كلخاس
وكرَّر تساؤله:
– متى نعستُ يا تُرى؟ آه، يا لي من عجوز مُخرِّف! ماذا أيها الكلب العجوز؟ ألهذه الدرجة تسكر حتى تنام جالسًا في المقعد؟ شاطر!
وأحس الممثل الكوميدي بالمرح. انفجر في ضحك ثمل يتخلله السعال، وتناول إحدى الشمعتين، وخرج من غرفة الملابس. كانت خشبة المسرح خاوية ومظلمة. ومن عمق الخشبة وجانبيها، ومن الصالة هب نسيم خفيف ولكنه محسوس. كانت تيارات الهواء تجول كالأرواح فوق الخشبة وهي تتصادم وتدوِّم وتداعب لهيب الشمعة. وتَراقَص اللهيب وتَلوَّى في جميع الاتجاهات مُلقيًا ضوءًا ضعيفًا تارة على صف الأبواب المُفضِية إلى غُرَف الملابس، وتارة على الكواليس الحمراء حيث كان ثمة دلو، وتارة على إطار كبير مُلقًى وسط الخشبة.
وصاح الممثل: يجوركا، يجوركا، أيها الشيطان، بتروشكا! نام الشياطين عليهم اللعنة! يجوركا!
ورد الصدى: آ … آ … آ.
وتذكَّر الممثل أنه قد منح كلًّا من يجوركا وبتروشكا ثلاثة روبلات ليشربا فودكا بمناسبة «البنيفيس». ومن غير المُحتمَل، بعد هذه المنحة السخية، أن يمكثا في المسرح للمبيت.
تأوَّه الممثِّل وجلس على كرسي بلا مَسند، ووضع الشمعة على الأرض. كان رأسه ثقيلًا ثملًا، وقد بدأت الكمية الهائلة التي شربها من البيرة والنبيذ والكونياك «تحترق» لتوِّها في جسده كله، وأحس بالضعف والخوار بسبب نومه جالسًا.
ودمدم وهو يبصق:
سرية خيالة باتت في فمي … آه، يا لي من عجوز أحمق! ما كان يجب أن أشرب! ما كان يجب! ظَهري يؤلمني، ورأسي يكاد ينفجر، وجسدي كله يرتجف … إنها الشيخوخة.
ونظر أمامه … كانت تلوح بالكاد كوشة الملقِّن والمقصورات الخاصة وحاملات النوت الموسيقية، أما الصالة كلها فكانت تبدو كحفرة سوداء بلا قرار، كشِدق مفغور تطل منه ظلمة باردة صارمة … كانت الصالة عادة متواضعة مريحة، إلا أنها بدَت الآن، ليلًا، عميقة بلا حدود، مُقفِرة كالقبر، قاسية … وحدَّق الممثل في الظلام ثم في الشمعة ومضى يقول بتذمر:
ورد الصدى: آ … آ … آ.
ودوَّت مع الصدى في وقت واحد أجراس صلاة الصبح في مكان بعيد، وكأنما انبعثت من أعماق الشِّدْق المَفغُور. ورسم كلخاس علامة الصليب ثم صاح:
بتروشكا! أين أنتم أيها الشياطين؟ يا إلهي، لماذا أذكر اسم الشيطان؟ دع عنك هذه الكلمات، كفَّ عن الشراب فقد هَرمْتَ، آن أن تموت! في الثامنة والخمسين يذهب الناس لصلاة الصبح، يستعدون لملاقاة الموت … وأنت … أوه يا إلهي!
ودمدم: الرحمة يا رب، هذا مُرعِب! لو قضيتُ الليلة هنا بهذه الصورة فقد أموت من الخوف. هذا هو المكان الحقيقي لتحضير الأرواح!
وازداد رعبًا عند ذِكْر كلمة «الأرواح» … أثارَت التيارات المتجوِّلة وذبذبة البقع الضوئية خياله وألهبَته إلى أقصى درجة … فانكمَش وضَمر، وانحنى ليلتقط الشمعة، وللمرة الأخيرة تَطلَّع خِلسة وبِخوف طفولي إلى الحفرة المظلِمة. كان وجهه الذي شوَّهه المكياج مُتبلدًا خاليًا من أي معنًى تقريبًا. وقبل أن تَصِل يده إلى الشمعة، قَفز واقفًا وحمْلَق في الظلام بنظرة جامدة. وقف صامتًا حوالي نصف دقيقة، ثم أمسك برأسه وخبط بقدميه وقد تَملَّكه فزع غير عادي.
