التكنولوجيا الحيوية وعلم الأحياء التخليقي
تناول الجزء الأكبر من هذا الكتاب الكيمياء الحيوية «الطبيعية». لكن كلما زادت معرفتنا بعالَم الكيمياء الحيوية، بدأنا التفكير في الكيفية التي قد نطوِّعه بها من أجل مصلحة البشر. ومن هنا نشأ مجالٌ يُطلق عليه في كثير من الأحيان التكنولوجيا الحيوية، وفي الآونة الأخيرة علم الأحياء التخليقي. لا يزال ما يحتويه هذا المجال قيدَ التعريف على الرغم من المحاولة الجيدة المبذولة من جانب جمعية لندن الملكية عندما وصفت علم الأحياء التخليقي بأنه يسعى إلى «تصميم وإنشاء مسارات أو كائنات أو أجهزة حيوية اصطناعية جديدة، أو إعادة تصميم الأنظمة الحيوية الطبيعية».
من الواضح أن النطاق الصغير جدًّا لعلم الأحياء التخليقي والمسارات والكائنات المتضمنة في هذا التعريف قائمة على المعرفة المستقاة من الكيمياء الحيوية. لكن فلسفته تتفق مع مبادئ الهندسة أكثر من اتفاقها مع مبادئ العلوم البحتة. وقد أصبح من الشائع الآن أن نرى دورة التطوير الهندسي المكوَّنة من «التصميم والبناء والاختبار والتحسين» مطبَّقة على النطاق الصغير جدًّا جنبًا إلى جنب مع الرغبة في الحصول على مخرجات نمطية وموحَّدة. وبالفعل شهدنا البداية في الأمثلة التي تناولناها بالفعل مثل البروتين الفلوري الأخضر وتفاعل البوليميراز المتسلسل وتقنيات تحديد تسلسل الدي إن إيه. ومنذ ظهور هذه التقنيات في ثمانينيات القرن العشرين، أُحرزت خطوات كبيرة، مع إنشاء الجينومات التخليقية وإعادة تشفير الشفرات الجينية وإنشاء الآلات النانوية المصمَّمة من البروتينات، وغير ذلك الكثير. ولا يوجد مقياس لمدى التقدُّم في هذا الشأن أفضل من التغيير في تكلفة تحديد تسلسل الدي إن إيه. فقد حقَّق مشروع الجينوم البشري هدفَه المتمثل في تحديد تسلسل الجينوم البشري عام ٢٠٠٣ بتكلفة بلغت ٢٫٧ مليار دولار. وبعد أقل من عشرين عامًا، توجد شركات تنجز العملَ نفسه بتكلفة تبلغ أقلَّ من ألف دولار للجينوم. وهناك ارتباط مثير للاهتمام بين انخفاض تكلفة قدرات المعالجة الحاسوبية التي لا تتوقَّف عن التوسع، وانتشار استخدام أجهزة الكمبيوتر وخفض التكاليف في التكنولوجيا الحيوية. لذا في هذا الفصل الأخير، سنلقي نظرة على المزيد من الأمثلة الخاصة بالكيمياء الحيوية التخليقية والفرص التي تحملها بين طياتها، وسندرس بإيجازٍ ما يمكن أن يبشِّر به هذا المجال الجديد.
الجينومات والكائنات التخليقية
إذا كان هناك شخصٌ يمكن أن يكون خيرَ ممثِّل لعلم الأحياء التخليقي، فربما هو كريج فينتر. إنه لم يكتفِ بقيادة فريق خاص كُلف بتحديد تسلسل جينوم بشري (والذي قد تبيَّن أنه الجينوم الخاص به)، بل إنه قبل ثلاث سنوات من الموعد المتوقَّع لإكمال هذه المهمة المنوطة بمشاريعَ ذات تمويل حكومي وضعَ أيضًا نُصب عينيه إنشاء كائنات تخليقية.
