البروتينات: آلات الطبيعة النانوية
البروتينات هي الشكل المهيمن في الآلة الخلوية. فالبروتينات تنظِّم كلَّ العمليات الحيوية أو تنفِّذها أو تحكمها. فتتحكَّم البروتينات في التدفُّق الأيضي، وتوفِّر الدعم الميكانيكي، وتشكِّل المسارات بين الخلايا التي تنقل المواد من خلالها، وتدير الجينومات، وكذلك تعمل بمنزلة البوابات عبر الأغشية. هذا العدد الهائل من العمليات اللازمة للحفاظ على عمل الخلايا تُدار في الكائن الحي أو الخلية عبر مجموعة كبيرة من البروتينات التي تُعرف معًا باسم البروتيوم. ويتفاوت حجم البروتيوم حسب تعقيد الكائن الحي: فقد تحتاج الخلية الواحدة في الثدييات ما يزيد على ١٥ ألف بروتين كي تعمل؛ ويتطلب الإنسان ما يربو على ٩٠ ألف بروتين. لكن بإمكان البكتيريا أن تتدبَّر أمرها بثلاثة آلاف بروتين فقط، بينما الفيروسات قد لا تحتاج إلى أكثر من بضع عشرات من البروتينات.
الأنماط البنيوية
يزيد تعقيد بنيات البروتينات أكثر مع تجمُّع الأنماط معًا حتى تُكوِّن نسقًا أكبر. لكن حتى في هذا المستوى، تظهر الأنماط البنيوية مع الحفاظ على تشكيلات معينة واستخدامها بمنزلة سقالات تعلَّق عليها التفاصيل الخاصة بالبروتينات.
على سبيل المثال، كثيرًا ما يُرى نمط لولب-لفة-لولب في الحزمة التي تسمَّى «حزمة اللوالب الأربعة». وهذا النسق الشائع والبسيط كثيرًا ما يظهر. إنه يظهر في بعض الأحيان في صورة حزم منفصلة مثلما هو الحال في هرمون النمو البشري. على نحوٍ بديل، تتحد أربع وعشرون حزمة فردية لتكوِّن الفيريتين، وهو بنية كروية ضخمة تنقل الحديد. أو ربما يكون مجرد عنصر واحد في بروتين أكبر بكثير مثلما هو الحال في بروتين تثبيط اللاكتوز، وهو بروتين ربط الدي إن إيه، يتكوَّن من عدة نطاقات طي مختلفة.
على الجانب الآخر، تلتصق العديد من أنماط المتشابكة مع أنماط دبابيس الشَّعر بيتا وتكوِّن صفائح ممتدة تلتف في النهاية على نفسها بحيث تكوِّن براميل بيتا. تشيع هذه الأنماط على وجه الخصوص في الأغشية البكتيرية حيث تعمل بمنزلة مسامَّ (تُعرف فئة البروتينات هذه باسم البورينات) والتي تنتشر من خلالها الجزيئات. ولقد تطوَّرت البورينات لتصبح خاصةً بجزيء معيَّن مما يتيح للخلايا أن تتحكَّم بعناية في تدفُّق المواد الكيميائية عبر أغشيتها.
ثم توجد نُسق أعقدُ مثل طية روسمان التي تتكوَّن من مجموعتين من الأزواج اللولبية تحيطان بصحيفة بيتا ذات ستة أشرطة. وكثيرًا ما تُرى طية روسمان في بروتينات ربط النيوكليوتيدات والبروتينات النازعة الهيدروجين.
العوامل المرافقة وتعديلات ما بعد الترجمة
ينتج العشرون حمضًا أمينيًّا التي تشكِّل أساس البروتينات المجموعةَ الهائلة من بنيات البروتينات، ولكنها لا توفِّر التنوُّع الكيميائي الكافي لتنفيذ كل العمليات الكيميائية الحيوية للخلية. ومن ثَم، كثيرًا ما تحتاج البروتينات إلى شيء إضافي والذي يكون في شكل مجموعات كيميائية إضافية. تضاف هذه المجموعات في بعض الأحيان بعد فترة وجيزة من تصنيع البروتينات (عملية الترجمة)، وتُعرف هذه التغييرات المهمة التي تطرأ على البروتينات باسم تعديلاتِ ما بعد الترجمة.
