رجال عرفوا قيمة العدم
تخيل أنك استأجرت خبيرًا اقتصاديًّا ليبيع منزلك، سيقوم الخبير بتنظيم مزاد ذي مظهر طيب بحيث يمنحك الشعور بالاطمئنان بأنك ستحصل من ورائه على مبلغ ٣٠٠,٠٠٠ دولار، وهي القيمة التي تظن أن منزلك يساويها. ثم تبدأ عملية استلام العطاءات التي تسفر عن إصابتك بصدمة كبيرة وشعور خبيرك الاقتصادي بالحرج بعد أن انتهت العملية ببيع المنزل بأقل من ٣,٠٠٠ دولار. وهكذا تجد نفسك مشردًا وعلى وشك الإفلاس. ثم تُطلق منك زوجتك، وتقضي بقية حياتك تعيش في قبو شديد الرطوبة.
وبينما أنت كذلك، تجد جارك قد قرر هو الآخر بيع منزله. يقوم جارك في هذا الشأن بالاتفاق مع خبير اقتصادي آخر يقوم بدوره بتنظيم مزاد ذي مظهر طيب ويتوقع جارك أن يصل سعر منزله في المزاد إلى ٣٠٠,٠٠٠ دولار، ولكن ما تنفك عملية المزايدة في رفع سعر المنزل إلى أن يصل سعره إلى ٢,٣ مليون دولار.
أتجد من الصعب أن تحدث هذه القصة في الواقع؟ كلا على الإطلاق. فقد وقعت حادثة مماثلة ولكنها لم تحدث لملاك منازل وإنما لحكومات. أما العقارات التي عُرضت للبيع في تلك الحالة فلم تكن مكونة من الطوب والملاط، وإنما من الهواء، أو إن شئت الدقة أطوال موجات الطيف اللاسلكي، التي تستخدمها شركات الهواتف المحمولة لتشغيل شبكاتها. فقد كانت حكومات العالم منذ بضعة أعوام مضت تبيع حقوق تراخيص استخدام هذه الترددات لشركات الاتصالات. ولمّا كان هذا الطيف الترددي موردًا محدودًا، وُجدت الندرة. وأينما وجدت الندرة، وجدت الفرص لكسب المال، كما علمنا من الفصول السابقة. ولكن للأسف، لم يكن كل الخبراء الاقتصاديين الذين عينوا كمستشارين يعرفون كيفية تنظيم المزادات على النحو الذي يجعلها تحقق على الأرجح سعرًا جيدًا. لذا تجد أحد المزادات قد حقق أقل من ١٪ من المبلغ المأمول، في حين حقق مزاد آخر مبلغًا يزيد عشر مرات عن المبلغ المتوقع.
لم تكن تلك المزادات خاضعة للحظ، وإنما للمهارة في بعض الحالات، وارتكاب الأخطاء في حالات أخرى. فبيع الهواء في المزاد شأنه شأن لعب البوكر، فهي لعبة تتطلب المهارة الفائقة، ويجري لعبها للفوز بجوائز ضخمة بالفعل.
(١) الحب، والحرب، والبوكر
يعني مصطلح لعبة بالنسبة إلى المتخصص في نظرية الألعاب أي نشاط يؤثر فيه توقعك بما سيفعله الطرف الآخر على قرارك بما ستفعله أنت. وتتضمن هذه الألعاب لعبة البوكر، والحرب النووية، والحب، أو بيع الهواء في مزاد. والبساطة التي تبدو عليها نظرية الألعاب قد تكون خادعة: فأنت تجد على سبيل المثال لعبة «قيادة السيارات» لعبة مباشرة بكل معنى الكلمة. وفي هذه اللعبة أحصل على نتيجة مقبولة إذا قدت السيارة على الجانب الأيمن من الطريق، وأنت كذلك تحصل على نفس النتيجة إذا فعلت مثلي. وكذلك أحصل على نتيجة مقبولة إذا قدت السيارة على الجانب الأيسر من الطريق وأنت كذلك تحصل على نفس النتيجة إذا فعلت مثلي. أما إذا تصرف أحدنا عكس تصرف الآخر فإنني أحصل على نتيجة سيئة للغاية (كأن تحملني سيارة إسعاف بعد إصابتي). وكذلك سوف تحصل أنت أيضًا على نتيجة سيئة إذا اصطدمت مقدمة سيارتك بمقدمة سيارتي، ولكنني في نظرية الألعاب لا أهتم عادة بنتيجتك في حد ذاتها وإنما أهتم بها لأنها تساعدني على التنبؤ بسلوكك.
كان فون نيومان عاشقًا للبوكر، وبسبب اهتمامه بهذه اللعبة طور أدوات رياضية لا تفيد المتخصصين في الاقتصاد فحسب، بل تفيد كل من يريد فهم كل شيء بدءًا من المواعيد الغرامية وحتى علم الأحياء التطوري، والحرب الباردة.
وأساسيات لعبة البوكر بسيطة إذ يخفي كل اللاعبين أوراق اللعب إلى أن يتم كشف الأوراق في نهاية اللعبة عندما تفوز أفضل تشكيلة أوراق بقيمة الرهان الموضوع على الطاولة، وهو عبارة عن مجموعة المراهنات منذ أن بدأ اللاعبون في اللعب. وعلى كل لاعب أن يستمر في المراهنة حتى يظل في اللعبة. أحيانًا ينسحب بعض اللاعبين في منتصف اللعبة مفضلين التخلي عن المال الذي راهنوا به بدلًا من المخاطرة بخسارة مال أكبر عند كشف الأوراق. فإذا انسحب كل اللاعبين الآخرين، يمكنك أن تفوز بقيمة الرهان دون أن تكشف أوراقك.
فإذا كنت تلعب البوكر، فسيكون همك الأساسي أثناء اللعب هو تحديد ما إذا كان الأمر يستحق أن تستمر في دفع المال كي تظل في اللعبة، إذ لا يكفي أن تحسب احتمالات أن تشكيلة الأوراق في يدك أفضل من الأوراق المختفية في الأيادي الأخرى على الطاولة. بل إنك تحتاج إلى تحليل كل تحركات منافسيك. فهل المراهنة بمبلغ ضئيل علامة على الضعف، أم هي خدعة لإغرائك لأن ترفع رهانك أمام القوة الخفية؟ وهل تعني المراهنات بالمبالغ الكبيرة تشكيلة أوراق لعب متميزة في يده، أم أنها خدعة هي الأخرى؟ ولا بد أن تضع في اعتبارك أن منافسيك يحاولون تفسير مراهناتك في الوقت ذاته. لذا عليك أن تأخذ حذرك وتراوغ أنت الآخر حتى لا يكون سلوكك متوقعًا.
