تتبُّع الكيمياء الحيوية داخل الخلية
تهتم الكيمياء الحيوية في جوهرها بدراسة الجزيئات الحيوية وتفاعلاتها. ومنذ أن اكتشف أنسيلم باين إنزيم الأميليز عام ١٨٣٣، فإن النهج السائد في هذا المجال هو استخلاص كميات كافية من الجزيء وتنقيته وعزله بحيث تتمكَّن التقنيات التحليلية المتاحة في وقتها من اكتشافه وقياسه. ونتيجةً لذلك، وعلى مدى معظم تاريخ الكيمياء الحيوية، فإننا ندرُس سلوك مجموعات من الجزيئات. فقد اكتشف مولدر (ارجع للفصل الأول) متوسطَ تركيب العناصر في بياض البيض؛ وشاهد أنفينسن (ارجع إلى الفصل الثالث) نتيجةَ إعادة طي مجموعة من جزيئات البروتين بطرقها الخاصة؛ أما فرانكلين (ارجع إلى الفصلين الأول والرابع) فلم يتعرَّف على بنية اللولب المزدوج في الدي إن إيه فحسب، بل تعرَّف أيضًا على مجموعة الجزيئات المكتظة في بلوراته.
لكن على الرغم من النتائج المثمرة الجمَّة لهذا النهج، فإن له بعض العيوب الواضحة. إن أبرز تلك العيوب هي أننا، بدراسة مجموعة الجزيئات، لا نرى سوى السلوكيات المتوسطة، وبإخراج الجزيئات من بيئتها الأصلية، فإننا لا ندرُس التفاعلات الحيوية.
الأفضل أن يبدَّل هذا النهج ويحل محله نهجٌ يعمل على دراسة الجزيئات الفردية. وعندما نطبِّق هذا النهج الفردي على المواد الكيميائية الحيوية، فإننا ندخل إلى عوالم الفيزياء الحيوية للجزيئات الفردية. تكمُن الميزة الكبرى هنا في أننا لا يزال بإمكاننا — باستخدام قياسات متعدِّدة — استخلاص السلوكيات المتوسطة. يمكننا كذلك استنباط معلومات بشأن توزيع السلوكيات القابعة على جانبي المتوسط. ومع أن هذا النهج يبدو مثاليًّا، فإن هناك بالطبع تحديات فنية هائلة مرتبطة بدراسات الجزيئات الفردية، ليس أقلها مشكلة نسبة الإشارة إلى الضوضاء.
الالتقاط الرقعي
في حين أن معظم تقنيات الكيمياء الحيوية كانت تركِّز على قياس مجموعات الجزيئات، فقد عكف إرفين نيهر وبيرت ساكمان (في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين) على تطوير طريقة لدراسة وظيفة الجزيئات الأحادية البروتين. فقد درسا مسألةَ نسبة الإشارة إلى الضوضاء عن طريق عزل بروتين فردي وفي الوقت نفسه إبقائه في بيته الأصلية. حقَّق العالِمان ذلك عبر تسجيل حركة الأيونات عبر القنوات الأحادية البروتين الموجودة في سطح الخلايا. حينذاك، كان معروفًا أن الأيونات يمكنها أن تتحرَّك بسرعة عبر أغشية الخلايا، لكن لم يكن هناك فهْم واضح للآلية التي تتحكَّم بها الخلايا في هذا التدفُّق. خلَص نيهر وساكمان إلى أن حركة الأيونات في جوهرها عبارة عن تدفُّق للتيار الكهربي، ومن ثَم فإن قياس التيار سيوفِّر معلومات قيِّمة عن كيف تتدفُّق الأيونات وما يتيح لها ذلك.