الجلوزة من أشهر أنواع تلك التعديلات. يجري تعديل حوالي نصف كل أنواع البروتينات بإضافة السكر إلى سطحها. وفي بعض الحالات، قد تضيف هذه التعديلات ٥٠ بالمائة أخرى إلى كتلة البروتين المعني. تتنوَّع أدوار الجلوزة؛ إذ تتراوح بين تنظيم ارتباط البروتينات بالمستقبِلات وحتى زيادة الاستقرار الحراري والمدى العمري للبروتين. وبالمثل، تنظَّم العديد من البروتينات عن طريق إضافة مجموعات الفوسفات أو إزالتها؛ الأمر الذي يفسِّر سببَ ظهور الفوسفور في التحليل العنصري الأولي للبروتينات الذي أجراه مولدر.
تُعرَف الإضافات إلى البروتينات الضرورية لوظيفتها باسم العوامل المرافقة. ومن أشيع العوامل المرافقة أيونات المعادن. ومن أشهر الأمثلة على ذلك ما يحدُث في الهيموجلوبين، حيث يؤدي الحديد دورًا بالغَ الأهمية باعتباره حاملًا للأكسجين (تستخدم بعضُ اللافقاريات النحاس بدلًا من الحديد، ما يعطي دمَها لونًا أزرق). الزنك مطلوب في العديد من الإنزيمات التي تتفاعل مع الأحماض النووية (كما في بروتينات إصبع الزنك المذكورة آنفًا)، والمغنيسيوم مطلوب في الإنزيمات الداخلة في عملية التخمُّر. ولهذا السبب، يجب أن نُدخِل إلى أنظمتنا الغذائية كمياتٍ صغيرة من هذه المعادن، بالإضافة إلى المنجنيز والنحاس والبوتاسيوم (على الرغم من أن هذا المعدن مطلوب بكمياتٍ أكبر بكثير نظرًا لدوره في نقل الإشارات العصبية) والنيكل والسيلينيوم والموليبدينوم.
وظيفة البروتينات
تعقيد عمل تفاعل الكتالاز ودقَّته مثال رائع على الصلة المهمة بين بنية البروتين ووظيفته. والتشبيه الذي يتكرَّر استخدامه لوصف هذه العلاقة هو نموذج القفل والمفتاح (الذي كان أول مَن اقترحه إميل فيشر عام ١٨٩٤)؛ حيث إن الإنزيم يمثل تجويفًا دقيقًا يتناسب تمامًا مع شكل جزيء ركيزة. إنه تشبيه رائع من عدة نواحٍ، ولكنه لا يراعي مرونةَ البروتينات، وهذا ما يفسِّر التفضيل العام لفرضية التلاؤم المستحث التي وضعها دانيل كوشلاند. في هذا النموذج، يكون الإنزيم وركيزته أقربَ إلى قفاز ويد، حيث ينثني كلٌّ منهما لاستيعاب التغييرات البنيوية في الآخر حتى يتناسبا معًا في شكل قفاز. هذه العلاقة المرنة بين البنية والوظيفة ستتضح أكثرَ مع التقدُّم في الكتاب.
حركية الإنزيمات
في الفصل الأول، رأينا كيف أن التصوير البلوري بالأشعة السينية أعطى علماء الكيمياء الحيوية أولَ لمحة عن البنيات الذرية للبروتينات. وقد أتاح لهم هذا أن يبدءوا في فهمِ كيف أن كل الأحماض الأمينية والعوامل المرافقة والربائط (وهي المواد التي ترتبط بالجزيئات الحيوية) يتجمَّع بعضها مع بعض لدفع العمليات الكيميائية الحيوية. لكن معظم الأساليب البنيوية — ولا سيما التصوير البلوري — تقدِّم صورًا ثابتة للبروتينات. ولفهم الطريقة التي تعمل بها الأنظمة الديناميكية مثل الإنزيمات، فهمًا كاملًا، ينبغي أيضًا دراستها عمليًّا. من الأمثلة الرئيسية على ذلك مجالُ حركية الإنزيمات.
منذ أواسط القرن التاسع عشر، أخذ يعكف علماء الكيمياء على دراسة معدلات التفاعل. وكثيرًا ما وجدوا تناسبًا بين سرعة التفاعل وتركيز المواد المتفاعلة. لكن يبدو أن هذا لا ينطبق على الأنظمة الحيوية؛ فعلى سبيل المثال، اتضح أن معدلات تخمُّر الخميرة غير مرتبطة بكمية السكروز الموجودة. لكن في عام ١٩١٣، لاحظ ليونور ميكايليس وماد ليونورا منتين أن هذا ليس صحيحًا تمامًا. ففي تركيزات الركائز القليلة، كان معدل التفاعل يعتمد على كمية الركيزة الموجودة، ثم يستقر في التركيزات الأعلى.
