت إلى معاونة الثوار في ميلان، ولما كانوا لا يعلمون عن يقين تطور
الأحداث في فينا، فقد آثر «رادتزكي» الانسحاب إلى قاعدته الاستراتيجية، والمعروفة
باسم المسطح ذي الأضلاع الأربعة Quadrilateral،
وتلك منطقة تقع بين الجبل والبحر، فيحدها من جانب نهر الأديج، وقلعتاه في
فيرونا Verona، وليجنانو Legnano، ويحدها من الجانب الآخر نهر المنشيو Mincio (أحد فروع ألبو)، وقلعتاه مانتوا Mantua، وبسكييرا Pescbiera،
وعزم «رادتزكي» على التحصن في «المربع».
وفي ٢٢ مارس ثارت البندقية، وكانت قد وصلتها منذ ١٧ مارس أنباء ثورة فينا، فتأخرت
الثورة بالبندقية حوالي خمسة أيام، ومع ذلك فقد انتهز الأهلون فرصة الفزع الذي أصاب
الحكومة، والشغل الذي أدرك السلطات العسكرية والمدنية عند ذيوع أخبار الثورة في
العاصمة النمسوية «فينا»، فهاجم الأهلون السجون؛ ليفكوا أسار «دانييل مانين»
و«نيكولو توماسيو»، وقد نصحهم هذان «بالاعتدال والحكمة»، ولكن اشتدت فورة الشعور
العام في اليوم التالي (١٨ مارس)، ورغبت «الحكومة» في مجاراة الأهلين؛ بسبب الأحداث
الأخيرة في فينا، فأجازت إنشاء نوع من «الحرس المدني» للمحافظة على النظام، وانخرط
المتطوعون بأعداد عظيمة في سلك هذا الحرس المدني في يومي ٢٠، ٢١ مارس، وكانت قد
وصلت الأخبار الكاملة منذ ١٩ مارس عن إذعان حكومة فينا وتسلمها لمطالب الثوار،
وقوبلت هذه الأنباء بالمظاهرات في البندقية، ومحاولة إعادة النظام على أساس
الاستجابة لمطالب الثوار المشابهة لمطالب زملائهم في فينا، فاعتقدت خطأ السلطات
العسكريَّة والمدنيَّة أنَّ من الممكن استرضاء البنادقة، والوصول إلى حل سلمي معهم،
على أنَّ «الصلح والتسوية السلمية»، كانا بعيدين كل البعد عن تفكير «مانين» والثوار
في البندقية، الذين كان غرضهم الاستحواذ على ترسانة أو مخزن الأسلحة والبارود،
وإعلان الجمهورية: جمهورية القديس
مرقس Saint-Mark، وبالفعل استولى «مانين» على رأس الثوار و«الحرس المدني» على
«الترسانة» يوم ٢٢ مارس، واضطر حاكم البندقية وقائد القوات النمسوية بها إلى
المفاوضة مع زعيم الثورة، وأُخليت المدينة والقلاع المجاورة من النمسويين، ومرة
أخرى أُعلن تأسيس «جمهورية سان مارك» أو القديس مرقس.
ومع أنَّ مبعوثي الحكومة المؤقتة في ميلان، وهي التي تأسست — كما عرفنا — أثناء
«الأيام الخمسة المجيدة»، كانوا ألحوا على شارل ألبرت بالتدخل في لمبارديا فورًا
ودون أي إمهال، فقد كان في يوم ٢٢ مارس فقط أنْ قرَّر شارل ألبرت — وبناءً على نصح
وزرائه له — التدخل والحرب مع النمسا، فعبرت طلائع جيشه (خمسة آلاف مقاتل) نهر
«تيشينو» يوم ٢٥ مارس متجهة صوب ميلان، ولكن الملك لم يصل بافيا Pavia إلَّا يوم ٢٩ مارس؛ أي بعد انقضاء ستة أيام من تاريخ
انسحاب «رادتزكي» من ميلان، الأمر الذي جعل ممكنًا أنْ يعيد القائد النمسوي تنظيم
جيشه، وبلغت قوات شارل ألبرت (٢٣ ألفًا)، فلم يكن يفسر بطء حركته سوى نقص استعدادته
لدرجة ما، والتأخير الذي صحب عملياته، ثم قبل كل شيء «تردد» الملك نفسه، وعجزه عن
اتخاذ قرارات سريعة حاسمة، وذلك بالإضافة إلى مفاجأة الأحداث المتتابعة له، وواضح
أنه كان يواجه النمسا بمفرده، في حين أنَّ النمسا بالرغم من عجزها الداخلي، لم تكن
بحالٍ من الأحوال منفردة أو «معزولة» في أوروبا.
فقد أشارت إنجلترة وفرنسا على شارل ألبرت بتجنب التدخل في شئون لمبارديا فينيشيا،
والتزام موقف الحياد، ولكن عدم التدخل أو التزام الحياد كانا كلاهما أمرًا عسيرًا
من المتعذر قبوله، في وقت «تحركت» فيه بيدمنت بأجمعها، فكان يتدفق المتطوعون من كل
حدب وصوب، يقصدون خط القتال زرافات ووحدانًا، ونشر وقتئذ «كاميلو دي كافور» في
صحيفته البعث Risor Gimento مقاله المشهور الذي
افتتحه بقوله: «لقد دقت ساعة القدر لملكية سردينيا «بيدمنت»، فطريق واحد فقط ذلك
الذي بقي مفتوحًا أمامها، هو طريق الحرب فورًا.» ومما لا شك فيه أنَّ تردد شارل
ألبرت والأيام التي انقضت منذ قيام الثورة في ميلان، قبل أنْ يقرِّر الحرب، ثم
التأخير الذي لازم تحركات قواته، كل ذلك من الناحيتين العسكريَّة والسياسيَّة كان
خطأً جسيمًا.
