قبل أن نغوصَ أكثرَ في عالَم البروتينات والحمض النووي وننجرفَ إلى تعقيدهما الرائع،
حري
بنا أن نلقي نظرةً على جزيئاتٍ أبسط ولكنها لا تقل أهمية؛ إنها الجزيئات التي تكوِّن
البنيات المادية التي تربط الخلايا وتوفِّر الوسط الذي تحدُث فيه كيمياء الحياة.
الماء
بينما نتنقل بين أغصان شجرة الحياة، نرى الكثير من التباينات، لكن يبقى جزيء واحد
ثابت على الدوام. فأينما وُجد الماء، على كوكب الأرض على الأقل، وُجدت الحياة؛ ولا
تزدهر الحياة من دون الماء. لذا، حُق أن يُدرس دَور الماء في الكيمياء الحيوية وما الذي
يجعله يتفرَّد في دعم الحياة (كما نعلمها).
لأن الماء غزير بطبيعته، من السهل تجاهلُ خصائصه المميزة والغريبة بنحو واضح، والتي
من دونها لن توجد الحياة. عندما تحتسي مشروبًا به قِطع ثلج في عصر يوم صيفي، تتجلَّى
بوضوح خاصيةٌ من خصائص الماء وهي طفو الثلج على السطح. ولأن أعيننا ألِفت أن ترى خاصية
طفو الثلج، فقد لا ترصد أيَّ قدْر من الغرابة فيها. لكنَّ رؤيةَ شكل صلب من مادةٍ يطفو
على سطح حالتها السائلة خاصيةٌ غير عادية بالفعل إلى حد بعيد. وتوضيحًا لمدى أهمية هذه
الخاصية، لِنجرِ تجربة فكرية سريعة. تخيَّل لو أن كثافة الثلج أكبرُ من الماء، وغاص
الثلج في أعماق إحدى البحيرات أو البحار بعد تكوُّنه. حينها لن يطول الوقت قبل أن
يتجمَّد المسطح المائي بالأعلى ويحبس أيَّ كائنات حية داخله. لكن لحسن الحظ وبفضل
السلوك الغريب للماء، فإن الثلج الطافي يكوِّن طبقةً عازلة على سطح الماء ما يعين على
استمرار الحياة بالأسفل.
بالنسبة إلى جزيء بمثل حجمه، يتحوَّل الماء إلى الحالة السائلة حينما يكون في درجات
حرارة عالية وعبْر نطاق كبير للغاية (١٠٠ درجة مئوية)، وهو ما يتطابق على نحوٍ ملائم
مع
البيئة المحيطة على معظم أجزاء كوكب الأرض. وبالمقارنة، فإن الجزيئات المماثلة مثل
كبريتيد الهيدروجين () (الذي نقطة انصهاره ٤٨ درجة مئوية تحت الصفر ونقطة غليانه ٦٢ درجة
مئوية تحت الصفر) وسيلينيد الهيدروجين () (الذي يكون سائلًا فيما بين ٤٢ و٦٤ درجة مئوية تحت الصفر) تكون في
الحالة السائلة عبْر نطاق يبلغ ٢٠ درجة مئوية فقط وفي درجات الحرارة التي تقل عن
الصفر.
