القصة الخفية
ماذا كنت ستفعل إذا كنت مكان السيد جيروم؟ قرر هو الذهاب في رحلة عبر نهر التايمز، ولكنه لم يكن عالم اقتصاد. نصيحتي لك في مثل ذلك الموقف أن ترفع سماعة الهاتف، وتشتري بضع وثائق تأمين صحي متعددة المزايا. فما دمت تعلم علم اليقين أنك سوف تطلب رعاية صحية باهظة التكاليف، فلماذا إذن لا تدفع قسط التأمين الذي يمنحك أفضل رعاية صحية ممكنة؟
وهذا يثير تساؤلًا، فإذا كان الناس أمثال السيد جيروم سيتهافتون على شراء وثائق تأمين صحي عندما يعرفون فقط أنهم مرضى، فأي شركة سترغب في التأمين عليهم؟
(١) المعلومات الداخلية
اختار أكيرلوف سوق السيارات المستعملة كمثال في بحثه الذي أوضح فيه أنه حتى مع احتداد المنافسة، فلا يمكن للسوق أن تعمل جيدًا إذا كان البائعون يعرفون عن جودة سياراتهم أشياء لا يعرفها المشترون. دعونا نأخذ مثالًا شديد الوضوح: لنفرض أن نصف السيارات المستعملة المعروضة للبيع عبارة عن «خوخ»، والنصف الآخر عبارة عن «ليمون» حيث يساوي الخوخ أكثر بالنسبة للمشترين عما يساويه بالنسبة للبائعين، وإلا ما كانوا ليشتروه في المقام الأول — لنقُل مثلًا إن قيمة السيارة الخوخ تبلغ ٥٠٠٠ دولار بالنسبة للمشترين المحتملين و٤٠٠٠ دولار بالنسبة للبائعين. أما السيارات الليمون فهي ليست إلا قطعًا من الخردة. وكل بائع يعرف بالطبع إذا كانت السيارة التي يبيعها ليمونة أم خوخة، أما المشترون فيجب عليهم التخمين.
قد يظن المشتري الذي لا يمانع في المشاركة بمقامرة، لن تسفر في الغالب عن أي ربح مالي، أن سعر السيارة المتراوح ما بين ٢٠٠٠ دولار و٢٥٠٠ دولار سيكون مناسبًا لسيارة ذات احتمال بنسبة ٥٠٪ أن تكون خوخة، واحتمال بنسبة ٥٠٪ أن تكون ليمونة. وقد يظن البائع أيضًا أن الصفقة كانت عادلة بالنسبة لاحتمال ٥٠:٥٠، ولكن الحقيقة أن البائع لا يواجه احتمال ٥٠:٥٠: يعرف البائع على وجه اليقين إذا كانت السيارة التي يبيعها خوخة أم ليمونة. والمشكلة هي أن البائع الذي يبيع ليمونة قد ينحني ليقبل يدك إذا عرضت عليه مبلغ ٢٥٠٠ دولار، أما البائع الذي يبيع الخوخة فسيظن أن هذا المبلغ إهانة بالنسبة له. وإذا تجولت لشراء سيارة فستجد أن سيارات الليمون هي فقط المعروضة للبيع بذلك المبلغ. أما إذا عرضت مبلغ ٤٠٠١ دولار فستكتشف أن السوق به خوخ أيضًا ولكنه لم يخلُ بعد من الليمون، فسعر ٤٠٠١ دولار ليس سعرًا جذابًا لسيارة ذات احتمال بنسبة ٥٠٪ ألا تعمل جيدًا.
وهذه ليست مشكلة هينة عن جوانب هامشية من السوق. ففي هذا السيناريو «لا يوجد سوق»، فلا يوجد بائع مستعد لبيع خوخة بأقل من ٤٠٠٠ دولار، في حين لا يوجد مشترٍ مستعد لعرض مثل ذلك المبلغ مقابل سيارة من المحتمل بنسبة ٥٠٪ أن تكون ليمونة. فالباعة لا يعرضون الخوخ للبيع، والمشترون يعرفون أنهم لا يفعلون ذلك، وفي النهاية لن يباع سوى الليمون الذي لا يساوي شيئًا. تقود الافتراضات الأقل حدة حول المشكلة إلى انهيار للسوق أقل حدة ولكن النتائج تكون متشابهة: إذا عرف أحد الأطراف معلومات عن جودة المنتج لا تعرفها الأطراف الأخرى، فربما لا تباع بعض المنتجات عالية الجودة على الإطلاق، أو قد تباع بكميات محدودة.
وبالتأكيد فإن أي شخص حاول أن يشتري سيارة مستعملة من قبل سيقدر ما فهمه أكيرلوف ووضعه في بحثه. فالسوق لم يعمل كما يجب؛ إذ أن السيارات المستعملة تميل إلى أن تكون رخيصة ومنخفضة الجودة. وإذا وجدت سيارات مستعملة جيدة فسيحاول البائعون الحصول على سعر جيد مقابلها، ولكن نظرًا لأنهم لا يمكنهم «إثبات» أن السيارات التي يبيعونها خوخة، فلن يتمكنوا أيضًا الحصول على السعر الذي يريدونه، ولذا سيحتفظون بها لأنفسهم. قد تتوقع أن البائعين ينتفعون بالمعلومات الداخلية التي يعرفونها، ولكن في الواقع لا يوجد رابحون: فالمشترون الأذكياء لا يعرضون أنفسهم للدخول في منافسة يكون الفائز فيها محدد قبل بدايتها.
دعنا نتكلم بوضوح أكثر عن مدى الإزعاج والمآسي التي تتصف بها هذه المشكلة. إن ما وصفه أكيرلوف ليس بالسوق الذي يقع فيه الناس ضحايا غش، ولكنه شيء أكثر خطورة من ذلك بكثير. فقد وصف السوق التي ينبغي أن تكون ولكنها غير موجودة نتيجة القوة المدمرة للمعلومات الداخلية. سيحاول باعة السيارات الجيدة التفاوض مع المشترين، تبلغ قيمة كل تفاوض ١٠٠٠ دولار، لأن هذا هو الفرق بين قيمة السيارة للبائع وقيمتها للمشتري: فإذا اقترب سعر السيارة من ٤٠٠٠ دولار، فسيحصل المشتري على أكثر من تلك القيمة، وإذا اقترب من ٥٠٠٠ دولار، فسيحصل البائع على قيمة أكبر. ولكن أشار أكيرلوف إلى أن مثل هذا النوع من التفاوض على السعر الذي يخلق قيمة لا يحدث؛ لأن المشترين لن يتموا عملية الشراء دون دليل على جودة السيارة، والباعة لا يمكنهم تقديم هذا الدليل.
وليست سوق السيارات المستعملة بالسوق الوحيدة التي تتأثر بالمعلومات الداخلية، فمثلًا الأثاث في الشقق المؤجرة: لماذا لا يجري اختياره ليعيش طويلًا؟ يجيب نموذج أكيرلوف عن هذا السؤال، فالشقق بها العديد من الخصائص الجديرة بالملاحظة بل والواضحة التي يمكنها أن تؤثر على قراراتنا بتأجير الشقة أم لا، مثل مساحتها وموقعها والتصميم الداخلي، وما إلى ذلك. ولكن هناك بعض الخصائص الأخرى التي تصعب ملاحظتها، مثل ما إذا كان الأثاث متينًا أم لا. فالمالك ليس لديه دافع قوي لوضع أثاث متين وباهظ الثمن؛ لأن هذه الصفة ليست من الصفات التي يمكن أن يلاحظها المستأجر المحتمل قبل أن ينتقل إلى الحياة فيها، وبالتالي لن تكون هي الصفة التي يدفعون من أجلها للحصول على الشقة. (بالطبع قد يتجه المالك لاستخدام أثاث رخيص وضعيف لأنه يتوقع أن المستأجر قد يدمر كل ما يضعه بالشقة، مع الوضع في الاعتبار أن هذا يجب أن يدفعه إلى توفير أثاث أكثر متانة بالشقة). ونتيجة لهذا يوجد سوق لشقق الإيجار ذات الأثاث الضعيف، ولا توجد سوق لشقق الإيجار ذات الأثاث المتين.