من السهل أن يتشتَّت انتباه المرء بهذا الكم الهائل من ضروب الإنجازات، وينسى أن الهدف النهائي الذي كان يسعى إليه فينتر وغيره من الباحثين في مجال علم الأحياء التخليقي، هو إنشاء كائنات حية مصمَّمة لحل مشاكل العالم الواقعي. يتمثَّل نهج فينتر في تقليص تعقيد الحياة إلى أدنى حد ممكن لها، ثم استخدام الناتج باعتباره أساسًا تُبنى عليه الكائنات الحية المصممة لإنتاج الوقود الحيوي والمنتجات الدوائية وغيرها من المواد. لكن اتخذ علماء آخرون نهجًا أقلَّ درامية وسعَوا إلى تعديل المسارات الكيميائية الحيوية في الكائنات الحية الموجودة.
سنورد مثالًا رائعًا من ورقةٍ بحثية نُشرت وأنا في خضم كتابة هذا الفصل. إنها تتناول كيف أن بكتيريا الإشريكية القولونية يمكن هندستها بحيث تمتص غاز ثاني أكسيد الكربون. معروف أن بكتيريا الإشريكية القولونية غيرية التغذية، ما يعني أنها بحاجة إلى أن تستهلك مصادرَ أخرى من الكربون العضوي كي تنمو. وعلى النقيض من ذلك، فإن النباتات وبعض أنواع البكتيريا ذاتية التغذية؛ بمعنى أنها قادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتحويله إلى كتلة حيوية عضوية. وقد رأينا في مواضعَ سابقة من هذا الكتاب كيف تحقِّق هذه الكائنات ذلك باستخدام الأنظمة الضوئية ودورة كالفن.
تطلَّبت عمليةُ تحويل بكتيريا الإشريكية القولونية من كائنات غيرية التغذية إلى كائنات ذاتية التغذية ثلاث خطوات. أولًا، لا يدخل في تكوين بكتيريا الإشريكية القولونية إنزيمات قادرة على تثبيت ثاني أكسيد الكربون، ومن ثَم أُدخل إلى بكتيريا الإشريكية القولونية جينات تُشفر الإنزيمات داخل دورة كالفن، أُخذت من بكتيريا ذاتية التغذية تسمَّى «الزائفة». ثانيًا، جرى تعطيل ثلاثة من الجينات المركزية في أيض الكربون في البكتيريا المضيفة، ومن ثَم أصبح نمو البكتيريا معتمدًا على إنزيمات غير أصلية. عندئذٍ، حدثت مشكلة لأن إنزيمات بكتيريا الزائفة — التي تعبِّر عنها جيناتٌ جديدة — غريبة على بكتيريا الإشريكية القولونية، ومن ثَم أخفقت في التكامل مع عملية الأيض لدى البكتيريا المضيفة. لم تكن هذه مفاجأة لأن البكتيريا كانت قد تطورت بحيث تنمو عبر التغذية على الغير؛ وإن توقُّع استخدامها مصدر الطاقة الجديد على الفور يشبه وضعَ وقود الديزل في محرِّك بنزين والاندهاش عندما لا يعمل.
لكن بخلاف المحرِّكات الميكانيكية، فإن الكائنات الحية بإمكانها التكيُّف مع الظروف المحيطة بها. ومن أجل دفع بكتيريا الإشريكية القولونية نحو التحوُّل إلى مصدر الوقود الجديد، جرَت ممارسة ضغط تطوري على نظام الأيض المعاد تصميمه. أُبقيت البكتيريا المعدَّلة في حالةٍ ثابتة من التجويع شبه التام، ولكن في بيئة غنية بثاني أكسيد الكربون. وفي ظل هذه الظروف، كان مصدر الكربون الوحيد لتراكم الكتلة الحيوية هو ثاني أكسيد الكربون، وكانت الوسيلة الوحيدة للوصول إليه هي إنزيمات دورة كالفن غير الأصلية. وبعد ٢٠٠ يوم من الوجود في هذه الظروف، راكمت البكتيريا إحدى عشرة طفرة، ما أتاح للإنزيمات الغريبة أن تتكامل مع مسارات الأيض لدى بكتيريا الإشريكية القولونية. كان الناتج نوعًا جديدًا من بكتيريا الإشريكية القولونية، تمخَّض من رحمِ الجمع بين الهندسة والتطوُّر الموجَّه، واعتمد اعتمادًا كاملًا على ثاني أكسيد الكربون من أجل كتلته الحيوية.
