جذور الكيمياء الحيوية
يرتبط تاريخ الكيمياء الحيوية من عدةِ نواحٍ بفهمِ ما يُعَد أقدَم استخدامات التكنولوجيا الحيوية؛ أي التخمُّر وإنتاج المشروبات الكحولية والجبن. ربما يتزامن تصنيع الجبن مع تطوُّر الزراعة وتدجين الماعز والخِراف منذ ما يقرُب من ١٠ آلاف سنة. لقد كان اللبن الطازج المتروك في أجواءٍ دافئة بيئةً مثالية لتكاثُر الميكروبات مثل بكتيريا المكورة اللبنية. هذه البكتيريا تحوِّل اللاكتوز في اللبن إلى حمض اللاكتيك، ما يؤدي بدوره إلى تخثُّر البروتينات في اللبن وتكوين الروائب. كان الانخفاض الناتج في محتوى اللاكتوز في الروائب (ومصل اللبن الباقي) بمنزلة نعمة كبيرة للبالغين من البشَر في العصر الحجري الحديث؛ حيث إنهم كانوا يواجهون بلا شك مشكلةً في هضم اللاكتوز (إذ لم يكن قد تطوَّرت لديهم وسيلةٌ لتكسير هذا النوع من السكر). وبالطبع يمكن عصر الروائب وتجفيفها لتكوين جبنٍ سهل التخزين. وفي نحو هذا الوقت، استخدمت ثقافاتٌ أخرى الخميرةَ من أجل تخمُّر الجلوكوز وتحويله إلى الإيثانول. في هذه العملية، تتغلَّب الخميرة على البكتيريا الضارة، ما يجعل المشروب الناتج أكثرَ أمانًا في شربه من شرب المياه غير المعالَجة. ومن هنا، ظهرت الجِعَة.
التخمُّر والإنزيمات
نتقدم سريعًا إلى القرن التاسع عشر حيث وقع جدالٌ بين عملاقين من الوسط العلمي بشأن العمليات الكيميائية التي يقوم عليها التخمُّر. لقد حدث صدام بين عالِم الكيمياء والأحياء الدقيقة لوي باستور الذي يشتهر بعمله على اللقاحات والبسترة، والعالِم جاستس فرايهر فون ليبيج (الذي يشتهر باختراعه مكثفًا سُمي على اسمه، والأهم بكونه مؤسِّس صناعة التسميد وأبا الكيمياء العضوية).
دعم ليبيج النظريةَ الكيميائية الخاصة بالتخمُّر. فقد اعتمد على أفكارٍ اقترحها أنطوان لافوازييه بأن الخميرة رافقت ظهورَ التخمُّر وربما كانت سببًا في ظهوره، ولكن بمجرد أن دارت العجلة الكيميائية الحيوية، لم يَعُد للكائنات الحية دورٌ في هذه العملية. شرح ليبيج هذا بوضع نظرية تنصُّ على أن التخمُّر نتج عن انتقال حالات اضطراب الجزيئات بين مكوِّنات الخميرة، وهي عملية كان يعتقد أنها شبيهة بتحلل المادة الحيوانية والنباتية. إذن، ومن هذا المنظور، فإن التخمُّر عبارة عن عملية كيميائية خالصة لا تتطلب أيَّ تدخُّل من الكائنات الحية.
في المقابل، اتخذ باستور نهجًا تجريبيًّا. فبإثبات أن التخمُّر لم يحدُث في مرقٍ قُتلت فيه الكائنات الدقيقة عن طريق الغليان، استنتج باستور أن التخمُّر نتج عن عمل الكائنات الدقيقة القابلة للنمو. قال في هذا الشأن: «التخمُّر الكحولي فعلٌ مرتبط بحياة خلايا الخميرة وتنظيمها، وليس مرتبطًا بموت الخلايا أو تحلُّلها.»
لا يخفى أن هذه العبارة كانت تقدح في نظريات ليبيج، وساعدت في تأجيج الجدال بين العالِمَين، الذي قد وقع من خلال أوراقهما البحثية وخطاباتهما واستمرَّ من أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر وحتى ستينياته. في بعض الأحيان، كانت المراسلات بينهما لاذعة بشدة؛ إذ اقترح ليبيج أن تجارب باستور لا يمكن تَكرارها. لكن، في الواقع، لم تكن نظريات أيٍّ منهما عن التخمُّر صحيحة. وفي النهاية، حُلت المسألة بعد ما يقرُب من ثلاثين سنة على يد الأخوين الألمانيَّين هانس بوخنر (عالِم البكتيريا) وإدوارد بوخنر (عالِم الكيمياء).