(٢) المعلومات الداخلية والتأمين الصحي
ستصير مشكلة «الليمون» التي طرحها أكيرلوف مزعجة بما يكفي إذا كانت تسري فقط على السيارات المستعملة، والشقق المفروشة، والمطاعم التي تسرق الزبائن في الأماكن السياحية الجميلة. ولكن لسوء الحظ، فإنها تدمر أسواقًا أخرى مهمة ولاسيما سوق التأمين الصحي.
يعتبر سوق التأمين الصحي سوقًا مهمة لأن المرض لا يمكن التنبؤ به، وأحيانًا يكلف علاجه الكثير. ولا يقتصر الأمر على أن بعض العلاجات الطبية باهظة التكاليف بل غالبًا يستحيل تأجيلها إلى أن تكون ظروف المريض مناسبة. وقد تتصادف أيضًا مع فترات يقل فيها دخل المرء لأن أكثر من يحتاجون الرعاية الصحية يكونون في الغالب من المسنين، وأيضًا لأن من يحتاج إلى رعاية صحية يكون مريضًا إلى درجة تمنعه من العمل.
ولهذا يعد التأمين الصحي منتجًا عالي القيمة. فإن لم يعمل سوق التأمين الصحي على نحو جيد، فإن النتيجة ستكون في شكل ارتفاع باهظ في الأسعار ووجود عدد كبير من الناس الذين لا يغطيهم التأمين الصحي. سيعي الأمريكيون هذا الحديث جيدًا لأن السوق في الولايات المتحدة لا تعمل بشكل جيد في توفير التأمين الصحي، ويحدث هذا بالضبط بسبب مشكلة «الليمون» التي طرحها أكيرلوف.
لنفرض أن المعرضين للإصابة بالأمراض هم «الليمون»؛ وأن الأصحاء هم «الخوخ». فإذا ظننتُ أنني من الليمون، مثلما ظن جيروم كي. جيروم، فسوف أُنصح بشراء كل وثائق التأمين الصحي الموجودة. ومن ناحية أخرى، إذا شعرتَ أن صحتك جيدة وكل أجدادك عاشوا حتى بلغ عمرهم مائة عام، فربما لن تشتري أي وثيقة تأمين صحي إلا إذا كانت زهيدة الثمن؛ حيث إنني لا أتوقع أن تحتاجها في يوم من الأيام.
وبفضل ما أثبته أكيرلوف أن الأسواق التي يحصل المتعاملون فيها على معلومات غير متماثلة هي أسواق من المؤكد خرابها، نعرف أن سوق التأمين قد تختفي مثلما اختفى سوق السيارات الجيدة المستعملة. فإذا كان جسدك بمنزلة خوخة ناضجة وسليمة، فلن ترى وثيقة التأمين العادية على أنها صفقة رابحة. بينما سنأخذها بالأحضان أنا والسيد جيروم حيث إن جسدينا بمنزلة الليمون المر. والنتيجة هي أن شركة التأمين سوف تبيع الوثائق فقط للمتأكدين أنهم سيستخدمونها. ومن ثم، تفقد شركة التأمين عملاءها الأقل عرضة للحصول على علاج، بينما يزيد عدد عملائها الذين لا ترغب فيهم وهم الأكثر عرضة للحصول على علاج مكلف. ومن هنا، تضطر الشركة إلى تقليل ما تقدمه من خدمات وترفع أقساط التأمين. وحينئذ سيجد أصحاب الصحة المتوسطة أن التأمين باهظ الثمن أكثر من اللازم، ويقومون بإلغائه دافعين بذلك الشركة إلى رفع أقساط التأمين أكثر وأكثر حتى تظل تمارس عملها وتعوض الخسارة. ثم يبدأ المزيد والمزيد من الناس في إلغاء وثائقهم. ليقتصر شراء الوثائق في النهاية على أكثر الليمون مرضًا وبأسعار يكاد يكون من المستحيل تحملها.
ستحاول شركات التأمين بالطبع إصلاح سوقها بمحاولة التقصي عن مزيد من المعلومات عن عملائها مثل: هل يدخنون؟ كم تبلغ أعمارهم؟ هل توفي آباؤهم بسبب أمراض وراثية في عمر الخامسة والثلاثين، أم في حادثة سيارة رياضية في عمر المائة؟ وعندما تتوفر المزيد من المعلومات الجينية، تتمكن شركات التأمين من تكوين صورة أكثر دقة عن تكلفة توفير تأمين صحي لأفراد معينين. فقد كانت سوق التأمين من قبل تهددها مشكلة المعلومات الداخلية أي عندما كانت شركة التأمين تعرف معلومات أقل من تلك التي يعرفها عملاؤها. ولكن إذا استمرت شركات التأمين في إغلاق فجوة المعلومات هذه، فسيزيد استعدادها للتأمين على مزيد من الناس. قد يبدو هذا مثل استراتيجية «تحديد سعر مستهدف» التي يستخدمها مقهى ستاربكس ومتجر هولفودز اللذان تحدثنا عنهما في الفصل الثاني، ولكن في الواقع الاستراتيجية هنا مختلفة. فعندما يحاول مقهى ستاربكس أن يستهدف سعرًا، فهو يعرف تكلفة ما يقدمه من قهوة ويحاول ببساطة معرفة ما إذا كان يمكن الحصول على سعر أعلى من بعض الزبائن. أما شركات التأمين الصحي، فتواجه مهمة أكثر صعوبة، فهي لا تعرف كم ستبلغ تكلفة تغطية علاج كل عميل، وإذا لم تتمكن من معرفة ذلك بدقة أكثر من العميل نفسه، فستفلس بمنتهى البساطة؛ بسبب أعباء تكلفة علاج العملاء. كما أن النتائج هنا مختلفة أيضًا: فتحديد السعر المستهدف هو أحد طرق الحصول على قطعة كبيرة من الكعكة عن طريق اعتصار المال من الزبائن، بينما يخلق تحري المعلومات عن عملاء شركة التأمين كعكة جديدة تجعل عملية بيع الوثائق ممكنة بعد أن كانت غير ممكنة من قبل.
وسوق التأمين يمكن إنقاذه ولكن مع الأسف لهذا الأمر تكلفته: فسوف تكتشف الشركات أن الليمون كأمثالي أنا والسيد جيروم سيُقبِل على شراء وثائق التأمين حتى ولو بأسعار باهظة. أما الخوخ أمثالك، فيمكنه أن يحصل عليها بمبالغ منخفضة للغاية بالمقارنة بتكلفتها الحقيقية. وسيعكس كلا النوعين من الأقساط سعرًا عادلًا من الناحية التأمينية، أي سعرًا لا يغطي أكثر ولا أقل من تكلفة العلاج المحتملة. إذا كانت الشركات تمتلك حقيقة معلومات دقيقة — ربما يمكنها الحصول عليها عن طريق الفحوصات الجينية للعميل التي ستوضح مدى احتمال إصابته بأمراض في المستقبل — فيمكنها أن تطلب من العملاء الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض أقساطًا تبلغ مئات الآلاف من الدولارات، الأمر الذي لا يمكن تسميته تأمينًا بالمرة.
يمكن لشركة التأمين أن تستمر في العمل إذا قامت بتقييم الخلفيات الفردية والتنبؤ بتكلفة تقديم المنافع لكل منا؛ فإذا لم تُغالِ الشركات في أسعارها لليمون من أمثالي أنا والسيد جيروم، فستتوقف عن العمل سريعًا. والمشكلة هي أن من يتوقعون أن يطالبوا بتغطية تأمينية — من كبار السن ومن يعانون من أمراض مزمنة مثلًا — سيجدون أن شركات التأمين التي يتعاملون معها لا تعطيهم التأمين الكافي على الإطلاق. ولأن أقساط التأمين التي يدفعونها قد عُدّلت لتضع تلك التكلفة في الحسبان، فهم يدفعون مقابل التأمين أكثر مما يمكن أن يدفعوه من جيوبهم الخاصة نظير العلاج بدون تأمين.
