ما لا تريد منك المتاجر الكبيرة أن تعرفه
يتمتع مقهى كوستا بكثير من قوة الندرة بالنسبة إلى زبائنه نظرًا لكونه المقهى الوحيد بجوار «عين لندن». ولا ترجع هذه القوة إلى شيء مميز في مقهى كوستا وإنما للتألق المنعكس من روعة الموقع. وكما علمنا من قبل أنه طالما أن الناس يدفعون الأسعار المرتفعة في المقاهي ذات المواقع المتميزة، فإن القيمة الإيجارية التي يدفعها المقهى لمالك الموقع ستكون مرتفعة هي الأخرى، فلقد أجر مالك الأرض بعضًا من قيمة الندرة التي يتمتع بها المكان لمقهى كوستا، تمامًا مثلما فعل مُلَّاك ناطحات السحاب في مانهاتن أو مثلما يحدث في محطات المترو بدءًا من محطة ووترلو في لندن حتى شينجوكو في طوكيو. وهكذا فالندرة يجري تأجيرها ولكن بالسعر المناسب.
ولكن كيف يستغل مقهى كوستا الندرة التي استمدها من استئجار مكان بجوار «عين لندن» على الوجه الأمثل؟ يمكنه ببساطة أن يرفع سعر الكابوتشينو من ١,٧٥ جنيه إسترليني (أي ما يعادل حوالي ٣ دولارات) إلى ٣ جنيهات إسترلينية (أي ما يعادل حوالي ٦ دولارات). صحيح سيجد المقهى بعض الزبائن الذين سيدفعون هذا المبلغ، ولكن هناك الكثير ممن لن يعجبهم السعر ولن يشتروا القهوة، ولنا في «قبة الألفية» عبرة. فالندرة تعطيك قوة، ولكنها ليست قوة بلا حدود. وبدلًا من ذلك قد يلجأ المقهى إلى تخفيض أسعار القهوة التي يقدمها؛ ليبيع المزيد والمزيد منها. فلو جعل ثمن فنجان القهوة ٦٠ بنسًا (ما يعادل دولارًا واحدًا) فسيتمكن من دفع رواتب موظفيه والنفقات اللازمة لإعداد القهوة، ولكن إن لم تفلح تلك الطريقة في مضاعفة حجم مبيعاته عشرات المرات، فلن يتمكن من دفع القيمة الإيجارية للمكان. فالمعضلة كالتالي: إما تحقيق هوامش ربح عالية من بيع القليل من القهوة، وإما هوامش ربح منخفضة من بيع الكثير من القهوة.
لو استطاع مقهى كوستا تجنب تلك المعضلة بأن يطلب ٦٠ بنسًا من الزبائن الذين لا يودون دفع أكثر من هذا المبلغ و٣ جنيهات إسترلينية ممن لا يمانعون أن يدفعوا كثيرًا من المال للتمتع بالمشروب وإطلالة الموقع المميزة؛ فسيكون هذا أمرًا جيدًا. وبهذه الطريقة يتمكن المقهى من تحقيق هامش ربح مرتفع متى يحب، ويظل يبيع القهوة بهامش ربح ضئيل للزبائن المقتصدين. ولكن كيف يفعل ذلك؟ هل يكتب مثلًا في قائمة الأسعار: «سعر الكابوتشينو ٣ جنيهات إلا إذا كنت غير مستعد لدفع أكثر من ٦٠ بنسًا فقط»؟
الكابوتشينو للمسرف | ٣ جنيهات إسترلينية |
الكابوتشينو للمقتصد | ٦٠ بنسًا |
قد تكون هذه الفكرة منطقية بعض الشيء ولكنني أشك في أنها يمكن أن تلقى رواجًا بين من يشترون القهوة هناك في الضفة الجنوبية لنهر التايمز بلندن التي توجد بها عين لندن، لذلك على مقهى كوستا أن يتبع أسلوبًا أكثر دهاء من ذلك.
تدفع شركة كافيه دايريكت للمزارعين مساعدة تتراوح ما بين ٤٠ و٥٥ بنسًا (ما يعادل حوالي دولار) على كل رطل من البن. وستندهش إن أخبرتك أن هذا المبلغ القليل نسبيًّا قد يضاعف دخل مزارع في جواتيمالا التي يقل متوسط دخل الفرد فيها عن ٢٠٠٠ دولار سنويًّا. ولمّا كان ربع الأوقية من البن كافيًا لصنع كوب كابوتشينو متوسط الحجم، كان لزامًا أن تترجم المنحة المدفوعة للمزارع إلى زيادة في التكلفة تقل عن بنس واحد لكل كوب.
والواقع أن ٩٠٪ من المبلغ الإضافي الذي كان يدفعه زبائن مقهى كوستا لم تكن تذهب للمزارعين. لذلك إما أنّ مقهى كوستا أو كافيه دايريكت هما اللذان كانا يبددان تلك الأموال (عن طريق التكاليف العالية) أو أن تلك الأموال كانت تدخل ضمن أرباح الشركتين. فجمعيات تجارة البن العادلة تقدم وعودها للمنتجين وليس للمستهلكين. فإذا اشتريت قهوة تحمل علامة التجارة العادلة تكون ضمنت بذلك أن منتجي القهوة سيحصلون على سعر جيد. ولكن لا يوجد ما سيضمن حصولك «أنت» على سعر جيد. والحقيقة هي أن شركات البيع بالجملة للبن الذي يحمل علامة التجارة العادلة يمكنهم دفع ضعفين أو ثلاثة أضعاف أو حتى أربعة أضعاف سعر السوق لمنتجي البن في الدول النامية دون إضافة أي زيادة ملحوظة لتكلفة إنتاج كوب الكابوتشينو؛ لأن حبوب القهوة لا تشكل سوى جزء ضئيل من هذه التكلفة. فالمطالبة بعشرة بنسات إضافية أعطت فكرًا مضللًا عن التكلفة الحقيقية للقهوة الحاملة لعلامة التجارة العادلة. وببعض من أعمال التقصي والتحري التي قام بها مخبرنا الاقتصادي السري، قدر مقهى كوستا أن هذا النوع من التجارة أعطى انطباعًا خاطئًا، وبنهاية عام ٢٠٠٤م كان المقهى قد بدأ في تقديم قهوة تحمل علامة التجارة العادلة «لمن يطلبها» ودون أية زيادة في سعرها عن مثيلتها التي لا تحمل نفس العلامة. وهكذا فقد تخلى مقهى كوستا عن تلك الزيادة في سعر القهوة ليس لأنها كانت غير مربحة ولكن لأنها أساءت للعلاقات بين المقهى وزبائنه.
ولكن لماذا كان من المربح للمقهى أن يضع على تكاليف الإنتاج للقهوة التي تحمل علامة التجارة العادلة نسبة ربح مرتفعة تتجاوز مثيلتها بالنسبة إلى القهوة العادية؟ بالتأكيد ليس لأن مقهى كوستا يعارض فكرة التجارة العادلة بأكملها ويحاول تثبيط ذلك السلوك المثالي بهذه الطريقة في تحديد الأسعار. فالسبب ليس له علاقة بالتجارة العادلة على الإطلاق، ولكن لأن القهوة التي تحمل علامة التجارة العادلة ساعدت مقهى كوستا على إيجاد الزبائن المستعدين لدفع أسعار أعلى قليلًا متى توفر سبب لذلك. فعندما تشتري الكابوتشينو الذي يحمل علامة التجارة العادلة، تكون قد أوصلتَ رسالتين لمقهى كوستا: الرسالة الأولى لا تلقى اهتمامًا كبيرًا من أصحاب المقهى وهي: «أظن أن القهوة التي تحمل علامة التجارة العادلة منتج يستحق التشجيع.»