تعديل الجينات
البروتينات هي الآلات الجزيئية للحياة؛ ولذا فهي أيضًا المحور الأساسي لهندسة الجزيئات الحيوية. لكن التلاعب بها مباشرةً أمرٌ محفوف بالمخاطر. والأمر الأبسط بكثير هو تعديل الجينات المسئولة عن تشفير البروتينات ونقلِها.
تبيَّن أن هذه السِّمة مفيدة إلى أقصى حد في التلاعب الجيني، لا سيما في البكتيريا. وكثيرًا ما يدخل في تكوين البكتيريا بنيات جينية صغيرة يمكن أن تتضاعف على نحوٍ مستقل عن الدي إن إيه الكروموسومي. هذه البنيات — التي تسمَّى البلازميدات — ناقلاتٌ مفيدة تحمل المادة الوراثية إلى البكتيريا. وهذا بالضبط هو الغرض الذي تستخدمها البكتيريا لتحقيقه. على سبيل المثال، تتشارك البكتيريا جينات مقاومة المضادات الحيوية عن طريق نقل البلازميدات بعضها إلى بعض. ويستخدم العلماء هذا الميل إلى نقل البلازميدات من أجل التلاعب بجينات البكتيريا.
لإدخال جين إلى البلازميد، ينبغي تحديد موقع إنزيم القطع المطلوب أولًا. وفي الوقت الراهن، نحن نعرف حرفيًّا مئات إنزيمات القطع، والتي معظمها متوفر تجاريًّا. بعد ذلك، يُستخدم تفاعل البوليميراز المتسلسل لعمل نسخٍ من الجين ذي الصلة، وتُدرَج مواقع إنزيمات القطع داخل بادئات الدي إن إيه. عندئذٍ تندمج هذه في ناتج عمليات تفاعل البوليميراز المتسلسل. وحينها تقطع إنزيمات القطع البلازميدات والجين المتضاعف الآن بفعل تفاعل البوليميراز المتسلسل. ستحتوي أطراف القطع لكل أجزاء الدي إن إيه هذه على تسلسلات متبقية، كلها تحتوي على تسلسلات تكميلية تساعدها على أن يرتبط بعضها ببعض. تتحقَّق الخطوة الأخيرة الخاصة بربط أجزاء الدي إن إيه عبر إضافة إنزيم ليجاز الدي إن إيه. عندئذٍ، تُحث البكتيريا (في عملية تسمَّى التحوُّل) على تقبُّل البلازميد الذي يحتوي على الجين الجديد.
ظلت طريقةُ إنزيمات القطع هذه الخاصة بتعديل الدي إن إيه مستخدمةً لعدة عقود، ولكنها مرهقة ومحدودة. لا شك أن إنزيمات القطع مفيدةٌ إلى أقصى حد، ولكنها تشبه إلى حدٍّ ما امتلاك مئات من خيارات «القص واللصق» في برنامج معالجة النصوص الخاص بك، وكل خيار محدد لكلمة واحدة فقط. لكن توافر أداة أكثر تنوعًا للقص واللصق سيفيد أكثر بكثير.
تقنية كريسبر
في السنوات الأخيرة، ظهرت تقنية جديدة قوية لتعديل الجينات تسمَّى كريسبر (وهو اختصار للتكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة المنتظِمة التباعد). وعلى خلاف إنزيمات القطع، فإنها تتيح وظيفتي «القص واللصق» و«البحث والاستبدال» بنحوٍ أو بآخر في أي جزء من تسلسل الدي إن إيه داخل جينوم الخلية. نتائج هذه التقنية هائلة. جرى استخدام التقنية بالفعل في إزالة جينات فيروس نقص المناعة البشرية من خلايا بشرية مصابة، وإزالة الجينات المتحورة التي تسبِّب المرض، وتحفيز الجين الخاص بالنسخة الجنينية من الهيموجلوبين، وعلاج المصابين بداء الخلايا المنجلية، وتعديل أعضاء الحيوانات بهدف جعلها قابلةً للزرع في الإنسان.
