الهارب
كانت تلك عملية طويلة. ففي البداية سار باشكا مع أمه تحت المطر، تارة عبر حقل محصود، وتارة في الغابة، حيث كانت الأوراق الصفراء تلتصق بحذائه، سار حتى لاح الفجر. ثم وقف زهاء ساعتين في المدخل المظلم ينتظر فتح الباب. لم يكن المدخل رطبًا وباردًا كما في الخارج، بيد أن رذاذ المطر كان يتطاير إلى هنا عند هبوب الريح. وعندما اكتظ المدخل شيئًا فشيئًا بالبشر، دفن باشكا المحشور وجهه في معطف شخص ما كانت تنبعث منه بشدة رائحة سمك مملح، ونعس. وها هو ذا المزلاج يصرُّ، ويفتح الباب على مصراعيه، فيدخل باشكا مع أمه إلى غرفة الاستقبال. وهنا أيضًا اضطروا لأن ينتظروا طويلًا. كان المرضى جالسين على الأرائك بلا حراك وفي صمت. وتطلع باشكا ولزم هو الآخر الصمت، رغم أنه رأى الكثير من الأشياء الغريبة والمضحكة. لم يتمالك نفسه مرة واحدة، عندما دخل الغرفة فتى ما وهو يقفز على ساق واحدة، فقد شعر باشكا بالرغبة في أن يقفز هو أيضًا. لَكز أمه أسفل كوعها وقال وهو يكتم ضحكة في كمه: انظري يا ماما. عصفور!
فقالت أمه: اسكت يا بني، اسكت!
وظهر الحكيم النعسان في شباك صغير وقال بصوت أجش: تقدموا للتسجيل.
وأسرع الجميع إلى الشباك بمن فيهم الفتى النطَّاط المضحك. وكان الحكيم يسأل كلًّا منهم عن اسمه واسم أبيه، وعمره، ومحل إقامته، ومتى مرض وغير ذلك. وعرف باشكا من ردود أمه أن اسمه ليس باشكا، بل بافل جالاكتيونوف، وأن عمره سبع سنوات، وأنه أميٌّ، ومريض منذ عيد الفصح.
وبعد التسجيل بقليل كان عليهم أن ينهضوا؛ إذ مر الدكتور عبر غرفة الاستقبال مرتديًا مريلة بيضاء ومحزومًا بفوطة. وحين مر بجوار الفتى النطَّاط هز كتفيه، وقال بنبرة «تينور» منغمة: يا لك من أحمق! حسنًا، ألست أحمق حقًّا؟ لقد قلت لك أن تأتي يوم الاثنين وها أنت ذا تأتي يوم الجمعة. بالنسبة إليَّ لا يهم حتى لو لم تأتِ، ولكن ساقك ستضيع أيها الأحمق!
رسم الفتى على وجهه المسكنة الشديدة، وكأنما كان ينوي أن يسأل حسنة، وطرف بعينيه وقال: اصنع معروفًا يا إيفان ميكولايفتش!
فقال الدكتور مقلدًا لهجته: دعك من إيفان ميكولايفتش! قلت لك يوم الاثنين وكان يجب أن تسمع الكلام. لست إلا أحمق.
وبدأ استقبال المرضى. كان الدكتور جالسًا في غرفته يستدعي المرضى بالدور. ومن وقت لآخر تتردد من هناك صرخات حادة، وبكاء أطفال أو هتاف الدكتور الغاضب:
– ما لك تصرخ؟ هل أنا أقطع لحمك؟ اجلس ساكنًا.
وجاء دور باشكا.
وصاح الدكتور: بافل جالاكتيونوف!
روعت الأم كأنما لم تكن تتوقع هذا الاستدعاء، ثم أمسكت باشكا من يده وسحبته إلى غرفة الدكتور. وكان الدكتور جالسًا إلى الطاولة وهو يدق بمطرقة صغيرة آليًّا على دفتر سميك.
وسأل دون أن ينظر إلى الداخِلِين: ممَّ يشكو؟
فأجابت الأم: الولد عنده دمل في كوعه يا سيدي … وارتسم على وجهها تعبير وكأنما كانت حقًّا في غاية الحزن بسبب دمل باشكا.