أما الرسالة الثانية فهي التي يتوق أصحاب المقهى لسماعها وهي: «في الواقع لا أمانع من دفع بعض النقود الإضافية.»
وهذا يمد المقهى على الفور بالمعلومات التي كان يبحث عنها. فهو يعرف أن المواطنين المهتمين بالقضايا الاجتماعية لا يبالون لو أنفقوا بعض المبالغ الإضافية مقابل بعض المنتجات، في حين يكون المواطنون غير المهتمين بتلك القضايا أكثر حساسية تجاه الأسعار.
الكابوتشينو للمهتم بالقضايا الاجتماعية | ١,٨٥ جنيه إسترليني. |
الكابوتشينو لغير المهتم بالقضايا الاجتماعية | ١,٧٥ جنيه إسترليني. |
وبالفعل مارس مقهى كوستا هذه الاستراتيجية لكي يحصل على أقصى قيمة من قوة الندرة التي منحها إياه مكانه بجوار «عين لندن». فالمقهى في حيرة بين رفع الأسعار وخسارة الزبائن، وبين خفض الأسعار وخسارة هامش الربح. فإن رغب المقهى في المطالبة بسعر موحد من كل الزبائن، عليه أن يجري حساباته للوصول إلى أفضل خيار من بين الخيارين. أما إذا كان بإمكانه أن يطلب سعرًا أعلى من المسرف (أو المهتم بالقضية الاجتماعية) وسعرًا منخفضًا من المقتصد (أو غير المهتم بالقضية)، فسيغدو بإمكان المقهى عندئذ الحصول على أفضل ما يمكن الحصول عليه من كلا الصنفين من البشر. ولا داعي لأن تقلق على مقهى كوستا إذا مُنع من ممارسة ذلك الأسلوب؛ فكوستا كوفي لديه كثير من الطرق البديلة للتعرف على العملاء عندما يتعلق الأمر بزيادة السعر. وهذا ليس بتصرف مكيافيللي شاذ من جانب مقهى كوستا كوفي. فأي شركة تتمتع بإدارة جيدة تسعى للحصول من العميل على أعلى سعر يكون على استعداد لدفعه، وهذه الشركات تفعل هذا دائمًا.
لنأخذ شركة ستاربكس على سبيل المثال. انظر في قائمة أي فرع من فروع ستاربكس وليكن الفرعين الموجودين في شارع بي وشارع فورتينث في واشنطن العاصمة مثلًا وستجدها كالتالي:
شوكولاتة ساخنة | ٢,٢٠ دولار |
كابوتشينو | ٢,٥٥ دولار |
كافية موكا | ٢,٧٥ دولار |
موكا الشوكولاتة البيضاء | ٣,٢٠ دولار |
كابوتشينو كبير | ٣,٤٠ دولار |
وترجمتها كالتالي:
شوكولاتة ساخنة — لا شيء مميز | ٢,٢٠ دولار |
كابوتشينو — لا شيء مميز | ٢,٥٥ دولار |
اخلطهم معًا — أشعر بالتميز | ٢,٧٥ دولار |
استخدم مسحوقًا مختلفًا — أشعر بالتميز الشديد | ٣,٢٠ دولار |
اجعله ضخمًا — أشعر بالطمع | ٣,٤٠ دولار |
إن مقهى ستاربكس لا يسعى لعرض مجموعة متنوعة من المنتجات للزبائن فحسب، ولكنه يحاول أيضًا أن يعطي للزبون أية فرصة تقول إنه لم ينظر إلى قائمة الأسعار. لن يتكلف المقهى كثيرًا عند إعداد كوب كبير من الكابوتشينو، أو استخدام شراب ذي نكهة، أو إضافة مسحوق شوكولاتة، أو الكريمة المخفوقة. وكل منتج من المنتجات المدونة في القائمة السابقة يتكلف إعداده في مقهى ستاربكس نفس التكلفة تقريبًا، وهي تكلفة تنخفض إلى خمسة أو عشرة سنتات.
هل هذا يعني أن شركة ستاربكس تغالي في كل الأسعار التي تطلبها من الزبائن؟ لا، فلو كانت تفعل ذلك لرفعت سعر الكابوتشينو العادي أو الشوكولاتة الساخنة إلى ٣,٣٠ دولارات ثم تحصل بعد ذلك على كل الإضافات التي تريدها مقابل عشرة سنتات. ربما يود المسئولون في ستاربكس القيام بذلك بالفعل، ولكنهم لا يمكنهم إجبار الزبائن الذين يتصفون بالحساسية للأسعار على دفع مثل تلك الأسعار. وبالتالي فإن التنويع في أسعار المنتجات التي تتساوى في تكلفتها تقريبًا يُمكّن ستاربكس من عدم خسارة ما كان سيكسبه من الزبائن الأقل حساسية للسعر. فالمقهى ليس لديه وسيلة أكيدة للتعرف على هذا النوع من الزبائن، لذلك فهو يدعوهم للكشف عن أنفسهم عندما يطلبون المنتجات الفاخرة باهظة الثمن.
(١) ثمة زبون من هذا النوع يولد كل دقيقة وثمة طريقتان للكشف عنه
هناك ثلاث استراتيجيات شائعة للكشف عن الزبائن الذين لا يكترثون بالأسعار المرتفعة، سنتحدث أولًا عن اثنتين منها، ثم نؤجل الطريقة الثالثة — وهي الفضلى — إلى نهاية الفصل.
وفي حقيقة الأمر فإن طريقة «استهداف الفرد» لم تلق رواجًا، ففي حالة موقع أمازون بدأ زوار الموقع في إدراك أنهم إذا قاموا بمسح الكوكيز من حواسبهم الآلية، فستتغير أسعار الكتب التي يعرضها لهم الموقع، وفي معظم الأحيان تتغير إلى الأرخص. وعندما اكتشف الزوار هذا الأمر احتجوا احتجاجًا عنيفًا. ولهذا تعهدت شركة أمازون — مثل مقهى كوستا — ألا تتبع هذه الطريقة مرة أخرى.
والمدهش في الأمر أن الناس لم يعترضوا كثيرًا على الاستراتيجية الثانية وهي: «استهداف المجموعة»، وتعني تقديم أسعار مختلفة إلى أفراد جماعات محددة. فمن ذا الذي يستطيع أن يشكو من انخفاض سعر تذاكر الحافلات للأطفال والمسنين؟ وهل سيغدو من المنطقي أن تقدم المقاهي خصمًا لمن يعملون في أماكن قريبة منها، وأن تسمح الأماكن السياحية بدخول مواطني البلاد بتذاكر منخفضة؟ في معظم الأحيان «سيبدو» هذا منطقيًّا لأن أعضاء المجموعات القادرة على أن تدفع أكثر هم في الغالب القادرون ماليًّا بشكل أكبر والذين لا يبالون لو ارتفعت الأسعار. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن هذه مجرد صدفة. فالشركات التي تهدف إلى تعظيم أرباحها والحصول على أقصى قيمة من ندرتها ستهتم «بالمستعدين» لدفع سعر أعلى أكثر من اهتمامها بمن «يقدرون» على دفع سعر أعلى.
فالسائحون الزائرون لولاية فلوريدا أقل حساسية تجاه الأسعار من سكان الولاية، وهذا يعني أنه إذا رفع منتجع عالم والت ديزني من أسعار تذاكر الدخول، فسيُعرض السكان المحليون — على الأرجح — عن فكرة قضاء يوم في المنتجع. وبنفس المنطق إذا انخفضت أسعار تذاكر الدخول سيكرر أبناء الولاية الزيارة على نحو لا يفعله السائحون. فأحيانًا — وليس دائما — يقترن كونك غنيًّا بكونك عديم الحساسية تجاه الأسعار. فأسعار المقاعد في درجة رجال الأعمال بالطائرة باهظة الثمن لأن المؤسسات التي يعمل بها هؤلاء الرجال مستعدة للدفع كما تتمتع شركات الطيران بقوة الندرة التي تمكنها من استغلال تلك الحقيقة، في حين أن أسعار المكالمات لرجال الأعمال ليست غالية الثمن؛ لأنه مع استعداد المؤسسات التي يعمل بها هؤلاء الرجال للدفع، إلا أن هناك منافسة كبيرة بين شركات الاتصالات، بحيث لا توجد شركة اتصالات واحدة يمكن أن تجبر هذه المؤسسات على دفع ثمن باهظ مقابل خدماتها.