لهذا تجد البوكر يمتلئ بسلسلة حلزونية من تخمين ماذا سيفعل الآخرون كأن تقول مثلًا: «إذا كان يظن أنني أظن أنه يظن أن معي أربعة ملوك، فإن كذا وكذا.» والبوكر لعبة حظ ومهارة، والأهم من ذلك، أنها لعبة أسرار؛ فكل لاعب يعرف معلومات لا يعرفها اللاعبون الآخرون. أما في لعبة الشطرنج، وهي اللعبة التي تعتمد على المهارة البحتة، فإن المعركة تحدث على مرأى من الجميع، في حين أن في البوكر لا يرى أي لاعب الحقيقة كاملة.
من هنا نتجت نظرية الألعاب، إذ كان فون نيومان مؤمنًا أنه إذا استطاع تحليل لعبة البوكر باستخدام الرياضيات، فيمكنه إذن أن يلقي الضوء على كل أنواع التعاملات البشرية. فالبوكر لعبة يحاول فيها عدد قليل من اللاعبين خداع بعضهم بعضًا في جو من الأسرار والحظ والحسابات التي تُجرى بمهارة. ولكن ليس البوكر فقط هو الذي تنطبق عليه هذه الصفات. فهناك مثلًا قادة الحروب، أو هناك حتى — إذا كنت ناقدًا ساخرًا مثلي — رجال ونساء يلعبون لعبة الحب العظيمة. وبالفعل يمكن تفسير العديد من التعاملات البشرية على أنها معارك يُستخدم فيها الدهاء لا العنف، تمامًا مثل البوكر. ويصف المتخصصون هذه التفاعلات على أنها «ألعاب» ويعملون على اكتشافها مستخدمين نظرية الألعاب.
وإذا أردت أمثلة من واقع الحياة على «الألعاب الاقتصادية»، ففكر في المساومات التي تتم بين المالك والمستأجر، أو بين الحكومة ونقابات العمال، أو بين بائع السيارات المستعملة والمشتري. أو فكر في الدول المنتجة للنفط وهي تقرر ما إذا كانت ستلتزم بقواعد منظمة الأوبك والمساعدة في دفع الأسعار نحو الارتفاع أو أن تنتجه بغزارة للاستفادة من الأسعار المرتفعة التي تسببت فيها الدول الأخرى التي التزمت بهذه القواعد.
أو في المثال الآتي الذي سندرسه دراسة متعمقة في هذا الفصل وهو مثال عن مجموعة من شركات الاتصالات الطموحة التي تحاول كل منها الحصول على تراخيص طيف ترددي من الحكومة ليس لديها إلا عدد محدود من هذه الترددات. وكل شركة مشتركة في المزاد لديها فكرة عن كم الربح الذي ستحصل عليه من وراء هذا الترخيص (وأيضًا عن مدى قيمة الترخيص)، ولكن لا تعلم أي شركة من الشركات كم يبلغ الربح الذي ستحققه بالضبط من ورائه. ويكون التحدي أمام الحكومة هو كيفية الكشف عن بعض المعلومات الخفية مثل تحديد أيٍّ من شركات الاتصالات ستستخدم الترخيص أفضل استخدام، وتحديد المبلغ المالي الذي يساويه هذا الترخيص بالنسبة إلى هذه الشركات. فالوضع المثالي يفترض أن الحكومة تريد بيع التراخيص للشركات التي ستستخدمها الاستخدام الأمثل. ولمّا كانت الحكومة تقوم بتقسيم أصل ثمين من الأصول العامة، فهي تريد أيضًا أن تحصل على أفضل قيمة من أجل دافعي الضرائب.
ويعد مزاد بيع تراخيص الطيف الترددي لعبة مثل لعبة البوكر تمامًا في نظر فون نيومان، بل إنه يوجد تشابه كبير بينهما؛ ففي كلتا الحالتين ينبغي دفع مبالغ ضخمة في أكثر أجزاء العملية أهمية. فالبوكر يكون بلا معنى بدون مراهنات. والمقامر يرى أن أي لعبة تكون «أكثر متعة» إذا كانت تدار بنقود حقيقية. أما في البوكر، فإن المراهنة أساسية لكي يتم اللعب في المقام الأول، كما أن المراهنات في البوكر تفشي علامات عن القوة والضعف، فإذا لم يراهن اللاعبون بأموال حقيقية، يصبح «الاتصال» بلا مغزى؛ إذ إن الكلام سهل كما يعرف جميعنا. وبالتالي فالخداع في البوكر يكون له آثار فقط إذا كان المال الحقيقي في وضع يعتمد على نتيجة شيء غير مؤكد.
وينطبق الأمر نفسه على تراخيص الطيف الترددي. يفيد علماء الاقتصاد المتخصصون في نظرية الألعاب أن توزيع الأصول العامة — بدءًا من حق استخراج النفط وحتى حق استخدام الطيف الترددي — يجب أن يخضع لأساليب تشبه تلك الأساليب المستخدمة في لعبة البوكر. ولكي تتمكن الحكومة من إبعاد الشركات صاحبة الكلام والوعود الواهية، يجب أن تفرض على كل منها المراهنة بمبالغ ضخمة وأن تستخدم عبارةً استعملت في الماضي وهي أن تجبر كل متفاوض على «وضع ماله إرضاء لرغبات فمه».
(٢) ألعاب داخل ألعاب
أذكر أن الحكومة الأمريكية كانت استعانت بالاقتصاديين المتخصصين في نظرية الألعاب لمساعدتها في بيع حقوق استخدام الطيف الترددي طوال النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، الأمر الذي لم يكن بالمهمة السهلة: فالشركة التي تقدم العطاءات في المزاد لتحصل على ترخيص الطيف الترددي في كل من لوس أنجلوس وسان دييجو ربما ترغب في الحصول على كليهما، أو ربما لا تريد أيًّا منهما لأنها تعتبر استخدام الشبكات المجاورة أمرًا أقل تكلفة. ولكن كيف تقدم الشركة العطاء المناسب للحصول على ترخيص لوس أنجلوس قبل أن تعرف من سيحصل على ترخيص سان دييجو؟ فهذه المشكلة المعقدة مثلًا تمثل أحد مواضع نظرية الألعاب. لذا صمم المتخصصين في نظرية الألعاب الذين استعانت بهم الحكومة مجموعة معقدة من المزادات التي تُعقد في آن واحد.