تكوَّنت التجربة من ماصة دقيقة زجاجية صغيرة لا يبلغ قطر فوَّهتها أكثرَ من ميكرومتر واحد. احتوى الجزء الأسطواني الطويل الرفيع من الماصة الدقيقة على قطب كهربي ومحلول متأين. أُحدث بعناية تلامسٌ بين فوَّهة الماصة الدقيقة وخلية، ويجري قدْر صغير من الشفط لتكوين طبقة عازلة ترتبط على نحو محكَم بالخلية. غُمست الرقعة التي بداخل الماصة الدقيقة والماصة الدقيقة نفسها وقطب كهربي ثانٍ في حوض من المحلول المتأين، ووُصِّل قُطبا الكهرباء. كوَّن القطبان الكهربيان ومحلول التأيُّن ورقعة الغشاء دائرةً أمكن قياسُ تدفُّق التيار الكهربي حولها. وإذا احتوت رقعة الغشاء المعزولة على قناة منفردة، فإن المسار الوحيد الذي ستتخذه الأيونات كان هو ذلك الجزيء الأحادي البروتين.

وفَّر الالتقاط الرقعي رؤًى بشأن آلة البروتين التي تتحكَّم في تدفُّق الأيونات دخولًا إلى الخلايا وخروجًا منها. فقد أوضحت أن بروتينات الأغشية ليست مجرَّد فجوات مخصَّصة لعبور أيونات معينة في الغشاء، بل إن بعضها بمنزلة بواباتٍ لا تُفتح إلا استجابة لمحفِّزات محدَّدة للغاية. تمثَّل أول هدف خضع للدراسة في مستقبِل الأسيتيلكولين، وهو بروتين يُفرز في العضلات ويكتشف الإشارة من الخلايا العصبية الحركية. الأسيتيلكولين عبارة عن ناقل عصبي (ناقل كيميائي ينطلق من الخلايا العصبية في صورة إشارات إلى الخلايا الأخرى، مثل الخلايا العصبية والخلايا العضلية)، وتطلق الخلايا العصبية الحركية الأسيتيلكولين في الموصِّل بين الخلية العصبية والخلية العضلية.
تبيِّن قياساتُ الالتقاط الرقعي أن المستقبِل يبقى مغلقًا بإحكام من دون الأسيتيلكولين. لكن عند إضافة الناقل العصبي إلى المزيج، تغيَّر سلوك المستقبِل تغيرًا كبيرًا. والمدهش أن المستقبِل لم يتحوَّل من حالة الانغلاق إلى حالة الفتح فحسب، بل إنه كان يتذبذب بين الحالتين؛ إذ يفتح لبضعة ملِّي ثوانٍ قبل أن يغلق مرة أخرى، أحيانًا لعدة مئات من الملِّي ثوانٍ. هذا مثال ممتاز على مدى إمكانية التجاهل التام من جانب نهج دراسة مجموعات الجزيئات للسلوك الذي سيبدو واضحًا على الفور من ملاحظة الجزيء الفردي. لقد كانت ستُظهر دراسة مجموعات المستقبِلات أنها ستُفتح في وجود الأسيتيلكولين، وتتجاهل تمامًا استجابةَ الفتح/الإغلاق الثنائية والعشوائية الخاصة بالبروتين.
البروتين الفلوري الأخضر
في عام ٢٠٠٨، حصل أوسامو شيمومورا — إلى جانب عالمين آخرين — على جائزة نوبل في الكيمياء نظير عمله على بروتين أحدث ثورة في الطريقة التي يتتبَّع بها علماء الأحياء والكيمياء الحيوية العمليات داخل الخلايا الفردية.
