الأحماض النووية: المخطَّطات الأولية للحياة
العقيدة الأساسية في علم الأحياء الجزيئي
تنصُّ هذه العقيدة على أنه بمجرد تمرير «المعلومات» إلى البروتين، فإنها لا يمكن أن تخرج منه مرةً أخرى. لمزيد من التوضيح، من الممكن أن تُنقل المعلومات من حمض نووي إلى حمض نووي آخر أو من حمض نووي إلى بروتين، لكن يستحيل نقلُ المعلومات من بروتين إلى بروتين آخر أو من بروتين إلى حمض نووي. يُقصد بالمعلومات في هذا السياق التحديد الدقيق للتسلسل، سواء ذلك الخاص بالقواعد في الحمض النووي أو ببقايا الحمض الأميني في البروتين.
أو بعبارة أخرى، تسلسل الدي إن إيه يحدِّد تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين، وليس العكس. ومع إجراء بعض التعديلات الطفيفة، أبرزُها تخفيف كلمة «مستحيل» إلى شيء أقل تقييدًا، فلا تزال العقيدةُ الأساسية صحيحة.
تتكوَّن العقيدةُ الأساسية مما يلي: تضاعُف الدي إن إيه وهو النسخ المباشر للمعلومات (حسب تعريف كريك)؛ والنسخ وهو عملية إنشاء الآر إن إيه من قالب دي إن إيه؛ والترجمة وهي إنشاء تسلسل بروتين من قالب آر إن إيه. في الواقع، العقيدة الأساسية أعقدُ من ذلك بقليل؛ حيث إن الآر إن إيه يمكن أيضًا أن يكون بمنزلة قالب للدي إن إيه والآر إن إيه. ولكن تحقيقًا للإيجاز، سأكتفي بهذه الخطوات الثلاث. وفي بقية هذا الفصل، سنلقي نظرةً أقربَ على شكل جزيء الحمض النووي ووظيفته، وكيف أنهما يعززان تدفُّقات البيانات الثلاثة الأساسية الخاصة بالعقيدة الأساسية.
النيوكليوتيدات والأشرطة وأزواج القواعد
يمكن القول إن بنيةَ اللولب المزدوج للدي إن إيه تجعله أبرز الجزيئات. لكن الصور التي نراها كثيرًا في الأعمال المطبوعة وعلى الشاشات نادرًا ما تكشف عن لبنات البناء الكيميائية للدي إن إيه ولا تكشف عن طريقة تجمعها معًا بحيث تكوِّن اللولب المزدوج. كذلك نادرًا ما يُذكر الآر إن إيه وهو قريب الدي إن إيه الكيميائي مع أنه جزيء أكثر تنوعًا بكثير وله العديد من الأدوار في الكيمياء الحيوية.

إن هذا الاقتران المتسق بين قواعد الجوانين مع السايتوسين والأدينين مع الثايمين هو الذي يسهِّل نسخ تسلسلات الدي إن إيه في أثناء انقسام الخلية نسخًا دقيقًا. وعند الحاجة إلى نسخة جديدة من الدي إن إيه، ينفك اللولب المزدوج وينفصل الشريطان. حينئذٍ، يصبح كل شريط بمنزلة قالب يُنتج منه شريط فرعي. وهذه العملية المتمثلة في بناء شريط دي إن إيه جديد من قالب تنفِّذها فئة من الإنزيمات تسمَّى إنزيمات بوليميراز الدي إن إيه. وبما أن قاعدة الجوانين تقترن دومًا مع قاعدة السايتوسين، وقاعدة الأدينين تقترن مع قاعدة الثايمين، فإن إنزيم بوليميراز الدي إن إيه يضع قاعدة سايتوسين في الشريط الفرعي؛ حيث توجد قاعدة جوانين في الشريط الأصلي. يحدُث الأمر نفسه مع القاعدتين الأدينين والثايمين. وعند هذا المستوى، تبدو العملية بسيطةً للغاية، ولكنها في الواقع تتضمَّن عشرين بروتينًا آخر على الأقل يتضافر بعضها مع بعض في العمل. يُعرف هذا المركَّب المذهل باسم جسيم التضاعف وسنتناوله في الفصل السادس.
البنيات الثانوية للحمض النووي
ألقينا نظرةً على العناصر الأولية والثانوية والثلاثية التي يتكوَّن منها التسلسل الهرمي البنيوي للبروتينات، وتوجد فئاتٌ مماثلة في الأحماض النووية. لكن في حالة الأحماض النووية، فإن البنية الأولية يحدِّدها تسلسل النيوكليوتيدات بدلًا من الأحماض الأمينية.