وحقق أول هذه المزادات نجاحًا بالغًا، (كما حقق للحكومة الربح الوفير)، ولكن ساءت الأمور بعد عدة مزادات. لقد نجح هؤلاء المتخصصون في التعامل مع الأمور المعقدة كما ينبغي، ولكنهم ارتكبوا أخطاء بسيطة مثل إعلان قيمة العطاءات المقدمة قبل تقريبها إلى بضعة آلاف من الدولارات. استفادت الشركات عن طريق تقديم عطاءات تحتوي على رموز المناطق التي يريدونها. وقد مكنتهم هذه الطريقة من الإشارة إلى التراخيص التي يودون الحصول عليها ومن ثم قسموا سوق الاتصالات الأمريكية فيما بينهم دون الحاجة إلى أن تنافس شركة الأخرى منافسة شديدة. وفي حقيقة الأمر فإن هذا المخطط لم يكن بحاجة إلى عقد أي اتفاق (غير قانوني) لأن المزاد بطبيعته سمح بمثل هذه الإشارات الواضحة. بدا الأمر وكأنه عملية غش، ولكن لا يمكن لأحد إثباتها. وبعد ثلاث سنوات من عقد هذه المزادات الأولى، انتهى مزاد عُقد في أبريل عام ١٩٩٧ بسعر وصل إلى ١٪ فقط من العائد المتوقع؛ لأن الشركات — كما زعم كثير من المعلقين — تعلمت الغش بتجنب منافسة بعضها بعضًا.
وهذا هو المعادل لبيع منزل قيمته ٣٠٠٠٠٠ دولار مقابل أقل من ٣٠٠٠ دولار إذ يبدو من الصعب أن تفهم كيف يمكن أن يحدث هذا، ولكنه يمكن أن يحدث بمنتهى البساطة. فإذا كان هناك عدد قليل فقط من المشترين المحتملين لمنزلك، يمكنهم أن يتفقوا فيما بينهم على عدم منافسة بعضهم بعضًا. وعلى الشخص الذي اشترى المنزل بسعر رخيص أن يجد طريقة ما يعوض بها المشاركين الآخرين في المزاد. والتعويض الأكثر شيوعًا هو أن يتفق معهم ألا ينافسهم في المزادات التي ستعقد مستقبلًا. وبنفس الطريقة، يبدو أن شركات الاتصالات توصلت لاتفاق فيما بينها على ألا ينافس بعضها بعضًا على تراخيص الطيف الترددي في مناطق مختلفة. وكان الأمر بمنزلة إهانة لنظرية الألعاب، ولكن كان هذا أفضل قليلًا من منح التراخيص بلا مقابل.
وثمة طريقة أخرى للنظر إلى مشكلة المزادات الأمريكية ألا وهي أن المتخصصين في نظرية الألعاب أخفقوا في إدراك أن ما حللوه كان جزءًا من لعبة أكبر. فالحكومة كانت مثل لاعب البوكر الذي يبدو في منتهى السعادة بينما هو لا يعلم بوجود كاميرات خفية في الغرفة تصور أوراقه من الخلف، ويغفل هذا اللاعب عن حقيقة أن اللاعبين الآخرين، عبر سلسلة من الإيماءات والغمزات، يتناوبون الدور في سلبه أمواله. فاللعبة التي يظن أنه يلعبها ليست اللعبة الحقيقة على الإطلاق.
(٣) نظرية الألعاب للمبتدئين
لا بد أن يكون قد اتضح الآن أن نظرية الألعاب، سواء كانت تطبق على التواطؤ في المزادات أو على الغش في لعب البوكر، تعتمد على الفن بقدر ما تعتمد الرياضيات. وتحتاج كل الألعاب إلى وضع بعض الفروض المبسطة قبل استنباط نموذج رياضي لها، فإذا تجاهل المتخصصون فرضية أن المزايدين لن يستخدموا أكواد المناطق ليتواطئوا على التقسيم؛ فسوف يتوصلون إلى حلول مثالية ولكن لمشكلة أخرى.
تعتبر أصول نظرية الألعاب أحد أكثر التحديات صعوبة على الإطلاق؛ فقد طورتها عقول بشرية قمة في النبوغ والذكاء أمثال ناش، وفون نيومان. تمثل هذه المسألة أكبر نقاط القوة والضعف للنظرية في آن واحد، لأنه لكي تنجح نظرية اللعبة فإنها يجب أن تقدم بعض البصيرة فيما يتعلق بما يفعله البشر. فنظرية الألعاب تعبر عن الطريقة التي يمكن أن يتصرف بها الناس وكأنها حل لمعادلة رياضية. فهي تسلم بوجود اللاعبين الذين يتصرفون بطريقة شديدة المنطقية، والقادرين على حل أعقد المشاكل على الفور. ولكن هذا الوصف يبدأ في التعبير عن عدم واقعيته إذا أصبحت نظرية الألعاب أداة فعلية لتفسير تصرفات الناس في الواقع؛ إذ يستطيع عباقرة الرياضيات أمثال ناش، وفون نيومان حل تلك المسائل على الفور، أما معظمنا، فلا يستطيع.
فمثلًا، تخبرنا نظرية الألعاب أن لعبة الشطرنج لا تستحق أن تُلعب لأن نتيجتها محددة مسبقًا من الناحية النظرية؛ إذ إن بإمكان أحد اللاعبين فرض نتيجة معينة. ومع ذلك، لا نعرف أيهما الذي سيفرضها. ولا نعرف ما إذا كانت النتيجة المفروضة ستكون بالفوز أم بالتعادل. وبالتأكيد لا نعرف أي سلوك ستسلكه اللعبة. ولكن الأمر الوحيد الذي نعرفه هو أن النتيجة المفروضة ممكنة من الناحية النظرية. أما من حيث التطبيق، فلا يمكن لأقوى اللاعبين (سواء كان حاسبًا آليًّا أو بشرًا) معرفة هذه الاستراتيجية المُثلى. وأيضًا من حيث التطبيق، فإن نتيجة لعبة الشطرنج أبعد ما تكون عن كونها محددة مسبقًا. فأي فائدة تلك التي نستمدها من نظرية تخبرنا أن الشطرنج لعبة تافهة فقط إذا كنا جميعًا أذكياء بما يكفي لمعرفة كيف نلعبها؟
لم يكن هذا بمنزلة الاعتراض الشديد على نظرية الألعاب. فمن الممكن صنع نموذج للأخطاء وللنسيان وللمعلومات الخاطئة أو لأي من أسباب الفشل الأخرى من جانب اللاعبين، التي تحول دون تصرفهم حسب معايير جون فون نيومان المرتفعة التي يستحيل الوصول إليها. والمشكلة هي أنه كلما زادت الأخطاء التي تحتاج لأن تؤخذ بعين الاعتبار، زاد تعقيد نظرية الألعاب وقلت فائدتها. فمن المفيد دائمًا للمتخصصين في نظرية الألعاب أن يستخدموا في عملهم الخبرة العملية إلى جانب النظرية البحتة لأن اللعبة إذا تعقدت إلى درجة يستعصي على اللاعبين فهمها، صارت النظرية تقريبًا عديمة الفائدة من حيث التطبيق؛ لأنها لن تخبرنا بأي توقعات عن سلوك اللاعبين.