لم يكن طريق شيمومورا إلى الجائزة طريقًا عاديًّا. ففي عام ١٩٤٥، حينما كان في السادسة عشرة من عمره، وبينما كان يعمل في مصنعٍ لإصلاح الطائرات، شهدَ وميض الضوء الساطع وموجةَ الضغط المنبعثين من القصف النووي لناجازاكي، الذي كان مركزُه يبعُد عنه ١٢ كيلومترًا فقط. كانت فرص التعليم ضئيلةً في اليابان التي مزَّقتها الحرب، ولكن بحلول عام ١٩٥١، كان قد تخرَّج شيمومورا في كلية الصيدلة (على الرغم من أنه لم يكن ينوي أن يكون صيدلانيًّا)، وحصل على وظيفةٍ في مختبر كيمياء بجامعة ناجويا. اهتمَّ مشرِفه بالتألق الحيوي، ولا سيما ما يجعل نوعًا من الرخويات يتلألأ. كانت هذه المهمة على ما يبدو مستعصيةً على طالبٍ شاب ليست لديه الخبرة؛ إذ لم تتمكَّن مجموعات أخرى من العلماء البارزين من إحراز تقدُّم في هذا الأمر على الرغم من العمل الذي امتد عقودًا. لكن بعد عشرة شهور فقط من العمل، نجح شيمومورا في عزل جزيء لوسيفرين وبلورته. وذلك شكَّل ركيزةً لإنزيم اللوسيفراز المسئول عن تحفيز التفاعل الذي يبعث الضوء ويجعل الحيوان الرخو يتلألأ. انبهر به مشرِفه بشدة، وأعدَّ الترتيبات كي يحصل شيمومورا على درجة الدكتوراه على الرغم من أنه لم يسجِّل للحصول عليها. ترك العمل أيضًا انطباعًا على نحوٍ أبعدَ من ذلك؛ إذ لفت انتباه البروفسير فرانك جونسون بجامعة برينستون، الذي عرض على شيمومورا وظيفةً مهمَّتها البحثُ في كائن آخر ذي وميض أخضر وهو قنديل البحر البلوري.

كانت هذه مجرد البداية فيما يتعلَّق بتطبيقات البروتين الفلوري الأخضر. فسرعان ما تبيَّن أنه يمكن أيضًا دمجُ البروتين الفلوري الأخضر في أي بروتين آخرَ دمجًا جينيًّا مباشرًا من دون التأثير في وظيفة أيٍّ من نوعَي البروتين. وكان هذا يعني إمكانية استخدام البروتين الفلوري الأخضر لتتبُّع البروتينات داخل الكائنات الحية والخلايا الفردية.
العالِم الثالث الذي تشارك مع تشالفي وشيمومورا جائزةَ نوبل هو روجر تشين الذي درَس بنيةَ البروتين الفلوري الأخضر بالتفصيل ثم غيَّر تسلسل حامل اللون والأحماض الأمينية المحيطة الخاصة به. وبإحداث طفرات فيهما، تمكَّن من التلاعب في الأطوال الموجية الخاصة بإثارة وانبعاث البروتين، ومن ثَم إنتاج بروتينات فلورية ذات ألوان مختلفة، منها السماوي والأصفر والأزرق. وهذه البروتينات أتاحت لعلماء الأحياء بعد ذلك تتبُّع العديد من البروتينات والعمليات الديناميكية في نفس الوقت.
المجاهر النانوية
لا شك أن المجهر الضوئي أداةٌ ممتازة لدراسة العوالم الدقيقة التي تفوق قدرات أعيننا المجرَّدة. لكن للأسف، تضع الفيزياء حدًّا لما يمكن أن يُرى من خلال الضوء المرئي. وصف إرنست آبي «حد الحيود» هذا في عام ١٨٧٣ حينما أثبت استحالةَ رؤية جسمين قريبين أحدهما من الآخر بأكثر من نصف طول موجة الضوء المستخدَم لرصدهما. وبما أن الضوء المرئي تتراوح أطوال موجاته بين ٤٠٠ و٧٠٠ نانومتر، فهذا يعني — من الناحية العملية — أن التصوير المجهري الضوئي مقتصر على دراسة الأجسام التي لا يقلُّ حجمها عن ٠٫٢ ميكرومتر، وهو ما يساوي تقريبًا حجمَ فيروس معقَّد مثل فيروس الفاريولا (الذي يسبِّب الجدري). وبما أن الجزيئات الحيوية عادةً ما تكون أصغرَ من هذا الحجم بعشر إلى مائة مرة، فلن يتمكَّن التصوير المجهري الضوئي التقليدي من دراستها.