وإذا أمعنا النظر في تاريخ شركات التأمين فسنجد أن وثيقة التأمين تعتمد على الجهل المتبادل. فشركة التأمين يمكنها أن تؤمن عليّ ضد السرقة، أو الحريق، أو أن تدفع فاتورة العلاج فقط إذا لم يتأكد كلانا من إمكانية وقوع أحداث مثل هذه. ولكن لو كان بوسعنا التنبؤ بالمستقبل، لأصبح شراء وثائق التأمين بلا مغزى. فمثلًا، إذا كانت شركة التأمين التي أتعامل معها تتنبأ بحدوث الحرائق أفضل مني بكثير، فستبيع لي التأمين فقط إذا كنت لا أحتاجه. وإذا علمت الشركة أن منزلي سيحترق، فستتصل بالمطافئ بدلًا من أن تبيع لي التأمين. ولمّا كان التأمين يعتمد على الجهل المتبادل، فإن أي تقدم في علوم الطب يكسر من حواجز الجهل — سواء بالنسبة لشركة التأمين، أو للمؤمن عليه، أو لكليهما — سيضعف من الأساس الذي ترتكز عليه تلك الصناعة. فكلما عرفنا أكثر قلَّت وثائق التأمين المباعة. وهذا أمر مقلق إذا أردنا إعطاء الناس فرصة لحماية أنفسهم من التكلفة الباهظة للحظ السيئ.
(٣) إعداد عصير الليمون
لقد أدرك سبينس أن قول بائع الخوخ: «كل سياراتي خوخ» غير كافٍ؛ لأن الكلام سهل، فبإمكان بائع الليمون أيضًا أن يقول: «كل سياراتي خوخ.» ولن يعرف المشتري من يقول الصدق. وبالتالي، لا تحمل تلك العبارة التي قالها كلا البائعين أية معلومات. ومن هنا أدرك سبينس أن إشارة الجودة الحقيقية لا بد أن تكون إشارة لا يستطيع بائع الليمون تقليدها، أو بمعنى آخر، لا يقدر على تحمل نفقتها.
وقد تتمثل إشارة الجودة هذه في صالة فاخرة لعرض السيارات باهظة الثمن يشتريها التاجر كنوع من الاستثمار والتي لا يقدر على شرائها إلا من يخطط للبقاء في السوق فترة طويلة. وبالطبع يتوقع بائع الخوخ أن يعود إليه الزبائن الراضون عن مستوى السيارات التي اشتروها منه ليعاودوا الشراء منه مرة أخرى، ويتوقع أيضًا أن يخبروا أصدقاءهم عن متانة وجودة سياراته. وبمرور الوقت، ستغطي أرباح المبيعات تكلفة المعرض. أما بائع الليمون، فلن يتمكن من البيع بهذه الطريقة؛ فكل ما يستطيع فعله هو القيام ببعض الدعاية لسيارات الليمون التي يبيعها، ثم سيضطر للانتقال إلى مكان آخر لا تتبعه فيه سمعته السيئة.
لهذا السبب اعتادت بعض البنوك على اتخاذ المباني المبهرة مقرًّا لفروعها. لك أن تتخيل كيف كان يتأكد العملاء من قبل من نزاهة تلك البنوك قبل أن تصبح الحكومة قائمة على مراقبتها؟ فالعملاء يعرفون بالتأكيد أن النصابين الذين يخططون للهرب بالأموال لا يكسون حوائط بناياتهم بالبرونز والمرمر. ويعد هذا أحد الأسباب في أننا نفضل الذهاب أحيانًا إلى المتاجر الكبيرة لنشتري منتجات أغلى من تلك التي تباع في كشك مثلًا، عندما نرغب في شراء منتجات ليس لدينا معلومات داخلية عن جودتها أو متانتها؛ وذلك لأن المتجر الكبير سيبقى في مكانه، وسيعيد لك نقودك إذا شكوت من رداءة المنتج، وهذا يجعلك مطمئنًا وأنت تشتري.
استخدم علماء الاقتصاد الآخرون نظرية سبينس لتفسير حملات الدعاية الضخمة باهظة الثمن التي لا تحوي المعلومات. ففي النهاية ما المعلومات التي يخبرك بها إعلان عن أحد المشروبات الغازية مثل الكوكاكولا؟ المعلومات الوحيدة هي أن الإعلان تكلف أموالًا طائلة. وبالتالي نستنتج أن شركة كوكاكولا تخطط لأن تبقى في السوق، وهذا يجعلها تتعهد بصناعة المنتجات عالية الجودة دائمًا.
استخدم سبينس نفس تلك النظرية ليوضح لماذا يسعى بعض الطلاب لإكمال دراساتهم العليا، فموادها صعبة كما نعرف ولا توفر فرص عمل محددة، كأن يحصل المرء على شهادة في الاقتصاد، أو في التسويق مثلًا. افرض أن أرباب العمل يفضلون تعيين الموظفين الأذكياء المجتهدين، ولكن لا يمكنهم تحديد كل ذلك من المقابلة الشخصية. فالدرجات العلمية التي يستلزم الحصولُ عليها الكثيرَ من الكد والمثابرة هي التي تميز الكسالى من المجتهدين.
ثم يوضح سبينس أن الكسالى لن يستطيعوا الحصول على مثل هذه الدرجات العلمية فحسب، بل إنهم لن يرغبوا كذلك في الحصول عليها، وسيدفع أرباب العمل لموظفيهم من الحاصلين على تلك الشهادات رواتب كافية لتعويضهم عن المعاناة التي تحملوها، ولكنها لن تكون كافية لإقناع الأغبياء والكسالى لخوض نفس المعاناة. وسيدفعون تلك الرواتب حتى مع علمهم بحقيقة أن تلك الشهادات نفسها لا تثبت إنتاجية المتقدم للوظيفة على الإطلاق، فهي مجرد إشارة معقولة إلى الجودة؛ لأن الحصول عليها أمر في غاية الصعوبة على الكسالى. ولما كان سبينس نفسه يحمل درجة علمية من جامعة برينستون، فربما تكون فكرته هذه ذات مغزى.
وأثبت سبينس أن إحدى الطرق لحل مشكلة تعثر الأسواق بسبب المعلومات الداخلية أن يحاول التجار محل الثقة إيجاد طرق يعكسون بها جودة بضاعتهم. ولهذا يجد الخوخ من البنوك، أو المتقدمين للوظائف، أو تجار السيارات المستعملة، أو شركات المياه الغازية — أن الأمر يستحق قضاء الوقت، أو إنفاق المال ببذخ مقابل الديكورات، والمباني الفاخرة، والإعلانات للحصول على شهادة قد لا تضيف لمؤهلات الفرد، ولكنها ببساطة تميزهم عن نظرائهم من الليمون.
وقال سبينس — وإن لم يؤكد — إن مشكلة الليمون يمكن حلها. فهناك بعض الاحتمالات التي طرحها في نموذجه الاقتصادي يقول فيها إن النفع سيعود على كل فرد إذا استحال عليه إظهار تميزه عن الآخرين. فإذا حُرم الطلاب من الدراسات العليا، لن يتمكن أرباب العمل من التمييز بين الموظفين الكسالى والموظفين الأذكياء، وسيدفعون لكلا النوعين نفس الأجور التي تعكس متوسط إنتاجيتهم المتوقعة. وبالتالي، تعم الفائدة على كل من الكسالى والأذكياء إذا كان الأجر الجديد الذي يحصلون عليه أقل من السابق، ولكنه سيوفر عليهم تكلفة الحصول على شهادات عليا. ولن يمانع أرباب العمل من تعيين عمال سيئين في متوسطهم طالما أنهم باتوا يدفعون أجورًا أقل. ووضح أكيرلوف أن هذا الحل لمشكلة المعلومات الداخلية سيقلل قدرة الناس على تحقيق التعاملات التي تعود بالنفع على كلا الطرفين. وهنا وجد سبينس وسيلة تحقق هذه التعاملات، ولكنه أفاد أيضًا أن لهذه التعاملات تكلفة اجتماعية باهظة.