(٤) دخول خبراء المزادات
وكانت الصعوبة — التي يواجهها أيضًا المزايدون في العديد من المزادات بما فيهم مزادات بيع تراخيص الطيف الترددي — هي أن الضحيتين لم يكن لديهما فكرة عن قيمة ما يقدمون العطاءات من أجله. نعم، كان يعرف كل منهما جزءًا من قيمته؛ لأن كلا منهما كان يعرف المبلغ الذي تحتوي عليه محفظته، ولكن كان كلاهما يجهل ما تحتوي عليه محفظة الآخر. بالمثل، كان المشتركون في مزاد تراخيص الطيف الترددي يواجهون مشكلة شبيهة؛ إذ كانت كل شركة مزايدة لديها توقعاتها وخططها التقنية الخاصة، ولكن كانت كل شركة تعلم أن الشركات المزايدة الأخرى ربما لديها رؤى وخطط مختلفة. فالاستراتيجية المُثلى تحاول استغلال أية معلومات تكشفها عطاءات اللاعبين الآخرين، ولكن هذا ليس بالأمر السهل. (سيضمن أحد حلول لعبة المحفظة استمرار اللاعب في المزايدة إلى أن يصل إلى ضعف المبلغ الموجود بمحفظته. وسيفوز بالمزاد اللاعب ذو المحفظة التي تحوي نقودًا أكثر، ولكنه سيدفع أقل مما تحويه المحفظتين معًا. فالمزايدة بشدة تزيد من مخاطرة دفع الكثير من المال).
كان عليهم مواجهة مشكلتين خطيرتين في هذه المهمة:
-
أولًا: تجنب التعرض للخداع بواسطة المزايدين المخادعين، مثلما حدث للسلطات في الولايات المتحدة.
-
ثانيًا: حتى إذا لم يستطيعوا الوصول إلى الاستراتيجية المُثلى في مزادات الآخرين التي لم يستعدوا لها، فكيف يمكنهم توقع تصرفات مجموعة من رجال الأعمال في ضوء نظرية الألعاب؟ وحتى إذا تصرف رجال الأعمال هؤلاء بطريقة غير متوقعة، فمن بوسعه أن يقرر ما يمكن أن يحدث؟ كان جون ماينارد كينز — أكثر علماء الاقتصاد في القرن العشرين تأثيرًا — يتوق إلى اليوم الذي لا يصبح فيه علماء الاقتصاد علماء نظريات فحسب، وإنما «أشبه بأطباء الأسنان» بحيث يستشيرهم الناس في مشاكلهم اليومية ليعطوهم النصائح المباشرة. ولكن لم يصل علم الاقتصاد إلى تلك المرتبة بعد. فأي عالم اقتصاد يأمل في أن يفيد المجتمع ولو بنصف القدر الذي يفيده به طبيب الأسنان، يجب أن يزيد من صلابة النظريات الاقتصادية بمنحها جرعات مكثفة من الدروس القاسية التي يزخر بها واقع الحياة، مثل: غش اللاعبين، أو ارتكاب المزايدين للأخطاء، أو مسألة الأخذ بالمظاهر. فالمزادات مثلها كمثل لعبتي البوكر والشطرنج اللتين لا تسيران دائمًا بالطريقة التي يتوقعها واضع نظرية اللعبة.
تساعدنا نظرية الألعاب على توقع حدوث بعض المشكلات مثل الغش في المزاد في الولايات المتحدة، والمشكلات الأخرى مثل عدم ظهور رد فعل الجمهور في نيوزلندا في التحليل النظري تجاه مزادات فيكري التي أجرتها الحكومة. فالاقتصاديون الذين يطمحون لأن يصبحوا مثل أطباء الأسنان عليهم التفكير بإمعان والتعلم من أخطائهم، وبمرور الوقت، وبعد عناء، سوف تكتشف أخطاء جديدة.
(٥) لماذا تقام المزادات؟
عندما بدأت حكومة المملكة المتحدة تفكر في إقامة المزادات لبيع حقوق استخدام الطيف الترددي، كانت تتخذ خطوة جريئة. فبعد نجاح المزادات الأولى، تدهور حال المزادات الأمريكية؛ لأن نظرية الألعاب التي استخدمت في تنظيمها لم يفهمها إلا القليلون. كما تسببت الحكومة النيوزلندية في أن جعلت نفسها محط سخرية الجميع، ولم تكن هي الوحيدة التي فعلت ذلك، إذ أقامت أستراليا هي الأخرى المزادات لبيع تراخيص البث التلفزيوني، وغفلت عن ثغرات في قواعد المزايدة استغلها المزايدون أسوأ استغلال، لدرجة أن الوزير المسئول اضطر إلى تقديم استقالته. لماذا إذن فكرت بريطانيا في إقامة المزادات، بالرغم من المخاطرة التي تنطوي عليها؟
أرادت حكومة المملكة المتحدة — تمامًا مثل الحكومة الأمريكية — أن تبيع التراخيص للشركات القادرة على استخدامها بصورة مُثلى، وأن تحقق منها أعلى سعر في الوقت ذاته. وبالطبع كان هناك هدف آخر لم تفصح عنه ألا وهو تجنب حدوث أي خطأ يسبب الإحراج لمسئولي الحكومة والسياسيين على حد سواء. وبالنسبة لممولي الضرائب في نيوزلندا والولايات المتحدة الأمريكية، فإن المزاد الذي يحقق بعض المال أفضل بالتأكيد من منح التراخيص دون مقابل. أما بالنسبة لرجال السياسة، فإن توزيع الأصول العامة بدون مقابل يعتبر وسيلة رائعة لكسب الأصدقاء والحلفاء. ولذلك، فإن خبراء المزادات عليهم الدفاع عن وجود المزادات بكل قوتهم.