على الرغم من أن رؤيةَ جزيئات مفردة من الدي إن إيه لأول مرة أمر مدهش، فإن هذه الصور توفِّر القليل من المعلومات المفيدة بشأن الدي إن إيه. وهي، في النهاية، خرجت إلى النور بعد ثلاث سنوات من نشر بنية الدي إن إيه المعتمدة على التصوير البلوري على يدِ فرانكلين وواتسون وكريك وويلكنز. والتاريخ يبيِّن جليًّا أيُّ دراسة كان لها التأثير الأكبر. والتصوير المجهري الإلكتروني أيضًا له قيوده الفيزيائية. فالجزيئات الحيوية التي تتكوَّن من ذرات خفيفة نوعًا ما لا يمكن دراستها على نحوٍ جيد باستخدام التصوير المجهري الإلكتروني النفاذ. وكي تُلتقط صور عالية الدقة لهذه الجزيئات، فلا بد من تغليفها جميعًا بمعدنٍ ثقيل مثل الذهب أو البلاتين. كذلك يجب تثبيت العينات على أسطح مشحونة وتجفيفها؛ وهذه الظروف تحمل شبهًا طفيفًا بالبيئات الحيوية ذات الصلة. لذلك، لم يتخلَّ علماء الفيزياء الحيوية قط عن التصوير المجهري الضوئي، وحاولوا بدلًا من ذلك التوصُّل إلى طرقٍ للتحايل على حد الحيود. ونالت جهود إريك بيتزيج وستيفان هيل وويليام مورنر في هذا الشأن التقديرَ، حيث حصلوا على جائزة نوبل في الكيمياء عام ٢٠١٤ نظير «تطوير التصوير المجهري الفلوري الفائق الدقة».
هذه المجاهر الفائقة الدقة — والتي تسمَّى المجاهر النانوية في بعض الأحيان — هي تطويرٌ لأداة فعَّالة جدًّا تسمَّى التصوير المجهري الفلوري. على سبيل المثال، قد يهتم عالِم ببروتين يشكُّ أنه ضالع في إصلاح الدي إن إيه. ومن ثَم، سيوسم البروتين باستخدام وسم البروتين الفلوري الأخضر الذي يصدر ضوءًا أخضر، ومن ثَم ستضيء الكروموسومات في نواة الخلية باللون الأخضر، ما يدعم فرضيته. لكن بسبب حد الانحراف الخاص بآبي، لن يَتوصَّل مطلقًا إلى دقةٍ أعلى من ذلك.
استمر الوضع على هذه الحال إلى أن جاء بيتزيج وهيل ومورنر (وغيرهم، مع أن هؤلاء هم المعروفون فقط لحصولهم على جائزة نوبل) وبيَّنوا أن الفحص المجهري الضوئي يمكن أن يلتقط صورًا عالية الدقة للجزيئات الفردية حينما تتوافر الظروف المناسبة. وبنى بيتزيج على عمل مورنر الذي وجد ثغرة في حد آبي. كان قد أوضح مورنر أن حد الانحراف لا يستبعد رصْد الجزيئات الفردية ما دام يفصل بينها مسافات كافية. فيُنتِج الجسمان القريبان أحدهما من الآخر بأقل من ٠٫٢ ميكرومتر صورةً ضبابية أعرض من ٠٫٢ ميكرومتر، ولكن الجزيء الفلوري الفردي ينتج صورةً لا يزيد عرضُ الجزء الضبابي فيها على ٠٫٢ ميكرومتر. لذا، إذا كنت تعلم أن لديك جزيئًا واحدًا في الصورة، فمن المحتمل أن يكون هذا الجزيء موجودًا في منتصف الجزء الضبابي. وبمعالجةٍ جيدة للصورة باستخدام نظرية الاحتمال، يمكنك إعادة تكوين صورة عالية الوضوح. يكمُن السر في التوصُّل إلى طريقة لالتقاط إشارات من بضعة جزيئات فقط في المرة الواحدة بحيث لا تتداخل إشاراتها مع الصورة الضبابية الأعرض هذه. وقد ورد الحلُّ من عمل مورنر على البروتين الفلوري الأخضر. فإذا أُثير البروتين الفلوري الأخضر بالضوء الأزرق بطول موجي ٤٨٨ نانومترًا، فإنه يصدر ضوءًا أخضرَ بطول موجي ٥٠٩ نانومترات، ولكنه لا يستمر في ذلك إلى أجلٍ غير مسمًّى، وسيتلاشى الانبعاث بمرور الوقت. اكتشف مورنر أنه يمكن إعادة تنشيط الانبعاث بتسليط الضوء البنفسجي على هذا البروتين بطول موجي ٤٠٥ نانومترات.