فقد ترتب على امتناع شارل ألبرت عن التدخل؛ حتى يتأكد لديه انتصار الثورة في
ميلان، وانقضاء «خمسة الأيام» المجيدة، أن ساور الشك الثوار في قيمة الاعتماد على
معونة خارجية مسلحة، فلم يعودوا يفرقون بين ما كان عليهم من واجبات أو لهم من حقوق
إزاء ملكية بيدمنت، أو ما كان على هذه من واجبات ولها من حقوق إزاءهم، ثم إنهم لم
يعودوا يعتقدون أنَّ مجيء بيدمنت لنصرتهم أمر ضروري، بعد أنْ ثبت لديهم بفضل هذه
«الأيام الخمسة» المظفرة أنَّ بوسعهم الاعتماد على أنفسهم وحدهم فقط، ولقد كان هذا
الاعتقاد الأخير توهمًا باطلًا، ثم إنَّ الاختلاف القائم بين الأحزاب في ميلان، من
معتدلة وراديكالية متطرفة لم يلبث أنْ زادت حدته، أمَّا الطبقات العليا الفنية
والمثقفة فكانت لا تزال متشبثة بالاتحاد مع بيدمنت، في حين أنَّ الطبقات الأخرى وهي
أكثر عددًا وجعجعة، فكانت تريد الجمهورية، وتعادل الفريقان في قوتهما، وجلس ممثلون
لهما أعضاء في الحكومة المؤقتة، فاتفق الفريقان على حل وسط، هو أنْ يُترك تقرير شكل
الحكومة الجديدة إلى ما بعد الانتهاء من النضال ضد النمسا، وذلك كان قرارًا خاطئًا،
وحلًّا لا جدوى منه؛ لأن تأجيل الفصل في شكل الحكومة بعد انتهاء النضال كان معناه
الإبقاء على الوضع الراهن، مع كل أسباب الضعف التي تعجزه عن مجابهة الموقف، أضف إلى
هذا أنَّ النضال سوف يؤدي عند انتهائه إلى إحدى نتيجتين؛ إمَّا عودة لمبارديا إلى
النمسا، إذا انتصرت هذه الأخيرة في الحرب، وإمَّا انتصار الملكية بزعامة شارل
ألبرت، إذا انهزمت النمسا. وكانت بيدمنت هي الدولة الرئيسية في إيطاليا العليا — أو
الشمالية — على أنَّ المسألة سرعان ما زادت تعقدًا عندما أُعلن تأسيس «جمهورية سان
مارك» في البندقية، فأضاف إعلانها عاملًا جديدًا للتفرقة والانقسام حتى تعدَّدت
الأحزاب وتنوعت، فهناك في ميلان؛ الجمهوريون المازينيون، وفي البندقية كان «مانين»
و«نيقولا توماسيو» من الجمهوريين الفدرائيين، وعمل كلا الفريقين لتنفيذ برامجهما في
حين كان الملك شارل ألبرت المجازف بكل ما لديه في سبيل إيطاليا، هو وحده الذي يملك
القوة التي في وسعها القتال ضد النمسا، وكان كثيرًا جدًّا أنْ يطلب إليه عدم
التفكير في مصالح أسرته مهما قويت رغبته في النضال من أجل استقلال الوطن الإيطالي،
وأنْ يخوض غمار الحرب مع النمسا لمجرد تأسيس جمهورية في ميلان، وأخرى في
البندقية.
ولا شك في أنَّ هذه الانقسامات جعلت الموقف قبل بداية الحرب يبدو قاتمًا، ومع أنَّ
بارما ومودينا، لم تلبثا أنْ اتحدتا مع بيدمنت في التو والساعة ودون أية مقاومة
تقريبًا، فإن هذا الاتحاد لم يكن كافيًا لتعويض بيدمنت عن الضعف الذي يتهددها؛ بسبب
الانقسامات والاتجاهات التي ذكرناها في ميلان والبندقية.
وعندما بدأت الحرب، عظم في تسكانيا حماس الشعب الذي أراد أنْ يخوض غمارها، ووجد
غراندوقها ليوبولد الثاني من المتعذر عليه تجنبها، فاضطر إلى إعلان الحرب يوم ٥
أبريل ١٨٤٧، وأرسل إلى لمبارديا جيشًا من ثلاثة آلاف جندي من النظاميين، ومثلهم من
المتطوعين عبروا نهر البو إلى لمبارديا يوم ١٧ أبريل.
وفي روما كان الموقف فريدًا، من حيث إنَّ الشعب والحكومة يريدان الحرب ضد النمسا،
في حين يقاوم «البابا» هذه الرغبة، وبالرغم من هذه المعارضة، غادر الجنود المتطوعون
روما بين ٢٣، ٣٠ مارس في أعداد عظيمة، صار ينضم إليهم آخرون في طريقهم عبر الولايات
البابوية، صوب نهر البو، ولم تكن الحرب قد أُعلنت رسميًّا، مع أنَّ العمليات كانت
قد بدأت فعلًا، وبقي السفير النمسوي في روما، ولم يغادر مكانه بها، وأمر البابا
الجيش بعدم اجتياز الحدود، وصدر خطاب بابوي في ٣٠ مارس ١٨٤٨، ظهر منه أنَّ البابا
لا يزال يرجو الوصول إلى حل سلمي للمسألة على أساس إنشاء تحالف أو اتحاد من الدول الإيطالية،
٤٨ وكان أخشى ما يخشاه أنْ تؤدي الحرب مع النمسا إلى حدوث انقسام في
ألمانيا ضد الكنيسة الكاثوليكيَّة، وذلك ما كان لا يفتأ يهدد بحدوثه السياسيون،
والكرادلة واليسوعيون ويخيفون البابا منه، فأراد بيوس التاسع أنْ ينفض عن كاهله
مسئولية الحرب، ولكن قائد قواته الجنرال جيوفاني دوراندوا
Giovanni Durando، لم يلبث أنْ أكره البابا على قبول الحرب،
عندما أصدر منشورًا في ٥ أبريل ١٨٤٨، دَبَّجه يراع «دازيجليو»، أعلن فيه حربًا
صليبية ضد العدو الأجنبي «النمسا»، واستشاط البابا غضبًا، ولا شك في أنَّ وزراءه
كانوا متهيئين لاستنكار فعلة «دوراندو»، ولكنهم لم يكن يسعهم تحت ضغط الحماس الشعبي
والرغبة في الحرب مع النمسا، إلَّا أنْ يطلبوا من «دوراندو» أنْ يضع نفسه بقواته
تحت تصرف ملك بيدمنت — شارل ألبرت — أمَّا المتطوعون فكانوا قد بدءوا فعلًا يجتازون
الحدود من تلقاء أنفسهم ودون انتظار لأية أوامر، وفي ٢٥ أبريل عبر «دوراندو» أخيرًا
نهر البو، فوقف بقواته بين أوستيجليا
Ostiglia
وجوفرنولو
Governolo، «وكلاهما على نهر
البو»، وتشكَّل بموقفه هذا، مع القوات التسكانية، ميمنة الجيش الواقف على حصار
«مانتوا»، ولم يطل بالجنرال «دوراندو» المقام بهذا المكان.
فإن النمسا بالرغم من الثورة الداخلية بها، بقيت مصرَّة في عناد على إخماد الثورة
في أملاكها الإيطالية، فأرسلت جيشًا بقيادة نوجنت Nugent؛ لإمداد «رادتزكي» الذي كان محجوزًا بقواته داخل ذلك
«المربع»، الذي كانت «مانتوا» إحدى قلاعه، وعندئذٍ استنجد «مانين» البيدمنتيين،
فأمر شارل ألبرت (٣٠ أبريل) القوات البابوية أنْ تحول دون اتصال جيش «نوجيت» بقوات
«رادتزكي»، ولكن «نوجيت» كان قد استطاع الدخول إلى فينيشيا، والدخول إلى
«أودين» Udine — القريبة من الحدود الشرقية —
وذلك منذ ٢٢ أبريل، ومع أنَّ مقاطعات «فينيشيا» صارت عندئذٍ، وبسبب زحف هذه
الامتدادات النمسوية داخل بلادهم، تؤيد الاتحاد مع بيدمنت، فقد اقترح «مانين»
بالرغم من استنجاده بجيش بيدمنت، والاحتفاظ بمسألة تعيين شكل الحكومة، إلى ما بعد
انتهاء الحرب، مثله في ذلك مثل الجمهوريين المازينيين في ميلان، وأضاف هذا الاقتراح
سببًا جديدًا للتفرقة والانقسام في فينيشيا، وذلك مع العلم بأن هذا الاقتراح ذاته —
كحل وسط — كان قد سبق رفضه في لمبارديا «ميلان» — ومع العلم بأنه كان متعارضًا مع
الرغبة العامة في دوقيات پارما ولوقا ومودينا التي أرادت الاتحاد مع بيدمنت،
ومتعارضًا كذلك مع مطلب الأهلين في تسكانيا والولايات البابوية، ثم إنه كان يتعارض
أخيرًا مع الميول الغريزية نحو الملكية في نابولي، والتي جعلت النابوليتان يتعاركون
مع أهل صقلية «السشليان» بسبب هذه المسألة «الانفصالية» ذاتها.