تتسم استراتيجية «استهداف الفرد» بالصعوبة في تطبيقها؛ لأنها من ناحية تستلزم وجود الكثير من المعلومات عن الناس، وأيضًا لأنها من ناحية أخرى لم تلق درجة كبيرة من الرواج. وبالرغم من تلك الصعوبات فمن المربح جدًّا للشركات أن تسعى دائمًا لاكتشاف طرق جديدة لتنفيذها. أما استراتيجية «استهداف المجموعة» التي تقدم الأسعار المخفضة للطلاب أو لسكان المدينة المحليين؛ فتجدها أقل فاعلية وإن كانت أسهل في التنفيذ، وفي الغالب تكون مقبولة اجتماعيًّا لدرجة أنها تحظى بالترحيب. وبالتأكيد سيؤدي أي من هاتين الاستراتيجيتين إلى كسب مزيد من الأرباح بدلًا من التعامل مع جمهور المستهلكين كفئة واحدة.
(٢) الطريقة الثالثة: الديوك الرومية تصوت لصالح عيد الشكر
إن أذكى وأكثر الطرق شيوعًا لتقنع الديوك الرومية بأن تصوت لصالح عيد الشكر هي استراتيجية «إدانة الذات»، والتي يستخدمها كل من مقهى كوستا وستاربكس عندما يُدخلان بعض زبائنهم في فخ الاعتراف بأنهم ليسوا حساسين تجاه الأسعار. ولجعل هؤلاء المستهلكين يكشفون عن أنفسهم، يعرض المقهى منتجات تختلف على الأقل عن بعضها اختلافًا طفيفًا، مثل أن توفر منتجًا معينًا بأحجام مختلفة (مثل توفير حجم كبير من الكابوتشينو بدلًا من الحجم الصغير أو تقديم عرض يباع فيه ثلاثة أكواب بسعر كوبين)، أو نفس المنتج بإضافات مختلفة (بالكريمة المخفوقة، أو بالشوكولاتة البيضاء، أو بمكونات تحمل علامة التجارة العادلة)، أو حتى تغيير المنتج بتغير الموقع، فتجد مثلًا الساندويتش الذي يباع في كشك بمحطة المترو ليس بجودة ذلك الساندويتش الذي يباع في أحد المتاجر الكبيرة التي تقع خارج المدينة والذي يشبهه تمامًا من الناحية الشكلية فقط.
(٣) المقاهي ليست الوحيدة التي تتبع هذه الطرق
ما المسافة التي تستطيع مشيها لتوفر ٣٠ بنسًا؟
وفي سبيل التحري عن أسعار كلا الفرعين اخترت عشوائيًا خمسة منتجات يبيعها الفرع الموجود في محطة ليفربول ستريت ونجحت في العثور على أربعة منها في الفرع الموجود بشارع مورجيت، وقد وجدت أن كل منتج من هذه المنتجات ينخفض في فرع شارع مورجيت بنسبة ١٥٪ عن مثيله في فرع ليفربول ستريت، فانخفض سعر السلاطة ذات الحجم الكبير إلى ثلاثة جنيهات إسترلينية مقارنة بثلاثة جنيهات ونصف إسترلينية في فرع ليفربول ستريت (أي ٥,٦٥ دولارات بدلًا من ٦,٦٠ دولارات)، وانخفض سعر الساندويتش إلى ١,٩٠ جنيه إسترليني مقارنة بسعر ٢,٢٠ جنيه إسترليني في فرع ليفربول ستريت (أي ٣,٥٥ دولارات بدلًا من ٤,١٥ دولارات). ولكن حتى بعد إلقاء الضوء على تلك الفروق السعرية، تجد القليل من الناس بالمدينة هم فقط المستعدون للمشي هذه المسافة لتوفير ثلاثين بنسًا، أي حوالي نصف دولار تقريبًا. يا لها من طريقة فعالة وجريئة من طرق الوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب.
(٤) الابتزاز بالمنتجات الطبيعية
يحاول أفضل ممارسي سياسة تحديد السعر المستهدف مضاعفة أرباحهم بممارسة السلوك الذي تبدو عليه روح الفضيلة. فلقد رأينا كيف يعلن كوستا كوفي مناصرته للتجارة العادلة بينما هو في الواقع يستخدمها للتعرف على الزبائن المستعدين لتبديد أموالهم. كما أنه من المربح للغاية بالنسبة إلى الشركات؛ أن تقدم المنتجات بأسعار مخفضة للمسنين والطلاب (بمعنى: اطلب أسعارًا مرتفعة من الزبائن الذين يبدو عليهم أنهم موظفون). فمن يمكنه الاعتراض على هذا السلوك الجدير بالثناء سوى ناقد ساخر أو عالم اقتصاد؟!
ولكن هل الطعام العضوي باهظ الثمن جزء من تكتيك الوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب؟ في حقيقة الأمر فإن الطعام العضوي يجب أن يكون أغلى سعرًا لأن تكلفة إنتاجه أكبر، ولأنه يمكث فترة أقل على أرفف المحلات، ولأن تكلفة توزيعه أغلى من المنتج التقليدي. ولكن مثلما تشكل تكلفة مكونات الكابوتشينو الخام جزءًا ضئيلًا من سعره للمستهلك تشكل كذلك تكلفة إنتاج معظم المنتجات الغذائية جزءًا ضئيلًا من أسعارها على أرفف المتجر الكبير. في المملكة المتحدة مثلًا يزيد سعر اللبن العضوي عن مثيله التقليدي بحوالي خمسين سنتًا لربع الجالون، ولكن المزارع لن يحصل إلا على أقل من عشرين سنتًا من هذا الفارق في السعر. يجب ألا نندهش من أن المتاجر الكبيرة تنتهز الفرصة التي تمنحها إياها حركة الطعام العضوي لمحاصرة المستهلكين بزيادات سعرية مستهدفة المستهلك على نحو جيد. ونصيحتي إليك، إن كنت مقتنعًا بمحاسن الطعام العضوي، ألا تدع تجار المنتجات الغذائية يستغلون حماسك. مالك هو صوتك فقدمه ليدعم أي تاجر تجزئة أو أي مورد مباشر للأغذية يقوم بعرض الأصناف المتشابهة من الطعام العضوي وغير العضوي جنبًا إلى جنب.
(٥) التسوق الرخيص والمتاجر الرخيصة
فأسعار الموز واحدة في كل من سيف واي وهولفودز، وكذلك سعر صندوق الكرز والطماطم العنقودية. معلوم أن أسعار البصل الأصفر والزبد الأيرلندي وأطعمة الإفطار المعدة من الشوفان أرخص في سيف واي عنها في هولفودز. وفي المقابل تجد أن أسعار المياه المعدنية وعصير برتقال تروبيكانا الفاخر والبصل الحلو أرخص في هولفودز عنها في سيف واي. والحقيقة المؤكدة هي أنك إذا اشتريت سلة كبيرة تحوي «نفس» المنتجات من سيف واي وهولفودز فستجد فرق السعر يبلغ دولارًا واحدًا أو اثنين، ومن الأرجح أنك ستجد هولفودز هو الأرخص.