وسيعتمد دفاعهم على نظرية الألعاب التي تظهر بوضوح تأثير المزادات. ويعد التأكد من أن التراخيص يحصل عليها الأشخاص المناسبون؛ إحدى المشكلات الدقيقة. ولمّا كانت الحكومة توزع عددًا محدودًا من التراخيص، فسيكون إهدارًا فادحًا للموارد أن تحصل على التراخيص شركة مثل تيم هارفورد دوت كوم وهي إحدى شركات فقاعة الإنترنت ليس لديها أي خبرة أو قدرة ذات صلة تمكنها من استخدام الأصول الثمينة. إذ إنه من الضروري أن يحصل على التراخيص تلك الشركات التي ستستخدمها في تقديم الخدمات بأفضل جودة وبأقل تكلفة. لذا فإن المنافسة بين الشركات عندئذ هي التي ستحدد الأسعار.
ما أفضل طريقة إذن للتعرف على الشركات الأكثر كفاءة؟ يمكنك ببساطة أن تسألهم ولكن الشركات سوف ترد على سؤالك بنوع من التعالي، وربما بانفعال وتبجح، وسيلوح لك بعضهم بخبرتهم، وسيلوح بعضهم الآخر إلى استخدام أحدث التقنيات. ولكن هل يقول أي منها الحقيقة؟ فالكلام سهل كما اتفقنا من قبل.
وثمة طريقة أخرى تبدو أفضل ألا وهي تعيين خبراء متخصصين ليقرروا أي الشركات جديرة بالحصول على التراخيص. ولكن في ظل تكنولوجيا الهاتف المحمول التي تنمو بسرعة البرق، ربما يكون لدى بعض هؤلاء الخبراء مصالح مالية في إحدى الشركات، فقلما تجد خبيرًا ليس له مصالح في تلك الصناعة. وحتى إن وجدت خبيرًا محايدًا، فسيكون لديه خبرة طفيفة في الكشف عن خبايا هذه التجارة، وتحديد الإمكانية الحقيقية للتقنيات المنافسة.
توضح نظرية الألعاب كيف يمكن لمزاد بسيط التغلب على كل هذه التعقيدات، وحل المشكلة ببساطة ويسر. ومن أجل تبسيط المسألة، تخيل على سبيل المثال أن الحكومة قررت أن تبيع ترخيصًا واحدًا في مزاد بسيط يشبه المزاد العلني التقليدي الذي يقدم فيه المزايدون عطاءاتهم بصوت عال، وتستمر العطاءات في الزيادة، وهنا يكمن فارق واحد فقط إذ إن أي مزايد لا يغادر قاعة المزاد يكون لديه استعداد لدفع العطاء المرتفع الذي وصل إليه المزاد. أما من يجد نفسه غير قادر على دفع هذا العطاء فلا بد أن يغادر قاعة المزاد، ولا يعاود الدخول إليها. فمن الأسهل على الخبراء في نظرية اللعبة تحليل هذا النوع من المزادات المختلفة اختلافًا طفيفًا وإن كانت تعكس بدقة الوضع في العديد من المزادات التي يجري فيها بيع التراخيص.
وعلى كل شركة مزايدة أن تجري تقييمًا مباشرًا لقيمة الترخيص الذي تحاول الحصول عليه. وكلما كانت أفكارها مبتكرة، وكلما قلت تكلفة التقنيات التي تستخدمها، زادت الأموال التي يمكنها جنيها إذا فازت بالترخيص في المزاد. وبالطبع، لا يمكن لأي شركة أن تتوقع توقعًا دقيقًا الأرباح التي ستعود عليها إذا حصلت على الترخيص، ومع ذلك يظل التقييم الذي تجريه كل شركة لنفسها أفضل بكثير من ذلك الذي يجريه لها أي خبير خارجي.
وعندما يبدأ المزاد، ويبدأ السعر في الارتفاع، يبدأ المزايدون ينسحبون من المزاد بمجرد أن يتعدى السعر المطلوب في الترخيص القيمة التي يقدرونها له. وأول المنسحبين هم ممثلو الشركات التي لا تثق في تقنياتها وخططها التجارية. فإذا ارتفع السعر كثيرًا دون أن يغادر أي شخص قاعة المزاد، يعرف كل مزايد أن الآخرين واثقين من توقعاتهم للسوق بشكل عام. (وهذا يوضح الفرق بين هذا المزاد والمزادات التقليدية في دار سوثبي للمزادات التي يستحيل فيها أن تفرق أثناء إجراء المزاد بين المزايد وبين الذي يجلس ليتفرج). فإذا غادر بعض المزايدين قاعة المزاد مبكرًا على نحو مفاجئ، فلا بد أن يضع المزايدون الآخرون هذه النقطة في اعتبارهم ويراجعون «الفروض» التي يضعها كل منهم. فهذا المزاد يلخص بإتقان الحكمة الجماعية لكل المزايدين. وفي مثل هذه المزادات، لا يتواجد أحد في وضع يسمح له بالكذب. فالكلام سهل كما اعتدنا، ولكن المزايدة مُكلفة. فلن تنسحب شركة ما وما زال السعر المطروح أقل من توقعها لقيمة الترخيص، ولن تستمر شركة في المزايدة إذا ارتفع السعر كثيرًا عن قدرتها. ومن جهة فإن المزاد يشبه لعبة البوكر التي تحدث عنها فون نيومان: إذ يقدم المزايدون عطاءاتهم بحرص؛ نظرًا لأن أموالهم تكون في خطر. ولكن من جهة أخرى فهو لا يشبه لعبة البوكر على الإطلاق؛ لأن المزاد يجعل مسألة الخداع من المستحيلات.
يجبر المزاد كل مزايد على قول الصدق بشأن تقديره الشخصي لقيمة الترخيص. وفي الوقت نفسه، يعرض المزاد الرؤية الجماعية لكل المزايدين بحيث تمكنهم من تعديل آرائهم الشخصية وفقًا لها. وهناك ما هو أكثر من هذا، فبينما يقوم المزاد بهذا الدور فإنه يجمع المال.
