فراشة الملفوف الكبيرة
ما إن يقترب فصل الربيع بشمسه الدافئة، وخُضرته الواسعة، وأزهاره الكثيرة، حتى ترَوني أطير قريبًا منكم، منتقلًا من زهرة إلى أخرى، فرحةً مسرورةً وسط هذه الطبيعة الخلَّابة التي يزيدها جمالًا ضحكاتكم البريئة، وصيحاتكم العذبة، وأنتم تتراكضون خلفي محاولين الإمساك بي، وأجدها فرصةً سعيدةً للمرح معكم. أُناور في حركاتي تارةً لليمين وتارةً لليسار، وتارةً أرتفع عاليًا كلما اقتربتم مني، وتارةً أخفِّف من سرعة طيراني وارتفاعي؛ لأبقى أطير على مقربة منكم في الحدائق والبساتين على ارتفاعاتٍ منخفضة، قريبًا من أزهار النباتات التي أحطُّ عليها أمتصُّ رحيقها، أو أضع بيوضي على أوراقها.
تشاهدوني كثيرًا على مدار العام من شهر شباط، وحتى شهر تشرين الثاني، فأنا من أكثر أنواع الفراشات شيوعًا وانتشارًا في كثير من بلدان العالم. أتواجد في السهول، والحقول والمروج، وفي القرى، والضواحي، وحدائق المدن، وأمتاز بقدرة فائقة على الطيران.
أحببتُ من النباتات العائلةَ الصليبية التي تضمُّ الملفوفَ والقرنبيط واللِّفت والكُرُنب والفُجل والخَردَل والجرجير والشوندر؛ ولذلك ارتبط اسمي بأسماء هذه النباتات.
اختارت لي أمي نبات الملفوف لتضع بيوضها الصفراء المنتظمة على الوجه السفلي لورقاته الغضة، في مجموعات يتراوح عدد البيوض فيها من ٢٠ إلى ١٠٠ بيضة.
وما إن يمر من أربعة إلى ثمانية أيام حتى تفقس هذه البيوض عن يرقات صغيرة جائعة، ذات لون أخضر، يستر جسمها جلد ناعم، تغطِّيه في منطقة الظَّهر خطوط صفراء مستمرِّة، أو متقطِّعة، مع بُقَع سوداء.
تخرج يرقاتي هذه من البيوض، وتروح تتسابق في الْتهام تلك الأوراق الطرية اللذيذة بشهية.
تزداد شهية اليرقات للغذاء مع تقدُّمها في العمر، حيث تتغذَّى على الوجه السفلي للورقة خلال الأسبوع الأول، ثم تنتقل إلى الوجه الثاني للورقة في الأسبوع الثاني.
ومع نمو جسمها وازدياد تغذيتها يتم القضاء على أوراق النبات المضيف فلا يبقى منها إلا تفرُّعاتها.
وتمتَد أضرار اليرقات يومًا بعد آخر على النبات كلِّه من خلال الثقوب العديدة التي تُحدثها في رأس الملفوف، والفضلات التي تتركها داخله، وما يؤدِّيه ذلك إلى نمو الفطريات عليه، وتعفُّنه، وتلف المحصول، وعدم صلاحيته لاستهلاك البشر، الأمر الذي يؤدِّي إلى نقمة المزارعين علينا، واعتبارنا آفةً اقتصادية تدمِّر المحاصيل.
فتراهم يستخدمون المُبيدات من السموم الكيميائية، والعضوية. يرشُّون بها أوراق النباتات التي تتغذَّى عليها اليرقات، فتنتقل مع الغذاء إلى جهازها الهضمي، مؤدِّيةً إلى تسمُّمها، أو تنتقل بالملامسة إلى جهازها العصبي، مؤدِّيةً إلى شللها وموتها.
أو يُطلقون أعداءنا الحيوية، حيث يضعونها على النباتات التي تتغذَّى عليها اليرقات، فتتطفَّل عليها، أو تضع بيوضها داخلها، وعندما تفقس بيوض الطفيل تخرج يرقاته فتتغذَّى على يرقاتنا.
لم يكن قصد اليرقات إتلاف المحصول؛ فقد وضعتها أمها الفراشة على أوراق تلك النباتات لتتغذَّى عليها، فينمو جسمها ويكبر ليصل طوله ٢سم، وخلال فترة النمو هذه يتسلَّخ جلدها خمس مرات خلال طورها اليرقي الذي يستمر قرابة ١٨ يومًا.
ثم تدخل في طَور العذراء، والذي قد يستمرُّ في سُباتٍ طول فصل الشتاء حتى الربيع القادم؛ حيث تخرج من طَور العذراء فراشة بيضاء جميلة تطير في الحقول وتتابع دورة حياتها في التزاوج ووضع البيوض على نباتاتها المفضَّلة.
أمَّا في الجو الحار فبعد ٣٠–٤٥ يومًا من فقس البيوض، تتحوَّل اليرقات إلى فراشاتٍ فتيةً ذات أجنحة بيضاء رائعة جميلة تساعدها على الطيران بجواركم، فتلاعبكم، وتلهو معكم، وتجلب لكم البهجة والسرور، وتزيد الطبيعة جمالًا على جمال.
يدعونني الفراشة البيضاء الكبيرة؛ حيث يبلغ طولي بحدود ٦ سنتيمترات، تمييزًا لي عن فراشة أخرى تشبهني ولكنها أصغر حجمًا.
تُزين أجنحتَنا نحن الفراشات الإناث بقعتان كبيرتان ذات لون أسود.
تُميِّزنا عن إخوتنا الذكور؛ حيث تكون أجنحتهم بيضاء بدون تلك البقع السوداء.
نمتاز عن غيرنا من الفراشات بصفات مميزة لعشيرتنا؛ فقرون الاستشعار لدينا صولجانية، وأجنحتنا تتوضَّع بشكل عمودي على الجسم حين الراحة والتوقُّف فترةً طويلة، وننشط في ساعات النهار، والعذارى لدينا عارية، وألوانها زاهية، أمَّا يرقاتنا فيصل طولها إلى ٤ سنتيمترات. ولدينا في السنة ثلاثة أجيال، مدة كل منها ٣٠–٤٠ يومًا، وقد تزيد عن ذلك أو تنقص حسب مكان إقامتنا، وظروف المناخ السائدة فيه، ووفرة الغذاء، ومناسبة الأجواء.
وقبل أن أغادركم أصدقائي الأطفال أُذكِّركم بنفسي؛ أنا صديقتكم الفراشة البيضاء. أجمل فراشات الكوكب وأكثرها انتشارًا. تسمياتي عديدة؛ فأنا أبو دقيق الملفوف، وأنا الفراشة البيضاء الكبيرة، وفراشة الكرنب البيضاء كبيرة الحجم. أنتمي إلى فصيلة أبو الدقيق الأبيض في رتيبة صولجانيات القرون، وتحت رتبة أبي الدقيقات في رتبة حرشفيات الأجنحة التي تحتوي ٧٦ جنسًا و١١٠٠ نوع من صف الحشرات، شعبة مفصليات الأرجل، وينتهي نسَبي إلى مملكة الحيوان.