في عام ١٨٩٣، كان هانس بوخنر عاكفًا بجِدٍّ على طريقةٍ لاستخلاص المواد من البكتيريا لأغراض إنتاج اللقاحات. كان من الصعب إنماءُ البكتيريا بأي كمية، ومن ثَم اختبر أساليبه على الخميرة (وبفضل عيشه في ميونيخ حيث وفرةُ مصانع الجِعَة، فقد كانت هناك وفرةٌ في مخزون الخميرة). وعليه، نجح هانس في فتح الخلايا وإخراج محتواها السائل — البروتوبلازم — عن طريق سحق الخميرة في مكبس هيدروليكي. بعد هذه العملية، كانت الخميرة ميتة تمامًا؛ ومن ثَم، وبناءً على نظرية باستور، فلا يُفترض أن يوفِّر المستخلص ميزةَ التخمُّر. ولذا فوجئ الأخوان بوخنر عندما رأيا فقاعات ثاني أكسيد الكربون — عند مزج بروتوبلازم وجلوكوز الخميرة — على سطح وعاء التفاعل. أوضحت هذه العلامة الدالة بما لا يدَع مجالًا للغموض أن التخمُّر يمكن أن يحدُث من دون عامل حي قابل للنمو.
السر في اكتشاف الأخوين بوخنر الذي وقع بالصدفة كان يكمُن في الطريقة التي استخلص بها هانس محتويات الخلايا. سبق أن حاول الكثيرون غيره استخلاصَ البروتوبلازم النشط، ولكن كان جميعهم يستخدمون الحرارة أو المذيبات، وكلتا الطريقتين لا تقتل الخلايا فحسب، بل تدمِّر البروتينات الحساسة بداخلها. وقد كانت هذه البروتينات — وعلى وجه التحديد الإنزيمات «داخل» الخلايا — هي المسئولة عن التخمُّر. ولأول مرة أثبت الأخوان بوخنر أن المواد الكيميائية المستخلَصة من الخلايا الحيوية تنفِّذ الأفعال نفسها، سواء داخل الخلايا أو خارجها. وباستخراج الزايميز (كما أسماه إدوارد بوخنر)، فقد أثبتا أن التخمُّر يمكن أن يحدُث من دون وجود الكائن الحي، ولكنه يحتاج إلى مادة مشتقة من الخلايا. في الواقع، هكذا يكونان قد توصَّلا إلى حلٍّ وسط بين تصوُّرَي ليبيج وباستور. إضافة إلى ذلك، فقد وسَّعا تعريفَ فيلهلم كون للإنزيمات بحيث يضم المادةَ الموجودة داخل البروتوبلازم. كان هذا الاكتشاف ثوريًّا بحقٍّ كما أنه كان مسمارًا في نعش المذهب الحيوي السائد حينها، الذي كان يرى بأن الكائنات الحية تختلف اختلافًا جوهريًّا (نتيجةً لعامل غير مادي) عن الجمادات.
البروتينات
بتحرير الكيمياء الحيوية (وهو مصطلح كان أوَّل مَن استخدمه بالمعنى المستخدَم اليوم هو فيليكس هوب سيلر عام ١٨٧٧) من قيود المذهب الحيوي، أوضح الأخوان بوخنر أنه يمكن دراسةُ ما يحدُث داخل الخلية باستخدام الأساليب نفسها المطبَّقة في باقي مجالات الكيمياء. وذلك مهَّد الطريق لظهور الكيمياء الحيوية الحديثة وفتح الطريق لفهمِ طبيعة الإنزيمات؛ إذ لم يكن واضحًا حينئذٍ أنها في الحقيقة بروتينات.
أحدثت النتائج التي توصَّل إليها مولدر ضجةً كبيرة في علم الكيمياء الحيوية الناشئ. ومن ثَم دخلت بعضُ الأسماء ذات الثِّقل إلى المجال، من أبرزها ليبيج الذي شرع في تأليف كتاب عن هذا الموضوع. في تلك الأثناء، حاول آخرون تَكرار تجارب مولدر. وسرعان ما تبيَّن أن تحليل مولدر للبروتينات الحديثة التسمية لم يكن صحيحًا تمامًا، وبما أنها كانت جزيئات كبيرة الحجم جدًّا بلا شك، فقد كان هناك تباينٌ في صيَغِها أكبر بكثير مما زعمه مولدر. بحلول ذلك الوقت، كان كتاب ليبيج الذي اعتمد على نتائج مولدر الأصلية قد نُشر، وقد غضب كثيرًا حينما علِم أن الفكرة المحورية — وهي أن البروتينات هي العامل الغذائي «الأولي» للحيوانات — التي دار حولها الكتاب تبيَّن أنها كانت خاطئة. وعلى الرغم من ذلك، فإن ما أسهم به ليبيج، وكذلك الخلاف مع مولدر الذي أعقب ذلك، قد أنعشا هذا المجال بأكمله وجذبا مجموعة جديدة بالكامل من العلماء الحريصين على معرفة ممَّ تتكوَّن جزيئات البروتين الضخمة المكتشفة حديثًا هذه.