ولقد كانت النتيجة الواضحة لهذه الخلافات، أنْ فقدت الجماعة المؤيِّدة للاستقلال
القومي قدرًا كبيرًا من القوة، التي كانت هي بلا شك في مسيس الحاجة إليها
وقتئذ.
وفي نابولي تفاقمت الفوضى الضاربة أطنابها بها، والتي تشكلت خلالها ثلاث وزارات من
الأحرار، كانت آخرها برياسة الكونت كارلو
ترويا Carlo troya، وكان «ترويا» يؤيِّد الاشتراك والتعاون في حرب الاستقلال،
ومنذ ٢٩ مارس ١٨٤٨ كان قد ذهب حوالي المائتين متطوعًا إلى خط القتال؛ أشرفت على
جمعهم وتهيأتهم إحدى الأميرات؛ كرستينا
بيلجيويوزو Belgioioso من سيدات ميلان. وفي أبريل؛ أُرسل أسطول إلى بحر
الإدرياتيك، أطلق عليه السيشليان (أهل صقلية) مدافعهم، الأمر الذي عدَّه كثير من
المؤرخين مدعاة خزي وعار لهؤلاء، ولو أنَّ عدد السيشليان الذين اشتركوا كمتطوعين في
حرب التحرير، كان لا يزيد على مائة مقاتل فحسب، أمَّا النابوليتان الذين تهيَّئوا
أصلًا للقتال في شمال إيطاليا، فقد بلغوا (٤٠) ألفًا، لم تلبث أنْ نقصت أعدادهم حتى
صاروا لا يزيدون على (١٤) ألف مقاتل بقيادة السائر القديم الجنرال «جوجليلمو بيبي»،
وفي رأي كثيرين؛ أنَّ هؤلاء بأعدادهم القليلة هذه تعمدوا كذلك التباطؤ بدرجة أنَّ
طلائع صفوفهم لم تصل إلى «بولونا» إلَّا يوم ١٤ مايو.
ولكن في هذه الأنباء؛ كان شارل ألبرت قد زحف يقصد إلى «المربع» الذي احتمى فيه
«رادتزكي»، فمرَّ ببلدتي «بافيا» وكريمونا Cremona، وتجنب المرور بميلان التي يشأ دخولها إلَّا مظفرًا؛ أي بعد
انتصاره في الحرب، وأبدى النمسويون مقاومة ضعيفة على نهر المنشيو، فاتخذ موقعه على
شاطئ النهر الأيسر، حتى إذا حلَّت به الهزيمة استطاع تغطية لمبارديا، وحتى يكون
متصلًا بالقوات النابولتانية والبابوية، والذي كان عليها الزحف صوب نهر البو
الأسفل، فوقف إذن بين قلعتي «مانتوا» «بسكييرا». وفي ٢٠ أبريل وبعد مناوشات بسيطة
شن «رادتزكي» هجومًا على مرتفعات باسترنجو Pastrengo (٣٠ أبريل) ليعيد خط موصلاته مع «بسكييرا»، فحاقت به
الهزيمة، ولكن لم يتعقبه أحد أثناء انسحابه، وفي ٦ مايو زحف من جانبه شارل ألبرت
جنوب «فيرونا»؛ على أمل أنْ يثور أهل فيرونا بمجرد مشاهدتهم الجنود البيدمنيين،
فوصل إلى سانتالوشيا Santalucia على مرأى من
فيرونا، ولكنه صدَّ عن هذه الأخيرة، ولم تثر فيرونا، وأخذ يركز اهتمامه على محاصرة
«بسكييرا».
ولم يكن متطوعو لمبارديا أسعد حالًا من البيدمنتيين في عملياتهم، فقد كانوا قليلي
العدد، وينقصهم النظام، وتعوزهم القيادة الماهرة، وفي مبدأ الأمر كُلِّفوا بالعمل
على نهر المنشيو، على مسيرة البيدمنتيين، ثم ما لبثوا حتى بُعث بهم إلى التيرول؛
ليمولوا دون وصول الإمدادات من النمسا إلى «رادتزكي» في فيرونا، ثم لم يلبثوا أنْ
استُقدموا من هناك إلى برشيا Brescia لإعادة
تنظيمهم من جهة، وللخوف من أنْ يستثير وجودهم في التيرول (الاتحاد الألماني) إلى
التدخل، أمَّا لماذا كان تعاون لمبارديا ضئيل القيمة؛ فسببه الرئيسي أنَّ الاعتقاد
كان يسود ميلان بأن الحرب قد اختُتمت فعلًا بانتصارات «الأيام الخمسة» المجيدة،
وثمة سبب آخر هو الشلل الذي انتاب المسئولين عن جهود الحرب عندما لم يكن معروفًا
بصورة قاطعة الشكل الذي سوف يكون للحكومة في النهاية، وكان الذين عطلوا الوصول إلى
قرار في هذه المسألة هم «المازينيون» و«الجمهوريون» خصوصًا، ولقد قرَّرت الحكومة
المؤقتة في ميلان؛ إزالة هذه العقبة الكأداء من طريق الجهد القومي بأي ثمن، فجمعت
مجلسًا للشعب، عرضت عليه (في ١٢ مايو) مشروع قرار بالاتحاد مع بيدمنت، وافق عليه
هذا المجلس في النهاية في شهر يونيو.
ثم إنَّ البندقية ما لبثت حتى حذت حذو لمبارديا، ولكن بعد صعوبة كبيرة وإضاعة وقت
ثمين؛ بسبب الخطأ الذي ارتكبه «مانين»، فلم تقدم البندقية المعونة الكافية لكسب
الحرب، باعتبار أنَّ القوات البابوية بقيادة «دوراندو» بالاشتراك مع القوات
النابوليتانية، كافية وحدها لهذه المهمة، وذلك في وقت لم تكن قوات نابولي قد اجتازت
بعد نهر البو، وفي حين كان «نوجيت» يزحف صوب نهر تاجليامنتو Tagliamento، واستطاع بعد مقاومة ضئيلة من جانب الأهلين ومتطوعي
البنادقة، احتلال بللونو Belluno يوم ٥ مايو، ثم
إنَّ «نوجيت» أوقع الهزيمة بقوات البابوية وقائدهم «دوراندو» في واقعةكورنودا Cornuda يوم ٩ مايو، ولم يلبث تورن Thurn، وهو القائد الذي خلف «توجنت» أنْ تمكن من
الاتصال بجيش «رادتزكي» عند سان
بونيفازيو San Bonifazio بالقرب من «فيرونا» في ٢٢ مايو.