(٤) الليمون، والرعاية الصحية، والولايات المتحدة
قد تفسر صعوبة حل مشكلة الليمون السبب وراء التعثر الشديد الذي يشهده نظام الرعاية الصحية الأمريكي. فالولايات المتحدة تعتمد على شركات التأمين الصحي الخاصة التي تغطي التكاليف الطبية للمواطنين. وهذا غريب، ففي بريطانيا، وكندا، وأسبانيا، على سبيل المثال، الحكومة هي التي تدفع جزءًا كبيرًا من تكاليف الرعاية الصحية. وفي كل من أستراليا، وبلجيكا، وفرنسا، وألمانيا، وهولندا يوجد نظام «التأمين الاجتماعي» الذي يدفع التكاليف الطبية، ويكون فيه معظم الناس مجبرين على شراء التأمين الذي تحدد أقساطه وفقًا للدخل بحكم القانون، وليس وفقًا لمخاطرة أن تدفع الشركة تغطية تأمينية باهظة.
أما الولايات المتحدة، فلا تجبر مواطنيها على شراء التأمين، ويتم تحديد الأقساط وفقًا للمخاطرة، وليس وفقًا للدخل. ولكن لا يبدو أن هذا النوع من مبادئ السوق التي يحبها العديد من الأمريكيين يقدم لهم نوعًا جيدًا من الرعاية الصحية، فقد كشف استطلاع للرأي أُجري حديثًا أن ١٧٪ فقط من الذين سئلوا كانوا راضيين عن نظام الرعاية الصحية الأمريكي، وكانوا يرون عدم وجود داعٍ للقيام بأي إصلاحات كبيرة. فلماذا لم يرضَ الآخرون عن النظام؟
والأمر التالي هو البيروقراطية. اكتشف الباحثون في كلية الطب بجامعة هارفارد أن التكلفة الإدارية لنظام الرعاية الصحية الأمريكي، العام والخاص، تتعدى اﻟ ١٠٠٠ دولار للفرد. بعبارة أخرى، عندما تحسب كل الضرائب، والأقساط، والنفقات الأخرى، تجد أن المواطن الأمريكي العادي ينفق في عيادات الأطباء وغيرها نفس المبلغ الذي يدفعه المواطنون في سنغافورة وجمهورية التشيك على رعايتهم الصحية الكاملة. وتتشابه النتائج الصحية للمواطنين إلى حد بعيد في هاتين الدولتين معها في الولايات المتحدة، حيث يقل كل من متوسط عمر الإنسان ومتوسط «الحياة الصحية» (وهي إحصائية تميز بين الحياة الصحية الطويلة والحياة الطويلة الموبوءة بسنوات من الإعاقة الشديدة) في جمهورية التشيك عنهما في الولايات المتحدة، ويزيدان في سنغافورة بصورة طفيفة عنهما في الولايات المتحدة. كما تزيد تكلفة نظام الرعاية الصحية الأمريكي للفرد ثلاث مرات عن التكلفة البالغة ٣٠٧ دولارات في كندا التي تحقق نتائج صحية متفوقة.
ثالثًا: يعاني نظام الرعاية الصحية الأمريكي من التشتت. فالتأمين الصحي عادة ما يتم فرضه على المواطن عند الالتحاق بوظيفة، الأمر الذي يقلل من فعالية سوق العمل حين يتخوف الموظفون عند إقدامهم على الاستقالة من ألا يجدوا وظيفة أخرى سريعًا حتى لا يبقوا بدون تأمين صحي طوال فترة البحث عن عمل. والأسوأ أن حوالي ١٥٪ من المواطنين ليس لديهم تغطية تأمينية من أي نوع، الأمر الذي لا بد أن يلقى اهتمام أغنى الأنظمة الاقتصادية في العالم، ولكن ربما لم تهتم حتى الآن؛ لأن أحدًا لم يُلقِ الضوء على مثل هذه النقطة من قبل. قارن هذا بألمانيا التي يبلغ فيها عدد المواطنين الذين ليس لديهم أي تغطية تأمينية بها ٠,٢٪ من إجمالي السكان، أو قارنه بكندا، أو بريطانيا، التي توفر فيها الحكومة الرعاية الصحية لكل مواطن.
وبالنظر إلى ما أخبرنا به جورج أكيرلوف عن الليمون، نجد أن المشاكل التي تشوب نظام الرعاية الصحية الأمريكي مشاكل متوقعة. فبالتأكيد لا بد لنظام تأمين صحي خاص اختياري أن يكون مشتتًا. فالقليل من الناس ممن لديهم مصاريف مُلحة أكثر من التأمين الصحي (مثل الفقراء الشباب، ممن لديهم القليل من المال ويتوقعون، وهم على حق في ذلك، أنهم أقل عرضة للإصابة بأمراض خطيرة) لن يشتركوا في هذا النظام التأميني. ومن هنا، ترفع شركات التأمين الصحي — التي تحتاج إلى تغطية تكاليفها — من أقساط التأمين للعميل العادي، الأمر الذي سينفر المزيد والمزيد من شراء الوثائق. وبعكس مثال الليمون الذي ينهار فيه السوق تمامًا، لا ينهار ذلك السوق؛ وهذا تقريبًا لأن العديد من الناس يخشون أن يحتاجوا في يوم من الأيام إلى رعاية صحية، لدرجة أنهم يزيد استعدادهم لدفع أقساط أعلى بكثير من أقساط التأمين العادلة.
تنفق الولايات المتحدة أكثر من الدول الأخرى على الرعاية الطبية
لهذا يقبل الناس على شراء التأمين، ولكن لا يزال هناك الكثيرون ممن يأبون الدخول في النظام. وبفضل سبينس وستيجلتس نتوقع أن تخترع شركات التأمين الطرق للتحايل على مشكلة الليمون. وبالفعل نجد شركات التأمين تناضل لرصد مخاطر تعرض عملائها لأمراض، ورصد سلوكياتهم، ونفقاتهم. ولكن بالرغم من أن الحلول قد تكون مؤثرة وفعالة، إلا أن لها بعض النتائج السلبية. فلا يزال تعنت الروتين بالنظام الأمريكي عبئًا ثقيلًا. وتظل تلك العلاقة السخيفة التي تربط التأمين الصحي بالوظيفة، فمن الوهلة الأولى، ليس ثمة سبب يجعلك مجبرًا على قبول التأمين الصحي مع الوظيفة أكثر من إجبارك على قبول سكن أو طعام مجاني. فهذه الطريقة تجبر الأصحاء على الاشتراك في وثائق تأمين إجمالية، وذلك لحماية سوق التأمين من الإفلاس، ولكن على حساب المؤمن عليهم الذين يبغون الحصول على تغطية تأمينية مثالية مقابل أسعار مناسبة. فهم لا يختارون خطط الرعاية الصحية بأنفسهم، وإنما يختارها مديرو الموارد البشرية في شركات التأمين ممن لديهم أولويات مختلفة كأن يحصلوا مثلًا على أقصى منفعة بتقديم نوع واحد من الوثائق «يصلح لجميع المقاسات». والنتيجة بالطبع مزيد من النتائج السلبية.
ولا يصح أن نوقع اللوم إثر كل نقص أو عيب في نظام الرعاية الصحية الأمريكي على مشكلة الليمون التي طرحها أكيرلوف، فحتى من دون الصعوبة التي يواجها النظام بسبب المعلومات الداخلية، لا يزال النظام مثيرًا للجدل لأنه لا يسمح للمؤمن عليهم أن يختاروا طريقة علاجهم بأنفسهم، ولكن شركة التأمين هي التي تحدده لكي يتسنى لها أيضًا تحديد قيمة الفاتورة التي ستدفعها. فعندما تطلب من شخص آخر أن يدفع الفاتورة نيابة عنك، لا تندهش إذا لم تحصل تمامًا على ما كنت تريده.
والمدهش أن التغطية غير الكاملة، واللافعالية، والتكاليف الباهظة ليست فقط سمات شركات التأمين الصحي الخاصة، ولكنها تتوافق بالضبط مع ما ذهب إليه كل من أكيرلوف وسبينس وستيجلتس في أبحاثهم.
(٥) نقص المعلومات — والحقيقة الكاملة
تعد مشكلة الليمون (التي يسميها علماء الاقتصاد بالاختيار السلبي، والتي تحدُث عندما تتسبب المعلومات الداخلية في مشكلة بالأسواق تقلل من استعداد المشترين الذين لا يملكون المعلومات للدفع؛ لأنهم لا يمكنهم معاينة جودة المنتج أو ملاحظته عند الشراء) مثالًا على مشكلة نقص المعلومات (التي يسميها علماء الاقتصاد مشكلة عدم تماثل المعلومات). وثمة مشكلة خطيرة يتسبب فيها نقص المعلومات تسمى مشكلة «الخطر الأخلاقي»، ومفهومه بسيط: إذا عوضت الناس ماديًّا عندما يتعرضون لمواقف سيئة، ربما يصبحون أقل احتراسًا فيما بعد.