من الواضح أن هاتين الخاصيتين الفيزيائيتين أساسيتان لبقاء الحياة، ولكن توجد خاصية
كيميائية ثالثة لا تقل أهمية كما أنها جوهرية في الكيمياء الحيوية؛ فبنية الماء
وتركيبته تجعلانه مذيبًا جيدًا إلى أبعد الحدود. إن الماء يتكوَّن من ذرَّتي هيدروجين
تتوسطهما ذرة أكسجين وتتشارك كلٌّ من ذرتَي الهيدروجين مع ذرة الأكسجين زوجًا من
الإلكترونات. إن الأكسجين كهربائي سالب، ومن ثَم يسحب قدْرًا من الشحنة السالبة
للإلكترونات تجاه مركز الجزيء، ما يترك ذرتَي الهيدروجين بشحنة موجبة قليلة. ويصف علماء
الكيمياء الجزيئات التي لها هذا النوع من توزيع الشحنات بأنها جزيئات قطبية. والنتيجة
أن هذه المركَّبات القطبية تتساوى براعتها في التفاعل مع كلٍّ من الجزيئات السالبة
والموجبة الشحنة على السواء. لنضرب المثَل بملح الطعام العادي؛ أي، كلوريد الصوديوم
(NaCl). فعند إضافة ملح الطعام إلى الماء، فإنه
يتأيَّن إلى Na+
وCl −. يكوِّن
الماء ما يُعرف بقشرة التذاوب حول أيون الصوديوم الموجب عن طريق توجيه الأكسجين ذي
الشحنة الموجبة الخاص به تجاهه، وفي الوقت نفسه يتكيَّف الماء مع الكلوريد السالب عن
طريق إحاطته بذرتَي الهيدروجين الموجبتين. وبالمثل، عندما يحتوي جزيء على مزيج من
الشحنات الموجبة والسالبة على سطحه، فإن جزيئات الماء تكيِّف اتجاهها بحيث تغلف الجزيء
بالكامل. لقد اعتدنا رؤيةَ الملح والسكَّر وهما مختفيان تقريبًا في الماء لدرجةِ أن
الأمر لا يبدو مهمًّا. لكن لا يوجد شيء آخر يذيب الجزيئات بهذا الشكل بحيث يسهُل
توافرها للكيمياء الحيوية للخلايا.
هناك نتيجة أخرى لهذه القطبية، وهي أن الماء يمكن أن يشارك في روابط الهيدروجين
الضعيفة والبالغة الأهمية في الوقت نفسه. وهنا، يجري «منح» ذرات الهيدروجين ذات الشحنة
الموجبة جزئيًّا إلى «المستقبِل» ذي الشحنة السالبة جزئيًّا مثل ذرات الأكسجين في
الماء. بإمكان كل جزيء ماء أن يمنح ويستقبل ذرتَي هيدروجين، ما يكوِّن أربع روابط
هيدروجين. وهذا ينشئ شبكةً من التفاعلات تؤدي إلى نقطتَي انصهار وغليان عاليتين للماء،
مقارنةً بالجزيئات المماثلة. كذلك هذا يتيح للبروتونات أن تتنقَّل بين الماء والجزيئات
الأخرى، وهذه الظاهرة يتكرَّر حدوثُها على نحوٍ غير متوقَّع في أثناء التفاعلات
الكيميائية الحيوية.
تفضي شبكة روابط الهيدروجين أيضًا إلى تأثير طارد للماء، وهذا التأثير جوهري في طريقة
تكوين البنيات الحيوية. سترى هذا التأثير عمليًّا عند تحضير تتبيلة السَّلطة. افتقار
الماء إلى خاصية الذوبان يعني أن الماء لا يستطيع أن يمتزجَ بالمواد الدهنية غير
القطبية. فالزيوت والدهون والشموع لا تحتوي على العديد (أو أحيانًا على أيٍّ) من
المجموعات المشحونة التي يمكن أن ترتبط بها الأجزاء القطبية من الماء. ووجودها في الماء
السائب يربك شبكةَ روابط الهيدروجين، ما يؤدي إلى تجمُّع المادة الطاردة للماء بعضها
مع
بعض، ومن ثَم تقل المساحة المتصلة بالماء. هذا التأثير الطارد للماء لا يؤدي إلى عزل
الزيت عن الماء في التتبيلة الفرنسية التي تُحضرها فحسب، بل أيضًا إلى التجميع الذاتي
للبروتينات والأغشية الحيوية، وهو أمرٌ سنتناوله بمزيد من التفصيل قريبًا.
الليبيدات
الليبيدات فئةٌ ذات تنوُّع واسع من الجزيئات، ولكن تحتوي جميعها بوجه عام على مكوِّن
مهم غير محب للماء، قد يتخذ شكل سلاسل أو حلقات هيدروكربونية، كما تحتوي على مجموعة
محبة للماء (قطبية) أصغر. لليبيدات ثلاثة أدوار أساسية في الكيمياء الحيوية، وهي تخزين
الطاقة، وإرسال الإشارات، وتكوين البنيات.