– قلَّعيه!
فك باشكا المنديل من حول عنقه وهو يزفر، ثم مسح أنفه بكمه وأخذ ينزع معطفه على مهل.
فقال الدكتور بغضب: لم تأتِ إلى هنا للضيافة يا ولية! ما لك تتلكئين؟ لست الوحيدة عندي.
فألقى باشكا المعطف على الأرض بعجل وخلع القميص بمساعدة أمه … وتطلع الدكتور بكسل وربَّت على بطنه العاري.
– يا لها من كرش كبيرة ربَّيْتَها يا أخي، قال الدكتور ثم تنهَّد: حسنًا أرني كوعك.
تطلع باشكا شزرًا إلى الطست المملؤة بمخلفات الأربطة الدموية، ثم إلى مريلة الدكتور وأجهش بالبكاء. فقال الدكتور ساخرًا: إي … ي … ي! آن الأوان أن تتزوج أيها المخادِع، بينما تبكي! إخص عليك!
نظر باشكا إلى أمه محاولًا ألا يبكي، وتجلى في نظرته هذه رجاء: «لا تخبري أحدًا في البيت بأنني بكيت في المستشفى!»
وفحص الدكتور كوعه، وضغط عليه ثم تَنهَّد، ومَصمَص شفتيه، ثم ضغط عليه مرة أخرى.
وقال: تستحقين الضرب يا ولية. لماذا لم تأتِ به من قبل؟ خلاص ضاعت ذراعه! انظري يا حمقاء … مفصله مريض!
فَتنهَّدَت الولية: أنتم أدرى يا سيدي.
– يا سيدي … تُهمِلين ذراعه حتى تتقيَّح ثم تقولين يا سيدي! أي كسِّيب هو بدون ذراع؟! سوف تَقضِين عمرك كله في العناية به، أظن لو ظهر في أنفك دمل لهرولتِ إلى المستشفى فورًا، بينما تتركين ذراع الولد تتقيح نصف سنة. كلكن هكذا.
أشعل الدكتور لُفافَة تبغ. ومع دخانها المتصاعد أخذ يوبخ الولية ويهز رأسه على إيقاع أغنية أخذ يدندن بها في سرِّه وهو يفكر في شيء طوال الوقت. وكان باشكا يقف أمامه عاريًا وهو يُصغي ويتطلع إلى الدخان. وعندما انطفأت اللفافة انتفض الدكتور، وقال بنبرة أَهدَأ: طيب، اسمعي يا ولية، المراهم والنقط لن تُجْدِي شيئًا. ينبغي إدخاله المستشفى.
– إذا كان ضروريًّا يا سيدي، فلماذا لا يدخل؟
– سنجري له عملية جراحية. ثم قال مخاطبًا باشكا وهو يربِّت على كتفه: ابقَ عندنا يا باشكا. دع أمك ترحل، أما أنا وأنت يا أخي فسنبقى هنا. الحياة هنا طيبة يا أخي، آخر حلاوة! وما إن نفرغ من العمل يا باشكا حتى نذهب لاصطياد الحسُّون، وسأريك الثعلب! وسنذهب معًا لزيارة الجيران! هه؟ هل تريد؟ وستأتي أمك غدًا إليك! هه؟
ونظر باشكا إلى أمه مستفهمًا، فقالت: ابقَ يا بني!
فصاح الدكتور بمرح: سيبقى، سيبقى! ولا حاجة للكلام! سأريه الثعلب حيًّا! وسنذهب معًا إلى السوق لنشتري الحلوي! خذيه يا ماريا دينيسوفنا إلى الطابق الثاني!