فإذا قمت بالتأمين على سيارتي ضد السرقة مثلًا، لن أعبأ إذا تركتها في شارع مهجور غير آمن على الإطلاق. فإذا عرفت أن التغطية التأمينية لن تكفي لتعويضي في حالة السرقة، فسأحترس منذ البداية وأترك سيارتي في موقف خاص وبحارس أيضًا. وإذا فقدت وظيفتي ودفعت الحكومة لي إعانة بطالة، قد لا أسارع بالبحث عن وظيفة جديدة بنفس سرعتي إذا لم توفر لي الحكومة أي دخل على الإطلاق، تمامًا مثلما لن أزعج نفسي للتأكد من الوضع المالي للبنك الذي أضع فيه نقودي، إذا كنت مؤمنًا على المال في حسابي الجاري ضد إفلاس البنك.
ومن المستحيل أن يخلو نظامنا الاقتصادي من مشكلة الخطر الأخلاقي. ولذلك تسعى شركات التأمين لمحاولة تقليله، فهي لا تقدم مثلًا التأمين ضد الفصل من العمل، أو حدوث الحمل، لأنه سيكون من العار وجود هذا النوع من التأمين. والسبب واضح، فمن السهل أن تخطط كي يتم فصلك من العمل، أو أن تصبحين حُبلى. كما أن هناك العديد ممن يريدون ترك وظائفهم، وهناك الكثيرات أيضًا ممن يُردن إنجاب الأطفال، وهؤلاء — خصوصًا — سيتشوقن لشراء وثيقة تأمين تدفع لهم ببذخ كي يضعن خططهن موضع التنفيذ. وهذا سيقلل بالطبع من احتراسهم. من هنا، كان الخطر الأخلاقي كافيًّا لإقناع شركات التأمين الخاصة بالعدول عن التأمين ضد البطالة.
من ناحية أخرى، لا تزال الحكومة تقدم إعانات البطالة. وهذا بالطبع أمر يشجع على البطالة. ومع ذلك فإذا توقفت الحكومة عن دفع تلك الإعانات، لن يخلو المجتمع من البطالة. ولكن دعم هؤلاء العاطلين أمر يفعله كل مجتمع متحضر. غير أنه يجدر بالحكومة التفريق بين التشجيع على البطالة، ودعم من لا دخل لهم.
وبالفعل تحاول كل من الحكومة وشركات التأمين الخاصة ألا تكون السبب في حدوث مشكلة الخطر الأخلاقي. وفي سبيل ذلك قامت بتعديل وثائق التأمين لتتضمن مدفوعات المؤمن عليه وجعلت التغطية غير كاملة. فإذا بلغت المدفوعات في وثيقة التأمين على سيارتي ٢٠٠ دولار، ربما لن أقوم باتخاذ احتياطات أمنية كبيرة خشية فقدان هذا المبلغ، ولكني على الأقل سأتأكد أن سيارتي موصدة.
ويمكن لشركات التأمين التصدي للخطر الأخلاقي أيضًا بالوصول إلى المعلومات الداخلية. فمثلًا سيسألونني عما إذا كنت مدخنًا أم لا قبل تحديدهم لأقساط التأمين التي سأدفعها. ولن يكون من الصعب عليهم التأكد مما إذا كنت صادقا أم لا، فسيعرفون بفحص طبي بسيط أنني أدخن. وإذا أرادت معظم الحكومات أن تدفع إعانات البطالة، فستحاول التأكد إذا كان متلقو تلك الإعانات يبحثون بجدية عن عمل أم لا، ونظرًا لأن أي حكومة لا يمكنها القيام بذلك بطريقة مثالية، فلا تدفع إلا الإعانات الزهيدة. وربما تكون كريمة أكثر إذا استطاعت التأكد من مدى جدية العاطلين في البحث عن عمل.
هل يمكن لتلك المشاكل الخاصة بالمعلومات أن تُلحق الدمارَ التام بالأسواق؟ بالتأكيد تضر بها، ولكن لا داعي للمبالغة في حجم الضرر، فالأسواق تنجح دائمًا حتى مع عدم تماثل المعلومات، ذلك لأن هناك دائمًا محاولات لتضييق الهوة التي يصنعها نقص المعلومات أو لتقليل الضرر الناجم عنها.
فمثلًا عندما أرغب في شراء شيء معقد مثل الكاميرا، تجدني استشير أصدقائي ومواقع الإنترنت ومجلات المستهلك، التي آمل أن تعطيني المعلومات المفيدة عن المنتجات التي أرغب في الاختيار من بينها. فآراء الخبراء تحوي «معلومات داخلية» تفيدنا إلى حد بعيد عندما نجهل المعلومات عما نرغب في شرائه. أنا شخصيًّا أعتمد علي تلك الآراء دائمًا في سوق يعاني هو الآخر من مشكلة حادة في نقص المعلومات، وهو سوق الرحلات. فأنا مثلًا أتطلع دائمًا لزيارة الأماكن الجديدة، ولكن في معظم الأحيان أكون غير متأكد مما إذا كنت سأستمتع بزيارة تلك الأماكن أم لا، أو إذا كانت شركة السياحة جيدة أم لا، ولا أستطيع معرفة الأماكن الجميلة والتفريق بينها وبين الأماكن الخطرة. فإذا لم نتغلب على هذه المشكلة، فلن نذهب إلى أي مكان في العطلة. (أو قد نطلب من الحكومة أن توفر لنا هي تلك الرحلات، الأمر الذي يستدعي في ذهني صورة لقوائم الانتظار الطويلة التي قد تجعلنا ننتظر لسنوات، قبل التمتع بالألعاب الجماعية والتشجيع المصطنع في منتجع خرساني كئيب). ولكننا في المقابل نشتري دليلًا سياحيًّا، ونحاول أن نعرف تلك المعلومات بأنفسنا.
أما مع نظام الرعاية الصحية فلا تفلح استشارة دليل طبي عندما تريد إجراء جراحة في القلب. ومع ذلك، فمشكلة المعلومات واحدة حيث تجد مرضى القلب يحاولون دائمًا معرفة الأطباء ذوي السمعة الطيبة، والإجراءات الطبية التي حققت أعلى معدلات نجاح، والمستشفيات التي تتمتع بأفضل سمعة. ومع ذلك، تجد أن معظمهم ليس لديهم فكرة عن مدى مهارة أطبائهم المعالجين.
(٦) إخفاق السوق وإخفاق الحكومة
يا له من أمر محزن! فنظام الرعاية الصحية الخاص المعتمد على التأمين الخاص سيكون — كما علمنا — باهظ التكاليف ولا يعتمد عليه، وبيروقراطيًّا. والأدهى من ذلك أنه يعطي للمرضى خيارات مثل اختيار جراح قلب بعينه، وهو قرار غير مؤهلين لاتخاذه. لذا، هل يمكن للحكومة أن تقدم ما هو أفضل؟ على أية حال، فقد أعرب كل فصل من فصول هذا الكتاب حتى الآن، باستثناء الفصل الثالث، عن أسفه لأسباب وتكاليف إخفاقات السوق. ولعلنا نتوسم أملًا في الحكومة أن تصلح الأمور.
ولسوء الحظ، كما تخفق الأسواق فإن الحكومة تخفق هي الأخرى. يوجد لدى كل السياسيين والبيروقراطيين دوافعهم الخاصة. وقوة الندرة، والتأثيرات الخارجية، ونقص المعلومات لا تختفي بمفعول السحر عندما يُدار الاقتصاد أو يُنظم بواسطة الحكومة. فعندما يحدث إخفاق الأسواق وإخفاق الحكومة في آن واحد، ينحصر الخيار دائمًا بين أقل الضررين.