تُظهر نظرية الألعاب أيضًا أن هذا المزاد البسيط بمنزلة آلة توليد النقود تتفوق على كثير من الطرق البديلة للتفاوض عند بيع سلعة ما. لا يبدو هذا الأمر جليًّا. أحد البدائل بالنسبة إلى البائع هي أن يجري مزادًا يحدد فيه سعرًا نهائيًّا لا يقبل البيع بأقل منه (قد يكون مُعلنًا، أو سريًّا)؛ أو أن يتفاوض سرًّا مع عدد من المشترين في وقت واحد، وأن يكذب بشأن كيف جرت المفاوضات مع الآخرين؛ أو أن يقدم عرضه تباعًا لكل مشتر لمرة واحدة ولا يكرره بطريقة «اقبل العرض كما هو أو ارفضه». أو يمكن حدوث أشياء أخرى بخلاف ما سبق. فكيف يمكن للبائع أن يختار طريقة لعقد صفقة تحقق له أعلى ربح وهو لديه كل هذه المجموعة المحيرة من الاحتمالات؟
كما ركز البحث أيضًا — بالإضافة إلى فكرته الأساسية أن المزادات تحقق بالفعل أرباحًا أعلى — على اهتمام خبراء المزادات بما يجب أن يكون من المسلمات، ألا وهو أنه إذا أردنا نجاح المزاد فلا بد من توافر الكثير من المزايدين الجادين.
(٦) فتحت بريطانيا المزاد
لم يدخر الفريق البريطاني لتنظيم المزاد بالتأكيد أي جهد للتأكد من أن المزايدين الجادين سيتواجدون بالمزاد. وبحلول مارس عام ٢٠٠٠، أصبح المزاد جاهزًا لإجرائه بعدما سجلت به ثلاث عشرة شركة، بعد سدادهم مبلغ ٥٠ مليون جنيه إسترليني كتأمين دخول المزاد، ثم بدءوا في تقديم العطاءات عن بعد بواسطة الإنترنت. وظل فريق الخبراء المنظمين لهذا المزاد يعلنون عنه مسبقًا لمدة تزيد عن العام واثقين أن بريطانيا أول دولة أوروبية تقيم مزادًا لتراخيص الجيل الثالث للهواتف المحمولة. وكانت النتيجة تبشر بإجراء مزاد على درجة عالية من المنافسة.
وكان الفريق يركز بهوس على التفاصيل. واختبر نظام المزاد عن طريق محاكاته على الحاسب الآلي، وأيضًا باختبارات طلبوا فيها من بعض الطلاب في لندن تمثيل أدوار التنفيذيين بشركات الاتصالات. حتى إنهم وصلوا إلى أدق النقاط في المزاد ليمحوا فرصة وجود أية ثغرات. كما أعطوا لأنفسهم خيار تأجيل المزاد إذا ظهر أي أمر يدعو للشك. وبالرغم من كل هذا الاستعداد، لم يكن أحد متأكدًا في الواقع مما إذا كان المزاد سينجح أم لا، أو ما إذا كان الأمر سيكون عملًا أخرق آخر من الأعمال الخرقاء لخبراء الاقتصاد.
ونُظِّم المزاد ليتم على جولات قصيرة، تستغرق كل منها نصف الساعة تقريبًا، ويتعين على المزايدين فيها تقديم العطاءات الجديدة أو الانسحاب. أما المزايدون الذين يختارون عدم تقديم عطاء مُلزِم فليس أمامهم إلا الانسحاب من المزاد، وسُمح لكل مزايد بإمكانية «التخلي عن دوره في تقديم العطاءات» لثلاث مرات قبل الانسحاب النهائي من المزاد. وكان يتم عقد جولتين يوميًّا أو أكثر إذا استراح المزايدون لعملية المزايدة. وفي ظل البث الفوري لكل جولة من هذه الجولات على الإنترنت، كانت فعاليات هذا المزاد تحدث على مرأى ومسمع من العالم بأكمله.
أشارت التوقعات الأولية إلى أن المزاد سيحقق كثيرًا من المال؛ ربما يؤدي إلى ربح مليارين، أو ثلاثة مليارات من الجنيهات الإسترلينية، وهو المبلغ الكافي لتخفيض ضريبة الدخل في المملكة المتحدة بمقدار بنس واحد في العام. ومع أن التوتر كان واضحًا على أعضاء الفريق فقد غمرتهم السعادة لانضمام تسع شركات جديدة إلى الشركات الأربع الشهيرة المشاركة بالفعل، وتوقعوا للمزاد أن يحقق نجاحًا.
وأرجعوا جزءًا من اهتمام تلك الشركات الجديدة المنضمة إلى المزاد إلى حقيقة أن المزاد كان يعرض خمسة تراخيص للبيع. وكان المهندسون يعتقدون في البداية أن الموجات الهوائية لا تتسع إلا لتخصيص أربعة تراخيص فقط تعمل على أطوال موجية من الطيف الترددي متجاورة بحيث إن كل ترخيص منها يغطي الدولة بأكملها. ولكن في ظل وجود الشركات الأربع الشهيرة في المزاد الذي يعرض للبيع أربعة تراخيص، سيكون من السهل معرفة أيهم ستفوز بأي ترخيص، لهذا لن يعبأ مزيد من الشركات بالاشتراك في المزاد؛ ليوفر على نفسه الخسارة. ولهذا تنفس خبراء الاقتصاد في هذا المشروع الصعداء عندما توصل مهندسو الاتصالات إلى أن الطيف الترددي يكفي لترخيص آخر. وكان هذا الترخيص، الذي كان يسمى «الترخيص أ»، مخصصًا للشركات الجديدة التي لم يسبق لها العمل في سوق الهواتف المحمولة في المملكة المتحدة آنذاك. وكانت فكرة المزاد تدور حول أن المنافسة من أجل الحصول على «الترخيص أ» ستؤدي إلى رفع سعر التراخيص الأربعة الأخرى. وأن أي شركة لا تجد نفسها في المقدمة سيكون عليها إما زيادة قيمة عطائها أو الانسحاب. ولكن طالما أن الشركات مستمرة في تقديم العطاءات القانونية للحصول على ترخيص معين، يمكن أن تحولها للمزايدة على ترخيص آخر إذ إن الشركات بإمكانها تقديم العطاءات مقابل أي ترخيص يبدو أنه يتمتع بأعلى قيمة في حينه. ويعني هذا أن المنافسة الحامية على «الترخيص أ» جعلت المنافسة على باقي التراخيص تشتد هي الأخرى، فكلما زاد سعر «الترخيص أ» عن أسعار التراخيص الأخرى، جعل ذلك التراخيص الأخرى تبدو كصفقة رابحة وعندئذ تشمر الشركات الجديدة عن سواعدها وتعلن تحديها للشركات المعروفة، لكي تفوز بالتراخيص التي كانت الشركات المعروفة تريد الفوز بها. وعندما تزيد الشركات المعروفة السعر، يعود الخاسرون للمنافسة على «الترخيص أ» مرة أخرى.