معظمُ الليبيدات أحماضٌ دهنية تتكوَّن من ذيل كربوني غير محب للماء مكوَّن من ١٢
إلى
٢٠ ذرة، بالإضافة إلى مجموعة رأس من حمض الكربوكسيل
(-COOH). وحينما نأتي على ذكر مصطلحات مثل الزيوت
أو الدهون المشبعة وغير المشبعة وأوميجا-٣ في خطط الأنظمة الغذائية، فإننا نتحدَّث عن
بنية ذيول هذه الأحماض الدهنية. تحتوي الدهون المشبعة على ذيل هيدروكربوني ترتبط فيه
ذراتُ الكربون بعضها ببعض في سلسلةٍ خطية وبروابط أحادية. وكل ذرة كربون في وسط السلسلة
ترتبط أيضًا بطريقة تساهمية بذرتَي هيدروجين. أما في حالة الدهون غير المشبعة، فترتبط
ذرتان أو أكثر من الكربون في السلسلة معًا بروابطَ مزدوجةٍ، ما يسبِّب إحداثَ ثنية في
السلسلة. وعندئذٍ يمكن أن ترتبط كل ذرة كربون في الرابطة المزدوجة بذرة هيدروجين واحدة
فقط. ومن ثَم لا تتشبَّع هذه السلاسل بذرات الهيدروجين، ما يفضي إلى مصطلح الدهون غير
المشبعة. وتشير مصطلحات مثل أوميجا-٣ إلى موضع ظهور الرابطة المزدوجة في السلسلة. وفي
هذه الحالة، توجد الرابطة المزدوجة قبل نهاية السلسلة بثلاثة جزيئات كربون.
الجليسرول الثلاثي هو ليبيد مكوَّن من ثلاث سلاسل أحماض دهنية مرتبطة بجزيء جليسرول.
والدور الأساسي لهذا الليبيد هو تخزينُ الطاقة. فبمجرد أن يتكوَّن، فإنه يُخزِّن في
خلايا دهنية متخصصة تُعرف باسم الخلايا الشحمية. وهناك نوعٌ شائع آخر من الليبيدات وهو
الجليسيروفوسفوليبيد. يتكوَّن هذا النوع من اثنين من الأحماض الدهنية المرتبطين أيضًا
بجزيء جليسرول، ولكن — بدلًا من السلسلة الثالثة — ترتبط أيضًا مجموعةُ رأس كبيرة من
الفوسفات () بجزيء الجليسرول. وهذا يكوِّن جزيئًا ذا درجة عالية من «الألفة
المزدوجة» — وهذا يعني أن أحد طرفيه غير محبٍّ للماء والطرَف الآخر محب للماء — وتفضي
هذه الطبيعة المزدوجة لليبيد إلى شيء مثير للاهتمام. فعندما توضع هذه الليبيدات في بيئة
مائية، فإن التأثير غيرَ المحب للماء يدفع الذيول إلى التجمع معًا تاركًا مجموعات الرأس
المحبة للماء كي تتفاعل مع الماء. وينتج عن ذلك تكوُّن بنيات تشبه اللوحة تسمى الطبقات
الثنائية (انظر الشكل ٢-١). لكن النواة غير المحبة للماء للطبقات
الثنائية هذه تجعل البنية بأكملها غيرَ منفِّذة للماء. ويمكن أن تلتف الطبقة الثنائية
بحيث تأخذ شكل حقيبة، ومن ثَم تكوِّن مثل هذه الطبقة الثنائية حاجزًا فعالًا حول الخلية
بحيث تعزل الكيمياء المعقَّدة بالداخل عن البيئة الفوضوية بالخارج. بالطبع، من المفترض
أن تتفاعل الخليةُ مع البيئة المحيطة بها؛ فهي بحاجةٍ إلى استشعارِ ما يجري من حولها
واستخلاص العناصر الغذائية من البيئة والتفاعل مع الخلايا الأخرى. وتجري هذه التفاعلات
من خلال البروتينات المدمجة داخل الطبقة الثنائية لليبيد، حيث إنها تكون بمنزلة مسامَّ
وبواباتٍ ومستقبِلات توجِّه تدفُّق المواد والمعلومات عبْر غشاء الخلية. وتتعاون
الليبيدات والبروتينات الغشائية هذه لتكوين سائل ثنائي الأبعاد تتحرك فيه المكوِّنات
بحرية إلى حد كبير داخل مستوى الغشاء.