الإنزيم | Km (M) | kcat (s −1) | kcat/Km (S −1 M −1) |
---|---|---|---|
نازعة كربوكسيل ٥-أحادي فوسفات الأوروتيدين | ٧٫٠ × ١٠ −٧ | ٣٩ | ٥٫٦ × ١٠٧ |
الكتالاز | ١٫١ × ١٠ −٣ | ١٫٠ × ١٠٦ | ٩٫١ × ١٠٨ |
الكيموتربسين (الفالين) | ٨٫٨ × ١٠ −٢ | ٠٫١٧ | ١٫٩ |
الكيموتربسين (التايروسين) | ٦٫٧ × ١٠ −٤ | ١٩٠ | ٢٫٩ × ١٠٥ |
مسألة طي البروتينات
في عام ١٩٥٨، وقبَيل حصول جون كندرو على جائزة نوبل في الكيمياء لعمله على بنية البروتين، أشار قائلًا: «يبدو أن الترتيب [الخاص بالبروتينات] يفتقر تمامًا إلى نوع الانتظام الذي يتوقَّعه المرء على نحوٍ حَدْسي، كما أنه معقَّد أكثر مما تنبَّأت به أيُّ نظرية عن بنية البروتينات.» لخَّصت هذه الجملة ما أصبح معروفًا فيما بعدُ باسم مسألة طي البروتينات؛ باختصار، يبدأ البروتين حياتَه في صورة سلسلة عديد ببتيد طويلة، فكيف يُطوى إلى شكل ثلاثي الأبعاد معلوم الملامح كي يؤدي وظيفته؟ فهل يوجد كتيب وآلة تجميع خلوي تتعامل مع سلاسل عديد الببتيد الوليدة وتوجِّهها إلى الطية الصحيحة، أم إن البروتينات يمكنها أن تطوي نفسها؟
أُجيب عن السؤال الثاني في تجربةٍ ابتكرها كريستيان أنفينسن عام ١٩٦١. فقد أخذ إنزيمًا يسمَّى الريبونيوكلياز وقاس قدرتَه على قَطع الآر إن إيه. عندئذٍ، فكَّك البروتين مستخدِمًا اليوريا وعوامل الاختزال لكسر روابط ثاني الكبريتيد التي بين بقايا السيستين الثمانية في البروتين. وبذلك فقد البروتين شكله، ومن ثَم فقدَ قدْرتَه على هضم الآر إن إيه. بعد ذلك، أزال اليوريا وأتاح تصحيح ثاني الكبريتيد. وفي غضون دقائق، رصد الإنزيم وهو يستعيد قدْرتَه على هضم الآر إن إيه. قد تبدو هذه التجربة بسيطة — أو حتى تافهة — ولكنها بالغة الأهمية لأنها أوضحت أن البروتين يمكن أن يطوي نفسه من دون أي مساعدة خارجية. وهذا يعني أن كل المعلومات التي يحتاج إليها البروتين من أجل الطي موجودةٌ في تسلسله الأساسي. نتائج هذه التجربة مهمة، بمعنى أن بنية البروتين تتحدَّد حسب المعلومات المتضمَّنة داخل الجين. ومن ثَم، يمكن أن نتنبأ نظريًّا ببنية البروتين من تسلسل الدي إن إيه. أصبحت هذه الافتراضية معروفة باسم فرضية أنفينسن.
بُذلت جهودٌ تجريبية كبيرة (بما فيها تجاربُ أجراها صاحب الكتاب) في محاولات لرسم معالم مسارات طي البروتينات. فقد عدَّل العلماء الأحماض الأمينية، وأنشئوا بروتينات اصطناعية، وتلاعبوا ببيئات الطي، وغير ذلك الكثير. ثم استخدموا مجموعةً هائلة من التقنيات لرصد كيف أن كل هذا يؤثِّر في سرعات الطي واستقرار البروتينات وبنيات البروتينات النهائية. ونتيجةً لذلك، بتنا نعلم الكثيرَ عن القوى المعنية، وطريقة تجمُّع الأحماض الأمينية غير المحبة للماء بعضها مع بعض، بحيث تكوِّن نواة، وفي الوقت نفسه تستقر الأحماض الأمينية المشحونة على السطح كي تتفاعل مع المذيب المائي. وقد أدَّى ذلك إلى مفهومٍ يُطلق عليه في بعض الأحيان نموذج التكثيف والتنوي، وفيه تتشكَّل النواة غير المحبة للماء بسرعةٍ وتسحب العناصرَ البنيويةَ الثانويةَ إلى الاتجاهات الصحيحة بعضها بالنسبة إلى البعض.