ومع أن المزاد على خمسة تراخيص في وقت واحد أمر يصعب شرح آلية عمله، إلا أنه يمكن للمزايد ببساطة أن يصل إلى أفضل استراتيجية للمزايدة. ولمّا كان المزايدون لا يعرفون مطلقًا متى سينتهي المزاد، كان لا بد أن يتأكدوا من أنهم يشعرون دائمًا بالارتياح في ظل أوضاعهم الحالية. وأفضل استراتيجية للوصول إلى هذا الارتياح هي فحص كل التراخيص، ثم تقديم عطاء جديد عالٍ مقابل أي ترخيص يبدو أفضل التراخيص قيمة. أما إذا لم يبدُ أن أيًّا من التراخيص يتمتع بقيمة جيدة آنذاك، فإن الخطوة المناسبة عندئذ هي الانسحاب. ربما تساعد بساطة هذا المزاد على شرح السبب وراء قرار العديد من الشركات تقديم العطاءات. فبعكس بطولة العالم للبوكر أو لعبة المحفظة، فإن هذه اللعبة مفهومة حتى لأبسط العقول.
تخيل أنك تبيع منزلك في مزاد طويل استمر لعدة أسابيع. وسمعت قصصًا عن فشل المزادات الأخرى، وتخشى أنه بدلًا من أن يجلب لك المزاد مبلغ ٣٠٠٠٠٠ دولار الذي تتوقعه، ينتهي بك الأمر مثل جارك سيئ الحظ، مطلقًا ومفلسًا. ويمر عليك أول أسبوع في عذاب. ثم يبدأ السعر يزيد ببطء، ويبدأ ضغط دمك يرجع إلى معدله الطبيعي. وفي النهاية، يصل العطاء إلى مبلغ ٢٥٠٠٠٠ دولار. حينها يرتاح بالك لمعرفة أن حالك لن يسوء كثيرًا في كل الأحوال. وبعد بضعة أيام يصل العطاء إلى مبلغ ٣٠٠٠٠٠ دولار لترتسم البسمة على شفتيك. فمنذ هذه اللحظة، أي عطاء يقدم أعلى من هذا المبلغ سيعتبر زيادة لم تكن متوقعه؛ فمن يدري، ربما تحصل على ٣١٠٠٠٠ دولار أو على ٣٢٠٠٠٠ دولار أو حتى على ٣٥٠٠٠٠ دولار. ويستمر السعر في الارتفاع ليصل إلى ٣٢٠٠٠٠ دولار، ثم إلى ٣٥٠٠٠٠ دولار، ثم إلى ٤٠٠٠٠٠ دولار، ثم إلى ٥٠٠٠٠٠ دولار. فكيف حالك حينئذ؟ لا يمكنك التصديق بالطبع. فهذا التغيير غير المتوقع في الأحداث يشبه ما حدث في مزاد المملكة المتحدة لموجات الطيف الترددي، فيما عدا أن المراهنات كانت أكبر عشرة آلاف مرة، فلم تكن ٣٠٠٠٠٠ جنيه إسترليني، بل كانت ٣ مليارات جنيه إسترليني. فقد استمرت عملية تقديم العطاءات تجري بسلاسة ويسر لمدة أسبوع؛ وأدت قاعدة الاستمرار في تقديم العطاءات لاستمرار إجمالي إيراد المزاد في الارتفاع. وبعد حوالي خمس وعشرين جولة من المزايدات وصل سعر كل ترخيص إلى مبلغ ٤٠٠ مليون جنيه إسترليني، يجب على كل مشتر دفعها. وبعد خمسين جولة وصل إجمالي إيراد المزاد إلى ٣ مليارات جنيه إسترليني، وكانت الحكومة تأمل أن يزيد هذا المبلغ عن ذلك. (حينها بدأت مبالغ التأمين التي دفعتها الشركات المزايدة تبدو ضئيلة مقارنة بهذا الرقم، حتى مع وصولها إلى مبلغ ١٠٠ مليون جنيه إسترليني). ولكن ثمة أمر غير مألوف كان يحدث، ألا وهو أن المزايدين كانوا لا يزالون في المزاد ولم ينسحبوا، حيث استمرت الثلاث عشرة شركة في تقديم العطاءات، وظلت أسعار التراخيص ترتفع وترتفع دون وجود أية علامة تفيد أنها ستتراجع.
وبينما كان المزاد ما زال قائمًا، بدأت الصحافة في الاهتمام به. وبدأت صور فريق تنظيم المزاد تظهر على صفحات الجرائد. وحاول الصحفيون تفسير ما كان يفعله هذا الفريق بالضبط ليستمر المزاد هكذا، ولكن بدأ الجميع يدركون أن هذا المزاد تحديدًا به شيء مميز.
ووصلت الجولات إلى الجولة الستين ليبلغ إجمالي الإيراد ٤ مليارات جنيه إسترليني. ثم وصل في الجولة السبعين إلى ٥ مليارات جنيه إسترليني. وفي الجولة الثمانين وصل إلى ٧ مليارات جنيه إسترليني. حتى إن شهر مارس انقضى وما زال السعر مستمرًّا في الزيادة.
أما منظمو المزاد، فالتزموا الصمت عن إبداء رأيهم فيما كان يحدث، ولكنهم خلف الأبواب المغلقة كانوا متحمسين ومتوترين. ثم ما لبث أن أصبح المزاد ضحية لنجاحه بسبب استمراره لفترة طويلة جدًّا. كانت سوق الأسهم الأمريكية آنذاك تشهد حالة من العصبية الشديدة بسبب تعرضها لأزمة، وكان السؤال هو: ماذا سيحدث لو امتد تأثير انهيار سوق الأسهم الأمريكية إلى المملكة المتحدة ليقضي بذلك على ثقة المزايدين في السوق وتتسبب في توقف المزاد توقفًا مفاجئًا؟ وفجأة بدا مبلغ اﻟ ١٠٠ مليون جنيه إسترليني ضئيلًا. فقد ينسحب المزايدون من المزاد، وقد تكتسب عملية المزايدة المزيد من السرعة. ثم اتضح أن الأمر لا يدعو لمثل هذا القلق.