واعتمد «رادتزكي» على تباطؤ قوات نابولي، وعدم تحركهم لعبور البو، والاتصال
بالقوات البابوية بقيادة «دوراندو» وبجيش بيدمنت، فقرَّر اختراق ميمنة البيدمنتيين
المؤلَّفة من قوات تسكانيا، ثم عبور نهر المنشيو؛ للالتفاف حول البيدمنتيين،
ومهاجمتهم من الخلف، ولكن «رادتزكي» سرعان ما صادف مقاومة شديدة من جانب
التسكانيين، فتعطل زحفه مدة كانت كافية لأن تُمَكِّن البيدمنتيون من العبور إلى
الشاطئ الأيمن لنهر المنشيو، والانتصار على النمسويين في واقعة جوتو Goito في ٣٠ مايو، وكان في هذا اليوم نفسه أيضًا،
أنْ جاءت الأنباء عن سقوط «بسكييرا»، فكان (٣٠ مايو) أمجد أيام الحرب
القومية.
ولكن «رادتزكي» أفاد من انهزاماته أكثر مما أفاد شارل ألبرت من انتصاراته، ففي حين
توقف الأخير، تابع «رادتزكي» عملياته بكل نشاط وهمة، فاستولى على فيشنزا Vicenza في ١٠ يونيو، وفي ١٤ يونيو؛ سقطت
تريفيزو Treviso، وتبعتها «بادوا» في ١٥ منه،
ثم روفيجو Rovigo بعد قليل، وبقيت مدينة البندقية
وحدها ممتنعة على النمسويين في كل فينيشيا.
ولقد تشتتت قوات متطوعي البابوية بعد واقعة «كورنودا»؛ وذلك بسبب هزيمتهم من جهة،
ولأن الفوضى كانت تسود صفوفهم؛ لسوء تنظيمهم ولافتقارهم إلى الروح العسكرية
وللاختلافات الناشبة بين قوادهم ورؤسائهم، وثمة سبب أكبر أهمية لتفرقهم؛ هو أنَّ
البابا بيوس التاسع أذاع منذ ٢٩ أبريل ١٨٤٨ «منشورًا بابويًّا»،
٤٩ ضَمَّنه جوابه على سؤال تقدَّمت به «وزارته» إليه بشأن آرائه عن الحرب،
فندَّد البابا بالحرب، وأعلن استنكاره لها رسميًّا، وأعلن أنه قد صار متخليًّا من
الآن فصاعدًا عن كل عمل من أجل إيطاليا، فكان لهذا «المنشور» أثر مشئوم ليس في روما
وحدها أو في إيطاليا، بل وفي أوروبا عامَّةً، وبدرجة لم يكن البابا نفسه يريدها،
وذاع بين صفوف المتطوعين والجنود النظاميين في الجيش البابوي؛ أنَّ استنكار البابا
للحرب قد حرمهم من حقوق الحرب العادية، وأجاز للنمسا معاملتهم معاملة اللصوص
وَقُطَّاع الطرق الذين يجب إبادتهم، ففقدوا كل شجاعتهم واختل نظام قواتهم، ومع أنَّ
انتصارًا مؤقتًا حصل في «فيشنزا»، ثم انضمام قواتهم إلى جيش شارل ألبرت؛ بسبب إصدار
الوزارة الرومانية قد ساعد على إنعاش روح هؤلاء المعنوية، فقد منع تسليم «فيشنزا»
أخيرًا — كما رأينا — في ١٠ يونيو، أكثر هؤلاء المتطوعين والجنود في الجيش البابوي
من الاشتراك في الحرب بعد ذلك، في حين قصد الباقون إلى مدينة البندقية لاجئين بها،
وكانت البندقية المكان الوحيد في كل فينيشيا الذي لم يسترجع النمسويين سلطاتهم
به.
وفي نابولي شهد يوم ١٥ مايو وهو يوم اجتماع «البرلمان»، بداية الحياة الدستورية في
نابولي ونهايتها معًا، بل ونهاية مساهمتها في «حرب الاستقلال»، ذلك أنَّ الملك كان
قد اعترض على اقتراح باجتماع البرلمان دون أنْ يحلف الأعضاء أي يمين للولاء
للملكية، وأنْ يتخذ «الحرس الأهلي» ثكناته في قلاع نابولي، فقامت المظاهرات وأُقيمت
المتاريس في الشوارع، واصطدمت بالثوار «الآليات السويسرية» التي عُهد إليها بحفظ
النظام، فحصل بين الفريقين اشتباك أدى إلى حدوث مذبحة مروعة، فقرَّر الملك «فردنند
الثاني» تأجيل البرلمان، ثم أمر بحله. وفي ٢٢ مايو؛ صدر الأمر إلى «الجنرال بيبي» —
وكان في بولونا — بالعودة مع جنده إلى نابولي، وطلب من الأميرال دي كوسا Cosa — وكان قد وصل بقواته البحرية ليقف بجوار
أسطول سردينيا أمام تريستا — بمغادرة الإدرياتيك، ولكن «بيبي» وآخرين رفضوا تلبية
هذه الأوامر، واجتازوا — بدلًا من العودة — نهر البو، ودخلوا إلى مدينة البندقية
يوم ١٣ يونيو، ولم يلغِ الملك الدستور مباشرةً، ولكنه عطَّله ولم ينفذه، مما جعله
في الواقع ملغى.
وسرعان ما تولدت «أسطورة» حول حادث ١٥ مايو، فحواها أنَّ الملك وبطانته كانا
المسئولين عن الحوادث التي وقعت في هذا اليوم، من حيث إنهما دبرا «إغراق الدستور
حديث الولادة في حمام من الدم»، وتهيئة الظروف لانتحال المعاذير من أجل استدعاء
القوات المحاربة من خطوط القتال، والتي كانت تشترك في الحرب ضد رغبات الملك
وبطانته، ومع ذلك ففي رأي كثيرون أنَّ المسئول عن هذه الحوادث كانوا؛ الملك،
والشعب، والأحرار، وأنصار الحكم المطلق، والجمعيات السرية، والجنود النظاميين،
والحرس الأهلي، والبلاط، والنواب، وخصوصًا هؤلاء الأخيرين الذين هيَّئوا للملك
الفرصة لتحقيق مآربه؛ بسبب هذرهم وشقشقة لسانهم، وسوء ظنونهم غير المعقولة،
ومناقشاتهم الجوفاء الفارغة، والعنف الذي اتسم به مسلكهم، وذلك كله إلى جانب العجز
عن قمع الثورة في صقلية الذي يكفي وحده سببًا لتمكين الملك من تنفيذ غرضه.