وهكذا، بحلول القرن التاسع عشر، توصَّل علماء الكيمياء الحيوية (أو علماء الكيمياء الفسيولوجية كما كانوا معروفين حينها) إلى البروتينات والإنزيمات، ولكن لم يكن قد اتضح بعدُ هل الإنزيمات بروتيناتٌ أم لا. ظهر فريقان. قال الفريق الأول إن النشاط الإنزيمي يتزامن دومًا مع وجود البروتينات، ومن ثَم لا بد أن الإنزيمات بروتينات. وقال الفريق الآخر إن البروتينات ليست سوى ناقلات للإنزيمات، وأشار إلى حقيقةِ وجود مواد أخرى غير بروتينية يمكن أن تحفِّز التفاعلات مثل الإنزيمات تمامًا. يعود جوهر حجة «الناقل» إلى ملاحظةٍ بسيطة مُفادها أن النشاط الإنزيمي يمكن قياسه في الغياب الواضح للبروتين. لكن في الحقيقة، هذه الحجَّة يسهُل أن تفسِّرها حقيقة أن أساليب التحليل آنذاك لم تكن حسَّاسة بالقدْر الكافي لاكتشاف الكميات الصغيرة من البروتينات، ولكن نظرًا إلى كون الإنزيمات محفزات فعالة، فإنه يمكن اكتشافُ نشاطها حتى في حالة وجود كميات ضئيلة للغاية. لكن في النهاية، سُويت المسألة بما يرتقي إلى دحض حجَّة فريق «الناقل». ففي عشرينيات القرن العشرين، شرع جيمس سومنر في محاولة عزل إنزيم في شكله النقي. لم يكن قد قام أحدٌ حتى ذلك الوقت بهذا الإنجاز، وفي واقع الأمر قد اعتبر العديد من علماء الكيمياء الحيوية حينذاك أنها فكرة مضحكة. لكن ثابر سومنر ولم يتوانَ عن مهمة عزل وتنقية إنزيم اليورياز من فاصوليا جاك. وفي عام ١٩٢٦، آتت جهوده ثمارَها. فقد تمكَّن أخيرًا من التحايل على الإنزيم لاجتياز الاختبار الأخير لتنقية البروتين والتشكُّل في بلورة. أظهرت جهود سومنر بنحو قاطع أن المصدر الوحيد للنشاط الإنزيمي هو البروتين، ومن ثَم كان من المفترض أن تتوقَّف الجدالات بشأن طبيعة الإنزيمات. ولكن نادرًا ما يتخلى العلماء عن نظرياتهم بسهولة. فقد استغرق تسوية الجدال على نحوٍ نهائي إنزيمًا متبلورًا عالي النقاء آخر وهو الببسين الذي عزله جون نورثروب عام ١٩٢٩.
تركنا قصة التركيب الكيميائي للبروتينات عند حقيقة أنها جزيئات ضخمة تتألف بنحو كبير من الكربون والنيتروجين والهيدروجين والأكسجين بالإضافة إلى مقاديرَ قليلة من الكبريت والفوسفور. وبعد معارضة ليبيج ومولدر، حرص العلماء على استكشاف — بمزيد من التفاصيل — ممَّ تتركب جزيئات البروتينات الكبيرة المسماة حديثًا.
بعد جميع التحليلات، تبيَّن أن هناك ٢٠ حمضًا أمينيًّا بروتينيًّا شائعًا يوجد بصورة طبيعية (وفي الحقيقة يوجد ما يزيد على ٥٠٠ حمض أميني في الطبيعة، ولكن لم يشفَّر سوى عشرين منها في الشفرة الجينية وهي توجد في البروتينات بوجه عام)، ويعتمد الفرق بينها على شكل السلاسل الجانبية. تتفاوت هذه الأحماض في الحجم والشكل والشحنة، بدايةً من الجلايسين الذي يحتوي على ذرة هيدروجين واحدة للسلسلة الجانبية وحتى أكبر حمض أميني وهو التربتوفان الذي يحتوي على حلقة كربون مزدوجة. يحتوي بعضها على سلاسل جانبية حمضية (الأسبارتات والجلوتامات)، وبعضها قلوي (الأرجينين واللايسين)، والعديد منها زيتي وطارد للماء (مثل اللوسين والفالين). كذلك يوجد حمض شاذ وهو البرولين حيث تلتف سلسلته الجانبية إلى الخلف وتشكِّل حلقة مع السلسلة الأساسية الكربون ألفا. (على وجه الدقة، هذا يجعل البرولين يندرج ضمن الأحماض الأمينية، ولكن يتغاضى علماء الكيمياء الحيوية بوجه عام عن هذا التحذلق الكيميائي.) ومن العشرين حمضًا، لا يحتوي سوى حمضين على الكبريت (ومن هنا تأتي ندرة هذا العنصر في التحليل المبكِّر للبروتينات)، ولا يحتوي أي حمض منها على الفوسفور (وقد تبيَّن أن هذا العنصر يضاف غالبًا في مرحلة متقدمة من عملية تكون البروتين).
