العازف الأجير
أسأله:
– لماذا عدتُ مبكرًا هكذا؟ الساعة الثانية فقط! هل انتهى العرس؟
ولا يرد شريكي عليَّ. يمضي في صمت إلى ما وراء الحاجز، ويخلع ملابسه بسرعة ويستلقي على سريره وهو يزحر.
وبعد حوالي عشر دقائق أسمعه يهمس:
– نَمْ أيها الوغد! نَمْ ما دمتُ قد رقدتُ! إذا لم تُرِد أن تنام … فلتذهب إلى الشيطان!
فأسأله: ماذا يا بيتيا، النوم يجافيك؟
– الشيطان يعلم ما هذا … لا أستطيع أن أنام … أكاد أنفجر من الضحك … الضحك يمنعني من النوم! ها … ها!
– وما الذي يضحكك؟
– وقع اليوم حادِث مُضحِك، يا لها من حادثة لعينة!
ويخرج روبليوف من خلف الحاجر ويجلس بجواري وهو يضحك … ويقول وهو ينثر شعره: أمر مضحك … ومُخجِل … لم يحدث لي في حياتي كلها يا أخي أنْ تعرضتُ لمثل هذه الزفَّة … ها … ها … فضيحة من الطراز الأول … من أرقى نوع!
ويضرب روبليوف ركبته بقبضته ويقفز واقفًا ثم يذهب ويجيء حافيًا على الأرضية الباردة.
ويقول: طردوني شر طردة! ولهذا جئتُ مبكرًا.
– كفاك كذبًا!
– إي والله … طردوني … حرفيًّا!
وأتطلع إلى روبليوف … وجه ممصوص، مُستهلَك، ومع ذلك بقيَ في مظهره كله من الاستقامة والنعومة النبيلة واللياقة، ما يجعل هذه العبارة الخشنة: «طردوني شر طردة» غير منسجمة أبدًا مع شخصيته المثقَّفة.
– فضيحة من الدرجة الأولى … ظللتُ أُقهقِه طوال الطريق في أثناء عودتي. أوه، دعْكَ من هذه التفاهة التي تكتبها! سأحكي لك، سأسكب كل ما في روحي فربما كففتَ عن الضحك … دعْكَ من كتابتك! اسمع … قصة طريفة.
قلتُ له: اختصِر … دَعكَ من السيكولوجيات.
– حسنًا … جئتُ إلى آل بريسفيستوف … كان العروسان والضيوف يلتهمُون الفواكه بعد عقد القران، وذهبتُ إلى موقعي — البيانو — وجلستُ في انتظار بدء الرقص.
ورآني صاحب الدار فقال: «آه، وصلتَ! حسنًا، اسمع يا حضرة، اعزف جيدًا، وإياك أن تسكر.»
– لقد تعوَّدتُ يا أخي على هذه التحايا ولم تَعُد تغضبني … ها … ها … إذا جعلتَ نفسك قنطرة فلتتحمَّل الدَّوس … أليس كذلك؟ فمن أنا؟ عازف أجير … خادم … نادل يجيد العزف! التجار في حفلاتهم يخاطبونني ﺑ«أنت» ويعطونني بقشيشًا … وليس في ذلك أي إهانة! حسنًا … ولمَّا لم يكن لديَّ ما أفعله حتى بداية الرقص فقد رحتُ أنقر على البيانو، هكذا، لتسخين أصابعي. وبعد قليل، وبينما أنا أعزف سمعتُ خلفي يا أخي شخصًا يُدندِن اللحن. والتفَتُّ فإذا بها آنسة! وقفَت، الملعونة خلفي وهي تَتطلَّع إلى مفاتيح البيانو بإعجاب، فقلت لها: «لم أكن أعرف يا مودموازيل أن أحدًا يصغي إليَّ.» فتنهَّدَت وقالَت:
– «معزوفة جميلة!» فقلتُ: «نعم جميلة … وهل تحبين الموسيقى؟» أخذْنَا نتجاذَب أطراف الحديث … واتضح أنها كثيرة الكلام. أنا لم أسحبها من لسانها، بل هي التي مضَت تُثرثِر: «من المؤسِف أن شباب اليوم لا يهتم بالموسيقى الجادة.» وكنت مسرورًا إلى لَفتِ انتباهها … يا لي من أحمق، مُغفَّل … إذن فقد بَقيت لديَّ هذه الكبرياء الكريهة! واتخذْتُ وضع العالِم بالأمور ورحتُ أُوضِّح لها أن عدم اكتراث شبابنا مَردُّه إلى انتفاء الطموح إلى القيم الجمالية في مجتمعنا … كنتُ أتفلسف!