شكل ٢-١: تمثيل كرتوني لطبقة ليبيد ثنائية.
الكائنات بدائيات النوى ذات الخلايا البسيطة مثل البكتيريا تستخدم الأغشية الليبيدية
(بالإضافة إلى جدران الخلايا المعقَّدة المحتوية على الببتيدوجليكان) باعتبارها جزءًا
من حدود الخلية. أما الكائنات الحقيقيات النوى ذات الخلايا الأكثر تعقيدًا مثل النباتات
والفطريات والحيوانات، فتقسم خلاياها بالأغشية الليبيدية بحيث تشكِّل العضيات. وكل عضية
لها دورٌ وكيمياء حيوية مميزان، مثل نواة الخلية حيث يوجد ويتضاعف الدي إن إيه؛
والميتوكوندريا وهي محطات الطاقة للخلايا؛ وفي حالة النباتات، البلاستيدات الخضراء حيث
تحدُث عملية البناء الضوئي.
يبدو كلُّ هذا بسيطًا للغاية، ولكن في الواقع تتكوَّن أغشية الخلايا من مجموعة كبيرة
ومتنوِّعة من الليبيدات المختلفة التي تنقل سِمات كيميائية وفيزيائية إلى الأغشية. على
سبيل المثال، تؤثِّر الثنيات الناتجة عن السلاسل غير المشبعة في سيولة الغشاء الليبيدي.
وفي نفس الوقت، يمكن أيضًا أن تتفاوت مجموعاتُ الرأس في الحجم والشحنة والبنية، والتي
يمكنها جميعًا تغييرُ وظيفة البروتينات داخل الغشاء أو تكوين تجمُّعات مميزة من الأغشية
لها خصائصها الخاصة بها.
المكوِّن الليبيدي الأساسي الآخر في أغشية خلايا حقيقيات النوى هو الستيرولات، والذي
أشهر أنواعه هو الكوليسترول. تتكوَّن الستيرولات من جزيئات رباعية الحلقات ذات سلسلة
قصيرة في أحد الطرفين ومجموعة رأس قطبية بالغة الصغر (عادة ما تكون
−OH) في الطرف الآخر. ونتيجة لذلك، فإن الستيرولات
غير محبة للماء للغاية، ومن ثَم تنقسم في منطقة السلسلة في الغشاء. إن وجودها يقوي
الغشاء. وقد تكون مفيدةً أيضًا في تكوين تجمُّعات بحجم نانومتري — تُعرف باسم الطوافات
الليبيدية — والتي تتجمَّع فيها بروتينات معينة بحيث تكوِّن مناطقَ وظيفيةً مميزة على
سطح الخلايا. وكانت طبيعة هذه الطوافات محلَّ جدال كبير. إذ يشكك البعض في وجودها من
الأساس، ومعهم حججٌ معقولة في ذلك. لكن إذا كانت الطوافات موجودة، فربما تكون وظيفتها
توظيفَ وتركيز البروتينات المتضمنة في تمرير الإشارات الكيميائية عبْر الخلية، وتُعرف
هذه العملية باسم نقل الإشارات. حري بنا أيضًا التنويهُ بأن الطوافات قد تكون نقاطَ غزو
تستغلها الفيروسات. على سبيل المثال، لاحظ علماء الفيروسات أن إزالةَ الكوليسترول من
الغشاء في بعض الحالات (ومن ثَم إزالة الطوافات) تُعجز فيروس نقص المناعة البشري عن
إصابة الخلية. وعلى الرغم من سمعة الكوليسترول السيئة في وسائل الإعلام، فإنه مكوِّن
حيوي لأغشية الخلايا، كما أنه سلف للعديد من جزيئات الإشارات مثل فيتامين
D وهرمونَي التستوستيرون والإستراديول. ومن ثَم
إزالته لن تكون طريقةً مجدية في الحماية من أنواع العدوى الفيروسية.