وصرخ الممثل بصوت حادٍّ غير طبيعي: مَن أنت؟ مَن أنت؟
في إحدى المقصورات الخاصَّة وقف شَبح بشري أبيض، وعندما كان الضوء يسقط ناحيته يُصبح من الممكن أن تُميِّز فيه يدين ورأسًا بل ولحية بيضاء.
وكرر الممثل بصوت يائس: مَن أنت؟
رفع الشبح الأبيض ساقه وعبَر حاجز المقصورة وقفز إلى موضع الأوركسترا، ثم سار نحو خشبة المسرح بلا صوت كالظل.
وتَمتَم وهو يصعد إلى الخشبة: إنه أنا.
فصرخ كلخاس وهو يتراجع: مَن؟
– أنا … أنا … نكيتا إيفانيتش … المُلقِّن. عفوًا، لا داعي للقلق.
تَهالَك الممثِّل على المقعد خائر القوى وطأطأ رأسه. كان يَرتجِف وقد أفقَدَه الرعب صوابه.
اقترب منه رجل طويل، معروق، أصلع، بلحية شيباء، حافي القدمين وفي الملابس الداخلية فقط، وقال: إنه أنا! إنه أنا! الملقِّن.
– أنا هنا أبيت في المقصورة الخاصة … ليس عندي مكان آخر للمبيت … لكن أرجو ألا تقول لأليكسي فوميش.
– ها أنت ذا يا نيكيتوشكا … دمدم الممثِّل الخائر مادًّا يده المرتعشة نحوه … يا إلهي، يا إلهي! … طَلبُوني للظهور ست عشرة مرة، وحمَلُوا لي ثلاثة أكاليل وهدايا كثيرة … كانوا جميعًا مُعجَبين، ولكن لم يُوقِظ أحد العجوز السَّكران ولم يحمله إلى البيت. أنا عجوز يا نيكيتوشكا … عمري ٥٨ سنة … مريض! روحي الضعيفة تتعذَّب.
وهمَّ الممثِّل نحو الملقِّن، وأطبق على يده وبدنه كله يرتعش.
ودمدم وكأنما يهذي: لا تتركني يا نيكيتوشكا … أنا عجوز، ضعيف … على وشك الموت … أنا خائف!
فقال يا نيكيتوشكا برقة: آن لك أن تذهب إلى البيت يا فاسيلي فاسيليتش!
– لن أذهب. لا بيتَ لي. كلَّا، كلَّا!
– رُحماك يا رب! لقد نسيت أين تسكن.
– لا أريد أن أذهب إلى هناك، لا أريد … دمدم الممثل في لوعة؛ هناك أنا وحيد … ليس عندي أحد يا نيكيتوشكا، لا أهل، ولا زوجة، ولا أولاد … وحيد كالريح في الخلاء … لو مُتُّ فلن يذكرني أحد.
انتقلَت عدوى الرعشة من الممثِّل إلى نيكيتوشكا … كان العجوز الثَّمل المنفعل يهز يد الملقن وهو يعصرها بعصبية ويلوثها بخليط المكياج والدموع. وانكمش نيكيتوشكا من البرد وطوى كتفيه.
ودمدم كلخاس: أنا خائف من وحدتي … ليس هناك مَن يلاطفني أو يعزيني، أو يضعني، أنا الثمل، في الفراش. لمن أنا؟ من بحاجة إليَّ؟ من يحبني؟ لا أحد يحبني يا نيكيتوشكا.
– الجمهور يحبك يا فاسيلي فاسيليتش.
– الجمهور انصرف، وهو الآن نائم … كلَّا، لا أحد بحاجة إليَّ، لا أحد يحبني … لا زوجة لي ولا أطفال.
– يا سلام، وجدتَ ما تأسف عليه.
– ولكني إنسان، حيٌّ … أنا نبيل يا نيكيتوشكا، من أصل كريم … قبل أن أسقط في هذه الحفرة كنتُ في الخدمة العسكرية، في سلاح المدفعية. كنتُ فتًى وأي فتًى! كنتُ جميلًا، مُندفِعًا، جريئًا … وأيُّ ممثل كنت! يا إلهي، يا إلهي! أين ذهب ذلك كله؟ أين ذلك العهد؟
نهض الممثِّل مُعتمدًا على يد المُلقِّن، وطرَفَت عيناه بشدة كأنه خرج من الظلام إلى غرفة ساطعة النور. وسالَت على خديه دموع غزيرة مُخلِّفة خطوطًا من أصباغ المكياج.