ولقد وجد شارل ألبرت أنه صار يواجه النمسا وحده ومنفردًا، على أثر مروق البابا
بيوس التاسع، وخسارة «فيشنزا»، وتقهقر النابوليتان وهزيمة التسكانيين، وكان معنى
ذلك أنَّ «الاتحاد» أو الفدرائية قد صارت فكرة يستميل تحقيقها بأية صورة من الصور،
ولم يكن للثورة التي قامت في فينا، والتي شجَّعت قيام الثورة في كل مكان من ميلان
والبندقية، أي تأثير على النتيجة النهائية، ولم تبعث المفاوضات التي دارت أثناء
الحرب على الأقل في إمكان الوصول إلى أية نتيجة طيبة، فقد اقترحت النمسا ووزير
خارجيتها وزنبرج Wessenberg في ١٣ يونيو على
الحكومة المؤقتة في ميلان ابتياع لمبارديا منفصلة عن فينيشيا، ولكن هذا العرض لم
يُقبل؛ لأن الاتحاد مع بيدمنت كان قد أُعلن وقتئذ رسميًّا، ثم كررت النمسا المحاولة
لحسم المشكلة على أساس إنشاء مملكة تتألَّف من لمبارديا فينيشيا، ودوقيات بارما
ولوقا ومودينا متحدة مع النمسا برباط التاج الشخصي وحده فقط، ووسطت النمسا إنجلترة
في المسألة، وقبل الإنجليز الوساطة، ولكن لم يسفر هذا المشروع عن شيء؛ لأن البحث
فيه لم يبدأ في فينا إلَّا في الوقت الذي كان «رادتزكي» يعد العدة لهجومه الثاني
على شارل ألبرت، وتغلبت في فينا جماعة العسكريين الذين أرادوا الحرب، والذين صمموا
على إزالة العقبة التي بدا أنها تقف في طريقهم، وذلك بإجبار الإمبراطور «الطيب»
فردنند على التنازل عن العرش (٢ ديسمبر ١٨٤٨)، لصالح الإمبراطور فرنسوا جوزيف، الذي
تلقى دروسه السياسية والعسكرية الأولى في تجربة الحملة الإيطالية، ثم تدخلت فرنسا —
وإنْ كان تدخلًا فاترًا — في هذه المباحثات، وغرضها الحيلولة دون تشكيل ملكية قوية
في إيطاليا العليا (الشمالية)، وأنْ تنال تعويضًا إذا حصل ذلك باستيلائها على نيس
وسافوي، من الدولة الجديدة.
تصفية الثورة
ومن المحتمل أنه لم يكن لكل هذه المفاوضات ومحاولات الوصول إلى تسوية سلمية، سوى
غرض واحد، هو كسب الوقت حتى يتم استعداد «رادتزكي» ووصول الإمدادات الكافية
إليه.
وأيًّا ما كان الأمر، فقد قرَّر شارل ألبرت مهاجمة «مانتوا»؛ ليجبر الماريشال
رادتزكي على إخلاء «فيرونا»، فبدأ الملك زحفه يوم ١٣ يوليو واستولى على «جوفر نولو»
يوم ١٨ يوليو، ولكن «رادتزكي» الذي بلغت قواته ثمانين ألفًا (٢٢ يوليو) شن هجومًا
عنيفًا على البيدمنتيين، الذين نزلت بهم الهزيمة البالغة عند كاستوتزا Custozza يوم ٢٥ يوليو، وأرغموا على عبور
المنشيو في طريق تقهقرهم، وعندما حاول شارل ألبرت تغطية ميلان بدلًا من القهقرى
بطريق البو، نزلت به الهزيمة ثانية أمام ميلان يوم ٤ أغسطس، وثار الشعب عند دخوله
المدينة، وأفلت من حصارهم بكل صعوبة في اليوم التالي، فأخلى البيدمنتيون ميلان،
وعبروا نهر «تشينو» ثانية، فدخلها «رادتزكي» واستعادها النمسويون. وفي ٩ أغسطس
عُقدت الهدنة عند فيجيفانو Vigevano، وهي المشهورة
باسم هدنة سالاسكو Salasco نسبةً إلى الجنرال
البيدمنتي «سالاسكو»، الذي كلَّفه شارل ألبرت بتوقيعها، وكانت شروط هذه الهدنة
قاسية، حيث إنها أرجعت الحال إلى ما كانت عليه قبل الحرب، باستثناء مدينة البندقية
التي كانت لا تزال تقاوم، وكان بعد هذه الكارثة أن انسحب شارل ألبرت إلى بيدمنت،
وصار واضحًا أنَّ الموقف قد تغير في إيطاليا بأجمعها.
ولقد زحف النمسويون بعد ذلك مباشرة على الدوقيات، في حين دخل قسم من قواتهم
الولايات البابوية زاحفًا على «بولونا»، وكانت الوزارة العلمانية — وزارة مينجيتي —
قد استقالت منذ ٤ مايو؛ نتيجة «للمنشور البابوي» الذي ذكرنا أنه صدر في ٢٩ أبريل،
وتألَّفت وزارة برياسة «مامياني» لم تمكث في الحكم لضعفها سوى شهور
معدودة (٤ مايو–٦ أغسطس)، فخلفتها وزارة برياسة
الكونت إدواردو فابري Fabbri، وكان مسنًّا
ضعيفًا، تزايد انحلال الدولة في عهده، حتى خلفه في الحكم في ١٦ سبتمبر ١٨٤٨ الكونت
«بلليجرينو روسي»، صاحب السمعة الطيبة والشهرة الكبيرة، والذي سوف يدفع حياته
المجيدة ثمنًا لآخر محاولة يائسة من أجل المحافظة على الاتحاد بين البابا بيوس
التاسع وشعبه، وبين البابوية الكاثوليكيَّة وبين إيطاليا الحرَّة المستقلة.
وبذل «روسي» قصارى جهده للقضاء على الفوضى السائدة، وبعث الحياة من جديد في هيكل
«الإدارة» المتهالكة، وجابه بصراحة عداء «الكنسيين» ومهيجي الجماهير الديماجوجيين،
وتعرض لكراهيتهم علنًا ولم يأبه لها، بل كشف عن مشروعاته وتمسك بها، ولم يشأ أنْ
يفلت شيء من رقابته، ووعد بالإصلاح الشامل، وذلك كله دون أنْ يهدد الحريات الفردية،
أو يكمم أفواه الصحافة، بل لم يحجم عن الاشتراك في المناقشات التي كانت تثيرها
للحملة عليه وعلى مشروعاته الإصلاحية، وبمجرد تعيينه للوزارة، أعلن «روسي» دعوة
البرلمان للانعقاد، وحدَّد لذلك يوم ١٥ نوفمبر.
وفي حقل السياسة الخارجية، يمكن القول بإيجاز: إنَّ موقف «روسي» من مسألة الاتحاد
الفدرائي الإيطالي، هو الذي يُعَيِّن اتجاه سياسته الخارجية، ولقد عرفنا كيف أنَّ
البابا بيوس التاسع كان لا ينقطع عن تأييد هذا الاتحاد الفدرائي، وكان يلي البابا
تحمسًا لهذا الاتحاد الفدرائي؛ غراندوق تسكانيا ليوبولد الثاني، الذي رأى في هذا
الاتحاد الوسيلة التي تُوفِّق بين واجباته كأمير نمسوي وكحاكم إيطالي، وهو حفيد
الإمبراطور ليوبولد الثاني الذي كان غراندوقًا لتسكانيا (١٧٤٥–١٧٩٠)، ثم إمبراطورًا
للإمبراطورية الرومانية (الجرمانية) المقدسة مدة عامين (١٧٩٠–١٧٩٢) فقط، ولقد
أيَّدت نابولي الاتجاه الفدرائي كذلك؛ لأنها توقعت أنْ يساعد على إخضاع صقلية من
جهة، ويكون قوة موازنة لأطماع ملكية بيدمنت، أمَّا بيدمنت فقد عارضت الفدرائية،
وبسبب هذه الاختلافات بشأن الفدرائية، وما كان يتوقعه كل فريق منها. لم تكن
الفدرائية مشروعًا عمليًّا، ولما كان «الاتحاد» أو الوحدة من جهة أخرى، هي الفكرة
التي يحتكرها الجمهوريون، فإن الاتحاد كحل عملي لم يكن قد استكمل نضجه بعد.