بدَا الطبيب الذي كان أغلب الظن فتًى مَرِحًا وطيبًا، مسرورًا بهذه الصحبة. وأراد باشكا أن يرضيه، خاصة أنه لم يذهب إلى السوق في حياته، ويود عن طيب خاطر أن يرى ثعلبًا حيًّا، ولكن كيف يبقى بلا أمه؟ وبعد أن فكر قليلًا قرر أن يرجو الطبيب أن يُبقي أمه أيضًا في المستشفى، ولكن قبل أن يتمكن من فتح فمه كانت الحكيمة تقوده على الدرج إلى الطابق العلوي. وسار يُحدِّق عن يمينه ويساره بفم مفغور. فالدرج والأرضية وعوارض الأبواب — وكلها ضخمة مستقيمة ساطعة — كانت مُطلِيَّة بطلاء أصفر رائع، وتفوح منها رائحة الزيت النباتي اللذيذ. وفي كل مكان تدلَّت المصابيح وفُرِشَت مماسح الأقدام، وبرزت من الجدران الصنابير النحاسية. ولكن باشكا أعجب أكثر شيء بالسرير الذي أجلسوه عليه، وبالبطانية الرمادية الخشنة. وتحسس بيده الوسائد والبطانية، وطاف ببصره على العنبر وقرر أن الدكتور يحيا حياة لا بأس بها أبدًا.
كان العنبر صغيرًا لا يضم سوى ثلاثة أَسِرَّة؛ أحدها خاوٍ؛ والثاني شغَله باشكا؛ أما السرير الثالث فكان يجلس عليه عجوز ما، بعينين مكتئبتَين، وكان يسعل باستمرار ويبصق في كوز. ومن سرير باشكا كان يرى عبر الباب جزءًا من عنبر آخر بسريرين: على أحدهما ينام شخص شاحب جدًّا وهزيل، وعلى رأسه كيس من المطاط وعلى السرير الآخر جلس فلاح مباعدًا ذراعيه، معصوب الرأس، وكان يبدو قريب الشبه بامرأة.
وبعد أن أجلسَت الحكيمة باشكا انصرفَت، ثم عادَت بعد قليل حاملة كومًا من الملابس.
وقالت له: هذا لك. البس.
خلع باشكا ملابسه، وبإحساس لا يخلو من المتعة راح يرتدي الزي الجديد. وعندما ارتدى القميص والسروال والروب الرمادي تطلع إلى هيئته بخيلاء. وفكر في أنه لا بأس لو يخطر في القرية بهذا الزي. وتصور في خياله كيف ترسله أمه إلى مزرعة الخضراوات على الشاطئ ليجمع أوراق الكرنب للخنزير الصغير. ويسير بينما يحيط به الصبيان والفتيات وينظرون بحسد إلى روبه.
ودخلت العنبر ممرضة تحمل في يديها صحفتين معدنيتين وملعقتين وقطعتي خبز. وضعت إحدى الصحفتين أمام العجوز والأخرى أمام باشكا، وقالت: كُلْ!
نظر باشكا إلى الصحفة فرأى حساء كرنب دسمًا بقطعة لحم، ففكر ثانية أن الدكتور يحيا حياة لا بأس بها أبدًا، وأنه ليس عبوسًا أبدًا كما بدَا له أول الأمر. وظل باشكا طويلًا يتناول الحساء وهو يلعق الملعقة بعد كل غمسة، وعندما لم يتبقَّ في الصحفة سوى قطعة اللحم تطلع خلسة إلى العجوز وحسده على أنه ما زال يجرع الحساء. وشرع يأكل اللحم وهو يتنهد، ويحاول أن يطيل فترة تناوله إلى أقصى ما يمكن، لكن جهوده باءت بالفشل، فسرعان ما اختفى اللحم أيضًا. لم تبقَ سوى قطعة خبز. وليس لذيذًا أكل الخبز بدون غموس، ولكن ما باليد حيلة، ففكر باشكا قليلًا ثم أكل الخبز. وفي تلك اللحظة دخلت الممرضة بصحفتين أخريين. كان فيهما هذه المرة لحم مقلي مع البطاطس.
وسألته الممرضة: وأين خبزك؟
وبدلًا من الرد نفخ باشكا أوداجه ثم زفر.