قد لا يتفق هذا مع الحس العام الذي يؤمن بأن هناك أماكن غالية وأماكن رخيصة. ولكن هذه الحس لم يكن صائبًا قط. فإذا كان هناك متجر يفرض أسعارًا أعلى من متجر آخر مقابل نفس المنتجات ونظير خدمة مماثلة ويقع في موقع مماثل، فهذا يعني أن جميع زبائنه ليسوا إلا مجرد حمقى. معلوم أن التسوق في متجر هولفودز أكثر متعة، ولكنه في النهاية مجرد متجر كبير تتجول فيه لتملأ عربتك تمامًا مثل سيف واي.
فمتجر هولفودز ليس غاليًا بمعنى أنه يعرض أسعارًا أعلى مقابل نفس المنتجات. ولكنه غالٍ بسبب المنتجات التي يركز عليها في سياسته من أجل الوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب؛ فقد تكون أسعار السلع الأساسية التي يعرضها تنافسية بالنسبة إلى أسعار المتاجر الأخرى، ولكن مجموعة المنتجات التي يعرضها تستهدف الزبائن الذين لديهم منظور مختلف عما تكون تلك «السلع الأساسية».
ومن السلع الأساسية تجد أن كل من البصل الأصفر والبصل حلو المذاق يُعرضان بنفس السعر في المتجرين. ولكن الزبائن في هولفودز يفضلون الاختيار من تشكيلة فاخرة، مثل: بصل اللؤلؤ، والبصل الأحمر، وحتى البصل العضوي؛ وهذه التشكيلة تباع بنسبة ربح ضخمة. بالتأكيد المتسوق في هولفودز الذي يبحث عن المنتجات معقولة الثمن سيجدها، أما ذلك المتسوق الذي يلتقط أول نوع من البصل يراه فسيدفع الثمن غاليًا جزاء عدم فضوله لمعرفة الأسعار.
وهذا يفسر لماذا يزيد سعر المنتجات في سلة التسوق في هولفودز عن سعرها في سيف واي. ليس لأن هولفودز «غالي الثمن» وزبائنه أغبياء، ولكن لأن هولفودز يعرض اختيارات إضافية غالية الثمن يكون المتسوقون على استعداد لشرائها لأنهم يرون أن جودتها تستحق.
وهذه هي نصيحتي إليك: إن كنت تريد صفقة رابحة، لا تحاول أن تجد متجرًا أرخص، ولكن حاول وأنت في نفس المتجر أن تتسوق بحثًا عن الأرخص. فالمنتجات المتشابهة في أغلب الأحيان تحمل أسعارًا متشابهة. ورحلة التسوق التي تكلف الكثير ليست سوى نتاج اختيار طائش لمنتجات يبيعها المتجر بنسبة ربح مرتفعة، وليس لأنك كنت تتسوق في متجر استغلالي؛ لأن تحديد السعر المستهدف يعتمد إلى حد كبير على الفرق بين الأسعار وبعضها، وليس الفرق في الجودة بين متجر وآخر.
(٦) اجعل الرخيص غالي الثمن، والغالي اجعله رخيصًا
الأسعار المخفضة أو الأكاوزيونات هي إحدى الاستراتيجيات الأخرى الشائعة. فكم اعتدنا على رؤية المتاجر تقدم تخفيضات على أسعار مئات المنتجات، حتى إننا لا نتوقف لنسأل أنفسنا لماذا تفعل المتاجر كل هذا. وعندما تفكر جيدًا في إجابة، تجدها طريقة محيرة لتحديد الأسعار عن طريق تخفيض الأسعار المعتادة التي يفرضها المتجر على منتجاته. ولكن لماذا يعرض المتجر تخفيضًا قدره ٣٠٪ على العديد من أسعار المنتجات مرتين في العام ولا يعرض تخفيضًا قدره ٥٪ طوال العام؟ فتغيير الأسعار أمر مرهق للمتاجر لأنها تضطر لتغيير ملصقات الأسعار وموادها الإعلانية. فلماذا تضطر لتكبد عناء كل هذه الجلبة؟
يفيد أحد التفسيرات أن التخفيضات التي تعرضها المتاجر الكبيرة تعد أحد الأشكال الفعالة للوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب. فإذا كان بعض الزبائن يعقدون مقارنة بين الأسعار وجودة المنتجات في المتاجر في حين لا يفعل ذلك باقي الزبائن؛ فمن الأفضل للمتاجر أن تعرض إما الأسعار العالية لانتزاع النقود من الزبائن الأوفياء (أو الكسالى)، أو الأسعار المنخفضة لتجني الأرباح من جيوب صائدي الصفقات. أما الأسعار المتوسطة فليست مفيدة: فلا هي مرتفعة بما يكفي لاستغلال الزبائن الأوفياء، ولا هي منخفضة بما يكفي لجذب صائدي الصفقات. ولكن ليست هذه هي نهاية المطاف؛ لأن الأسعار لو ظلت ثابتة فحتى الزبائن غير الحساسين للأسعار سيجدون حتمًا مكانًا يحصلون منه على السلع التي يريدونها بأسعار أرخص. لذلك فبدلًا من الالتزام بأسعار عالية أو منخفضة، تتأرجح المتاجر بين النقيضين.
والتنافس على نفس الزبائن هو أحد المواقف الشائعة لدى متجرين كبيرين، فكما ناقشنا منذ قليل، من الصعب أن يعرض أحد المتاجر الأسعار الباهظة دومًا أكثر من غيره دون أن يخسر كثيرًا من الزبائن، لذلك فهما يعرضان نفس الأسعار بصفة عامة، ولكن يبقى كلا المتجرين قادرًا على تعويض التخفيض على بعض المنتجات بزيادة أسعار منتجات أخرى. وهذه الطريقة يمكنها أن تفرق بين صائدي الصفقات وبين من يقصدون شراء سلع بعينها، مثل المتسوقين لشراء مكونات وصفة قرءوها في أحد كتب الطهي لتحضير الأطعمة في حفل عشاء. أما صائدو الصفقات فسيلتقطون أي منتج يتم عرضه وقت الأوكازيون ليستفيدوا منه بشكل أو بآخر. وبذلك سيأتي المتسوقون من أجل حفل العشاء إلى المتجر لشراء منتجات معينة وسيكونون أقل حساسية تجاه الأسعار. والواقع أن السبب وراء نجاح استراتيجية «الوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب» هو أن المتاجر تنوع دائمًا من أشكال العروض الخاصة التي تقدمها، وأن المستهلك سيتجشم الكثير من العناء في الذهاب إلى كلا المتجرين. فإذا كان بإمكان المتسوقين التنبؤ على نحو موثوق بالسلع التي سيجري تخفيض سعرها، ربما كان بإمكانهم اختيار وصفات طهي أخرى مسبقًا، أو حتى اختيار المتجر المناسب لشراء المكونات في أي وقت متى كانت أسعارها أرخص ما يمكن.
وفي الواقع من الأدق والأكثر توضيحًا أن نقلب فكرة «الأوكازيون» رأسًا على عقب وأن ننظر إلى الأسعار على أنها زائدة عن سعر الأوكازيون وليس على كونها تخفيضات على السعر الأصلي للسلعة. فالنموذج العشوائي للأوكازيونات ما هو إلا نموذج عشوائي لزيادة أسعار بعض المنتجات أيضًا، فالشركات تجد من المربح أكثر أن ترفع الأسعار (فوق سعر الأوكازيون) زيادة كبيرة بطريقة لا يمكن للمستهلك التنبؤ بها، أكثر من أن ترفعها بزيادة طفيفة بطريقة يتنبأ بها المستهلك. فقد وجد المستهلكون أنه من الصعب تجنب الزيادات السعرية التي لا يمكن التنبؤ بها — حتى إنهم قد لا يلاحظونها في السلع الأقل قيمة — ولكنهم يجدون من السهل تجنب الزيادات التي يمكن التنبؤ بها.