بدأت قصة تقنية كريسبر عام ١٩٨٧ عندما لاحظ يوشيزومي إشينو وزملاؤه تكرار تسلسلات دي إن إيه متناظرة مكوَّنة من ثلاثين قاعدة تقريبًا في بكتيريا الإشريكية القولونية. بجانب التسلسلات المتناظرة، كانت هناك تسلسلات شديدة التباين ذات نمط صغير يمكن تمييزه. لم يكن لدى الفريق أيُّ فكرة عن الغرض من تلك السِّمة الغريبة في الجينوم، لكنهم نشروا النتيجة، ثم لم يفكِّروا كثيرًا في الأمر. وعلى مدى العَقد التالي أو نحو ذلك، ظهرت أنماطٌ مماثلة في أنظمةٍ أخرى من بدائيات النوى، ومن ثَم زاد الاهتمام بها. أتى الأمر الذي ساعد في توضيح وظيفتها من مقارنة مناطق التسلسل المتباينة بتسلسلات دي إن إيه معروفة أخرى وتبيَّن أنها متماثلة مع جينات العاثيات. ومن هنا، بدأت نظرية في الظهور مُفادها أن تسلسلات كريسبر هذه كوَّنت جزءًا من نوعٍ ما من نظام مناعة تكيفي. اختُبرت النظرية حينما أُدخل دي إن إيه عاثية معينة في المنطقة المتباينة، وكما كان متوقعًا، فإن البكتيريا التي تحتوي على منطقة كريسبر المحدَّدة حديثًا هذه أصبحت مقاومة لتلك العاثية.
بمجرد أن أصبحت آليات كريسبر وكاس معروفة، أدرك الباحثون — لا سيما جنيفر داودنا، وإيمانويل شاربنتيه (اللتان حصلتا معًا على جائزة نوبل في الكيمياء عام ٢٠٢٠) وفيرجينيوس شيكشنيس — أنه يمكن برمجة النظام وهندسته بحيث يقطع أيَّ تسلسل للدي إن إيه، وهذا بمجرد استبدال تسلسل كان تكميليًّا لجين معيَّن بالتسلسل الفاصل الطبيعي. وذلك أتاح لهم الدقة في استهداف أي جين وتعطيله. ولذا، فإن التقنية مثالية في تعطيل أي جين به خلل. لكن كيف هو الحال إذا كنا نريد استبدال تسلسل سليم بذلك الجين؟ لتحقيق ذلك، عدَّل العلماء عمليةً كيميائية حيوية طبيعية تسمَّى الإصلاح الموجَّه بالتماثل.
يسهُل إصلاح القطع في الشريط المنفرد من الدي إن إيه؛ يعمل الشريط التكميلي بمنزلة جَبيرة تُمسك كل شيء مع بعضه إلى أن يصلح إنزيم ليجاز القطع. لكن القطع في الشريطين، والذي كثيرًا ما تتسبَّب فيه عوامل بيئية مثل الأشعة فوق البنفسجية أو المواد الكيميائية أو تقنية كريسبر، أشقُّ بكثير من القطع في شريط واحد. لا توجد صعوبة في إعادة ربط الأطراف، لكن ماذا لو كان هناك أكثر من قطع وفُقد جزء من الدي إن إيه؟ حينها، قد يؤدي القطع إلى تضرر أحد الكروموسومات وإعادة تنظيم الجينوم وجينات معطَّلة أو غير منتظمة، ما يؤدي إلى موت الخلايا أو قد يسوء الأمر وتتحوَّل إلى خلايا سرطانية. ما تحتاج إليه الخلية هو نسخة احتياطية من التسلسل المفقود بحيث يمكن أن تستند إليه عملية الإصلاح، وهو ما يمكن أن يوجد في الغالب في كروموسوم آخر. تتعرَّف الآلة الخلوية على المناطق المتماثلة، ثم تضاعف أي أجزاء مفقودة بناءً على الكروموسوم السليم، قبل وضعها في القطع.
وهذا يعني أنه إذا أردنا إدخالَ جين في جينوم، فإننا ببساطة نكيِّف نظام كريسبر لقطع جزء من الدي إن إيه، ثم نغمر الخلية بنسخٍ من الجين الذي نريد إدخاله، ونحصرها بين المناطق المتماثلة مع التسلسلات على جانبي القطع. ومن المرجَّح أن يستخدم بعد ذلك نظام الإصلاح الموجَّه بالتماثل الدي إن إيه المحقون اصطناعيًّا لإصلاح القطع المحفز بنظام كريسبر.
