تحفة فنية
تَصنَّع ساشا سميرنوف، وحيد أُمِّه؛ الحُزن وهو يَدلِف إلى عيادة الدكتور كوشيلكوف وقد وضع تحت إبطه شيئًا ملفوفًا في العدد ٣٢٢ من جريدة «أخبار البورصة».
واستقبله الدكتور قائلًا: أهلًا بالفتى العزيز! حَسنًا، كيف صحَّتُنا؟ ماذا لديك من أخبار طيبة؟
طَرَف ساشا بعينيه، ووضع يده على قلبه، وقال بصوت منفعِل: ماما تبلغكم تحياتها يا إيفان نيقولايفتش، وطلبَت مني أن أشكركم … أنا وحيد أمي، وأنتم أنقذتم حياتي … شفيتموني من مرض خطير و… ولا نعرف كيف نشكركم.
فقاطعه الدكتور وهو يسترخي من السرور: كَفى يا فتى. أنا لم أفعل إلا ما كان يجب أن يفعله أي شخص آخر لو كان مكاني.
– أنا وحيد أمي … ونحن فقراء، ولا نستطيع بالطبع أن نكافئكم على تَعبكم و… نحن في غاية الخجل يا دكتور، وإن كنا، ماما وأنا … وحيد أمي، نرجوكم رجاء حارًّا أن تقبلوا منا، رمزًا لامتناننا … هذه الهدية التي … إنها تحفة ثَمينة، من البرونز القديم … تحفة فنية نادرة.
فامتعض الدكتور: لا لزوم لذلك! ما الداعي؟
فمضى ساشا يدمدم وهو يفك اللفَّة: لا، أرجوكم، لا ترفضوها؛ إن رفضكم سيكون إهانة لي ولماما … إنها قطعة ممتازة … من البرونز القديم. تركها لنا المرحوم بابا فاحتفَظْنا بها كذكرى غالية … كان بابا يشتري التُّحف البرونزية القديمة ويبيعها للهواة … والآن نُزاوِل ماما وأنا نفس الشيء.
فك ساشا اللفَّة ووضع التُّحفة على الطاولة بحفاوة. كانت شمعدانًا متوسِّط الارتفاع، من البرونز القديم مَصوغًا بصورة فنية، وكان يصور مجموعة؛ فعلى القاعدة وقف جسدان نسائيان في لباس حواء وفي وضع لا تكفيني لوصفه لا الشجاعة ولا الحَمِيَّة الكافية. كان الجسدان يبتسمان بدلال، وكان يلوح من منظرهما، أنه لولا ما أُلقِي عليهما من مسئولية رفع الشمعدان لقفزَا من القاعدة وعربَدَا في الغرفة بصورة لا يليق حتى التفكير فيها أيها القارئ.
وبعد أن تأمَّل الدكتور الهدية، حَك خلف أذنه ببطء، وتنحنح، ثم تمخَّض بتردد، ودمدم: نعم، تحفة رائعة فعلًا، ولكنها … كيف أقول؟ … ليست تعني … غير أدبية أبدًا … ليس هذا حتى ديكولتيه، بل الشيطان يعلم ما هذا.
– ماذا تقصد، لماذا؟
– شيطان الغواية نفسه لا يستطيع أن يبتكر أفظع من هذا. إن وضع هذا الهراء على الطاولة معناه تدنيس الشقة كلها.
فقال ساشا غاضبًا: ما أغربَ نظرَتَك إلى الفن يا دكتور. إنها تحفة فنية، انظر جيدًا! فيها من الجمال والرشاقة ما يملأ النفس بمشاعر الرهبة، ويدفع إلى الحلق بِغُصَّة البكاء! وعندما ترى هذا الجمال تنسى كل ما هو دنيوي … انظر أي حركات، وأي شفافية وأي قوة تعبيرية!
فقاطعه الدكتور قائلًا: أَعرِف كل ذلك جيدًا يا عزيزي، ولكني رجل متزوج، وأولادي يلعبون هنا، وتزورنا سيدات محترمات.
فقال ساشا: طبعًا إذا نظرْنَا من وجهة نظر الغوغاء، فإن هذه التحفة الفنية السامية ستبدو لنا بالطبع بصورة مختلِفة … ولكن يا دكتور، فلتعلُ فوق مستوى الغوغاء، خاصة أن رفضك للهدية سيحزنني وماما كثيرًا. أنا وحيد أمي … وقد أنقذتَ حياتي … إننا نهديك أعز شيء علينا … و… ولا يؤسفني إلا أنه لا يوجد لديك شمعدان مماثِل ليناسب هذا الشمعدان.
– شكرًا يا عزيزي! أنا ممتن جدًّا … بلِّغ تحياتي لماما، ولكن في الحقيقة … انظر بنفسك … الأولاد يلعبون هنا، وتزورنا سيدات محترَمات … على العموم دَعْها، فلتبقَ! فلن تفهم مَهما شرحتُ لك.
فقال ساشا مسرورًا: لا داعي لأي شرح، ضع الشمعدان هنا، بجوار المزهرية. من المؤسِف أنه لا يوجد شمعدان مماثل! مؤسف جدًّا! حسنًا، وداعًا يا دكتور.
وبعد أن انصرف ساشا ظل الدكتور يُحدِّق طويلًا في الشمعدان، ثم حَك خلف أذنه ومضى يفكر.