وعندما انكب «روسي» على معالجة هذه المسألة، الاتحاد الفدرائي، كانت الحرب على وشك
أنْ تضع أوزارها، ومنذ ١٥ أغسطس ١٨٤٨ كانت الحكومة في بيدمنت قد أوفدت إلى روما
الفيلسوف أنطونيو روزميني Rosmini، الذي اشتهر
بمعارضته لآراء «جيوبرتي» الفلسفية، الذي كان بنفوذ هذا الأخير أن بعثت به الوزارة؛
لبحث موضوع «الفدرائية» أو الاتحاد
الفدرائي Federazione في روما، واستهدف مشروع «روزميني» تنظيمًا فدرائيًّا
كاملًا لإيطاليا، ولكن سرعان ما تألَّفت وزارة جديدة في بيدمنت برياسة «الفييري دي
سوستجنو»، وذلك عقب هدنة سالاسكو، فلم يقر هذا الأخير مشروع «روزميني»، واكتفى بطلب
المساعدة في الحرب المعتقد أنها سوف تُستأنف سريعًا، ولم يلقَ اقتراح أو توقع
استئناف الحرب قبولًا من «روسي»، الذي عارض في حرب سوف يترتب عليها أنْ يتأسس اتحاد
بدون نابولي أقوى الدول الإيطالية وقتئذ من الناحية العسكرية، ولأن من المستحيل
تلقي أية مساعدات من الولايات البابوية، وتقدم «روسي» بمشروع مقابل عن تحالف أو
اتحاد بين الأمراء، ليس ضروريًّا أنْ يكون مناقضًا لمشروع «روزميني»، ولكن هذا
المشروع الذي اقترحه «روسي» جاء متأخرًا؛ لأن أي تنظيم فدرائي كان متعذرًا طالما
أنَّ مشروع مملكة إيطاليا العليا أو الشمالية، الذي استأثر بتفكير شارل ألبرت قد
باء بالفشل، فقد استمرت «مملكة إيطاليا العليا» أسبوعين فقط، منذ أنْ تمت عملية
الاتحاد التي ربطت الدوقيات بارما ومودينا ولوقا، ثم لمبارديا، ومدينة البندقية
بمملكة بيدمنت، وذلك يوم ٢٧ يوليو ١٨٤٨ إلى الوقت الذي انتهى فيه الحكم «الشبه
بيدمنتي» من مدينة البندقية، عقب هدنة «سالاسكو» بيومين وحسب، وذلك عندما أرغم
الشعب المتهيج المندوبين أو القومسييرين البيدمنتيين على مغادرة البندقية. وكان
هؤلاء تسلموا الحكم فقط منذ ٦ أغسطس، فاستدعى الشعب من عزلته؛ «دانييل مانين»،
ونصَّبه دكتاتورًا على البندقية (في ١١ أغسطس ١٨٤٨)، وباختفاء مملكة «إيطاليا
العليا» إذن، اختفت كل فكرة عن إنشاء اتحاد فدرائي في إيطاليا.
ومن الآن فصاعدًا صارت السيطرة من نصيب فكرة توحيد إيطاليا ديمقراطيًّا، فتشكَّلت
منذ ١٨ أغسطس ١٨٤٨ وزارة برياسة «جينو كابوني» في تسكانيا، وقامت الثورة في ليقورنة
(ليجهورن) فأعلنت الحكومة هناك تأسيس جمعية تأسيسية Assemblea Constituente لكل إيطاليا، وفي ٢٧ أكتوبر تألَّفت وزارة جديدة
«ديمقراطيَّة» برياسة «جويراتزي» وجويزني
مونتانللي Montanelli.
وفي روما قاوم «روسي» تيار الديماجوجية الذي اكتسح تسكانيا، ومع ذلك فقد كان
«روسي» يعتمد على جهده هو وحده في مقاومة «الحزب الديمقراطي»، الذي كان يتهيَّأ
لانتهاز فرصة افتتاح البرلمان ليضرب ضربته القاصمة، فأخطأ «روسي» وزن الموقف حق
وزنه، وعلى ذلك فإنه لم يلبث أنْ لقي حتفه على سلم البرلمان الذي ذهب لافتتاحه يوم
١٥ نوفمبر ١٨٤٨. وقامت المظاهرات في اليوم التالي؛ لإرغام البابا على تشكيل وزارة
من الديمقراطيين، فتألَّفت الوزارة الجديدة وكان من بين أعضائها أحد الذين حَرَّضوا
على اغتيال «روسي»، فهرب البابا إلى جيتا Gaeta
ملتجئًا بها (٢٥ نوفمبر)، وأنشأ لجنة للوصاية لم تستطع فعل شيء أو حتى الاجتماع،
وذلك في حين أقام الآخرون «لجنة عليا حكومية»، قرَّرت إجراء الانتخابات على قاعدة
الاقتراح العام، لانتخاب «مجلس أو جمعية تأسيسية»، واجتمع هذا المجلس بالفعل في ٥
فبراير ١٩٤٩ وأعلن الجمهورية في ٩ منه.
ولم تسِر الأمور بهذه السهولة في «تسكانيا»؛ بسبب موقف «جويراتزي»، وكان هذا
الأخير مع «مونتانللي» يرحبان بالتعاون مع أمير تسكانيا، الذي لم يبدُ منه في أول
الأمر أنه معارض لأي إجراء قد يتخذاه، بما في ذلك دعوة جمعية تأسيسية، ولكن
الغراندوق ليوبولد لم يلبث أنْ انسحب إلى سنا Siena في ٢٠ يناير ١٨٤٩، ثم إلى «بورتو سان ستفانو» في ٧ فبراير،
فحضر «مازيني» في اليوم التالي إلى فلورنسة ليجد الظروف غير مناسبة، فقد تألَّفت
«ثلاثية حكومية» من جويراتزي، ومونتانللي، وماتزوني Mazzoni، وأعلنت الدعوة «لجمعية تأسيسية» في تسكانيا، وفي ٢١
فبراير حذا «ليوبولد» حذو البابا، فقصد إلى «جيتا» لاجئًا بها، ولم تُعلن الجمهورية
في فلورنسة، ولكن «جويراتزي» كان يجمع في يديه كل أسباب السلطة، وأخيرًا تَعَيَّن
ديكتاتورًا في ٢٨ مارس ١٨٤٩.