المشكلة التالية التي واجهت علماء الكيمياء الحيوية كانت تحديد طريقة ارتباط الأحماض الأمينية مع بعضها لتكوين البروتينات. حُل هذا اللغز بطريقتين مختلفتين تمامًا في وقت واحد على يد كلٍّ من إميل فيشر وفرانتس هوفميستر. وقد تصادف أن قدَّما نتائجهما في المؤتمر نفسه الذي انعقد في مدينة كارلسباد — التي تتبع جمهورية التشيك في الوقت الراهن — عام ١٩٠٢.
في تلك الأثناء، اتَّبع إميل فيشر نهجًا تجريبيًّا تصاعديًّا. بدأ بمجموعة متنوعة من الأحماض الأمينية، ثم حاول ربطها بعضها ببعض بطريقةٍ تفضي إلى شيء يسلك مسلك البروتين. ومن ثَم توصَّل إلى النتيجة التي توصَّل إليها هوفميستر بالضبط، ولكنه اتخذ مسارًا مختلفًا تمامًا. هذه النتيجة ألهبت طموح فيشر لدرجةِ أنه سُمع عام ١٩٠٥ وهو يقول: «تطلعي كلُّه موجَّه إلى أول إنزيم تخليقي». لقد كان هذا بمنزلة طموح عالٍ، لا سيما أن هذا الهدف لم يتحقق حتى تسعينيات القرن العشرين.
من تبعات اكتشاف هوفميستر وفيشر للرابطة الببتيدية إدراكُ أن البروتينات عبارة عن سلاسل (بوليمرات) خطية طويلة تتكوَّن من أحماض أمينية متراصة بعضها خلف بعض. وأصبح يُطلق على السلاسل القصيرة من الأحماض الأمينية المرتبطة بهذه الطريقة اسم الببتيدات، فيما كان يشار إلى السلاسل الأطول باسم عديدات الببتيد. وهنا، تجدُر الإشارة إلى وجودِ طريقة أخرى كثيرًا ما تتبعها الأحماض الأمينية في تكوين الروابط داخل البروتينات. فبإمكان الكبريت الموجود في نهاية السلاسل الجانبية للسيستين الارتباط بعضه مع بعض لتكوين روابطَ ثنائية الكبريت. يضيف هذا الارتباط المتقاطع بعضَ القوة إلى هياكل البروتين، ولذلك غالبًا ما يوجد في البروتينات الهيكلية مثل الكيراتين، الذي يشكل جزءًا كبيرًا من شَعرنا.
من المهم معرفةُ أن البروتينات تتكوَّن من عشرين حمضًا أمينيًّا مختلفًا يرتبط بعضها ببعض عبْر سلاسل، ولكن هذه المعلومة لا تكشف في واقع الأمر الكثيرَ عن ماهية البروتين نفسه. إنها تشبه معرفتنا أن الجُمل في العربية تتكوَّن كلماتها من ثمانية وعشرين حرفًا تبدو متراصة بعضها خلف بعض على السطور، ولكن هذا لا يفيد من دون معلومة أخرى بالغة الأهمية وهي ترتيب الحروف. هكذا كان هو الأمر مع البروتين. فقد كان التحدي الكبير التالي هو اكتشاف تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين. اضطُرت الإجابة عن هذا السؤال إلى الانتظار أربعين سنة حتى يظهر طالب الدكتوراه الشاب فريدريك سانجر.