دمج بيتزيج هذه المعلومات لبناء جهازٍ ينتج صورًا رائعة للجزيئات المفردة داخل الخلايا. أولًا، وُسم بروتين غشائي موجود في الليسوسومات ببروتين فلوري. بعد ذلك، غُمرت الخلايا في ضوءٍ أزرق حتى توقَّفت كل البروتينات عن الإشعاع الفلوري. ثم أُعيد تنشيط البروتينات بضوءٍ بنفسجي ضعيف للغاية. الفكرة في هذه الطريقة هي أن شعاع إعادة التنشيط ضعيفٌ للغاية لدرجةِ أنه لا يستأنف الإشعاع الفلوري سوى جزء صغير من البروتينات. وهذا يعني أن كل بروتين مشع ربما يبعُد مسافةً تزيد عن ٠٫٢ ميكرومتر عن أقرب بروتين مشع مجاور له، ومن ثَم يمكن التقاط صور عالية الدقة لكل بروتين منفردًا. بتكرار هذه العملية عدة مرات، وبتجميع الصور الناتجة معًا، أصبح ممكنًا أن تُلتقط صورٌ ضوئية «نانوية» فائقة الدقة تبيِّن البنيات والتفاعلات التي دون حد الانحراف الذي وضعه آبي.

على الرغم من ذلك، فإن هذه التقنيات معًا تنتج صورًا ورؤًى لا يمكن تصوُّرها حتى الآن بشأن تفاعلات الجزيئات الحيوية. فقد أتاحت لنا تصويرَ المسامِّ الفردية في سطح الخلايا، وإنزيمات بوليميراز الدي إن إيه المفردة التي تعمل بداخل جسيم التضاعف للخلية الحية، وترتيب البروتينات في سطح الخلايا العصبية. لكن الاكتشافات الأروع قد تنبُع من العمل على واحدة من أهم العمليات في الحياة؛ ألا وهي انقسام الخلية.
رؤًى فائقة الدقة لانقسام الخلية
انقسام السيتوبلازم — أو عملية انقسام الخلية — عملٌ ميكانيكي مذهل يشبه قطع بالون منفوخ إلى نصفين من دون ثقبه. وهذا التشبيه في محله تمامًا مع الوضع في الاعتبار أن بعض البكتيريا تحافظ على ضغطٍ أسموزي يزيد عن ذلك الخاص بعشرين غلافًا جويًّا. ففي كل مرة تنقسم فيها الخلية، عليها أن تعثرَ على نقطة المنتصف الخاصة بها، وتبدأ في بناء جدار فاصل (يشار إليه باسم الحاجز الفاصل) وتراقب انشقاق الأغشية، مع الحرص طوال الوقت على أن تتلقى كلُّ خلية فرعية حصةً متساوية من الآلة الخلوية ونسخة متطابقة من الجينوم. يزيد العجب من هذه العملية متى علمت أن بعض البكتيريا تنفِّذ هذه المهمة كل عشرين دقيقة.