وفي نابولي وجد ملكها فردنند الثاني في الاضطرابات السائدة بالعاصمة، وفي رفض ثوار
صقلية المفاوضة، والثورات التي اجتاحت البلاد بعد ١٥ مايو ١٨٤٨، الأسباب التي في
وسعه التذرع بها لتسويغ إجراءاته الرجعية، فحل البرلمان أخيرًا في ١٣ مارس ١٨٤٩،
ومع أنه كان من المنتظر أنْ تنجح الثورات التي قامت في نابولي لو أنَّ السيشليان
تقدموا لمساعدتها، فقد امتنع هؤلاء عن فعل ذلك، الأمر الذي عاد بالوبال على الثوار
أنفسهم في صقلية كذلك. وكان هؤلاء قد اعتمدوا على حماية الأسطول الإنجليزي لهم،
فأهملوا تسليح أنفسهم، واكتفوا بأن أدخلوا تعديلات على دستورهم (دستور ١٨١٢)، وذلك
يوم ١٠ يوليو ١٨٤٩ بشكل قضى تقريبًا على كل سلطات للملك بفضل القيود التي فُرضت
عليها، والتحفظات العديدة التي أُبديت، ثم إنهم عرضوا تاج بلادهم على دوق جنوه
الابن الثاني لشارل ألبرت، فرفض هذا الأخير عروضهم.
وكان الملك البربوني بعد أنْ انهزمت بيدمنت، وقبلت هدنة «سالاسكو» منذ ٩ أغسطس
١٨٤٨، قد قرَّر التدخل في صقلية، فأرسل في أواخر أغسطس ١٨٤٨، جيشًا بقيادة
كارلو Carlo فيلا نجبيري ضد الثوار بها؛
فسقطت «مسينا» بعد أنْ ارتكب الغزاة فظائع تقشعر من هولها الأبدان، حتى إن قائدي
الأساطيل الإنجليزية والفرنسية الرابضة في مياه صقلية بادرا بالتدخل لاقتراح حلول
سلمية للمشكلة، فاضطر الملك البربوني إلى قبول الهدنة في ١١ سبتمبر ١٨٤٨، ولكن هذه
الوساطة شجعت الثوار على الاستمرار في المقاومة، فرفض البرلمان السيشلياني مشروعًا
للتسوية في ٢٤ مارس ١٨٤٩، يُعرف باسم «إنذار جيتا»، وعندئذٍ أُعلن انقضاء الهدنة،
فسقطت تاورمينا Taromina في يد «فيلا نجييري» في
أبريل، ثمقطانيا Catania يوم ٧ منه، وسلمت المدن
الأخرى دون قتال. وفي يوم ١٥ مايو دخل «فيلا نجييري» بليرمو، وبذلك تكون قد انتهت
الثورة في صقلية، وهي الثورة التي عرقلت جهود «حرب الاستقلال»، وأوذيت بسببها قضية
القومية الإيطالية أذًى بليغًا.
وفي بيدمنت كانت تُبذل الجهود الكبيرة حتى تسترد البلاد قوتها بعد الكوارث التي
نزلت بها، فقبلت وزارة «سوستجنو» التي عرفنا أنها تشكَّلت عقب هدنة سالاسكو ومنذ ١٩
أغسطس ١٨٤٨، وساطة إنجلترة وفرنسا للوصول إلى تسوية مع النمسا. وكانت هاتان
الدولتان قد اقترحتا استئناف المفاوضة على أساس المقترحات التي كانت قد تقدمت بها
قبل ذلك — في الظروف التي مرَّت بنا — لإنشاء مملكة من لمبارديا فينيشيا، والدوقيات
الثلاث متحدة مع النمسا تحت التاج النمسوي، وتلك مقترحات لم يكن منتظرًا أنْ تقبلها
النمسا الآن؛ بسبب انتصار جيوشها، ولأنها استرجعت لمبارديا، ولم يبقَ صامدًا أمامها
غير مدينة البندقية، فاقترحت النمسا أساسًا جديدًا للمفاوضة هو منح لمبارديا
فينيشيا أنظمة تقوم على المبادئ الحرَّة، ومن طراز الأنظمة التي نالتها
الإمبراطورية النمسوية بعد «ثورة ١٧ مارس ١٨٤٨ في فينا.» ثم رفضت النمسا الاشتراك
في أي مؤتمر لبحث التسوية المنشودة، وأخيرًا فإنه بمجرد أنْ جاء إلى وزارة الخارجية
البرنس شوارزنبرج Schwarzenberg وكان أشد صلابة من
سلفه «وزنبرج»، أعلنت النمسا أنها مستندة في موقفها من المسألة برمتها، على الحقوق
التي لها بموجب معاهدات ١٨١٥.
وفي رأي كثيرين أنَّ دور الوساطة الذي قامت به فرنسا، لم يكن مشرفًا لها، على خلاف
الدور الذي قامت به إنجلترة، وإنْ لم يسفر عن نتيجة، فقد عمد الوزير الإنجليزي
«بلمر ستون» في رسالة مسهبة بتاريخ ١١ سبتمبر ١٨٤٨ إلى حكومة فينا، إلى إحصاء
الأخطاء والمساوئ التي ارتكبتها النمسا في سياستها الإيطالية، وتنبأ بأن
«بونابرتيا» سوف — ولا شك — يعتلي عرش فرنسا كإحدى النتائج المتوقعة من تحرير
إيطاليا، وإنهاء السيطرة النمسوية بها، بفضل المساعدة الفرنسية.
ولقد ترتب على فشل الوساطة الإنجليزية الفرنسية؛ ازدياد العداء للوزارة في بيدمنت
والمعارضة ضدها، بالرغم من جهودها لإعادة تنظيم الجيش وتقويته، ورأت «المعارضة» في
بيدمنت الفرصة سانحة لنبذ هدنة سالاسكو ظهريًّا واستئناف الحرب، عندما تجددت الثورة
في فينا في ٦ أكتوبر ١٨٤٨، والتي شجعت بدورها على ازدياد خطورة الثورة الناشبة
وقتئذ — ومنذ شهور — في هنغاريا (المجر)، وعندئذٍ راح «جيوبرتي» متزعم الحزب
الديمقراطي، يتهم وزارة «سوستجنو» بأنها تخفي مشروعًا للصلح مع النمسا بأي ثمن،
وشكَّل «جيوبرتي» وزارة جديدة عُرفت باسم «الوزارة الديمقراطية» (٢ ديسمبر ١٨٤٨).
وسرعان ما اكتشفت هذه الوزارة الجديدة أنَّ من خطر الرأي والجنون الدخول في حرب مع
النمسا في هذه الآونة، فأخذت من ثَمَّ تعمل لإحياء فكرة تأليف اتحاد فدرائي من
الدول الإيطالية، واقترحت أن تتدخل بيدمنت من أجل إرجاع كل من البابا وغراندوق
تسكانيا إلى عرشه وكلاهما — كما نذكر — كانا ملتجئين في «جيتا»؛ الأول: منذ ٢٥
نوفمبر ١٨٤٨، والثاني: منذ ٢١ فبراير ١٨٤٩، ولكن لم يعد الوقت ملائمًا لمثل هذه
المشروعات، وَيُخشى أنْ تطغى موجة الرجعية التي أخذت تسود شبه الجزيرة على بيدمنت
ذاتها؛ ولذلك فقد تخلى عن «جيوبرتي» زملاؤه واضطر إلى الاستقالة، على أنه لما كانت
قد فشلت الوساطة الإنجليزية الفرنسية، فقد صار واضحًا أنَّ الحرب وحدها هي السبيل
الوحيد لحسم مشكلة العلاقات مع النمسا وتقرير مستقبل بيدمنت ذاتها، وسائر الدويلات
والإمارات الإيطالية.