في المرة القادمة التي تدخل فيها متجرًا حاول التقصي عن هذا النوع من تفاوت الأسعار بحيث يعوض ارتفاع سعر سلعة انخفاض سلعة أخرى. هل لاحظت أن المتاجر الكبيرة عادة ما تعرض سعرًا على الفلفل الحار المغلف يزيد عشرة أضعاف عن سعر الفلفل الحار السائب؟ هذا لأن المستهلك العادي يشتري منه كمية ضئيلة لدرجة أنه لا يفكر في أن يتأكد ممّا إذا كان ثمنه أربعة سنتات أم أربعون سنتًا. فمضاعفة سعر نوع من الخضروات على نحو عشوائي ثلاثة أضعاف؛ هي حيلة مفضلة لدى المتاجر الكبيرة، والزبائن الذين يلاحظون هذه الزيادة يقومون بشراء نوع آخر من الخضروات في ذلك الأسبوع، أما الزبائن الذين ليس لديهم مستوى سعري مستهدف فتراهم يدفعون الزيادة الضخمة في الأسعار.
أذكر أنني لاحظت ذات مرة حيلة أخرى تمارسها المتاجر عندما كنت أبحث في أحدها عن رقائق البطاطس المقلية. فقد كان نوعي المفضل بنكهة الملح والفلفل متوفرًا على الرف العلوي، في حين كانت النكهات الأخرى متوفرة بنفس الحجم على الرف السفلي الذي يبعد بضعة أقدام قليلة عن الرف العلوي. أما سعر رقائق البطاطس المقلية على الرف العلوي فكان يزيد بمقدار ٢٥٪ عن المعروضة على الرف السفلي. وبالطبع لم يُجْرِ الزبائن الذين اشتروا البطاطس من على الرف العلوي مقارنة سعرية بين منتجين شبة متطابقين وفي مكانين متقاربين. فلقد كانوا مهتمين أكثر بتناول الوجبة الخفيفة، وليس بالمقارنة السعرية.
ولكن في الوقت نفسه لا يمكن إنكار أن الفرق في النكهات في رأي بعض الناس أمر مهم. سيلاحظ بعضهم السعر المرتفع للبطاطس بنكهة الملح والفلفل، ويمتعض قليلًا، ثم يدفع على أية حال. أما الآخرون فسوف يفضلون النكهات الأخرى ويعدون أنفسهم محظوظين لأنهم يملكون أذواقًا غير مكلفة.
يعد هذا مجرد مثال على الحقيقة العامة عن المتاجر، ألا وهي أنها مليئة بالبدائل المتقاربة (أو شبة المتقاربة)، بعضها رخيص وبعضها باهظ الثمن ويتصف تسعير هذه السلع بقدر كبير من العشوائية. ويوجد العنصر العشوائي بحيث إن المتسوقين الحريصين على ملاحظة وتذكر ومقارنة الأسعار هم فقط من ينجحون في الحصول على أفضل الصفقات. لذلك إذا أردت أن تخدع المتجر، فأفضل سلاح يمكنك التسلح به هو الملاحظة. أما إذا كنت لا تود إزعاج نفسك بالقيام بهذا، فأنت بالفعل في غير حاجة لتوفير المال.
(٧) تقييم الوقائع رقم واحد
حان الوقت الآن لتقوم بأحد أعمال تقييم الواقع. فعندما نتحدث عن المتاجر، ننجرف بسهولة إلى أفكار عن قوة تلك المتاجر اللانهائية، وسذاجة المستهلكين اللانهائية. ولكن هذه الأفكار ليست صحيحة.
تذكر أنه لا توجد شركة تتمتع بقوة إلا إذا كانت تتمتع بالندرة، وفي الغالب نحن الذين نعطيها تلك الندرة بكسلنا. فلا يوجد ما يمنعنا من المشي أو قيادة السيارة من متجر إلى آخر، كما لا يوجد ما يمنعنا من القيام ببعض العمليات الحسابية الذهنية عند شراء الفلفل الحار، أو من النظر إلى باقي الأرفف لبضعة ثوان عند شراء البطاطس المقلية.
فكل متجر يتمتع بقليل من قوة الندرة فقط إذا كان زبائنه يعتبرون السير إلى المتجر المجاور أمرًا مجهدًا. ولكن هناك بعض المتاجر التي تتمتع بالفعل بقوة ندرة أكثر من غيرها، الأمر الذي يستحق التفكير في مدى احتمال خطورة تعرضنا للوقوع في فخاخ استراتيجيات تحديد السعر المستهدف.
فمثلًا، ما إجابة السؤال الذي طرحناه في الفصل السابق: لماذا الفشار غالي الثمن في دور السينما؟ هل لنفس السبب الذي من أجله ترتفع أسعار النبيذ في المطاعم؟ نعرف أن أول إجابة في الحالتين ستكون: «لأنهم بمجرد أن نجحوا في إدخالك، يستطيعون مطالبتك بأي ثمن يريدونه.» ونعرف أيضًا أن الإجابة الأولي لا تكون صحيحة دائمًا. قد يكون الزبائن أغبياء، ولكنهم ليسوا أغبياء إلى هذه الدرجة، فهم يتوقعون أنهم سيدفعون الكثير نظير النبيذ والفشار والحلوى «قبل» دخولهم من باب المطعم أو السينما.
أما الآن فعندي لك إجابة أفضل: فقد تكون هذه إحدى استراتيجيات تحديد السعر المستهدف. فمرتادو السينما ذوو الحساسية للأسعار سيجلبون الوجبات الخفيفة معهم من المنزل، أو سيدخلون السينما بدونها. أما غير الحساسين للأسعار — ربما أولئك الذين يدعون النساء للسينما ولا يريدون أن يبدوا بخلاء أمامهن — فسيدفعون ببساطة مقابل الفشار باهظ الثمن. يا للمهارة!
يعتبر هذا تفسيرًا أفضل بكثير حيث إن هناك كثيرًا من البلدان بها دار عرض سينمائي واحدة فقط، وحتى في البلدان التي يوجد بها أكثر من دار سينما، ففي أغلب الأحيان تكون دار واحدة فقط هي التي تعرض الفيلم الذي تود مشاهدته. وهذا يعطي لدار السينما الكثير من قوة الندرة، وإذا كان مدير السينما ذكيًّا فسيحاول استغلال تلك الندرة إلى أقصى درجة ممكنة.
حتى الآن لا تبدو تلك القصة سائرة على أسعار النبيذ المرتفعة في المطاعم. فالمطعم العادي يتمتع بقوة ندرة أقل من دار السينما لأن معظم البلدان سيكون بها مجموعة بدائل متنوعة أمام مرتادي المطاعم. وكلما قلت قوة ندرة المكان، اقتربت أسعاره من أسعار التكلفة. ومع ذلك، فحتى المطاعم العادية يبدو أنها تغالي في أسعار النبيذ. وثمة تفسير أفضل يفيد أن إحدى التكاليف الباهظة التي يتحملها المطعم هي مساحة المنضدة. ولهذا يود أصحاب المطاعم أن يطلبوا من الزبائن سعرًا مقابل قضاء الوقت في المطعم، ولكن نظرًا لأنهم لا يمكنهم القيام بذلك، فهم يطالبون بأثمان عالية مقابل الطلبات التي تستغرق وقتًا أطول في تناولها: ليس النبيذ فقط، بل أيضًا المشهيات وأطباق الحلوى.