الكربوهيدرات
الكربوهيدرات جزيئاتٌ حيوية مألوفة، ولكنها لا تزال بحاجة إلى بعض التعريف. وعلى
الرغم من التجاهل المتكرِّر لها مقارنةً بالبروتينات والأحماض النووية المثيرة للاهتمام
أكثر فيما يبدو، فإنها أساسيةٌ في الكيمياء الحيوية. إنها توفِّر الوقود الذي يمد
الخلايا بالطاقة، وتشكِّل السقالة التي تُبنى حولها العديد من البنيات، وكثيرًا ما تزين
البروتينات بحيث تعدِّل سلوكها أو تضيف وظائفَ إليها.
يمكن تقسيم الكربوهيدرات الحيوية إلى ثلاث فئات أساسية. الفئة الأولى هي السكريات
البسيطة المتضمَّنة في عملية تحويل الطاقة ويندرج ضمنها السكريات الأحادية — التي يُطلق
عليها السكاريد الأحادية — مثل الجلوكوز والفركتوز والجلاكتوز. عندما يرتبط نوعان من
هذه السكريات أحدهما بالآخر، فإنهما يكوِّنان الفئةَ الثانية من الكربوهيدرات التي
تسمَّى السكاريد الثنائية، مثل السكروز (الذي يتكوَّن بالربط بين الجلوكوز والفركتوز)
أو اللاكتوز (الذي يتكوَّن بربط الجلوكوز بالجلاكتوز). السكريات البسيطة سريعةٌ وسهلة
الأيض على الخلايا؛ حيث إنها تطلق الطاقة الكيميائية المحتجَزة بداخلها. لكن هذه
السكريات يصعُب تخزينها، ومن ثَم تربط أجسامنا السكريات بعضها مع بعض لتشكِّل عديدات
سكاريد أكبر (وهي الفئة الثالثة من الكربوهيدرات)، والتي تسمَّى الجلايكوجين، أما النشا
فيؤدي في النباتات دورًا مماثلًا. تتضمَّن أنواع الكربوهيدرات الأخرى الكايتين الذي
يتكوَّن من أسيتيل الجلوكوزامين الذي تتكوَّن منه جدران الخلايا في الفطريات والهياكل
الخارجية للحشرات. كذلك تظهر كبريتات الكيراتان في القرنيات والغضاريف والعظام.
يوجد نوع من عديد السكاريد يستحق الذكر على وجه الخصوص، حيث إنه أوفر بوليمر على
الكوكب ومسئول عن أكبر البنيات الحيوية في العالم. يتكوَّن السيليولوز من سلاسلَ طويلة
خطية من الوحدات الفرعية للجلوكوز، والتي يرتبط كلٌّ منها بالسلاسل المجاورة لها
ارتباطًا متقاطعًا عبْر روابط هيدروجين. إن السيليولوز هو الذي تتكوَّن منه الجدران
التي تحيط بالخلايا النباتية ما يعطيها خاصية الصلابة. وهذا ما يجعل النباتات موادَّ
مفيدة يمكن استخدامها في إنشاء كل شيء بدايةً من الأثاث وحتى الملابس. إن الخشب
(بالإضافة إلى نوعٍ آخر من الكربوهيدرات المعقَّدة يسمَّى اللجنين) والقنَّب والقطن
بوجه أساسي عبارة عن سيليولوز. وفي الحقيقة، تحدُث إحدى عمليات الكيمياء الحيوية
الصغيرة في كل مرة تكوي فيها قميصًا من القطن. فاجتماع الحرارة مع الرطوبة يفكِّك روابط
الهيدروجين بسرعة. وعندما تُدخل هذان الأمران بقليل من الضغط، تُجبِر كل جزيئات
السيليولوز على أن تتراصَّ موازية بعضها بعضًا، ما يؤدي إلى فردِ الملابس. وبعدما يبرد
القميص، تتصلح روابط الهيدروجين وتثبت على الحالة
المضغوطة الجديدة.