عالَم الآر إن إيه
تنطوي العقيدة الأساسية في صميمها على موقفٍ أشبه بمعضلة الدجاجة والبيضة. الحياة بحاجة إلى جزيئاتٍ لديها مجتمعةً القدرةُ على إنتاج المزيد من الجزيئات المماثلة لنفسها. بإمكان البروتينات القيامُ بنصف هذه المهمة. فهي «أدوات تصنيع» ممتازة لديها القدرة على تكوين البنيات المتعددة والوظائف المرتبطة بها اللازمة لتحفيز مجموعة كبيرة من التفاعلات الكيميائية. على سبيل المثال، بإمكان البروتينات ربطُ قواعد النيوكليوتيدات في امتدادات من الدي إن إيه والآر إن إيه. لكن لا توجد آلية معروفة يمكن أن تستخدمها البروتينات كي تنسخ نفسها. وفي الوقت نفسه، الدي إن إيه ينتج جزيئًا ممتازًا لتخزين البيانات، وهذا الجزيء له بنية ملائمة لآلية تضاعف بسيطة. لكن الدي إن إيه لا يمكنه تحفيزُ التفاعلات، ومن ثَم لن يُنسخ أبدًا تسلسل الدي إن إيه من دون البروتينات وستستحيل عملية الوراثة. باختصار، تضاعُف الجينات بحاجة إلى البروتينات، ولا يمكن تصنيع البروتينات من دون المعلومات المتضمَّنة في الجينات. بناءً على ضرورة التعاون هذه بين الدي إن إيه والبروتينات، فالسؤال هو: كيف يمكن أن يكون قد بدأ هذا النظام التآزري؟
توجد عدة نظريات، ومنها التزامن في تطوُّر الدي إن إيه والبروتينات، أو فرضية «البروتينات أولًا» التي تقول إن بروتيناتٍ صغيرة نسخت نفسها بالفعل باستخدام آليةٍ ما اندثرت الآن في غياهبِ الزمن التطوري. لكن النظرية السائدة تكمُن في وجود آلة جزيئية متعددة الوظائف، وهي نظرية تُعرف باسم عالَم الآر إن إيه. يقول هذا السيناريو إنه قبل ظهور خلايانا الحالية المليئة بالدي إن إيه والبروتينات، كان هناك شكلٌ من أشكال الحياة معتمد على الآر إن إيه. تعود صلاحية هذه النظرية إلى أن الآر إن إيه يبدي بعضَ خصائص كلٍّ من البروتينات والدي إن إيه. وعليه، يمكن أن يعمل بمنزلة مخزن للمعلومات الوراثية، ولا تزال بعض الفيروسات تستخدمه لهذا الغرض. إضافة إلى ذلك، فإن البنيات التي على شكل دبابيس شعر والعُقد الكاذبة وغيرها من العناصر البنيوية الثانوية يمكن أن تُطوى لتكوين بنيات معقَّدة قادرة على تحفيز التفاعلات الكيميائية.
اكتشافات تشيك والاكتشافات المماثلة لغيره أعطت ثِقلًا لفرضية عالَم الآر إن إيه، ولكن كانت لا تزال هناك حاجة إلى برهان يثبت أن الآر إن إيه يمكن بالفعل أن ينسخ نفسه كي تُحل معضلة الدجاجة أَم البيضة المتضمَّنة في هذا الأمر. وحتى الآن، لم يرصد أحدٌ دليلًا على ذلك في الأنظمة الطبيعية، وهو ما لا يدعو إلى المفاجأة؛ لأنه كان سيصبح زائدًا عن الحاجة في الأنظمة الفعَّالة أكثر القائمة على البروتين. ومع ذلك، أنشأ العلماء ريبوزيمات اصطناعية قادرة على استنساخ نفسها، مما يثبت أنَّ السيناريو القائل بأن الأنظمة الحية يمكن أن تقوم على الآر إن إيه الذاتي التضاعف، ممكنٌ من منظور الكيمياء الحيوية على الأقل.
النَّسخ وبنيات الجينات
في اللغة الدارجة، الكروموسومات والجينات والدي إن إيه كلماتٌ شبه مترادفة، لكن في الواقع الكروموسومات هي البنيات التي تُخزَّن فيها الجينات، والجين هو امتداد الدي إن إيه الذي يشفِّر جزيئًا آخرَ وظيفيًّا من الناحية الحيوية؛ أي البروتينات والآر إن إيه. بالإضافة إلى منطقة التشفير هذه، سيحتوي الجين على سلسلةٍ من التسلسلات التي تنظِّم طريقةَ نسخ الجينات.
عند الحاجة إلى المعلومات الجينية، تُنتَج نسخٌ من الجينات وتُنقل إلى أجزاء أخرى من الخلية. والآر إن إيه المرسال هو المادة المستخدَمة لعمل هذه النُّسخ وتتشابه طريقةُ تكوينه إلى حدٍّ بعيد مع طريقة تكوين شريط فرعي من الدي إن إيه من قالبٍ ما. في هذه الحالة، يكمُن الفرْق في أن الإنزيمات المسئولة عن اقتران القواعد (السايتوسين مع الجوانين والأدينين مع اليوراسيل) هي إنزيمات بوليميراز الآر إن إيه (وليس الدي إن إيه).