نحن نذهب إلى السينما لنشاهد فيلمًا، ونرتاد المطاعم لنأكل، فهل من الحقيقي أن تلك الأماكن تبتزنا بسبب المميزات الإضافية التي تمنحها فوق منتجها التقليدي؟ لا على الإطلاق، فإحدى الميزات المتوفرة في كل من دور السينما والمطاعم هي ميزة استخدام دورات المياه؛ فهذه الميزة تُقدم دائمًا مجانًا. وبالإضافة إلى ذلك فإن مياه الصنبور تُقدم أيضًا بلا مقابل في المطاعم. وفي حقيقة الأمر فإن الميزات الإضافية ليست هي التي تدعو هذا الأماكن لابتزاز مرتاديها ولكن فقدان الحساسية للأسعار هو الذي يسمح للمطعم الذي يتمتع بقوة الندرة أن يمارس سياسة التحديد لسعر مستهدف.
(٨) تقييم الوقائع رقم اثنين
ربما تكون مدير شركة وتشعر بالسعادة وأنت تقرأ عن هذه الاستراتيجيات، بل وبدأت بالفعل في التخطيط لتنفيذ مجموعة من الاستراتيجيات الماهرة في شركتك للوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب. ولكن قبل أن يأخذك حماسك، ستحتاج أولًا إلى التعامل مع الثغرات التي تنطوي عليها استراتيجية تحديد السعر المستهدف التي تتبعها. هناك ثغرتان كارثيتان أو فجوتان عظيمتان في أي خطة تسويقية ذكية. وإذا لم تُعالجَا، ستنهار كل خططك.
وأُولى تلك الثغرات في استراتيجية تحديد السعر المستهدف هي أن الزبائن الذين يفترض أنهم غير حساسين للأسعار قد لا يدخلون في لعبة تحديد السعر المستهدف. ليس من الصعب أن تقنع الزبائن الحساسين للأسعار أن يُعرضوا عن شراء منتج باهظ الثمن، ولكن أحيانًا يكون من الأصعب أن تمنع الزبائن غير الحساسين للأسعار من شراء المنتج الأرخص. وهذه ليست مشكلة مع الفروقات السعرية البسيطة؛ فلقد رأينا بالفعل أنه بإمكانك أن تدفع بعض الزبائن نحو شراء منتجات ذات نسبة ربح بسيطة إذا ما قيست وحدها دون النظر إلى السلع الأخرى، ولكن نسبة الربح هذه قد تكون ضخمة عند قياس السلع ببعضها البعض تمامًا مثل تغليف بعض الفلفل في كيس بلاستيكي، أو نقل أكياس البطاطس المقلية إلى الرف العلوي. والمسألة لا تكون دائمًا سهلة عندما يتعلق الأمر بقرارات شرائية على قدر أكبر من الأهمية.
ونجد بعض أكثر الأمثلة تطرفًا حول استراتيجيات تحديد السعر المستهدف في صناعة السفر: فتذاكر الدرجة الأولى سواء بالقطار أو الطائرة أغلى ثمنًا من تذاكر الدرجات الأقل، ولكن ما دام الهدف الأساسي هو نقل الركاب من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، فربما يكون من الصعب إذن أن تعتصر شركات النقل النقود من الركاب الأثرياء. ولكي تنفض الشركات استراتيجية تحديد السعر المستهدف على نحو فعال فإنها يجب أن تبالغ في الفرق بين نوعي الخدمة الأفضل والأسوأ. وبالفعل لو فكرت قليلًا فستجد أنه ليس هناك سبب على الإطلاق في عدم وجود طاولات في عربات الدرجة الثالثة، كما هو الحال في القطارات بالمملكة المتحدة، وذلك حتى لا يقرر ركاب الدرجة الأولى شراء تذاكر أرخص في الدرجة الثالثة عندما يرون كم أصبحت الدرجة الثالثة مريحة أكثر من ذي قبل. لهذا السبب يجب أن يعاني ركاب الدرجة الثالثة.
ليس بسبب تكلفة تركيب سقف لعربة الدرجة الثالثة أو تنجيد مقاعدها البالغة بضعة آلاف من الفرنكات تقوم بعض شركات النقل بترك تلك العربات مفتوحة وذات مقاعد خشبية … ولكن ما تحاول تلك الشركات فعله هو أن تمنع الركاب الذين يستطيعون دفع تذاكر الدرجة الثانية من الركوب في الدرجة الثالثة؛ نعم إنها تزعج الفقراء ولكن ليس لأنها تَرْغَب في إزعاجهم، وإنما لتخويف الأغنياء … وهذا هو نفس السبب في أن الشركات القاسية مع ركاب الدرجة الثالثة والبخيلة مع ركاب الدرجة الثانية؛ تصير سخية وكريمة في التعامل مع زبائن الدرجة الأولى. فبالرغم من إنكارهم على الفقراء أساسيات الخدمة، يوفرون للأغنياء خدمة غير ضرورية.
وبالتأكيد يعد سوء حال معظم صالات المغادرة في مطارات العالم جزءًا من نفس الظاهرة. فإن أصبحت الخدمة في كل صالات المغادرة المجانية مريحة، لن تتمكن شركات الطيران بعد الآن من بيع تذاكر درجة رجال الأعمال وما تشمله من المساحة المريحة في المطار لحامل هذه التذاكر. وهذا يفسر أيضًا لماذا تطلب مضيفات الطائرة أحيانًا من ركاب الدرجة السياحية (التي تعادل الدرجة الثالثة في القطارات) عدم مغادرة الطائرة قبل ركاب الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال. فهذه «الخدمة» لا تهدف إلى راحة ركاب الدرجة السياحية، وإنما لينظر إليهم ركاب مقدمة الطائرة في شفقة واشمئزاز. وذلك لتتأكد شركة الطيران من وصول الرسالة إليهم: استمر في الدفع من أجل المقعد باهظ الثمن، وإلا ستجد نفسك مع تلك المضيفة الأخرى في رحلتك القادمة.
ونفس الحيلة نراها في المتاجر: فنحن نرى منتجات يبدو أنها قد غُلفت بهدف واضح وهو أن تنم عن سوء جودتها. كثيرًا ما تنتج المتاجر مجموعة منتجات «توفيرية» تحمل اسم المتجر ذات أغلفة صماء لا تتغير سواء أكان المنتج الذي بداخلها عصير ليمون، أم خبز، أم بقول. إن تعيين مصمم جيدٍ وطباعة بعض الشعارات الجذابة لن يكلف المتجر الكثير، ولكن لن يحقق هذا الغرض المطلوب ألا وهو أن التغليف صُمم بعناية لكي ينبذه الزبائن المستعدون للدفع أكثر. فحتى هؤلاء الزبائن المستعدون لدفع خمسة أضعاف السعر المعروض لزجاجة عصير الليمون سيشترون المنتج الرخيص، إلا إذا بذل المتجر بعض الجهد لتثبيطهم. لذلك فمثل عدم وجود الطاولات في عربات الدرجة الثالثة بالقطارات والمقاعد غير المريحة في صالات المطارات؛ فإن التغليف القبيح للمنتجات «التوفيرية» صُمم لضمان قيام الزبائن المتكبرين بزيادة الأسعار على أنفسهم بأيديهم.
لو كنت تفكر مثلي، لرأيت أن كل تلك الحيل غاية في الخسة. ولكن نفس الرأي الشائع الذي يمقت صناعة الدي في دي لمحاولتها بيع منتجاتها بأسعار مختلفة في أسواق مختلفة يرى في الوقت نفسه أن على شركات الأدوية الكبرى أن توفر الدواء للدول الفقيرة بأسعار مخفضة. وهكذا يبدو أن حدسنا الأخلاقي يرسل لنا رسائل متناقضة باعثة على الحيرة.