هكذا وبعد ثلاث وتسعين جولة بالمزاد دون انسحاب أي من المزايدين، فقد المزاد خمسة مزايدين في ثماني جولات على مدار ثلاثة أيام ليتبقى بالمزاد ثمانية مزايدين فقط. فلماذا تعثرت عملية المزايدة فجأة بهذا الشكل؟ ربما كانت المكابرة هي السبب؛ إذ لم تكن أي شركة ترغب في الانسحاب قبل الأخرى، ولكن بمجرد انسحاب شركة كريسينت، انسحبت بعدها على الفور الشركات الأخرى التي كانت تنتظر هذه الفرصة.
وللمتخصصين في نظرية اللعبة تفسير آخر. فالمزايدون كانوا يتعلم بعضهم من عطاءات بعض ما تساويه قيمة تراخيص الجيل الثالث هذه. وكانت هذه إحدى مميزات تنظيم المزاد بهذه الشفافية، وكان البديل المعروف لهذا النظام هو مزاد الأظرف المغلقة حيث يقدم كل مزايد عطاءه في مظروف يحتوي على عطاء وحيد. ولكن مثل هذا المزاد يترك كل مزايد يخمن وحده في الظلام، مما قد يؤدي إلى أن تغدو عملية المزايدة أكثر تحفظًا، وتحقق الحكومة منها الربح القليل. أما في المزاد المفتوح، فحتى عندما وصلت المزايدة إلى سعر أعلى مما يتوقع الجميع، كان يغدو بإمكان كل شركة مزايدة أن ترى العروض الكبيرة التي تقدمها الشركات الاثنتا عشرة الأخرى، وبالتالي تكتسب ثقة أكبر في قيمة هذه التراخيص. ولمّا كان لكل شركة خطة أعمالها ومبيعاتها وتقنياتها الخاصة، فقد كان الأمر تخمينيًّا ولكن شفافية هذا المزاد ساعدت على تجميع الإشارات عن طبيعة هذه الخطط ووضعت المعلومات في متناول يد كل مزايد (كما وضع المزاد أيضًا المعلومات في متناول يد الحكومة وحقق في الوقت نفسه دخلًا وفقًا لهذا الأساس. وهذا شيء جميل).
بعث انسحاب شركة كريسينت إشارة إلى المزايدين الآخرين عن شعور هذه الشركة أن التراخيص لا تستحق المزايدة بأكثر من هذا. ومن ثم، وضع المزايدون الآخرون شكوك تلك الشركة في اعتبارهم، وكانت تراودهم أيضًا في نفس الوقت أفكار بشأن الانسحاب. وهكذا، كلما انسحبت شركة من المزاد، تأكد خبر أن المزايدة ارتفعت زيادة تفوق الحد.
وبالطبع كانت الشركات المنسحبة تسير مع التيار فحسب، ولكن تذكر أنه كانت هناك أسباب وجيهة وراء سير التيار. فقد نُظم هذا المزاد بهذه الشفافية لينقل المعلومات بين المزايدين. لهذا لا عجب أنهم كانوا ينظرون إلى الحقائق نفسها ويتوصلون إلى نفس النتائج.
فإذا كنت ستبيع منزلك البالغة قيمته ٣٠٠٠٠٠ دولار في مزاد يفوق التوقعات مثل هذا المزاد، ستنهي الصفقة وبجيبك ٢,٢٥ مليون دولار، وعليك أن تقرص نفسك في الصباح التالي لتتأكد أنك لم تكن تحلم.
(٧) تذكر: القوة تأتي من الندرة
لو كانت تراخيص الجيل الثالث للهواتف الخلوية باهظة الثمن للغاية، ستفرض الشركات على عملائها مبالغ أكبر.
حقًّا يبدو الأمر مقنعًا ولكن إذا تمهلت للحظة وفكرت كخبير اقتصادي وسألت نفسك: إذا كانت تراخيص الجيل الثالث رخيصة الثمن للغاية، هل ستطلب الشركات أسعارًا أقل من عملائها؟ وماذا لو كانت الحكومة تمنح تلك التراخيص مجانًا، هل ستقدم الشركات الخدمات لعملائها مجانًا؟ وإذا كانت الحكومة تدفع لشركات الاتصالات كي تخلصها من تلك التراخيص، هل ستعطي الشركات كل عميل من عملائها منحة نقدية مع خدماتها اللاسلكية المجانية؟
لقد علمنا من الفصلين الأول والثاني أن الشركات تطالب العملاء بأقصى سعر ممكن تحت أي ظرف. وعلمنا أيضًا أن قدرتها على فعل ذلك يحددها ما تملكه من قوة الندرة.
أما العامل الحاسم في مزادات تراخيص الطيف الترددي في المملكة المتحدة فهو توفر خمسة تراخيص؛ فوجود خمس تراخيص لا يكفي لأن يمنح كل شركة قوة الندرة الكافية لتمكنها من المطالبة بأسعار مرتفعة للغاية. فلو لم يتوفر إلا ترخيصان فقط، لزادت قوة الندرة وزادت الأسعار عن ذلك بكثير. أما إذا كان المتاح عشرين ترخيصًا فستقل قوة الندرة وتنخفض الأسعار. فالمسألة مسألة قوة الندرة، وليست مسألة أسعار التراخيص، التي تحدد بعد ذلك الأسعار للعملاء.
وفي المملكة المتحدة، كانت الندرة تكمن في كمية الطيف الترددي المتاحة: إذ كانت التراخيص الخمسة هي أقصى عدد يمكن للمهندسين توفيره. فالعميل لا يهمه كم بلغ ثمن الترخيص، ولكن هذا الثمن يهم دافعي الضرائب الذين يودون أن تحصل الحكومة على المال الوفير مقابل هذا المورد القومي المهم، ويهم أيضًا حملة الأسهم في شركات الاتصالات الذين يودون أن تدفع شركاتهم أقل المبالغ الممكنة.
(٨) ترنح شركات الاتصالات
ذكرنا في الفصل السابق كل شيء عن انهيار سوق الأسهم، الذي بدأ (على طريقة الفلاش باك) يظهر للعيان خلال سلسلة المزادات الأوروبية للجيل الثالث للهواتف الخلوية. وكانت شركات الاتصالات أكثر من عانى خلال هذه الأزمة، وقد أُعلن عن خسائرهم كثيرًا. ففي أوروبا وحدها، خسرت شركات الاتصالات ٧٠٠ مليار دولار متمثلة في انخفاض قيمة أسهمها في سوق الأسهم خلال العامين والنصف التاليين لأول مزاد للجيل الثالث للهواتف الخلوية.