فقالت له الممرضة مُؤنِّبة: لماذا أكلتَه؟ فبمَ ستأكل اللحم المقلي الآن؟ وخرجَت ثم عادت بقطعة خبز أخرى. ولم يكن باشكا قد ذاق اللحم المقلي في حياته، وعندما تذوقه الآن وجده لذيذًا جدًّا. واختفى اللحم بسرعة، وتبقت بعده قطعة خبز أكبر مما تبقى بعد الحساء. وعندما انتهى العجوز من غدائه وضع قطعة الخبز المتبقية في درج الطاولة. وأراد باشكا أن يفعل مثله، ولكنه فكر قليلًا ثم أكل قطعة خبزه.
وبعد أن شبع خرج ليتجول. كان في العنبر المجاور بالإضافة إلى الاثنين اللذين رآهما عبر الباب أربعة أشخاص آخرون. ولم يجذب انتباهه سوى واحد منهم. كان فلاحًا طويلًا، نحيفًا للغاية، بوجه مكفهر مشعر. كان جالسًا على السرير يومئ برأسه ويلوح بيده اليمنى طوال الوقت كالبندول. وظل باشكا لا يحوِّل عنه بصره طويلًا. وبدت له إيماءات الفلاح البندولية المنتظمة أول الأمر هزلية، الغرض منها إثارة الضحك، ولكنه عندما حدَّق مليًّا في وجهه أحس بالرعب، وأدرك أن هذا الفلاح مريض مرضًا خطيرًا. ودخل العنبر الثالث فرأى فلاحَيْن بوجهيْن أحمرَيْن قاتمَيْن كأنما لُوِّثا بالطين. كانا جالسَين على سريريْهما دون حراك، ولاح بوجهَيْهما الغريبَين اللذيْن كان من الصعب أن تميز فيهما الملامح، أشبه بصنمين من آلهة الوثنيين.
وسأل باشكا الممرضة: لماذا هما هكذا يا عمتي؟
– عندهما جدري يا بنيَّ
وعاد باشكا إلى عنبره فجلس على السرير وأخذ ينتظر الدكتور ليذهب معه إلى صيد الحسُّون أو إلى السوق. ولكن الدكتور لم يأتِ. وظهر الحكيم للحظة في باب العنبر المجاور وانحنى فوق المريض الذي كان على رأسه كيس ثلج وصاح: يا ميخايلو!
ولم يتحرك ميخايلو النائم. فأشاح الحكيم بيده وانصرف. وأخذ باشكا، في انتظار الدكتور، يتأمل جاره العجوز. كان العجوز لا يكف عن السعال والبصق في الكوز. وكان سعاله طويلًا متحشرجًا. وأعجب باشكا بشيء مميز في العجوز: فعندما كان يسعل ويشهق، يصفر شيء ما في صدره ويصدح بشتى النغمات.
وسأله باشكا: ما هذا الذي يصفر عندك يا جدي؟
ولم يرد العجوز بشيء. وانتظر باشكا قليلًا ثم سأله: وأين الثعلب يا جدي؟
– أيُّ ثعلب؟
– الحي.
– وأين يمكن أن يكون؟ في الغابة!
مر زمن طويل ولم يأتِ الدكتور بعد. وحملت الممرضة الشاي ووبخت باشكا؛ لأنه لم يُبقِ على الخبز للشاي. وجاء الحكيم مرة أخرى وأخذ يوقظ ميخايلو. ومال الجو إلى الزرقة وراء النوافذ، وأُشعِلت مصابيح العنابر، ولم يظهر الدكتور. أصبح الوقت متأخرًا للذهاب إلى السوق أو صيد الحسُّون. فتمدد باشكا على السرير وأخذ يفكر. تذكر الحلوى التي وعده بها الدكتور، ووجه أمه وصوتها، والعتمة في بيتهم والفرن والجدة يجوروفنا التي لا تكف عن التذمر … وفجأة شعر بالسأم والحزن. وتذكر أن أمه ستأتي غدًا إليه وتأخذه فابتسم وأغمض عينيه.
وأيقظه حفيف. كان هناك أحد يمشي في العنبر المجاور ويتحدث بصوت خافِت وفي ضوء اللمبات السهَّاري وقناديل الأيقونات كانت ثلاثة أشباح تتحرك بجوار سرير ميخايلو.