في البداية، كان سانجر يحاول فقط إيجادَ طريقة لتحديد أول حمض أميني في البروتين. وتوصَّل إلى طريقة بسيطة تضمَّنت تفاعل مادة كيميائية تسمَّى ثنائي النتروفلوروبنزين مع نهاية جزيء البروتين. عندما ارتبطت مادة ثنائي النتروفلوروبنزين بالبروتين تحوَّل إلى اللون الأصفر، ثم وضع سانجر المركَّب في حمض، ما أدَّى إلى تكسير البروتين إلى أحماضه الأمينية. وعلى مدار هذه العملية، عادةً ما كانت تبقى مادة ثنائي النتروفلوروبنزين مرتبطةً بأول حمض أميني في السلسلة. بعد ذلك، فصل كل الأحماض الأمينية بعضها عن بعض باستخدام طريقة التفريق اللوني، ثم فصل ببساطة البقعةَ الصفراء من مخطَّط التفريق اللوني وحلَّل محتوياتها.
في بعض الأحيان، لم تكن المادة الناتجة عن تفاعل البروتين مع ثنائي النتروفلوروبنزين مستقرَّة على وجه الخصوص، ومن ثَم عندما كان يضع سانجر المزيجَ في الحمض، كانت تنفصل مادة ثنائي النتروفلوروبنزين. للتغلُّب على هذه المشكلة، جرَّب تحضين البروتين داخل الحمض لفترات أقصر. يبدو أن هذه المحاولة قد أدَّت المهمة؛ فقد بقيت مادة ثنائي النتروفلوروبنزين مرتبطةً بالبروتين. ولكن لم يستمر التفاعل مدةً كافية بحيث يتحلَّل البروتين بالكامل إلى الأحماض الأمينية التي يتكوَّن منها. وهنا، أدرك سانجر أنه محظوظ لأنه لاحظ حينها أنه توجد عدةُ بقع صفراء على ورقة التفريق اللوني. ومن ثَم سرعان ما استخلص أن البقع الصفراء الإضافية ناتجةٌ عن بقاء الروابط كما هي بين الحمض الأميني الأول والحمض الأميني الثاني، وهذا يعني أن الفرصة لم تسنح له لمعرفة الحمض الأميني الأول فحسب، بل لمعرفة الحمض الأميني الثاني أيضًا. وبتمديد الطريقة أكثر، أمكنه التوصُّل إلى تسلسل البروتين الكامل. لكن على الرغم من أنه قد توصَّل بالفعل إلى طريقةٍ لتحديد تسلسل البروتين، فإن العمل الفعلي كان لا يزال شاقًّا للغاية. فقد استغرق عشر سنوات أخرى لتحديد تسلسل الأحماض الأمينية في بروتين واحد وهو الإنسولين. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان لعمله تأثيرٌ كبير؛ إذ بيَّن أن الأحماض الأمينية لها ترتيب محدَّد جدًّا لكل نوع بروتين على حدة. وأصبح هذا الترتيب معروفًا باسم البنية الأولية للبروتينات.
البنيات العالية الدقة
تطلب تحديد بنية البروتينات ومن ثَم تأكيد تنبؤات بولينج وكوري، إدخالَ تطوير كبير في الطريقة نفسها (التصوير البلوري بالأشعة السينية) التي كان قد استخدمها كوري لتحديد بنيات الأحماض الأمينية. فالبروتينات أكبرُ من الأحماض الأمينية بكثير وأعقد منها؛ ولذا فهي كانت تفرض تحدياتٍ كبرى.
ظهر التصوير البلوري بالأشعة السينية للنور في أوائل القرن العشرين على يدِ فريق مكوَّن من أب وابنه. أعدَّ ويليام هنري براج وولده ويليام لورانس براج بلورةً نقية من ملح الطعام وسلَّطا عليها الأشعة السينية، ما نتج عنه نمطٌ هندسي من البقع التي ظهرت على جهاز الكشف. سبق أن نفَّذ آخرون تجاربَ مماثلة، ولكن آل براج أحدثا قفزةً حدسية بالغة الأهمية. فقد أدركا أن هناك معلومات عن البنية الجزيئية للملح مختفية في تنظيم البقع وكثافاتها. عندئذٍ، توصَّل لورانس براج إلى صيغةٍ رياضية تُعرف الآن باسم قانون براج، وهذه الصيغة يمكن استخدامها لاستخلاص هذه المعلومات، ما أتاح له التوصُّل إلى طريقة تنظيم ذرات الصوديوم والكلور في بلورة الملح.
بتنا نعرف اليوم أن البلورات تتكوَّن من جزيئات تتراص ذراتها بأنماط منتظمة. تضرب الأشعة السينية إلكترونات هذه الذرات المنتظمة وتتشتَّت وتذهب للتفاعل مع الأشعة السينية المشتَّتة الأخرى بحيث تكوِّن نمط انحراف، كالذي يحدُث حينما تواجه أيُّ أشكال موجية عوائقَ. إن نمط الانحراف هذا هو الذي التقطه آل براج على اللوح الفوتوغرافي.