تختلف حقيقيات النوى عن بدائيات النوى في طريقة تنفيذهما لتحدي انقسام السيتوبلازم، وتحقيقًا للإيجاز ولتوضيح الدور الذي أسهم به الفحص المجهري الفائق الدقة في فهْم هذه الآليات، سأركِّز على بروتين واحد محوري في بدائيات النوى.
الهياكل الخلوية والبروتينات الحركية
الخلايا ليست مجرَّد أكياس بسيطة من السيتوبلازم والعضيات والجزيئات الحيوية الموجودة داخل غشاء. تُنظَّم كلُّ هذه المكوِّنات حول بنية ثلاثية الأبعاد تتسم بالتعقيد والديناميكية وتتكوَّن من خيوط مترابطة تُعرف باسم الهيكل الخلوي. يوفِّر هذا الهيكل دعمًا ميكانيكيًّا للخلية، ولكنه أيضًا يُعَد بمنزلة مسار داخل الخلايا تسلُكه البروتينات الحركية بحمولاتها. تتركَّب الهياكل الخلوية في حقيقيات النوى من ثلاثة أنواع من الخيوط. الخيوط المتوسطة أقلُّها من حيث الديناميكية، والهدف منها تقديم الدعم المادي في المقام الأول، وتتكوَّن هذه الخيوط من مجموعة متنوعة من البروتينات بناءً على وظيفة الخيوط. أما النوعان الآخران فهما أُنَيبيبات دقيقة (تتكوَّن من الوحدات الفرعية لبروتين التوبولين المبلمر) وخيوط دقيقة من الأكتين.
تستخدم بروتينات الميوسين الحركية خيوطَ الأكتين لإعادة تنظيم مواضع العضيات داخل الخلية (إن الأكتين والميوسين هما أيضًا المكوِّنان الأساسيان في الأنسجة العضلية). وفي الوقت نفسه، تُستخدم شبكة الأُنَيبيبات الدقيقة لنقل الحمولات الأصغر بكثير عبر مسافات طويلة. تتسم الأنيبيبات الدقيقة (والخيوط الدقيقة) أيضًا بقطبية مميزة، ويلتزم نوعا البروتينات الحركية اللذان يجتازهما بقاعدة الاتجاه الواحد؛ حيث لا يتحرَّكان إلا في اتجاه واحد بطول الأُنيبيب. فبروتينات الداينين تحمل الشحنة من حافة الخلية باتجاه النواة في المركز، أما بروتينات الكينسين فتتولَّى رحلة العودة.
إن تعقيد أنظمة الهياكل الخلوية وحمولاتها والأدوار التي تسهِم بها في تنظيم الخلايا وانقسامها أثار مجموعةً من الأسئلة، وقد تبيَّن أن الإجابة عنها توفِّر مجالًا خصبًا على نحوٍ خاص لعلماء الفيزياء الحيوية للجزيئات الفردية.
وهنا، يتبادر سؤال إلى الذهن في الحال وهو: بما أن بروتينات الكينسين والداينين لا تتحرَّك إلا في اتجاه واحد بطول الأنيبيبات الدقيقة، فكيف تعود إلى نقاط بدايتها؟ توجد ثلاث إجابات محتملة وواضحة عن هذا السؤال، تتمثَّل الأولى في أنه بمجرد أن يصل البروتين إلى وجْهته، فإنه يمكن أن يتحلَّل ويُعاد تدوير أجزائه في أنظمة الأيض في الخلية. الإجابة الثانية تفترض أنه بمجرد أن يصل البروتين الحركي إلى وِجهته، فإنه ببساطة يخرج عن المسار ويذهب إلى حيث يكون مطلوبًا عبر الانتشار السلبي. الإجابة الثالثة تتمثَّل في أن بروتينات الكينسين تتطفَّل وتتحرَّك مع بروتينات الداينين، والعكس بالعكس. ونظرًا إلى وجود تباينات عديدة من بروتينات الكينسين والداينين في الخلية الواحدة، مع زيادة تلك التباينات حتى أكثر في عالم الأحياء برمته، فإن هذه الإجابات لا يعارض بعضها بعضًا، بل إن هناك دليلًا على وجودها جميعًا، ولكنَّ بعضًا من أكثر الدراسات إثارةً للاهتمام تركِّز على الاحتمال الثالث، وعلى الشد والجذب الواضحين بين البروتينات الحركية.