وقال أحدهم: هل نحمله بالسرير، أم بدونه؟
– بدونه، لن تمر بالسرير، إيه، مات في وقت غير مناسب، عليه الرحمة! أمسك أحدهم ميخايلو من كتفيه والآخر من قدميه ورفعاه: وتدلت ذراعا ميخايلو وأطراف روبه بتراخٍ. أما الشخص الثالث — وكان ذلك الفلاح الذي يشبه المرأة — فقد رسم علامة الصليب، ثم خرج ثلاثتهم بميخايلو من العنبر وهم يدقون بأقدامهم في اضطراب ويدوسون على أطراف روبه.
وتردد في صدر العجوز النائم صفير وصَدْح مُتعدِّد النغمات. وأصاخ باشكا السمع، وتطلع إلى النوافذ المظلمة، ثم قفز من السرير في ذعر. وتأوه بصوت غليظ: ما … ا … ما!
ودون أن ينتظر ردًّا انفلَت إلى العنبر المُجاوِر. وهناك كان ضوء القناديل واللمبة السهَّاري لا يكاد يشق الظلام. وجلس المرضى على أَسِرَّتهم مُضطربِين لموت ميخايلو. وظهروا بهيئاتهم المشعثة وفي اختلاطهم بالظلال أعرض وأطول، وبدَا كأنهم يَزدادون ضَخامة. وعلى آخِر سرير في الركن؛ حيث الظُّلمة أحلَك، جلس ذلك الفلاح يُومِئ برأسه ويهز يده.
انطلق باشكا على غير هدى فاقتحم عنبر المَجدُورين، ومن هناك إلى المَمر، ومن الممر اندفع إلى غرفة كبيرة؛ حيث كانت تَرقُد وتجلس في الأسرة مَخلوقات رهيبة بشعر طويل ووجوه عجائز. وبعد أن ركض باشكا عبر القسم النسائي وجد نفسه مرة أخرى في الممر، ورأى حاجز السلم المعروف فانحدر أسفل. وهنا عرف غرفة الاستقبال التي جلس فيها صباحًا، فأخذ يبحث عن باب الخروج.
صرَّ المزلاج، وهَبَّت دفقة هواء بارد، فانطلق باشكا إلى الفناء وهو يتعثر. لم يكن في ذهنه سوى فكرة واحدة: أن يهرب! ولم يكن يعرف الطريق، ولكنه كان واثقًا من أنه لو جرى فسيصل حتمًا إلى دارهم، إلى أمه. وكان الليل غائمًا، ولكن ضوء القمر لاح خلف السحب. وركض باشكا من المدخل إلى الأمام مباشرة، ودار حول الحظيرة فاصطدم بحرش خاوٍ. وقف قليلًا وفكر، ثم اندفع عائدًا إلى المستشفى، ودار حوله، وتوقف ثانية مترددًا؛ فمن خلف مبنى المستشفى لاحت صلبان المقابر البيضاء. وصاح: ما … ا … ما!
وركض عائدًا.
وبينما كان يجري مارًّا بمبانٍ مظلمة جهمة، رأى نافذة مضيئة.
بدت هذه البقعة الحمراء الساطعة في الظلام مخيفة، ولكن باشكا الذي جن رعبًا ولم يَعُد يدري إلى أين يجري، اتَّجَه نحوها. وكان بجوار النافذة مدخل ودرج وباب رئيسي بلوحة بيضاء. ارتقى باشكا الدرج ركضًا ونظر في النافذة فَتولَّته فجأة فرحة واخزة غامرة. لقد رأى في النافذة الدكتور المَرِح الطيب جالسًا إلى المكتب يقرأ كتابًا. ومدَّ باشكا يديه نحو الوجه الأليف وهو يضحك من السعادة، وأراد أن يصرخ، إلا أن قوة مجهولة كتمت أنفاسه وأهوت على ساقيه، فترنح وسقط على الدرج مغشيًّا عليه.
عندما أفاق كان الضوء منتشرًا، وبجواره سمع الصوت المعروف جدًّا؛ الصوت الذي وعده أمس بالسوق والحسُّون والثعلب، يقول: يا لك من أحمق يا باشكا! ألستَ أحمق حقًّا؟ تستحق الضرب … فعلًا تستحق الضرب.