قد تبدو هذه القفزة من حرف الإكس المتقطع إلى اللولب مبالغة، ولكن في الحقيقة لا صعوبة البتة في إثباتها. كلُّ ما تحتاج إليه هو مؤشِّر ليزر وزنبرك من قلم حبر جاف قابل للسَّحب. ما عليك سوى تسليط ضوء الليزر من خلال الزنبرك على حائط على بُعد ثلاثة أمتار تقريبًا. من المفترض أن ترى شكل حرف إكس يشبه الشكل في الصورة ٥١ تشابهًا لافتًا للنظر. شكل حرف الإكس ناتج عن انحراف ضوء الليزر بسبب الزنبرك، وببضع معادلات بسيطة يمكنك التوصُّل إلى شكل الزنبرك من سِمات شكل حرف الإكس على الحائط. وبطريقةٍ مماثلة، تتضمَّن «الصورة ٥١» معلوماتٍ وجَّهت بناء نموذج اللولب المزدوج للدي إن إيه.
لا شك أن «الصورة ٥١» كانت بمثابة لحظة فارقة في علم الأحياء البنيوي، ولكنها لم تقدِّم الكثير من المعلومات. صحيح أنها كشفت عن البنية اللولبية الكلية للدي إن إيه، لكنها لم تكشف عن تنظيم الذرات داخل الجزيء. وفي حالة الدي إن إيه، كان بإمكانِ كلٍّ من جيمس واتسون وفرانسيس كريك وموريس ويلكنز طرْح تخمين جيد مبنيٍّ على علم بشأن تنظيم الذرات بترتيب نماذج لمكوِّنات الدي إن إيه الكيميائية باستخدام الورق المقوى حتى وفقوها مع البنية الكلية التي تنبَّأت بها بيانات فرانكلين وجوزلينج. لكن البروتينات كيانات أعقدُ بكثير، وقد تطلَّب بناء بنياتها التفصيلية دقةً على المستوى الذري لأنماط الانحراف.
كما رأينا للتو، بإمكان البروتينات تكوين بلورات؛ وفي عشرينيات القرن العشرين أنتج سومنر ونورثروب بلورات من إنزيم اليورياز وإنزيم الببسين لإثبات أن الإنزيمات بروتينات. لكن في عام ١٨٣٩ من قبلهما، اكتُشفت أول بلورات بروتينية من الهيموجلوبين. ومن ثَم لم تكن قفزة بديهية كثيرًا أن تُعرض بلورات البروتينات للأشعة السينية في محاولةٍ لتحديد بنياتها. وأول محاولة جادة في هذا الصدد نفَّذتها دوروثي كروفوت هودجكن وجون برنال (وهو أحد طلاب ويليام براج) عام ١٩٣٤. فقد كرَّرا بلورات الببسين التي توصَّل إليها نورثروب، ثم وجَّها الأشعة السينية عبْرها. وكانت النتيجةُ أولَ نمط انحراف ذي دقة رائعة لأحد أنواع البروتين.
أحدثَ وضوحُ صورة الببسين — وكذلك صور البروتينات الأخرى التي تلتها — قدرًا كبيرًا من البهجة؛ حيث إنه أصبح ممكنًا تحديد المسافات التي توجد بين الذرات داخل البروتين. وعلى الرغم من ذلك، لا بد أنه كان أمرًا محبطًا للغاية رؤية البقع وكثافاتها مع العلم أنها تشفِّر مواقعَ الذرات داخل البروتين، ولكن مع الافتقار إلى الأدوات اللازمة لفك رموز الأنماط بالكامل. كان يكمُن لبُّ المشكلة في عدم توافر طريقة — آنذاك — لاستخدام تلك المعلومات من أجل تحديد مواقع الذرات بعضها بالنسبة إلى البعض.
جرى تخطِّي المشكلة أخيرًا عندما أحللنا معادنَ ثقيلة محلَّ بعض الذرات في البروتين. فالذرات الأثقل شتَّتت الأشعة السينية بقوة أكبرَ بكثير من ذرات البروتين الأصلية ذات الوزن الأخف، ما أتاح تمييزها بعضها من بعض. ومن الناحية العملية، فهذا النهج كان بالغ الصعوبة نظرًا إلى وجود احتمال كبير لأن يربِك استبدال المعادن بنيةَ البروتين. لذا، تطلَّب هذا الأسلوب تنفيذَ عدة عمليات استبدال ومقارنات مع أنماط انحراف البروتينات الأصلية بهدف الوصول إلى المواضع التي يمكن أن تتحمَّل فرضَ ذرات ثقيلة في البروتينات.