وربما تكون القصة بالبساطة التالية: عندما يكون المنتج مهمًّا مثل عقار لعلاج مرض الإيدز، فمن المهم أن يحصل عليه الفقراء. أما عندما يكون المنتج تافهًا كأقراص الدي في دي نثور غضبًا لفكرة أننا نقع ضحايا الجشع. ولكن قد لا يكون هذا صحيحًا تمامًا، فأقراص الدي في دي تشق طريقها إلى مناطق غاية في الفقر، فهل يجب علينا على الأقل أن نسعد لأن الفقراء يشاهدون الأفلام في الحانات وصالات القرى في كل مكان في العالم النامي؟ أم العكس، يجب أن نزداد حنقًا لأن شركات الأدوية تغالي في أسعار الأدوية المهمة في العالم المتقدم؟ لا يمكن لعالم اقتصاد أن يحل هذه الألغاز الأخلاقية، ولكن يمكنه على الأقل أن يزيح عنها الستار لكي تغدو أكثر وضوحًا.
(٩) متى يكون تحديد السعر المستهدف مفيدًا؟
إليك المثال الاعتباري التالي:
وفي النهاية تحدد الشركة أسعارًا مرتفعة لأن الناس في الدول الغنية سيدفعون الكثير من النقود نظير العلاج الفعال، وبالتالي لا مغزى إذن من خسارة زبائن يدفعون آلاف الدولارات في سبيل البحث عن زبائن يدفعون السنتات.
قد تبدو هذه أخبارًا سيئة. فتلك الشركة تستخدم قوة الندرة التي تتمتع بها لفرض سعر مرتفع على عقار ضروري لإنقاذ حياة المرضى. وبالتالي، لا يحصل عليه الناس في الدول الفقيرة الذين يموتون بسبب طمع شركة الأدوية.
في الواقع هذه الأخبار نصفها فقط هو السيئ؛ فهناك أيضًا «الأحياء» بسبب طمع شركة الأدوية. فلقد تشجعت الشركة لتطوير هذا العلاج المهم على أمل الحصول على حق براءة الاختراع الذي يدر الربح الوفير. فالأبحاث التي تتم على الأدوية وتطويرها إجراءات باهظة التكاليف، ويجب على أحدهم تحملها. يقتضي النظام الحالي بأن شركات التأمين العامة والخاصة هي التي تتحملها. ولمّا كانت الولايات المتحدة هي أكبر أسواق العالم للأدوية، كانت تذهب إليها الابتكارات والتي تثاب فيها بشكل كبير.
وبالرغم من تحقيق شركة بيلكورب للأرباح عن طريق بيع منتجاتها من الأدوية بسعر عالمي موحد مرتفع، فهناك طرق أخرى تمكنها من الاستفادة أكثر هي وزبائنها أيضًا. وحينما يتكلم علماء الاقتصاد عن إمكانية الاستفادة أكثر، فهم لا يتكلمون عنها مع التسليم بالأمر الواقع. ولكنهم يتحدثون عن فكرة أدق ألا وهي أن شركة بيلكورب يمكنها بالفعل تحقيق مزيد من الأرباح، وخدمة العالم بصورة أفضل.
افرض أن ما يحتاجه أحد المستهلكين من الأدوية لمدة عام يكلف شركة بيلكورب ١٠ دولارات لإنتاجه، ويباع في الصيدليات بسعر ١٠٠٠ دولار. وهذا لا يمثل مشكلة للمستهلكين الأغنياء المستعدين للدفع، أو التابعين لشركات تأمين تدفع لهم. ففي كل عام ينتقل ٩٩٠ دولارًا ممن يعيشون بمرض الإيدز إلى صانعي الدواء. ولكن قد يكون هناك مواطن بالكاميرون يعمل سائق تاكسي وغير مستعد لدفع أكثر من ٥٠ دولارًا فقط سنويًّا مقابل العلاج، حتى إنه قد يفضل الغذاء أو وقود التاكسي على العلاج. وبالتالي يخسر هذا السائق فرصة الحصول على علاج بسبب سياسة شركة بيلكورب في تحديد سعر عالمي مرتفع، وتخسر الشركة كذلك فرصة تحقيق بعض الربح. ولكن إذا باعت الشركة لهذا الشخص العلاج مقابل سعر يتراوح ما بين عشرة إلى خمسين دولارًا — وليكن ٣٠ دولارًا — فسيستفيد كلا الطرفين. فيحصل سائق التاكسي على العلاج مقابل ٣٠ دولارًا بينما كان مستعدا لدفع ٥٠ دولارًا. وتحصل شركة الأدوية على ٣٠ دولارًا كعائد من تكلفة تبلغ ١٠ دولارات للقرص، أي ربح قدره ٢٠ دولارًا.
والآن افترض أن اتبعتْ شركة بيلكورب استراتيجية تحديد لسعر مستهدف، تظل بناء عليها تطلب سعرًا من الدول الغربية الغنية يبلغ ١٠٠٠ دولار مقابل العقار الذي طورته، في حين توفره للأفراد في الدول النامية مثل سائق التاكسي في الكاميرون مقابل ٣٠ دولارًا، وفجأة، تفتح شركة بيلكورب سوقًا جديدًا كاملًا لها؛ فالخصومات الجديدة للشركة تسمح بكسب ملايين المستهلكين الجدد بربح يبلغ ٢٠ دولارًا سنويًّا من كل منهم، وتحتفظ في الوقت ذاته بكل المبيعات التي تحققها في الدول الغنية.
وهذا كله مع افتراض أن العقار مخفَّض السعر لن «يتسرب» ويعاد بيعه مرة أخرى، الأمر الذي يثير عظيم القلق عند شركات الأدوية. فإعادة بيع الأدوية ذات الأسعار المخفضة في كندا يعتبر مشكلة تواجه شركات الأدوية التي تود أن تستغل استعداد بعض الناس في الولايات المتحدة لدفع المبالغ الكبيرة، والتي تبيع أيضًا خدمات الرعاية الصحية للكنديين الذين يرفضون دفع الأسعار العالية مقابل العقاقير الطبية. والخطورة إذا استمرت عملية إعادة البيع أن ترفض الشركات الأمريكية الاستمرار في بيع العقاقير بأسعار مخفضة للكنديين.
يجب أن يجعلنا هذا المثال ندرك أن زيادة شفافية الأسعار التي تسببت فيها الإنترنت وأشكال التطور الأخرى في مجال الاتصالات هي مسألة ذات جانب سلبي، ألا وهو أن الشركة التي تتمتع بقوة ندرة قد تُعرض عن توفير المنتجات المخفضة لأن تلك المنتجات أكثر تعرضًا لأن تتسرب ويعاد بيعها.
وتخلق سياسة التسعير الثنائي التي تتبناها شركة بيلكورب حالة أفضل بكثير لا يتضرر منها المستهلكون في الدول الغنية، ويكسب من ورائها حملة أسهم شركة بيلكورب، وينتفع منها أيضًا المصابون بمرض الإيدز في الدول الفقيرة. أي أنها حالةٌ جميع الأطراف فيها رابحون، أو كما قد ينعتها أحد علماء الاقتصاد بأنها تطور واضح في الفعالية.
ولا يعني هذا أن الحالة الجديدة مثالية؛ ولكنه يعني فقط أنها حالة تنم عن تقدم جلي بالمقارنة بالحالة السابقة التي تسببت فيها قوة ندرة شركة بيلكورب في زيادة عدم الفاعلية بشكل كبير … وخسارة جسيمة في الأرواح في الدول الفقيرة. ربما نستشيط غضبًا عندما يتم حرمان الفقراء من الأدوية التي تكلف إنتاجها بضعة سنتات، ليس بسبب العدل (فالكثير من الأمور غير عادلة) ولكن لأن هذا يعرض حياتهم للخطر.