تنبثق من ذلك نماذجُ لسلوك طي البروتين قائمة على فكرة «مشهد الطي»؛ حيث يكون المسارُ الذي يتخذه البروتين غير المطوي تجاه حالته المطوية شبيهًا بدحرجةِ كرة لأسفل على جانب جبل. تمثِّل كل بقعة في هذا المشهد شكلًا من الأشكال المحتملة العديدة المذكورة في مفارقة ليفينثال، والحالة المطوية هي البقعة الموجودة في أخفضِ نقطة في الوادي. وعلى الرغم من أن هذه الطريقة مفيدةٌ في وصف المسألة، فإن فهْمنا لا يزال قاصرًا فيما يتعلَّق بشكل المشهد الحقيقي لطي البروتين وطريقة توجيه البروتينات إلى المسار (أو المسارات) الصحيح توجيهًا دقيقًا وصولًا إلى الحالة المطوية.
من المنتظر أن تُحل مسألة طي البروتينات بأساليبِ محاكاةِ الكمبيوتر باستخدام قدْرٍ هائل من القدرة الحوسبية. وتحقيقًا لهذه الغاية، فإن أحد أهم مشاريع طي البروتين الحوسبية عبارة عن مشروع يمكن لكمبيوتر أي شخص المساهمةُ فيه. فمنذ عام ٢٠٠٠، وزَّع مشروع فولدنج آت هوم مسائلَ طي البروتينات على أصحاب أجهزة الكمبيوتر غير المستغلة على مستوى العالم. وفي وقتِ تأليف هذا الكتاب، تسهِم مئات الآلاف من المعالجات في هذه المشاريع، حيث فاقت قدرة المعالجة ١٫٥ إكسافلوب. بالمقارنة، فإن أقوى كمبيوتر فائق في العالم (كمبيوتر ساميت الخاص بشركة آي بي إم) لديه عُشر تلك القدرة الحوسبية؛ إذ تبلغ أعلى قدرة له حوالي ١٤٣ بيتافلوب.
كما هو الحال مع كل المجالات التكنولوجية الأخرى، تتطوَّر الخوارزميات ومكوِّنات الأجهزة المخصَّصة لمسألة طي البروتينات تطورًا سريعًا، لكن يوجد في هذا الإطار نهجان بوجه عام. يستخدم النهج الأول النماذجَ المعتمِدة على القوالب، حيث يُقارَن تسلسلُ البروتين المستهدَف أولًا بتسلسلات بروتينات أخرى ذات بنية معروفة، ثم تُستخدم هذه المعلومات لتقييد النموذج البنيوي للبروتين المستهدَف. تؤدي هذه الطريقة إلى أدقِّ النتائج، لكنها لا تقدِّم في واقع الأمر أيَّ تصوُّر بشأن مشاهد الطي. بدلًا من ذلك، النهج الثاني يهدُف إلى إنشاء حلٍّ كامل لمسألة طي البروتينات من البداية مستمد ممَّا نعرفه من الفيزياء والكيمياء داخل بيئة طي البروتينات.
البروتينات المرافقة
قبل الانتهاء من تناول مسألة طي البروتين، تجدُر بنا الإشارة إلى فئةٍ من البروتينات بالغة الأهمية في قابلية الخلايا للاستمرار. هذه البروتينات تساعد في طي البروتينات الأخرى، ومن ثَم تُعرف باسم البروتينات المرافقة أو الوصيفة. في ظاهر الأمر، يبدو وجودُ هذه البروتينات متعارضًا مع ما جاء بفرضية أنفينسن. لكن يجب أن نتذكَّر أن البيئة داخل الخلية مختلفة تمامًا عن بيئة أنبوب الاختبار. الخلايا أماكن مزدحمة، كما أن البروتينات بداخلها معرَّضة لتغيُّرات في درجات الحرارة وعمليات الضغط الكيميائي، والتي يمكن أن تؤثِّر جميعها في طريقة طي البروتينات. ونتيجة لذلك، يمكن للخلية أن تُراكِم بسرعة بروتينات ذات خلل في الطي. والبروتينات المرافقة تساعد في ضبط كل هذا.