لا يهتم علم الأحياء كثيرًا بإبقاء هذه الفئات المتنوعة من الجزيئات الحيوية منفصلة
بعضها عن بعض. بل كثيرًا ما يربطها معًا لتكوين مركَّبات مقترنة معقَّدة عن طريق مزج
المجموعات الكيميائية. رأينا بالفعل إلى أي مدًى سكريات الريبوز جزء أصيل في بنية الدي
إن إيه. وتضاف الكربوهيدرات أيضًا إلى البروتينات والليبيدات مما يؤدي إلى تكوين
البروتينات السكرية والليبيدات السكرية. ومن الأمثلة الرئيسية على ذلك نظام فصائل الدم
ABO. فخلايا الدم الحمراء تغطيها مجموعة متنوعة من
الليبيدات السكرية والبروتينات السكرية. إن أصحاب فصيلة الدم
O لديهم بروتينات سكرية مشتملة على جزيئين من
الجلاكتوز وواحد من الفيوكوز وواحد من إن-أسيتيل الجلوكوزامين؛ وأصحاب فصيلة الدم
B لديهم جزيء جلاكتوز إضافي، وأصحاب فصيلة الدم
A لديهم جزيء إن-أسيتيل جلوكوزامين إضافي. وفي
الوقت نفسه، تُنتِج أخلاطًا أخرى من الكربوهيدرات والأحماض الأمينية جدران خلايا
بكتيرية؛ فالببتيدوجليكانات عبارة عن عديدات سكاريد مرتبطة بامتدادات قصيرة من الأحماض
الأمينية. ومن المثير للاهتمام أن البروتين البكتيري الذي يخلُق هذا الارتباط المتقاطع
يُعَد هدفًا للمضاد الحيوي البنسيلين؛ حيث إنه يمنع تكوُّن جدران الخلايا
البكتيرية.
عملة الطاقة ومكوكات الإلكترونات
العديد من العمليات الكيميائية الحيوية غيرُ مواتية من حيث الطاقة؛ بمعنى أنها
المكافئ الأيضي لدفع حجرٍ إلى أعلى تل، ومن ثَم فهي تتطلَّب دفعات قوية وسريعة من أجل
تحريكها. وقدْر كبير من الطاقة اللازمة لتشغيل هذه العمليات يأتي في نهاية الأمر من
الشمس. حينها، تحبس النباتات الطاقة عبر عملية البناء الضوئي قبل تخزينها في صورة
إلكترونات عالية الطاقة داخل الروابط بين ذرات الكربون في الكربوهيدرات والدهون. لكن
إطلاق الطاقة المحبوسة في هذه المخازن عمليةٌ بطيئة. يمكنك التفكير في الكربوهيدرات
والدهون باعتبارها طاقةً «مودعة» في حساب ادخار، حيث ينبغي بذلُ مجهود خاص للوصول
إليها. تحتاج الخلايا إلى مصدر طاقة «سائل» أكثر لتشغيل المحرِّكات والإنزيمات
والمضخَّات الخلوية والمكوِّنات الأخرى للآلة الخلوية التي لا تتوقَّف أبدًا. في واقع
الأمر، إنها بحاجةٍ إلى عملة طاقة عالمية وسهلة التداول. وفي عالَم الكائنات الحية، فإن
الجزيء الأساسي الذي يلبي هذا الدور هو الأدينوسين الثلاثي الفوسفات.