وقال لنفسه: «تحفة رائعة، لا شك في هذا، يعز عليَّ أن أرميها … كما أن الاحتفاظ بها مستحيل. هم! يا لها من مسألة مُحيِّرة! تُرى لمن يمكن إهداؤها أو التبرُّع بها؟»
وبعد تفكير طويل تذكَّر صديقه الطيب، المحامي أوخوف، الذي كان مدينًا له بأتعاب قضية.
فقرَّر الدكتور: ممتاز! إنه مُحرِج كصديق من أن يتقاضى مني أجرًا، وسيكون من اللائق تمامًا لو أهديتُه هذه التُّحفة. فلأحمل إليه هذه المصيبة! وبالمناسبة فهو أعزب وأرعن.
ومضى الدكتور بلا تسويف فارتدى ملابسه، وأخذ الشمعدان ورحل إلى أوخوف.
وجد المحامي في البيت فحياه: مرحبًا يا صديقي! ها قد جئتُك … لكي أشكرك يا أخي على مجهوداتك … إذا لم تكن تريد أن تأخذ مني نقودًا، فلتأخذ على الأقل هذه التحفة … إنها يا أخي تحفة فخمة!
وحينما رأى المحامي التحفة تملَّكه إعجاب لا يُوصَف. وقال وهو يقهقه: يا لها من تُحفة! يا للملاعين، انظر كيف يَبتَكر هؤلاء الشياطين أشياء كهذه! رائعة! خلابة! من أين حصلت على هذه الفتنة؟
وبعد أن سكَب المحامي إعجابه نظر إلى الباب بخوف وقال: ولكن احمل يا أخي هديتك من هنا. لن آخذها.
فسأل الدكتور بذعر: ولماذا؟
– هكذا … والدتي تأتي إلى هنا، والزبائن … بل حتى الخدم سأشعر بالحرج أمامهم.
فأشاح الدكتور بيديه: لا يمكن، أبدًا! إياك أن تجرُؤ على رَفْضِها! سيكون ذلك خِسَّة من جانبك! هذه تُحفة فنِّية … انظر أي حركات … أي قوة تعبيرية … أنا لا أقبل أي نقاش، سأغضب منك.
– لو أنها كانت مدهونة، أو مستورة بأوراق التوت.
ولكن الدكتور أشاح بيديه أكثر، وانطلق راكضًا من شقة أوخوف، ومضى إلى البيت سعيدًا بأنه أفلح في التخلُّص من الهدية.
وبعد خروجه تفحَّص المحامي الشمعدان وتحسسه بأصبعه من جميع الجوانب، أخذ مثل الدكتور يفكِّر طويلًا فيما يفعله بهذه الهدية.
وقال لنفسه: «إنها تحفة رائعة، يعز عليَّ أن أرميها، كما أن الاحتفاظ بها لا يليق. أحسن شيء أن أهديها لأحد ما … نعم، فلأحمل هذا الشمعدان مساء اليوم إلى الممثل الكوميديان شاشكين. هذا اللئيم يحب أمثال هذه الأشياء، وبالمناسبة، فاليوم حفلته «البنيفيس».»
وهذا ما كان. ففي المساء قدَّم الشمعدان الملفوف بعناية إلى الممثل شاشكين. وتعرَّضَت غرفة الملابس الخاصة بالممثل طوال المساء لهجوم الرجال الذين جاءوا للتفرُّج على الهدية. وتردَّد في الغرفة طوال الوقت هدير الإعجاب والضحكات الشبيهة بصهيل الخيل. وعندما كانت إحدى الممثلات تقترب من باب الغرفة وتسأل: «هل أستطيع أن أدخل؟» تسمع على الفور صوت الممثل الأبح:
– كلا، كلا يا عزيزتي! لم ألبس بعد!
وبعد الحفل هَزَّ الممثل كتفيه وأشاح بيديه، وقال: حسنًا، وماذا أفعل بهذه النجاسة؟ إنني أسكن شقة مُؤجَّرة! والممثلات يزُرنَني. وليست هذه صورة بحيث يمكن إخفاؤها في درج المكتب!
وقال له الحلَّاق وهو يزيل عنه المكياج: بعها يا سيدي … توجد هنا في الضاحية سيدة عجوز تشتري البرونز القديم … اذهب إلى هناك واسأل عن سميرنوفا … الجميع يعرفونها.
واتبع الممثل النصيحة … وبعد يومين كان الدكتور كوشيلكوف جالسًا في عيادته وقد وضع إصبعه على جبينه وهو يفكر في الأحماض الصفراوية وفجأة فتح باب الغرفة واندفع ساشا سميرنوف داخلًا. كان يبتسم متهللًا، وقد طفحَت هيئته كلها بالسعادة … وكان في يده شيء ملفوف.
وقال وهو يكاد يختنق: يا دكتور! تصوَّر مدى فرحتي! لحُسن حظِّك استطعنا أن نحصل على شمعدان مُماثِل لشمعدانكم! ماما في غاية السعادة … أنا وحيد ماما … لقد أنقذتَ حياتي.
ووضع ساشا الشمعدان أمام الدكتور وهو يَرتجِف من الفرحة. وفَغَر الدكتور فَمَه، وأراد أن يقول شيئًا ما ولكنه لم ينبس بشيء … إذ فَقَد النطق.