يُعرف شريط الدي إن إيه الذي سيجري نسخه (بنحوٍ غير متوقَّع نوعًا ما) بأنه الشريط غير المشفِّر لأنه بلعبه دورَ القالب، فإن الآر إن إيه المرسال الناتج سيحتوي على تسلسل تشفير تكميلي. ومثلما هو الحال في أي عملية تصنيع، يلزم توفُّر إشاراتٍ للدلالة على موعد بدء الإنتاج وكمِّ الإنتاج المطلوب. لذا يوجد بالقرب من جزء التشفير أو بداخله نطاقٌ من التسلسلات الأخرى التي يؤدي العديد منها أدوارًا تنظيمية. وبداخل الجين، تُسبق مناطقُ التشفير هذه بتسلسلات «محفِّزة» تفعل ذلك بالضبط.
لا يقلُّ إنهاءُ عملية النَّسخ أهميةً عن بدئها. فمن دون وجود بعض التحكم، ستندفع بسرعة إنزيمات بوليميراز الآر إن إيه بطول تسلسل الدي إن إيه مثل القطار الخارج عن السيطرة، مما يؤدي إلى إنتاج الآر إن إيه المرسال بأعداد وسرعة كبيرة بطول الطريق. في البكتيريا، توجد آليتان للإنهاء، تتضمن الأولى بروتينًا يسمَّى رو هيليكاز يرتبط بمنطقة غنية بالسايتوسين في الآر إن إيه المرسال المكوَّن حديثًا. إن وجود بروتين رو يزعزع استقرار التفاعلات بين الآر إن إيه المرسال والدي إن إيه، ما يؤدي إلى انفصالهما وإنهاء عملية النَّسخ. تتضمَّن الآلية الثانية جزءًا غنيًّا بالسايتوسين/الجوانين في الآر إن إيه المرسال الذي تتكوَّن بداخله أزواجُ القواعد. وتؤدي بنية دبوس الشَّعر الناتجة فعليًّا إلى إيقاف عمل إنزيم بوليميراز الآر إن إيه، ومن ثَم تتوقَّف عملية النَّسخ.
الترجمة
بوصولنا إلى هنا، أرجو أن يكون واضحًا أن الدي إن إيه والآر إن إيه جزيئان متماثلان بشدة، حيث إن كليهما لهما تسلسلات مكتوبة بأبجدية متشابهة مكوَّنة من أربعة حروف. لكن البروتينات جزيئات مختلِفة تمامًا؛ حيث إنها تتكوَّن من عشرين حمضًا أمينيًّا مختلفًا. لذا فإن ترجمة المعلومات المتضمَّنة في تسلسل جين إلى تسلسل بروتين تحتاج إلى آلية مختلِفة تمامًا عن اقتران القواعد البسيط المستخدَم في نقل المعلومات من الدي إن إيه إلى الآر إن إيه.
بعد اكتشاف بنية الدي إن إيه، أصبح تحديدُ آلية الترجمة أحدَ أكثر المسائل إلحاحًا حينذاك. كانت المسألة بسيطة. لا تحتوي الأحماض النووية إلا على أربع قواعد. لكن الجينات بطريقةٍ ما تشفِّر العشرين حمضًا أمينيًّا المختلفة الموجودة في البروتينات. ومن ثَم، كيف يمكن لأبجدية من أربعة حروف أن تُترجَم إلى أبجدية مكوَّنة من عشرين حرفًا؟ ما الطُّرق التي يمكن أن يستخدمها علم الأحياء من أجل ذلك؟
كانت الشفرات من دون فاصلات فكرة رائعة جدًّا، وتوافقت الأعداد تمامًا لدرجة أن الجميع قبِلَها معظم الوقت على مدى خمس سنوات. لكن في عام ١٩٦١، أنتج مارشال نيرنبرج ويوهان هينريش ماتاي امتدادًا من الآر إن إيه يتكوَّن من اليوراسيل فقط. وعندما أضافاه إلى مزيج الريبوسومات وأحماض الآر إن إيه الناقلة والأحماض الأمينية الضروري من أجل الترجمة، كانت النتيجة سلسلة عديد ببتيد من الفنيلالانين الصافي. وفقًا لنظرية كريك، من المفترض أن عديد يوراسيل كان سلسلة خالية من المعنى، ومن ثَم بقيت نظرية الشفرات من دون فاصلات التي طرحها على أرففِ النسيان في تاريخ الكيمياء الحيوية.

تحدُث الترجمة في بنيات كبيرة ودقيقة قائمة على الآر إن إيه تسمَّى الريبوسومات. وربما تكون هذه الآلات الجزيئية النموذجية بقايا أخرى من عالَم الآر إن إيه. فمنذ ذلك الحين، مرَّت هذه الآلات بتطوُّر كبير، وأصبح الآن هناك تباينات جوهرية في شجرة الحياة. لكن بوجه عام، هي تتكوَّن من ثلاث أو أربع سلاسل من الآر إن إيه وكذلك عشرات بروتينات السقالات التي تكوِّن معًا وحداتٍ فرعيةً منفصلة.