واستطرد يهذي:
– يا له مِن عهد! نظرتُ لتوِّي إلى هذه الحفرة فتذكَّرتُ كل شيء … كل شيء! هذه الحفرة ابتلعَت ٣٥ سنة من عمري يا نيكيتوشكا! انظر إليها الآن فأرى كل شيء بأدق تفاصيله كما أرى وجهك! … أذكر عندما كنتُ ممثلًا شابًّا، وبدأَت تتملَّكني وقدة الحماس، أحبَّتني إحداهن لأدائي … كانت جميلة، رشيقة كشجرة حور، فتية، بريئة، ذكية، حارة كفجر صيفي! كنتُ على يقين من أنه لو اختفَت الشمس من السماء فستَبقَى الأرض رغم ذلك منيرة؛ لأنه ما كان بوسع أي ظلام أن يصمد أمامها!
كان كلخاس يَتحدَّث بحرارة وهو يهز رأسه ويده … وأمامه وقف نيكيتوشكا يُصغي إليه حافيًا وفي ملابسه الداخلية. ولفَّهما كليهما الظلام الذي لم يكن ضوء الشمعة الواهن قادرًا على تبديده. كان ذلك مشهدًا غريبًا، غير عادي، لم يرَ مثله أي مسرح في العالم، ولم يكن هناك من مشاهدين سوى الحفرة السوداء الصماء.
ومضى كلخاس يقول مختنقًا: لقد أحبَّتْنِي، ثم ماذا؟ أذكر وقفتي أمامها كما أقف أمامك الآن … كانت رائعة في تلك المَرَّة كما لم تكن أبدًا من قبل، وكانت تنظر إليَّ بعينين لن أنساهما حتى الممات! الرقة، المخمل، بريق الشباب، العمق! كنتُ ثملًا بالنشوة، سعيدًا، فجثوتُ أمامها على ركبتي سائلًا السعادة.
التقط الممثِّل أنفاسه وقال بصوت خائر: قالت لي: اترك المسرح! هل تفهم؟ كانت تستطيع أن تحب ممثلًا، أما أن تصبح زوجته فلا، مستحيل! أذكر أنني في ذلك اليوم كنتُ أمثل اﻟ … كان دورًا حقيرًا، دور مُهرِّج. وكنتُ أمثِّل بينما أحشائي تتمزق أسًى وقلقًا … لم أهجر المسرح، كلَّا، ولكن الحقيقة تكشَّفَت لي آنذاك! أدركتُ أني عَبد، لُعبة في أيدي أناس فارغِي البال، وأنه ليس هناك فن مقدَّس، بل كل ذلك هذيان وخداع. فَهِمتُ ما هو الجمهور! ومنذ ذلك الوقت لم أَعُد أصدق التصفيق ولا الأكاليل ولا الإعجاب! نعم يا أخي! المتفرِّج يصفق لي، ويشتري صورتي بروبل، ومع ذلك فأنا غريب بالنسبة إليه، أنا عنده قذارة، غانية تقريبًا! وهو يريد التعرف بي إرضاء لغروره، ولكنه لن يهين نفسه بتزويجي أخته أو ابنته! أنا لا أصدقه، أَمقُته، إنه غريب بالنسبة إليَّ!
فقال الملقن بوجل: آن لك أن تعود إلى البيت.
فصاح كلخاس مهددًا الحفرة السوداء بقبضته: أَفهمُهم تمام الفهم! من يومها فَهمتُ … سقطت الغشاوة عن عيني شابًّا فرأيتُ الحقيقة … ودفعتُ ثمن هذه الصحوة غاليًا يا نيكيتوشكا … بعد تلك الواقعة، بعد تلك الفتاة، أصبحتُ أَهِيم بلا معنًى، أعيش دون جدوى، ولا أنظر للمستقبَل … لعبتُ أدوار المُهرِّجِين، وسخرْتُ، وأفسدتُ العقول … ابتذلتُ لساني وشوَّهتُه، أضعتُ نفسي وكرامتي … إيه، إيه! التهمَتنِي هذه الحفرة. لم أشعر بذلك قبلًا، أما اليوم … عندما استيقظْت، نظرتُ إلى الوراء، فإذا ورائي ٥٨ سنة! الآن فقط أحسستُ بالشيخوخة! ضاع العمر!
وظل كلخاس يرتعش ويختنِق … وبعد ذلك بقترة، عندما قاده نيكيتوشكا إلى غرفة الملابس، وأخذ ينزع عنه ملابسه، تداعى كلخاس وخار، ولكنه لم يكف عن الدمدمة والبكاء.