يتكوَّن الأدينوسين الثلاثي الفوسفات من الأدينين (الذي عرفنا من قبلُ أنه واحد
من القواعد الأربع في الدي إن إيه) المرتبط بسكر
ريبوز وصفٍّ مكون من ثلاث مجموعات فوسفات. مجموعة الفوسفات الأخيرة معرَّضة للمرور
بعملية تحلُّل مائي محفَّزة بالإنزيمات (بمعنى أن الإنزيمات يمكن أن تزيلها) لإنتاج
مجموعة فوسفات حرة وماء وأدينوسين ثنائي الفوسفات. وفي هذه العملية، تنطلق الطاقة، ومن
ثَم يمكن استخدامها لتشغيل آليات الخلية. وفي صميم عملية الأيض، توجد مسارات ودورات
مخصَّصة لاقتحام مخازن الطاقة الممتلئة بالكربوهيدرات والدهون واستخدامها لإعادة شحن
مخزون الأدينوسين الثلاثي الفوسفات (وهو أمرٌ سنتناوله بمزيد من التفصيل في الفصل
الخامس). المحصِّلة هي أن كل جزيء أدينوسين ثلاثي الفوسفات قد يخضع لعملية إعادة
التدوير هذه حوالي من ألفين إلى ثلاثة آلاف مرة في اليوم.
شكل ٢-٢: (أ) ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين في صورته المؤكسدة؛
(ب) الكوليسترول؛ (ﺟ) فوسفوليبيد غير مشبع شائعة الوجود؛ (د)
الأدينوسين الثلاثي الفوسفات؛ (ﻫ) السكروز الثنائي السكاريد المكوَّن
من حلقات جلوكوز وفركتوز.
الأدينوسين الثلاثي الفوسفات له مجموعةٌ من الجزيئات الشقيقة له والتي لها دورٌ آخر
حيوي في الكيمياء الحيوية. الأدينوسين الثلاثي الفوسفات والجوانين الثلاثي الفوسفات
والسايتوسين الثلاثي الفوسفات واليوراسيل الثلاثي الفوسفات عبارة عن نيوكليوتيدات
تُستخدم لبناء الآر إن إيه. وعلى الجانب الآخر، يُستخدم الأدينوسين الثلاثي الفوسفات
المنقوص الأكسجين والجوانين الثلاثي الفوسفات المنقوص الأكسجين والسايتوسين الثلاثي
الفوسفات المنقوص الأكسجين والثايمين الثلاثي الفوسفات المنقوص الأكسجين لبناء الدي إن
إيه (انظر الشكل ٢-٢).
يقال في بعض الأحيان إن الكيمياء ما هي إلا حركة الإلكترونات لأن الإلكترونات هي
وسيط
الروابط الكيميائية؛ أي إنه عندما تتحرَّك الإلكترونات،
تتكوَّن الروابط وتتفكَّك. لذا فإن بناء شيء معقَّد
وديناميكي مثل كيمياء الحياة يتطلَّب الكثير من تنقُّل الإلكترونات. هناك مجموعة أخرى
من الجزيئات القائمة على الأدينين مسئولة عن معظم عمليات نقل الإلكترونات من موقع تفاعل
إلى آخر، ومن ثَم فإن لها دورًا محوريًّا في العمليات الكيميائية الحيوية. ومكوكات
الإلكترونات هذه هي ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين، وثنائي نيوكليوتيد
الفلافين والأدينين، وفوسفات ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين. توجد هذه
المكوكات جميعها في صور مؤكسدة (ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المؤكسد،
وثنائي نيوكليوتيد الفلافين والأدينين المؤكسد، وفوسفات ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد
والأدينين المؤكسد) والتي هي مستقبِلات للإلكترونات، وصور مختزلة (ثنائي نيوكليوتيد
النيكوتيناميد والأدينين المختزل وثنائي نيوكليوتيد الفلافين والأدينين المختزل،
وفوسفات ثنائي نيوكليوتيد النيكوتيناميد والأدينين المختزل) والقادرة على منح
الإلكترونات، مثل . ومثلما هو الحال مع الأدينوسين الثلاثي الفوسفات، تعلَق تلك
الجزيئات الثلاثة في عملية إعادة تدوير وهي تنقل الإلكترونات من مكانٍ إلى آخر، ومن ثَم
لا تفتأ تخضع لعمليات تحويل بين صورها المؤكسدة والمختزلة.