وفي ١٢ مارس ١٨٤٩ أعلن حينئذ انتهاء الهدنة، وتسلم أحد القواد البولنديين
كراتزا نوسكي Chrzanowsky، قيادة الجيش
البيدمنتي في الميدان، ولكن سرعان ما حلَّت بهؤلاء الهزيمة في واقعة «نوفارا» يوم
٢٣ مارس ١٨٤٩، وكان انتصار «رادتزكي» في هذه الواقعة انتصارًا حاسمًا، قضى على
الجيش الوحيد في كل شبه الجزيرة الإيطالية الذي كان في وسعه إطلاقًا الصمود أمام
النمسا، وبذلك صارت الحرب منتهية بالنسبة لبيدمنت.
وتنازل شارل ألبرت عن العرش لولده «فيكتور عمانويل الثاني»، يحاول بهذا التنازل
إزالة العقبة المتمثلة في شخصه، والتي قد تعترض إبرام الصلح، ثم غادر البلاد إلى
المنفى «الاختياري» فيأبورتو Oporto بالبورتغال،
حيث وافته بها منيته بعد قليل في ٢٨ يوليو ١٨٤٩. وفي ٦ أغسطس من السنة نفسها؛ عقد
فيكتور عمانويل الصلح مع النمسا، بأن دفع تعويضًا لها قدره ٧٥ مليونًا من الفرنكات
في نظير احتفاظ بيدمنت بكل أراضيها، وذلك في معاهدة ميلان.
وهكذا بدأت تحل الكارثة بكل مكان لإنهاء هذا العهد «الثوري» في تاريخ الحركة
القومية الاستقلالية في إيطاليا، فطلب البابا والكرادلة تدخل الدول الكاثوليكية (٦
فبراير ١٨٤٩)، في حين قصد مازيني والثوريون إلى روما، وكذلك غاريبالدي. وأسَّس
هؤلاء جمهورية برياسة مازيني الفعلية، ولكن فرنسا التي خشيت من استرجاع النمسا
لمكانتها السابقة، وسيطرتها الكاملة في إيطاليا بعد انتصارها في واقعة نوفارا، لم
تلبث أنْ قرَّرت التدخل لنجدة إيطاليا، كما كان يعنيها كسب عطف الكاثوليك في فرنسا،
والمحافظة على بيدمنت المهددة بالخطر من جانب النمسا، إذا تدخلت هذه لإرجاع البابا
إلى عرشه، واسترداد نفوذها في كل أنحاء إيطاليا، فدخلت القوات الفرنسية بقيادة
أودينو Oudino ابن أحد مريشالات نابليون
القدامى، إلى روما وسقطت الجمهورية بعد دفاع مجيد على أيدي مازيني وغاريبالدي (٣٠
يونيو ١٨٤٩)، وهرب هذان إلى الجبال (جبال الأبنين).
وفي اليوم الذي سقطت فيه روما، كان النمسويون قد بدءوا غزوهم لتسكانيا، وفي ٢٥
مايو دخلوا فلورنسة، ثم أتى دور «بريشيا» المدينة الوحيدة في لمبارديا التي هبت
لنصرة بيدمنت عند استئنافها الحرب في مارس (١٨٤٩)، فدخلها النمسويون الآن بعد أنْ
قضوا على كل مقاومة بها، ثم جاء دور مدينة البندقية التي قرَّرت المقاومة بقيادة
«دانييل مانين» حتى النهاية، فاستولى النمسويون في ٢٦ مايو على قلعة مالجيرا Malghera. ومنذ ٣٠ يوليو تعرضت المدينة للضرب
بالمدافع دون انقطاع، ثم انتشرت المجاعة والكوليرا (الطاعون)، وفي ٢١ أغسطس بدأ
«مانين» يتفاوض في شروط التسليم مع النمسا، وفي ٢٤ أغسطس سلمت البندقية، ثم ذهب
«مانين» إلى المنفى (٢٧ أغسطس).
وبسقوط البندقية انتهت الحرب والثورة من كل إيطاليا، فقد أُعيد البابا إلى عاصمته
بالولايات البابوية، واستعاد الملك فردنند سلطانه الكامل في نابولي وصقلية، واسترجع
الأمراء عروشهم في الدوقيات الإيطالية واحتلت فرنسا روما، وصارت النمسا صاحبة
السيطرة في إيطاليا الشمالية، وانتصرت في كل مكان قوى الرجعية.
وأمَّا فشل هذه الحرب الاستقلالية «القومية» الأولى، المتمثلة في ثورات ١٨٤٨-١٨٤٩،
فيمكن إيجاز أسبابها في أنَّ الإيطاليين لم يكن لديهم القوة الكافية لطرد النمسويين
من إيطاليا، دون مساعدة تأتيهم من دولة أجنبية، وكانت بيدمنت وحدها صاحبة القوة
العسكرية الصالحة للقتال، ومع ذلك فقد بلغ جيشها ستين ألفًا، كان ثلثاهم من القوات
الاحتياطية، أضف إلى هذا أنَّ الإيطاليين لم يكونوا على اتفاق بشأن الدولة التي
يريدون تأسيسها على أنقاض السيطرة النمسوية، فهناك أشياع الحكم المطلق وهناك
الأحرار، وهؤلاء كانوا منقسمين إلى أحزاب وفِرق، فمنهم الملكيون الدستوريون، الذين
التفوا حول ملكية بيدمنت، ومنهم أنصار الدولة الاتحادية الفدرائية، ثم الجمهوريون
المازينيون وهكذا، وكان الملكيون الدستوريون يتخذون معاقلهم في الشمال، في حين صار
الوسط مركز الجمهوريين، وبقي أشياع الحكومة المطلقة في الجنوب خصوصًا.
على أنه فيما يتعلق بمسألة الوحدة القومية، أسفرت هذه الثورات والحروب في سنتي
١٨٤٨، ١٨٤٩ عن نتيجتين هامتين؛ أولاهما: أنَّ البابا بيوس التاسع عندما تخلى عن
مؤازرة الثورة والحرب ضد النمسا قد مضى نهائيًّا على فكرة «جيوبرتي»، التي تدعو
لزعامة البابوية، فتحولت عنها الأنظار للبحث عن زعامة غيرها لحركة الاستقلال
والوحدة القومية.
وثانيتهما: أنَّ بيدمنت صارت معقد الآمال من الآن فصاعدًا؛ لتولي زعامة وتوجيه
النضال القومي؛ لأن بيدمنت هي التي اضطلعت وحدها بعبء الحرب والمقاومة ضد النمسا
دون سائر الدويلات والإمارات الإيطالية، ثم إنها لم تصبح بعد الهزيمة التي نزلت بها
مرتعًا للمبادئ الرجعية، مما مهد لها الطريق أكثر من ذي قبل؛ لتولي زعامة النضال في
آخر الأمر من أجل تأسيس الوحدة الإيطالية، وإنشاء الحكومة الدستورية، وإتاحة الفرصة
لانتصار الأحرار من العناصر المثقفة الأرستقراطية ومن البورجوازية.