لا يمكن الاستهانةُ بالمساهمة التي قدَّمها التصوير البلوري بالأشعة السينية لعلم الأحياء البنيوي. فمنذ زمنِ آلِ براج، مُنحت جائزة نوبل حوالي ثلاثين مرة (إلى علماء العلوم الحيوية، ومنهم بيروتس وكندرو وهودجكن) نظيرَ الاكتشافات التي أسفر عنها الاستخدامُ المباشِر لطرقِ التصوير البلوري وأساليبه، ومنها تحديدُ بنيات العديد من الجزيئات الحيوية مثل الفيتامينات والمضادات الحيوية والبروتينات وبالطبع الدي إن إيه.
كشفت البنياتُ العالية الدقة الأولى هذه لبروتينات الميوجلوبين والهيموجلوبين واللايسوزايم عن الالتفافات والانحناءات في سلسلة عديد الببتيد، وأكَّدت البنية الثانوية التي تنبَّأ بها بولينج وكوري. كذلك كشفت عن المستوى التالي من تعقيد البروتين، وهو البنية الثلاثية، الثلاثية الأبعاد. بالتوصُّل إلى هذه البنيات، أصبح أخيرًا بإمكان علماء الكيمياء الحيوية دراسةُ البروتينات بصورتها الكاملة. ومكَّنهم هذا من فهْم الآلية الجزيئية التي تقوم عليها أعمالها وكيمياء الحياة التي تتحكَّم بها. أما قبل ذلك، فكانت محاولة فهْم البروتينات تشبه التكهُّن بأعمال محرِّك احتراق عن طريق فحص كل جزء على حدة، ولكن الآن أمكن فحصُ الآلة وهي مجمَّعة بالكامل. وهذا ما سنفعله على وجه التحديد في الفصل الثالث.
الدي إن إيه
قصة الدي إن إيه أبسطُ من قصة البروتينات نوعًا ما، وغالبًا ما كان يعود السببُ إلى عدمِ فهْم أهميته لفترة طويلة، ولأنه جزيء أقلُّ تعقيدًا.
أجرى «أبو علم الوراثة» جريجور مندل تجاربَه الشهيرة على الوراثة باستخدام البازلاء عام ١٨٤٣. حينذاك، بالطبع لم تكن الجزيئات وآليات الوراثة معروفة، ومن ثَم لم يكن ليتم الربط على نحوٍ واضح بين الوراثة والدي إن إيه لما يزيد على مائة عام أخرى. اتخذ يوهان فريدريش ميشر — الطالب بجامعة توبينغن بألمانيا — الخطوات الأولى في هذا المسار بعد عملِ مندل بفترة قصيرة في عام ١٨٦٩. حينها كان قد تولَّى مهمةَ دراسة التركيب الكيميائي لخلايا الدم البيضاء. لكن لسوء حظه، كانت أفضل مصادر الحصول على هذه الخلايا هي الضمادات المشبَّعة بالقيح من مرضى العمليات الجراحية المتعافين (لكنه وجَّه انتباهه إلى مصدرٍ ألطفَ بكثير لتلك الخلايا وهو بطارخ سمك السلمون). بعد إزالة البروتينات والليبيدات، توصَّل إلى مادة أخرى تتصرَّف بطريقة مختلفة ولها تركيبة كيميائية مميزة. وعلى خلاف البروتينات، فقد كانت هذه المادة على وجه الخصوص غنيةً بالفوسفات. ولمَّا كانت هذه المادة الجديدة يبدو أنها تستقر في أنوية الخلايا، أسماها النيوكلين. وبعد مرور ما يقرُب من عشرين عامًا، أوضح ريتشارد ألتمان — طالب ميشر — أن مادة النيوكلين كانت حمضية وأعاد تسميتها بالحمض النووي.
في أوائل القرن العشرين، كان علماء الكيمياء الحيوية يتقدَّمون ببطء تجاه معرفة الصلة بين الدي إن إيه والوراثة. فقد توصَّل والتر ساتون وثيودور بوفري، كلٌّ بمفرده، إلى أن الكروموسومات هي حاملات المادة الوراثية. وبطريقة غريبة كاد عالِم الأحياء الروسي العظيم نيكولاى كولتسوف (عام ١٩٢٧) أن يصف الآلية التي يستخدمها الدي إن إيه في التضاعف وتخزين المعلومات. فقد تنبأ بأن الوراثة تحدُث عبْر «جزيء وراثة ضخم» يتكوَّن من «شريطين متطابقين يتضاعفان بطريقةٍ شبه محافظة مع استخدام كل شريط كقالب». ورغم تبصُّره بشأن آليات الوراثة، فلم يتمكَّن من السباحة ضد تيار التفكير العلمي السائد حينذاك، ومن ثَم ظل يفترض أن البروتينات هي الكيانات التي تخزِّن المعلومات الوراثية.