(١٠) متى يكون تحديد السعر المستهدف سيئًا؟
سنعرف في الحال، إن كنا علماء اقتصاد، أن هذه حالة من اللافعالية. بعبارة أخرى، يمكننا أن نفكر في أن هذه حالة تعود بالكسب على فرد واحد على الأقل دون أن يتضرر منها أي فرد آخر. افرض أن وجدت الشركة أحد الموظفين الراكبين إلى العمل يوميًّا مستعد فقط لدفع مبلغ أقل من ١٠٠ دولار بقليل، وليكن ٩٥ دولارًا، ولذلك قرر أن يسافر بالسيارة بدلًا من القطار، وقررت الشركة أن تقدم له مقعدًا بسعر ٩٠ دولارًا. فكيف توفر له مقعدًا مقابل ٩٠ دولارًا إن كانت كل المقاعد ممتلئة؟ يمكنك أن تأخذ طالبًا ليس في عجالة من أمره مستعد لكي يدفع أكثر من ٥٠ دولارًا، ولنقل ٥٥ دولارًا مقابل المقعد، وتلقيه بأدب خارج القطار. ولكنك ستعيد له ثمن تذكرته بالإضافة إلى ١٠ دولارات تعويضًا عما سببت له من إزعاج.
كيف صار الحال الآن؟ لقد كان الموظف مستعدًا لدفع ٩٥ دولارًا، فدفع ٩٠ دولارًا فقط. وبذلك استفاد من توفير مبلغ ٥ دولارات. وكان الطالب مستعدًا لدفع ٥٥ دولارًا مقابل تذكرة ثمنها ٥٠ دولارًا، فلو كان سُمح له بالركوب لكان استفاد بتوفيره اﻟ ٥ دولارات. ولكنه حصل لتوه على ١٠ دولارات، لذلك فهو سعيد هو الآخر. وماذا عن شركة النقل؟ لقد حولت لتوها تذكرة ثمنها ٥٠ دولارًا إلى تذكرة ثمنها ٩٠ دولارًا محققة صفقة مربحة أكثر. وحتى بعد دفعها اﻟ ١٠ دولارات كتعويض للطالب الذي أنزلته من القطار، فلقد كسبت الشركة ٣٠ دولارًا. وهنا، الكل مستفيد، أو سيستفيد لو تبنت الشركة هذا النظام بدلًا من استراتيجية تحديد السعر المستهدف لفئة من الركاب. ولكن ليس هذا ما يحدث بالطبع لأنه لو فعلت الشركة ذلك مرة، فسيتشبث كل الركاب من الموظفين الذين كانوا على استعداد لدفع ١٠٠ دولار مقابل التذكرة بالتذاكر البالغ ثمنها ٩٠ دولارًا، وسيشتري الطلاب الذين لم يكونوا على استعداد لدفع ٥٠ دولارًا التذاكر على أية حال وينتظرون أن تدفع الشركة لهم لينزلوا من القطار. وبالتالي تنقلب الحالة بأكملها ضد مصلحة شركة النقل المعنية وحدها بتحديد الأسعار.
إذا بدأت رأسك في الدوران، فإليك هذا الملخص السريع: تعتبر استراتيجية تحديد السعر المستهدف لفئة من المستهلكين حالة من عدم الفعالية لأنها تأخذ المقاعد من الركاب المستعدين لدفع مبلغ أكبر وتعطيها للركاب المستعدين لدفع مبلغ أقل. ومع ذلك، لا تزال شركات الطيران وشركات السكك الحديدة يستخدمونها لأن البديل — وهو تحديد السعر المستهدف للمستهلك الفرد — ليس بديلًا ممكنًا.
حسنًا، أحيانًا يكون تحديد السعر المستهدف أقل فعالية من السعر الموحد كما في مثال القطار، وأحيانًا يكون أكثر فعالية من السعر الموحد كما في مثال عقاقير علاج مرض الإيدز. ولكن هل هناك مزيد من القول في هذا الصدد؟ فعندما تخفق استراتيجية تحديد السعر المستهدف في زيادة حجم المبيعات، وتقوم فقط بنقل المنتجات من الناس الذين يقدرون قيمتها، مثل الركاب من الموظفين، إلى الناس الذين يقدرون قيمتها بصورة أقل، مثل الطلاب، كما في مثال شركة النقل، فستكون تلك الحالة حتمًا أقل فعالية من استراتيجية السعر الموحد. أما عندما تتسبب استراتيجية تحديد السعر المستهدف في فتح سوق جديدة دون أن تؤثر على السوق القديمة، كما في مثال شركة الأدوية فستكون هذه حالة أكثر فعالية بالتأكيد من الحالة التي تسببت فيها استراتيجية السعر الموحد.
وثمة حالة وسط بين هذا وذاك. فالكثير من استراتيجيات تحديد السعر المستهدف لفئة من المستهلكين تمارس القليل من كلا الأمرين، فهي تتسبب في فتح بعض الأسواق الجديدة ولكنها تقوم أيضًا بنقل المنتجات من المستهلكين الذين يعطون للمنتج قيمة كبيرة إلى المستهلكين الذين لا يقدرون المنتج بنفس الدرجة، مهدرة بذلك بعض المكاسب الممكنة. فعلى سبيل المثال، لقد نُشر هذا الكتاب بغلاف فاخر مقابل سعر مرتفع، وسيتم نشره لاحقًا بغلاف ورقي بسعر أقل. والهدف من ذلك هو تحديد السعر المستهدف الأعلى للقراء الشغوفين بقراءة ما أكتبه. ولهذا الأمر نفعه وضرره، فمن نتائجه المفيدة أن الناشر سيتمكن من بيع النسخ ذات الغلاف الورقي بأسعار أرخص ليصل الكتاب بذلك إلى مزيد من القراء. أما النتيجة غير المفيدة فهي أن النسخة التي نشرت أولًا هي الأغلى ثمنًا ولذلك سيفضل بعض القراء انتظار النسخة الأرخص. هكذا يدور العالم المليء بالندرة، فعندما تحاول الشركات التي تتمتع بقوة ندرة استغلال تلك القوة، تتسبب في حالة من اللافعالية. وكالعادة نحن خبراء الاقتصاد سنكون تقريبًا قادرين على التفكير دائمًا لتحويل المواقف لتعود بفائدة أكثر على جميع الأطراف.
أقول «تقريبًا» لأن الشركة القادرة على ممارسة سياسة مثالية لتحديد السعر المستهدف للمستهلك الفرد؛ لن يفوتها أبدًا مستهلك واحد، فالمستهلكون الأغنياء، أو اليائسون سيدفعون المبالغ الكبيرة. أما المستهلكون الفقراء، أو الذين لا يبالون بشراء منتجات معينة دون غيرها فسيدفعون القليل، ولكن لن تدير الشركة ظهرها لأي مستهلك مستعد لأن يدفع تكلفة إنتاج المنتج. وهنا سنكون بصدد حالة من الفعالية.
ومع ذلك، فالواقع يقر أنه في أغلب الأحيان لا توجد شركة تملك العديد من المعلومات عن عملائها لتتمكن من تحقيق مبيعات فعالة ومثالية. فستحتاج الشركة أن تدخل إلى عقل كل مستهلك لتعرف مدى تمسكه بالمنتج، الأمر الذي يحتاج إلى قوة خارقة وهذا ليس معقولًا. ولكن ماذا إذا كان يمكنك إدخال مفضلات كل مستهلك إلى حاسب آلي عملاق؟ ماذا إذا كان لديك كل المعلومات التي تحتاجها كي لا تخسر زبونًا واحدًا؟ هل سيحسن ذلك من العالم شيئًا؟
أود أن ألفت انتباهك إلى شيء آخر، عندما غيرت شركة بيلكورب من سياستها العالمية لتسعير منتجاتها، فهي لم تقم بفعل مربح فقط، بل أيضًا قامت بفعل فعال وعادل في آن واحد. فهل لا يزال لدينا ما نقوله عن كيفية تسبب طمع الشركات الخاصة في خدمة المصالح العامة؟ للإجابة على كل تلك الأسئلة وأكثر … اقرأ الفصول التالية.