البروتينات المضطربة جوهريًّا
تشبيه البروتينات بأنها آلات نانوية — أو روبوتات طبيعية — تشبيهٌ مثير للاهتمام. فمثلما هو الحال مع الروبوتات، فقد صُمِّم العديد من البروتينات (عن طريق التطور) بحيث تكرِّر مهمةً محددة مرارًا وتكرارًا. وينطوي التشبيه أيضًا على أن كل بروتين له بنية محدَّدة، مرتبطة بشدة بوظيفته. في الحقيقة، كان هذا الاعتقاد السائد على مدى القرن العشرين، وقد عزَّزته آلاف البنيات الواضحة التي زخر بها بنك بيانات البروتينات. وهكذا ترسَّخ في عقول علماء الكيمياء الحيوية المعنيين بدراسة البروتين أن تسلسل الأحماض الأمينية يحدِّد البنية الثلاثية الأبعاد، وهذا يؤدي بدوره إلى تحديدِ وظيفة البروتين. رجع جزءٌ كبير من السبب في ذلك إلى التقنية السائدة المستخدَمة لتحديد بنيات البروتينات وهي التصوير البلوري بالأشعة السينية.
على الرغم من الانتشار الواسع لهذه التقنية والنتائج الرائعة التي تحقَّقت من خلاله، فإن لها عيبًا خطِرًا وهو أن البنيات لا يمكن تحديدها إلا إذا كان في الإمكان إنتاجُ بلورات عالية الجودة من الجزيء محل الاهتمام. وهذه المهمة ليست هينة، فقد استُنفدت مسيرات مهنية كاملة في محاولات لبلورة بروتينات صعبة المراس على وجه الخصوص. تنبع المشكلة من حقيقة أن البلورات لا يمكن أن تُنتج إلا إذا تجمَّعت الجزيئات معًا في مصفوفات منظمة. وبناءً على ذلك، من المحتمل أن يتبلور بسهولة شيءٌ له بنية واضحة المعالم، لكن لا يُحتمل أن يتبلور شيء له بنية مضطربة وغير واضحة المعالم. وعلى سبيل التشبيه، بعض البروتينات تشبه مكرونة الاسباجيتي غير المطهوة المعبأة في جرة؛ حيث تصطف جميعُ أعواد المكرونة بترتيب جميل؛ في حين أن بروتينات أخرى تشبه أكثرَ مكرونةَ الاسباجيتي المطهوة والموضوعة في نفس الجرة بحيث تشكِّل أعوادها فوضى متشابكة من دون تنظيم معيَّن.
تكمُن المشكلة في أن التصوير البلوري بالأشعة السينية ينحاز إلى البروتينات المنظِّمة، أو البروتينات التي يمكن إجبارها على الدخول في حالةٍ منظَّمة معيَّنة. ونتيجة لذلك، أصبح تمثيلُ ما يُعرف باسم البروتينات المضطربة جوهريًّا قاصرًا في بنك بيانات البروتينات. ليس هذا فحسب، بل بات يتضح الآن أننا، بحشر البروتينات داخل بلورات، ربما لم ننتبِه إلى الاضطراب الجوهري المنتشر في عالَم الكيمياء الحيوية، حيث إن ٥٠ بالمائة من البروتينات تحتوي على مناطقَ كبيرة من الاضطراب. يبدو أن العديد من البروتينات «على حافة الفوضى»؛ إذ تتأرجح بين حالة الانتظام والاضطراب حسبما تقتضي الضرورة. يتضح الآن أن البروتينات المضطربة جوهريًّا لها عدة أدوار، مثل أنها بمنزلة ملاط جزيئي يثبت المركَّبات المتعددة البروتينات بعضها مع بعض، أو أنها في بعض الحالات تتخذ عدةَ أشكال ووظائف بناءً على شركائها المرتبطة بها. لا يزال فهمُنا لهذه البروتينات غيرِ المُنتبه لها والغامضة في مراحله الأولى، ولكن الواضح أن درجة المرونة في بنية البروتينات ووظيفتها أكبرُ بكثير مما كان يُعتقد.