الفِخاخ والملاقط الضوئية
حتى هذا الحد في الفصل الذي بين أيدينا، وجَّهت تركيزي إلى أكثر تقنيتين مفيدتين في مراقبة الجزيئات الفردية أثناء عملها داخل الخلايا. وقد تعمَّدت تجاهُل التقنيات الأخرى الخاصة بالجزيئات الفردية؛ لأنها عادةً ما تكون مستخدَمة عند إجراء الدراسة في أنابيب الاختبار في المختبرات. لكن هناك طريقة تستخدم ما يُعرف بالملاقط الضوئية، وهذه الطريقة توفِّر لنا وسيلةً للانتقال من إجراء الدراسة خارج أنابيب الاختبار إلى إجرائها داخل الوسط الحيوي.
كانت الأشعة الجاذبة وقدرتها الواضحة على استخدام الإشعاع الكهرومغناطيسي لتحريك الأجسام المادية المحرِّكَ الأساسي لقصص الخيال العلمي. لكن يتضح الآن أن الفكرةَ ربما لم تَعُد مقتصرة على عالَم الخيال. كان قد طرح جيمس كليرك ماكسويل أساسًا نظريًّا للضوء الذي يمارس ضغطًا ماديًّا على جسمٍ ما، وذلك في عام ١٨٧٣. ولكن بما أن القوى المعنية بالغة الضَّعف، استغرق الأمر ١٣٠ عامًا أخرى قبل أن يكون بالإمكان اختبار توقعات ماكسويل والتحقق منها. وفي ستينيات القرن العشرين، ظهرت تقنيةُ الليزر، التي وُصفت حينذاك بأنها «حلٌّ يبحث عن مشكلة». فيما بعد، تبيَّن أن هذه التقنية لها استخدامات متنوعة، بدايةً من الإشارة إلى الشرائح في العروض التقديمية وحتى مسح الأكواد الشريطية والتلاعب بالجزيئات الحيوية الفردية. وبمرور الوقت، اتضح أن تقنيات الليزر، بأشعَّتها المركَّزة والمكثَّفة للغاية، وفَّرت أخيرًا الوسيلةَ التي يمكن من خلالها للضوء توليدُ الضغط الذي يمكن استخدامه بطرقٍ لم تكن متاحة حينها إلا لأبطال أعمال الخيال العلمي مثل جيمس تي كيرك.

في عام ١٩٩٣، استُخدمت الملاقط الضوئية للرصد المباشر لطريقة تحرُّك جزيء كينسين. حينها، زيَّن كاريل سفوبودا وستيفين بلوك وزملاؤهما حبيبات سيليكا بجزيء كينسين، ثم استخدموا الملاقط الضوئية لإيداعها في أنيبيبات دقيقة ثابتة. وذلك أتاح لسفوبودا وزملائه أن يتلاعبوا بالحبيبات ويقيسوا القوةَ التي ينتجها جزيء الكينسين. بذل كل جزيء قوةً تبلغ ٥ بيكونيوتن وتحرَّك بخطوات مميزة يبلغ طولها ٨ نانومترات بطول مسار الأنيبيبات الدقيقة.
وعلى مدى السنوات التي تلت العملَ الرائد لسفوبودا وزملائه، استُخدمت الملاقط الضوئية لمراقبة مجموعة من العمليات الكيميائية الحيوية، ومنها حركة المحرِّكات الجزيئية الأخرى، والبروتينات التي تشقُّ طريقها بطول الدي إن إيه، والقوى الداخلة في طي البروتينات وفكِّ طيِّها. بعد ذلك، تطوَّرت الفِخاخ الضوئية لدرجة أنه يمكن استخدامها الآن لتتبُّع الجزيئات التي تتحرَّك بطرقٍ متماثلة داخل الخلايا.