وتوقعك أن النظام مكتظ بالناس صحيح بالطبع، ففي معظم الأحيان يضطر الناس للانتظار، كما أن اختيار المريض ليس سمة أساسية من سمات النظام: فإما أن يقبل أي نوع من العلاج يراه الطبيب مناسبًا، أو ألا يحصل على أي علاج. ونتائج العلاج بشكل عام ليست سيئة، ولكن طالما كانت قوائم الانتظار الطويلة للحصول على علاج محل جدل بين الكثيرين لعدة سنوات. وأفاد نفس استطلاع الرأي الذي كشف أن ١٧٪ من المواطنين الأمريكيين يستحسنون نظام الرعاية الصحية الأمريكي أن ٢٥٪ فقط من البريطانيين سعداء بنظامهم للرعاية الصحية، صحيح أنها نسبة جيدة، ولكنها ليست تأييدًا ساحقًا.
إذا كنت من المصابين بالعمى في بريطانيا فستعي جيدًا أحد الأمثلة المعاصرة للمشاكل التي يواجهها مثل هذا النظام. شن المعهد الملكي الوطني للمكفوفين، والمنظمات الأخرى التي تمثل من لديهم مشاكل في الإبصار حملة قوية ضد قرار المعهد الوطني للجودة الصحية بالمملكة المتحدة، وهو جهاز يقيم العلاجات ويقرر ما إذا كان نظام الخدمات الصحية الوطنية يجب أن يغطي تكاليف الرعاية الصحية للمكفوفين أم لا، فتجد مثلًا أن جراحات القلب موجودة في قائمة العلاجات المسموح بها بينما جراحات تجميل الأنف غير مسموح بها.
وفي عام ٢٠٠٢م أصدر المعهد الوطني للجودة الصحية تقريرًا ينصح بالعلاج بالتأثير الضوئي في الحالات الحرجة فقط، وفقط عندما تكون كلتا العينين مصابتين، ويجري العلاج فقط على العين ذات الإصابة الأقل خطورة. ومعنى هذا أن من يخضعون لهذا العلاج، سيتمكنون من الإبصار بعين واحدة فقط في حين أن من يحتاج إلى هذا العلاج لتحسين قوة إبصاره، سيحرم من العلاج كليًّا.
ولكن من السهل اتهام المعهد الوطني للجودة الصحية دون فهم لمنهجه وللموقف الذي يواجهه. فقد كان التحدي الأساسي الذي يواجه إدارة الخدمات الصحية الوطنية هو محدودية مصادر التمويل في ظل أوجه إنفاق غير محدودة. ويرى المركز أنه ليس من المناسب مطالبة المرضى، الذين يدفعون القليل أو لا يدفعون شيئًا، بدفع مقابل للعلاج لأنهم إذا دفعوا سيطالبون بكل شيء. لهذا كان لزامًا على المعهد الوطني للجودة الصحية أن يحل تلك المعضلة الحتمية بأن يحدد من الذي يستحق الحصول على تغطية تأمينية، ومن يتركه يدفع تكلفة علاجه بنفسه.
ولكن كيف يمكنه تحديد ذلك في ظل مثل هذه الظروف؟ وماذا ستفعل إذا كنت مسئولًا عن المعهد الوطني للجودة الصحية؟ إنها أشبه بالمهمة المستحيلة، ولكنك قد تنجح في تحديد تكلفة كل نوع من العلاج ونتائجه، والمقارنة بينهما. أحيانًا يكون الأمر في غاية البساطة كأن تقرر أن العلاج الذي يمنع الإصابة بأزمة قلبية بنسبة ٢٠٪ أفضل من العلاج الذي يمنع الإصابة بالأزمة بنسبة ١٠٪. وتحت ضغط اتخاذ القرار، قد تبالغ وتقول إن العلاج الأول أفضل مرتين من العلاج الثاني، ولا بد من استخدامه خاصة إذا كان أرخص مرتين. ولكن هل يمكن أن تقارن بين علاج يجعل المريض يعود للسير على قدميه مرة أخرى بعد إصابته في حادث، وعلاج آخر يقلل احتمال الإصابة بالعمى؟ مستحيل! ولكن ربما ستضطر للمحاولة إذا كنت رئيس المعهد الوطني للجودة الصحية والإكلينيكية.
إليك المثال التالي، فكر في المشكلات التي يسببها تحكم المعنيين بأخذ القرار حول تأثير العلاج الضوئي، الذي يقلل فرصة الإصابة بالعمى. لقد زعم المعهد الملكي الوطني للمكفوفين أن العام الذي يعيشه الإنسان وهو ضرير أقل قيمة بكثير من العام الذي يعيشه وهو يتمتع ببصره. فإذا وافق المعهد الوطني للجودة الصحية على هذا الرأي فستزيد قيمة علاجات العمى التي تجعل الإنسان يعيش طويلًا وهو يتمتع ببصره عن تلك التي تجعله يعيش وهو فاقد البصر، وذلك وفقًا لمقياس جودة سنوات الحياة المعدلة.
ولكن مهلًا. فالرأي القائل إنه «من الصعب أن يكون المرء كفيفًا» يفيد أن ذلك المنطق يعطي أولوية كبيرة للعلاجات التي تعيد البصر، في حين يعطي أولوية أقل لعلاج المكفوفين من الأمراض الأخرى. افرض أن جاء إلى المستشفى في نفس الوقت مريضان إثر إصابة كل منهما بانسداد في الشرايين التاجية، وأحدهما ضرير، والآخر أعور، والحالة حرجة لدرجة أن الوقت لا يسمح إلا بإسعاف حالة واحدة فقط، سيفضل مقياس جودة سنوات الحياة المعدلة علاج الأعور على علاج الآخر الكفيف؛ لأن ذلك يزيد من جودة حياة الأعور.
ولكن هذه حجة واهية، فحياة الضرير لا تختلف في قيمتها عن حياة المبصر. وهذا صحيح بالتأكيد. ولسوء الحظ أننا إذا اعتمدنا على مقياس جودة سنوات الحياة المعدلة، فسنجد أنه لا مغزى على الإطلاق من إنفاق أي من الأموال على العلاج الضوئي — أو حتى على تركيب نظارة حيث يذهب ذلك المقياس إلى أن العلاج إن لم يحسن من قيمة حياة المرضى، فلا يستحق أن ينفقوا نقودهم عليه. وقد يتطرف ذلك المقياس إلى القول إن علاج السرطان لا يحسن بالتأكيد من جودة حياة المرضى، وبالتالي فلا قيمة له.
لذلك لا عجب أن المعهد الملكي الوطني للمكفوفين لا يطيق ذكر هذا المقياس. فقد أفاد المعهد بأنه قد ثبت أن العلاج الضوئي يحسن قوة الإبصار وعليه لا بد من توافره بكل الوسائل. ولن ألقي اللوم على المعهد الملكي الوطني للمكفوفين، ولكنه لا يدرك حجم المشكلة التي يحاول المعهد الوطني للجودة الصحية حلها، ألا وهي توزيع الموارد المحدودة على عدد غير محدود من العلاجات الطبية. فمن السهل فهم موقف المعهد ولاسيما ما يبدو أنه قرار قاسٍ، وهو أن تخضع عين واحدة فقط للعلاج تاركين الأخرى تصاب بالعمى. فمقياس جودة سنوات الحياة المعدلة بمنظوره البارد يفيد أن الفرق بين أن يكون للمرء عينان سليمتان وأن تكون له عين واحدة سليمة ليس على نفس الدرجة من أهمية الفرق بين أن يملك المرء عينًا واحدة سليمة وبين أن يكون ضريرًا. ولذلك، يحرج الوضع المالي المعهد مع المرضى لأنهم يطالبون دائمًا بالعلاج المجاني، ومن الصعب إيجاد طريقة مناسبة لتوزيعه.
(٧) إصلاح الرعاية الصحية بجراحة منظار اقتصادية
تسمح تقنيات جراحة المنظار للجراحين بإجراء العمليات دون فتح جروح كبيرة بجسم المريض مقللين بذلك خطورة حدوث مضاعفات أو آثار جانبية. ينصح خبراء الاقتصاد عادة باستخدام استراتيجية مماثلة عند محاولة إصلاح مشكلة تتعلق بالسياسات، إذ تقترب هذه الاستراتيجية من المشكلة بقدر الإمكان بدلًا من محاولة استخدام حل متطرف نوعًا ما لحلها.