وسألتُ روبيلوف: وأين هي الفضيحة؟ هل وقعتَ في حبها؟
– يا للهراء! الحب هو فضيحة ذات طابع شخصي، أما في حالتي يا أخي فقد كان الحدث عامًّا، على نطاق المجتمع الراقي … نعم! كنتُ أتحدث مع الآنسة ولكني أخذت ألاحظ شيئًا غير طبيعي … فقد جلس وراء ظهري أشخاص ما وراحوا يَتهامَسون … وسمعتُ كلمة «عازف أجير» وضحكات … إذن فهم يتحدثون عني … تُرى ماذا حدث؟ هل انفكَّت رابطة عنقي؟ تحسستُ رابطة العنق … لا شيء … وبالطبع لم أُلقِ إليهم بالًا ومضيتُ أتحدَّث … أما الآنسة فقد انهمكَت في النقاش وانفعلَت حتى احمر وجهها كله … كانت مُنطلِقة! وانهالَت بالنقد العاصف على الملحِّنِين المعاصرِين! ففي أوبرا «المارد» التوزيع جيد ولكن ليست هناك موتيقات، وريمسكي كروساكوف مجرد قارع طبول، وفارلاموف لم يُؤلِّف شيئًا متكاملًا … إلخ. وفتيات وفتيان اليوم لا يكادون يعرفون من العزف غير السُّلَّم الموسيقي، وبينما يدفعون خمسة وعشرين كوبيكا لقاء الدرس تراهم مُستعدِّين لكتابة المقالات النَّقدية في الموسيقى … وآنستي من هذا النوع … ورحتُ أصغي ولا أجادل … إنني أحب أن أرى مخلوقًا شابًّا، غضًّا، وهو غاضب يشغل مخه … أما ورائي فقد استمر الهمس … ثم ماذا؟ فجأة اقتربَت من آنستي طاووسة من فصيلة الأمهات أو الخالات، ضخمة، حمراء، لا تحيط بخصرها خمسة أذرع، ودون أن تتطلع إليَّ همست في أذن الآنسة بشيء ما … وإذا بالآنسة تتضرج وتخفي وجهها براحتيها وتندفع بعيدًا عن البيانو كالملسوعة … ماذا حدث؟ فُكَّ اللغز يا أوديب الحكيم! قلتُ لنفسي: إما أن السترة تمزقت على ظهري وإما أن عيبًا ما قد ظهر في هندام الآنسة، وإلا فمن الصعب فَهْم ما حدث. وتحوُّطًا فقد ذهبتُ بعد عشر دقائق إلى المدخل لأتفحَّص ملبسي … وتفحَّصتُ ربطة العنق والسُّترة وغيرهما … كل شيء في مكانه ولم يتمزَّق! ولحسن حظي يا أخي كانت عجوز ما واقفة في المدخل ومعها صُرَّة. وشرحت لي كل شيء. ولولاها لظللتُ في جهلي السعيد.
قالت العجوز لأحد الخدم: «آنستنا تحب دائمًا أن تظهر شخصيتها ورأت بجوار البيانو شابًّا فراحَت تُثرثر معه وتضحك وتَتنهَّد وكأنه سيد حقيقي … واتضح أن الشاب ليس ضيفًا بل عازف أجير … من الموسيقيين … فيا لَه من حديث! شكرًا لماريا ستيبانوفنا فقد همسَت في أذنها وإلا — لا قدَّر الله — لو وضعت ذراعها في ذراعه وتمشَّت معه … إنها الآن تشعر بالخجل، ولكن بعد فوات الأوان … فما حدث حدث.» … أرأيتَ؟
فقلت له:
– الفتاة حمقاء، والعجوز حمقاء … كل ذلك لا يستحق أي اهتمام.
– أنا لم أهتمَّ … شيء مضحك، ولا أكثر. لقد تعودت منذ زمن طويل على هذه المفاجآت. قَبلًا كنتُ أشعر حقيقة بالأمل، أما الآن فأَبصُق على ذلك! فتاة حمقاء … طائشة … لا تستحق الشَّفَقة! وجلستُ ورحتُ أعزِف للرقص … عزف لا يستدعي أي جدية … رُحت أعزِف رقصات الفالس والكادريل والمارشات الصاخبة … إذا أحسَّت روحك الموسيقية بالمَهانة فاذهب واشرب كأسًا وسترقص من أنغام «بوكاتشيو».