تمثَّل التحدي الأساسي لعمل الفِخاخ الضوئية داخل الأوساط الحيوية في التغلُّب على الضوضاء في الخلفية وتشتُّت الضوء المتولدَين من باقي مكوِّنات الخلية. وعندما جرى التغلُّب على تلك العقبة التقنية، لم تتغيَّر طريقة عمل التقنية.
اتضح أن الشحنات الخلوية غالبًا ما تحتوي على بروتينات داينين وكينسين حركية مرتبطة بها، ما يؤثِّر في طريقة تشغيل الخلايا لشبكات النقل الخاصة بها. والفِخاخ الضوئية في الأوساط الحيوية قد ألقت الضوءَ على الشد والجذب بين الداينين والكينسين. تضمَّنت دراسة من أولى الدراسات التي تندرج ضمن هذا النوع امتصاصَ الخلايا للحبيبات المزينة ببروتينات الكينسين والداينين (عبر عملية طبيعية تسمَّى الالتقام الخلوي) التي تلاعبت بها الملاقط الضوئية بعد ذلك. توصَّلت الدراسة إلى أن الكينسين والداينين في الوسط الحيوي يتحرَّكان بقوًى مماثلة جدًّا لتلك المؤثِّرة على حركتهما في أنبوب المختبر. لكن حينما يجرُّ البروتينان الجسيماتِ نفسها، تصبح التفاعلات أعقدَ. وعندما يسود الداينين، فإنه يحمل حمولته بطول الأنيبيب الدقيق من دون أن يكون للكينسين أيُّ تأثير واضح. فمن المفترض أن يكون الكينسين بمنزلة شريك سلبي حيث ينفصل عن الأنيبيب الدقيق ويُحمل بطول المسار. لكن حينما يكون الكينسين هو القائد، يبدو أن الداينين يبدي بعضَ المقاومة؛ حيث إنه يتحرَّك إلى الخلف بطول الأنيبيب الدقيق. والافتراض هو أن هذا التفاعل قد يساعد في توصيل الشحنات إلى مواقع محددة داخل الخلايا.
استهللت هذا الفصل بسرد فوائد الدراسات الخاصة بالجزيئات الفردية من منظور علماء الكيمياء الحيوية، والذي يركِّز على تحديد أبعاد شبكة التفاعلات بين الجزيئات. لكنني أشرت إلى الفيزياء الحيوية كذلك، وأحد الأسباب التي دفعتني لذلك هو أن التقنيات المذكورة في هذا الفصل تستخدم العديد من مبادئ الفيزياء. وهكذا، نكون قد بدأنا أيضًا في تضمين منظور عالِم الفيزياء للجزيئات الحيوية، وعلماء الفيزياء يحبون قياسَ التفاعل من حيث القوى المعنية. ومن ثَم، فإن العديد من تقنيات الجزيئات الفردية لا توضِّح لنا كيفية تفاعل الجزيئات فحسب، بل تبيِّن أيضًا القوى المشتركة في تفاعلاتها. بفضل هذه التقنيات، بتنا نعلم أن بروتين كينسين الحركي يبذل قوةً مقدارها ٥ بيكونيوتن، وأنه بالإمكان فك طي بروتين عبر سَحب طرفيه بقوة تبلغ ١٢ بيكونيوتن تقريبًا، وأن إنزيم بوليميراز الدي إن إيه يحوِّل التحلل المائي للأدينوسين الثلاثي الفوسفات إلى قوة تزيد على ٥٠ بيكونيوتن. وهذه الرؤى تغيِّر طريقةَ تفكيرنا في المواد الحيوية المجهرية، وتجعلنا ندرك أن القوة عامل يشكِّل العمليات الحيوية.