كيف إذن يمكننا إصلاح نظام الرعاية الصحية؟ لقد فشل الحل السوقي المعتمد على التأمين في الولايات المتحدة فشلًا ذريعًا إلى حد كبير بسبب المشكلة التي ميزها نموذج الليمون ﻟ أكيرلوف. والنتيجة هي رعاية صحية باهظة التكاليف وبيروقراطية … بل ومتاحة للبعض فقط.
أما المنهج البريطاني فقد عمل على التخلص تمامًا من السوق والاستعاضة عنه بنظام تحكمه قرارات المعاهد الحكومية البيروقراطية مثل المعهد الوطني للجودة الصحية بدلًا من توجيهه بواسطة أسعار السوق، ويحدث هذا مع أن بعضًا من المستشفيات وغرف الجراحة في الاتحاد السوفييتي السابق قد تحولت إلى النظام الإنجليزي. ولحسن الحظ فإن القرارات السياسية الحكومية يمكن تفسيرها في المملكة المتحدة على نحو أفضل من الاتحاد السوفيتي، لذا ينجح النظام جيدًا. ومع ذلك فقد فعلت المملكة المتحدة ذلك كنوع من رد الفعل الضخم واسع المدى على مشكلة خطيرة وإن كانت محددة ألا وهي مشكلة المعلومات الداخلية. ونحن ندين لأنفسنا بسؤال هو: هل توجد جراحة منظار لإصلاح نظام الرعاية الصحية دون التضحية بقدرة المرضى على اتخاذ القرار بشأن القيمة التي يضعونها لأعينهم؟
وفي البداية، يمكن أن يتعرف علم الاقتصاد القائم على جراحة المنظار على الإخفاقات المحددة في السوق التي تنحصر في ثلاثة أقسام: قوة الندرة، والتأثيرات الخارجية، والمعلومات الناقصة، بالإضافة إلى قضية العدل. فقوة الندرة مشكلة محتملة، ولكن بالنسبة لمعظم العلاجات الطبية نجد أنها ليست بالمشكلة الكبيرة. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، ثمة ممارس عام واحد لكل ألف وخمسمائة مريض تقريبًا (والذي يعد أول محطة لمعظم المرضى المشتركين في خدمات الصحة القومية). لهذا ربما لا تجد في البلدة الصغيرة البالغ عدد سكانها تسعة آلاف نسمة إلا ستة أطباء فقط، وهو العدد الذي ربما يكون أكثر من كافٍ للحث على منافسة حقيقية في دولة يعيش ٩٠٪ من سكانها في مناطق حضرية. كما أن هناك بعض العلاجات الخاصة التي ينتج عنها قوة ندرة كبيرة، فتجد مِن المرضى مَن يسافر من أستراليا ومن نيوزيلندا إلى هاواي للعلاج باستخدام مشرط جاما، وهو أداة لعلاج أورام المخ اخترعه الجراح السويدي ليكسل. وهكذا تتدخل قوة الندرة في بعض الحالات وإن كانت قليلة.
والتأثيرات الخارجية، أيضًا، مهمة فقط في بعض الحالات مثل: مشروعات الصحة العامة من أجل الحد من الأمراض المعدية، (فإذا استخدم كل الرجال العازل الطبي لحماية أنفسهم من مرض الإيدز، لن يكون هناك داعٍ للقلق من انتشار المرض). ومع ذلك، فإن أيًّا من التأثيرات الخارجية أو قوة الندرة ليس بالخطورة أو الانتشار حتى يصير تدخل الحكومة بديلًا جذابًا. وحل المنظار هذا سيكون بمنزلة إشراف تنظيمي بسيط لمنع استغلال قوة الندرة بالإضافة إلى بعض الدعم الحكومي المُركز لزيادة برامج التطعيم ضد الأمراض.
لا يعتبر العدل، بالمعني الحرفي للكلمة، ضمن إخفاقات السوق؛ فهو شيء لا يتوفر بالضرورة حتى في الأسواق المثالية. ولكننا نهتم بقضية العدل عندما يتعلق الأمر بالرعاية الطبية لأننا لا نريد أن يُحرم الفقراء منها، ولأن تكلفة الرعاية الصحية يمكن أن تتغير تمامًا تبعًا لاختلاف الحظ من شخص إلى آخر. وفي مجتمع متحضر، فإننا سنرغب في أن نتأكد أن كل فرد يمكنه تحمل نفقة أحد مستويات الرعاية الطبية. وأفضل طريقة للقيام بذلك هي معالجة مشكلة الفقر بشكل عام (راجع فكرة «بدء السباق قبل الآخرين» التي ناقشناها في الفصل الثالث) وذلك باستخدام ضرائب مُعاد توزيعها بحيث تحصَّل من كل فرد وفقًا لطاقته المادية. وعلى أية حال، فلماذا ننفق الكثير لتوفير الرعاية الطبية المجانية للفقراء بينما نتجاهل حقيقة أنهم لا يمكنهم تحمل نفقة الطعام الصحي، أو العيش في مسكن آمن؟
هذا يجعل المعلومات الداخلية عائقًا كبيرًا أمام فعالية نظام الرعاية الصحية. يفيد التحليل الاقتصادي الذي أجريناه أن نظام الرعاية الصحية الذي توفره الحكومة يتسم باللافعالية لأن اتخاذ القرار لا يكون في يد المريض، كما تتدخل الدوافع السياسية في توزيع الموارد. وفي الوقت نفسه، فإن أكبر المشكلات التي تواجه توفير السوق للرعاية الصحية هي مشكلة المعلومات الداخلية وبالتحديد اتجاهها لتدمير أسواق التأمين.
يقترح هذا التشخيص العلاج بالمنظار على مرحلتين: المرحلة الأولى هي توفير المعلومات على نطاق واسع: ويستلزم ذلك أن يكون من السهل الحصول على رأي لطبيب آخر، أو الاتصال بخط ساخن للمساعدة، أو الحصول على المعلومات من المكتبات، والعيادات، والإنترنت، بل وحتى من المتاجر الكبيرة. ولكن لا يهتم الناس كثيرًا في المملكة المتحدة بهذه المعلومات لأن الأطباء هم أصحاب القرار. أما إذا طُلب منا تحمل المسئولية فيما يخص علاجنا، فسيزيد اهتمامنا، وستستجيب الكثير من المصادر (العامة والخاصة) لمطالبنا بمعرفة المزيد.
أما المرحلة الثانية فهي إعطاء المرضى فرصة لاستخدام تلك المعلومات. في النظام المخصخص القائم على التأمين، تقوم شركات التأمين باتخاذ الكثير من القرارات؛ وفي النظام الذي توفره الحكومة فإن الحكومة هي التي تتخذ القرارات. أما في النظام القائم على السوق بدون تأمين، فالقرار بيد المريض. وهذا أفضل كثيرًا، ولكن على المريض أيضًا تحمل تكلفة العلاج غير المتوقعة والتي ربما تكون مفجعة ماليًّا.
ولكن كيف نعطي للمرضى القرار والمسئولية دون أن نضع عليهم عبئًا لا يطاق. سيكون أفضل نظام هو أن نجعل المرضى يدفعون جزءًا كبيرًا من التكلفة، وبالتالي، نوفر لهم دافعًا للتقصي عن المعلومات بأنفسهم، واتخاذ القرارات التي فيها مصلحتهم، وفي نفس الوقت لا تكلفهم الكثير وبحيث يترك النظام التكاليف الباهظة فقط لتتولى أمرها الحكومة أو شركة التأمين. وقد يفلح ذلك الأمر لأن معظم تكاليف العلاج ليست باهظة للغاية، ومن ثم لن تحتاج إلى تأمين.
وبتفصيل أكثر، كيف يمكن لمثل هذا النظام أن ينجح؟ ينبغي أن يكون الهدف هو منح المرضى أقصى قدر من المسئولية واتخاذ القرار، ومن ثم نطلب منهم أن ينفقوا على علاجهم من أموالهم الخاصة وليس من أموال الحكومة أو شركة التأمين، ولكن لا بد من التأكد أن أحدًا لن يحصل على فاتورة علاج باهظة، ولا بد من التأكد أيضًا أنه حتى الفقراء لديهم المال الكافي لشراء العلاج.