– وأين الفضيحة إذن؟
– أخذتُ أنقُر على المفاتيح و… لا أفكر في الفتاة … أضحك فقط، ولكن … راح شيء ما ينغز في قلبي! وكأن هناك فأرًا يقبع في ضلوعي ويقرض خبزًا جافًّا … ولا أدري لماذا أشعر بالحزن والقَرَف. أخذتُ أُقنع نفسي وأشتُمها، وأضحك … وأُدندِن بنغمات الألحان التي أعزفها، ولكن شيئًا كان يقبض على قلبي … وبقوة … شيئًا يتحرك في صدري ويخدش ويقرض ثم يصعد إلى حلقي كالغصة … وأَكز على أسناني وأقاوم حتى يختفي … ثم يعود من جديد … ما هذه المصيبة! وعلاوة على ذلك، وكأنما عن عمد تَرِد إلى ذهني شتَّى الأفكار السخيفة … فأتذكَّر كيف أصبحتُ تافهًا … لقد قصدتُ موسكو قاطعًا ألفي كيلو متر … كنتُ أهدف إلى أن أصبح موسيقارًا أو عازف بيانو؛ فإذا بي عازف أجير … في الحقيقة، هذا شيء طبيعي … بل إنه يثير الضحك، ومع ذلك أشعر بالغثيان … وأتذكَّرُك … وأفكِّر فيك؛ ها هو ذا شريكي في الغرفة الآن جالس يسطر … يَصِف المسكين الشرطة النائمين وصراصير المخابز والطقس الخريفي السيئ … يَصِف بالذات كل ما وصف من زمن بعيد، كل ما أُشبِع لَوكًا وهَضمًا … أُفكِّر في ذلك ولستُ أدري لماذا أشفق عليك … أشفق عليك لدرجة البكاء! إنك شاب رائع، طيب القلب، ولكن ليس فيك تلك الشعلة، أتدري، تلك المرارة، تلك القوة … ليس فيك ذلك الحماس … فلماذا أنت كاتِب ولستَ صيدليًّا أو إسكافيًّا؟ الله يعلم! وتذكَّرت كل زملائي الخائبين، كل هؤلاء المُغنِّين والمصوِّرِين والهواة … كلهم كانوا في وقت ما يفورون ويمورن ويُحلِّقون في السماء، أما الآن … فالشيطان يعلم ما هذا! لماذا اقتحمَت رأسي هذه الأفكار بالذات؟ لستُ أفهم! عندما أطرد نفسًا من رأسي يقتحمها زملائي، وأطرد زملائي فتقتحمها الفتاة … وأضحكُ من الفتاة، ولا أُعِيرُها أهمية، ولكنها لا تدعني أنعم بالراحة … وأقول لنفسي: ما هذه الخصلة لدى الإنسان الروسي؟ فطالما أنت حر، تدرس أو تتسكَّع بلا عمل، فبوسعك أن تشرب معه وتُربِّت على كرشه، وتتودَّد إلى ابنته، ولكن ما إن تصبح علاقتُك به على نحو ولو قليلًا من التبعية، حتى تصير صرصارًا ينبغي أن يَعرف قَدْره … أتدري، أخذتُ أجاهد لأكبِتَ هذه الأفكار، ولكن الغصَّة مضَت تصعَد إلى حلقي … تصعد وتضغط عليه … وتعصره … وأخيرًا أحسستُ بسائل في عيني، وانقطعَت ألحان «بوكاتشيو» و… وذهب كل شيء إلى الشيطان … وأَصمَتَت أسماع الحاضرين الأكابر أصوات أخرى … أُصِبتُ بهستيريا.
– كفاكَ كذبًا.
– إي والله!
يقول روبليوف وهو يَتضرَّج ويحاول أن يضحك: ما رأيك في هذه الفضيحة؟ ثم شعرتُ بهم يسحبونني إلى المدخل … ويلبسونني المعطف … وسمعتُ صوت رب البيت يقول: «مَن الذي أسكر العازف الأجير؟ مَن الذي أعطاه الفودكا؟» وفي آخر المطاف … طُرِدتُ … ما رأيك في هذه المفاجأة؟ ها … ها … لم أكن في حال تسمح بالضحك ساعتها، أما الآن فأكاد أموت من الضحك! … رجل ضخم مثلي … طويل وعريض … وفجأة يُصاب بهستيريا! ها … ها … ها!
وأسأله وأنا أتطلع إلى كتفيه ورأسه يهتز من الضحك: وما المُضحِك في ذلك؟ بيتيا أرجوك … ما المضحك؟ بيتيا! يا عزيزي!
ولكن بيتيا يقهقه، وبسهولة أرى في قهقهته دلائل الهيستيريا، فأبدأ في العناية به وأنا أسب فنادق موسكو التي لا يعرفون فيها عادة ملء دوارق المياه للشرب ليلًا.