وعلى الرغم من تجارب تشيس وهيرشي، فإنه كان لا يزال خفيًّا كيف يحمل الدي إن إيه المعلومات الوراثية. برز مؤشر مهم من عمل إرفين شارجاف عام ١٩٥٠. فقد اكتشف أنه بغض النظر عن الكائن الحي مصدر الدي إن إيه، فإن الأدينين تتساوى كميته مع كمية الثايمين، وكذلك تتساوى كميتا السايتوسين والجوانين. وكان هذا الاكتشاف مهمًّا جدًّا لجيمس واتسون وفرانسيس كريك عندما شرعا بعد عام في التعرُّف على بنية الدي إن إيه. قيدت قاعدة شارجاف كيف يمكن أن يبني العالِمان الشهيران نماذجهما (التي استخدما لها قصاصات بسيطة من الورق المقوى لتمثيل القواعد ثم علَّقاها في دعامات فوسفاتية لها إطار سلكي)؛ إذ كانت تعني ضرورة أن تقترن قواعدُ الأدينين مع قواعد الثايمين، وكذلك الحال مع قواعد السايتوسين وقواعد الجوانين. اقترح هذا من فوره وجودَ شريطين متصلين من الدي إن إيه قواعدهما مواجهة بعضها لبعض، والشريطان يرتبطان أحدهما بالآخر عن طريق روابط الهيدروجين. وبالجمع بين هذه التجربة وبيانات التصوير البلوري بالأشعة السينية التي توصَّل إليها فرانكلين وجوزلينج، اقتُرح أن الدي إن إيه يتكوَّن من شريطين يلتفَّان أحدهما حول الآخر ليشكِّلا لولبًا مزدوجًا.
تجدُر الإشارة إلى وجود اهتمام كبير في ذلك الوقت ببنية الدي إن إيه، وكانت تتبارى العديد من المجموعات الأخرى مع فريق المملكة المتحدة للوصول إلى الحل، لا سيما العالمان العظيمان لينوس بولينج وروبرت كوري. في الحقيقة، ظنَّا أنهما قد وصلا إلى البنية وهُرعا إلى نشرها في ورقة بحثية في فبراير عام ١٩٥٣ والتي كانت تصف دي إن إيه لولبيًّا ثلاثيَّ الأشرطة، حيث يتوسط شريط الفوسفات شريطَي القواعد التي تشير إلى الخارج. كانت هذه البنية الغريبة حتى أكثر غرابة؛ حيث إن بولينج في تعجُّله تجاهلَ بطريقةٍ ما روابطَ الهيدروجين التي كان هو أول مَن وصفها.
وبعد بضعة أيام فقط من ظهور نتائج بحْث بولينج المتعجِّل وغير المدروس على نحوٍ جيد في الصحف، تحلَّى واتسون وكريك بالثقة الكافية للإعلان عن بِنية الدي إن إيه التي توصَّلا إليها، والتي أصبحت بنيةً أيقونية الآن. معروف أن إعلانهما لم يكن في دائرة الضوء ضمن مؤتمر علمي أو على صفحات مجلة علمية معروفة، بل كان وسط جمعٍ يتناول الغداء في حانة إيجل بكامبريدج. لم يمرَّ وقتٌ طويل حتى اتَّبعا طرقًا أنسبَ بالفعل للإعلان عن عملهما. ففي أبريل ١٩٥٣، نشرا — ومعهما ويلكنز وجوزلينج وفرانكلين — سلسلةً من الأوراق البحثية المتتالية بلغ عددُها ثلاثًا في مجلة «نيتشر» التي وصفت بنيةَ الدي إن إيه وكيف جرى التوصُّل إليها. ومن بنيةِ اللولب المزدوج هذه، اتضح على الفور كيف يخزِّن الدي إن إيه المادةَ الوراثية. وبالفعل، فقد ثبتَت صحةُ وصف كولستوف بأن الدي إن إيه جزيء عملاق ذو شريطين متطابقين، أحدهما قالبٌ للآخر (حتى لو كان كولستوف قد أخطأ في فهْم الجزيئات الضخمة).
ومن ثَم، وبحلول منتصف القرن العشرين، اتضحت بنيتا اللاعبين الجزيئيين الكبيرين، البروتين والدي إن إيه — وكذلك قريبه الآر إن إيه (الحمض النووي الريبوزي) — وأدوارها التي لا تُحصى (والتي سنتناولها لاحقًا). وقد أصبح من الواضح أنها الآلات الجزيئية الأساسية التي تنظِّم الكيمياء داخل الخلايا.