وتعني هذه المتطلبات أن المرضى سيتعين عليهم تحمل التكلفة الكاملة لما يتلقونه من علاج؛ ولكن يبقى على شركة التأمين أن تغطي الفواتير الباهظة، وأن كل فرد ينبغي أن يكون لديه حساب ادخاري مخصص لنفقات العلاج، ستسهم فيه الحكومة في حالة الفقر أو المرض المزمن.
وهكذا يكون التأمين الباهظ رخيصًا بدرجة كبيرة عندما يغطي تكاليف العلاج الباهظ. أما الادخار فهو أيضًا لا يمثل مشكلة: يمكن أن تقلل الحكومة الضرائب المفروضة على كل فرد بمقدار ١٥٠٠ دولار في العام على سبيل المثال — المبلغ الذي يمثل تقريبًا تكلفة الرعاية الصحية العامة في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة بحساب الضرائب — ثم تجبر الحكومة الناس على وضع هذا المبلغ في حساب ادخاري. وأما بالنسبة لمن يدفعون ضرائب أقل من ١٥٠٠ دولار سنويًّا، فستمنحهم الحكومة المال لتعويض النقص. وطالما أن النظام إجباري، فلن يكون هناك مجال لحدوث ما يعرف بالاختيار السلبي الذي يعبر عن ميل أصحاب الوظائف الخطرة إلى التأمين على حياتهم.
إذا اشتركت في مثل هذا البرنامج، كيف سيطبق عليك؟ ستتحول مدخراتك من أجل العلاج تلقائيًّا إلى حساب بنكي بفائدة مرتفعة، وستزيد هذه المدخرات تدريجيًّا طوال حياتك. وبالنسبة لمعظم الناس، تكون تكلفة العلاج منخفضة في سنوات شبابهم. لذا، قد تتوقع أن يصل حسابك إلى ثلاثين ألف دولار عندما تبلغ سن الأربعين؛ والأكثر من هذا، إذا استطعت أن تقلل نفقاتك، سيستمر حسابك في زيادة. وبالتالي، سيضمن لك مبلغ الثلاثين ألف دولار تلقيك الكثير من الرعاية الطبية. بالطبع ربما يتم إنفاقها كلها على إجراء علاجي واحد باهظ الثمن، ولكن سيبقى التأمين الصحي عند الكوارث موجودًا ليقلل نفقاتك.
فإذا وصلت إلى سن التقاعد وما يزال في حسابك الادخاري الطبي مبلغ يزيد عما تحتاجه، فقد تستخدم هذا المال لتنفق منه عند تقاعدك. وعندما تموت، قد تورث تلك المدخرات لحسابات الآخرين (في الغالب زوجتك أو أبنائك). لذا، سيكون لديك دافع في كل مراحل حياتك لإنفاق المال على العلاج الذي تشعر أنه غاية في الأهمية فقط. فإذا شعرت مثلًا أن العلاج المناسب بالنسبة لك مجرد إجراء وقائي — على سبيل المثال العلاج بجلسات الشياتسو الياباني التي يجري فيها العلاج بضغط الإصبع — فالقرار لك. كما قد تفكر أيضًا في الإقلاع عن التدخين نظرًا لما قد يكلفك من علاج بمرور السنين. فبالتأكيد سيغطي التأمين الصحي عند الكوارث عمليات زرع الرئة التي ستخضع لها، ولكن لا يوجد نظام بشري يمكنه تجنب الخطر الأخلاقي تمامًا.
والاستثناء سيكون إذا كان يتوجب عليك دفع نفقات باهظة للغاية، فربما ستفضل شركة التأمين في هذه الحالة أن تدفع ثمن أرخص علاج بينما ستفضل أنت الحصول على أفضل علاج، عندها سنكون بصدد مشكلة عويصة، ولكنها لن تختلف عن مشكلة تضارب المصالح التي نواجهها في كل تعاملاتنا مع أنظمتنا الطبية الآن. ويعني النظام الجديد باختصار أن تعارض المصالح الموروث أصبح قلما ما يحدث.
من الشائع توفر السلع والخدمات في السوق الخاص، ولكن أحد البدائل الرئيسية — وبالتأكيد هو البديل الأيديولوجي الرئيسي — هو توفيرها باستخدام سوق سياسية. فتوزيع السلع والخدمات الطبية يعد من بين أصعب أنواع السلع في التوزيع. فقد حاولنا من قبل استخدام الأسواق السياسية لتوزيعها، ولكنها خذلتنا لأسباب واضحة.
فللوهلة الأولى، نجد أن إخفاقات السوق الخاص التي يمثلها النظام الأمريكي، واضحة هي الأخرى. ولكن متى دققت بعناية في إخفاقات الأسواق، تجد مشكلة نقص المعلومات أكثرها خطورة، ويعاني سوق التأمين أكثر العواقب خطورة. ويتلقى المواطنون الأمريكيون معظم رعايتهم الطبية عبر هذا السوق الذي لا يعمل على نحو سليم.
وببعض التخيل، وبنذر يسير من مبادئ علم الاقتصاد، يمكن أن نفكر بهدوء في مشكلات أنظمتنا الحالية، ونفكر في كيفية إصلاحها. ففي سنغافورة، حقق النظام المذكور في الصفحات الأخيرة من الكتاب نجاحًا على مدار عشرين عامًا تقريبًا. يعيش المواطن السنغافوري العادي حتى عمر الثمانين، وتبلغ تكلفة ذلك النظام (سواء العام أو الخاص) ألف دولار للفرد — أي أقل من تكلفة بيروقراطية الرعاية الطبية وحدها في الولايات المتحدة. فكل عام يدفع المواطن السنغافوري حوالي سبعمائة دولار مقابل الرعاية الطبية (في حين يدفع الأمريكي العادي ألفين وخمسمائة دولار)، ويبلغ إنفاق الحكومة على الفرد ثلاثمائة دولار (أي أقل خمس مرات من الحكومة البريطانية، وأقل سبع مرات من الحكومة الأمريكية). أي أن علم الاقتصاد المعتمد على المنظار قد نجح.
وربما السبب في عدم انتشار النجاح الذي حققته سنغافورة في الدول الأخرى هو ترجيح الرأي القائل إننا يجب أن نعتمد على السوق، في حين يؤكد الرأي الآخر أن الدور الحكومي سيكون هو الأفضل. فأين الحل إذن، عند الحكومة، أم السوق؟ علمنا من قبل أن السؤال وحده بمعزل عن السياق لا معنى له. وللإجابة عليه نحتاج أن نفهم لماذا تنجح الأسواق، وكيف، ولماذا تفشل؟ علمنا من الفصل الثالث لماذا تنجح الأسواق بالضبط؛ لأن اختياراتنا كمستهلكين بين البائعين المتنافسين تعطي لهم الدوافع المناسبة، والمعلومات المناسبة، لإنتاج الكميات المناسبة مما نحتاجه بالضبط. كما علمنا أيضًا أن كلًّا من قوة الندرة، والتأثيرات الخارجية، والمعلومات الداخلية يمكن أن تدمر الطريقة التي تقوم فيها الأسواق بكل ذلك.
أما في حالة الرعاية الصحية فيكون أداء السوق ضعيفًا؛ لأننا بينما نريد أن نطمئن أنهم سيدفعون فواتير العلاج الباهظة نيابة عنا، تضر المعلومات الداخلية بصناعة التأمين باستمرار لأنها تُنفر منها العملاء الأقل إصابة بالأمراض؛ مما يدفع شركات التأمين إلى رفع قيمة الأقساط. صحيح طورت الشركات الخاصة طرقًا للتحايل على المشكلة، ولكنها طرق بيروقراطية، وباهظة الثمن. ولكن كان لحكومة سنغافورة من القوة ما مكنها من معالجة المشكلة الرئيسية باستخدام كل من المدخرات الإلزامية والتأمين الصحي عند الكوارث للتأكد من القدرة على التحكم في التكلفة، وللحفاظ في نفس الوقت على حق المريض في الاختيار. فالحكومة يمكنها أن تحل محل الأسواق، ولكنها ستبلي بلاءً أفضل إذا تدخلت لمحاولة إصلاحها فقط. ولكن من غير المحتمل أن تنجح إذا لم تحدد أين توجد المشكلة في المقام الأول.