أطفال معدَّلون جينيًّا
رغم كل التطبيقات الواعدة التي يوفِّرها علم الأحياء التخليقي، بدايةً من الكائنات التخليقية التي يمكن أن تُوجد مصادر مستدامة من الوقود وحتى تعديل الجينات المعطوبة، فإنه توجد مشكلاتٌ أخلاقية خطِرة نحتاج إلى التعامل معها، وتطبيقاتٌ سيئة لهذه التقنيات.
في نوفمبر ٢٠١٨، صَدم هه جيان كوي — من الجامعة الجنوبية للعلوم والتكنولوجيا بمدينة شنجن بالصين — العالَم عندما أعلن عن ميلاد فتاتين توأمين ذواتي جينات معدَّلة. كان هدفه تحصين الفتاتين من الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية. وتحقيقًا لهذا الهدف، فقد خصَّب بويضتين من متبرِّعة أبدت موافقتها باستخدام السائل المنوي لشريكها.
فيروسات معدَّلة جينيًّا
وبحسب قول فيمر نفسه، «لم تَعُد هناك حاجة إلى الفيروس الحقيقي حتى تجعله يعمل وينتشر». فكل ما تحتاج إليه هو تسلسل الجينوم وتسلسلات الدي إن إيه التي يمكنك طلبُها عبر الإنترنت وتسلُّمها من البريد، وعدد من الفنيين المهرة.
ضع في اعتبارك بعد ذلك التطورَ الهائل الذي حدث في القدرات التكنولوجية الحيوية منذ عام ٢٠٠٢. ففي عام ٢٠٠٥، أعاد العلماء من مركز مكافحة الأمراض بالولايات المتحدة تخليقَ فيروس الإنفلونزا الإسبانية الذي تسبَّب في جائحة عالمية في عام ١٩١٨، وفي عام ٢٠١٨ أنشأ فريق كندي فيروس جدري الخيول — وهو مشابه لفيروس الجدري — من دي إن إيه طُلب عبر البريد. لا يشكِّل جدري الخيول خطرًا على صحة الإنسان، ولكن بمعرفة طريقة تخليقه، وهو فيروس معقَّد (حيث إن جينومه أكبر بنحو عشرين ضِعفًا من جينوم فيروس شلل الأطفال)، فإن هذا يقرِّبنا أكثرَ من إنشاء جدري تخليقي.
هذه التطورات تجعل الإطلاق العرَضي أو المتعمَّد لمسبِّبات الأمراض الخطِرة احتمالًا حقيقيًّا. ومن ثَم، هناك حاجة ملحَّة لفرض أطرٍ تنظيمية للسيطرة على هذه التكنولوجيات الناشئة. يوجد بالفعل قدْر من التنظيم الذاتي. فشركات التكنولوجيا الحيوية تفرز طلبات الدي إن إيه بحيث لا ترسل تسلسلات معينة خطِرة. أتى هذا الإجراء عقِب واقعةٍ حدثت في عام ٢٠٠٦ حين حصل صحفيون من صحيفة «ذا جارديان» على تسلسل الجدري، وطلبوا جزءًا من الدي إن إيه الخاص به. لكن هل هذا التنظيم الذاتي كافٍ؟ تُحفظ مسبِّبات الأمراض الخطِرة في منشآت شديدة الانضباط وعالية التأمين. لكن الأمر استغرق مني نحو خمس دقائق حتى أعثر على التسلسل الكامل لجينوم فيروس الجدري على قاعدة بيانات متاحة للجميع. واجهت العصورُ السابقة المخاطرَ الناجمة عن التكنولوجيا التي ابتُكرت فيها، وكان علينا التعامل مع العواقب. وبما أننا نعيش في عصر علم الأحياء، فإننا بحاجة إلى دراسة الآثار المترتبة على ما لدينا من معارفَ، ومعرفة كيف يمكننا التحكُّم في الوصول إلى المعلومات الحيوية. هل ربما ينبغي علينا فرض قيود على المخطَّطات التي يمكن استخدامها لبناء كائنات خطِرة مثل القيود المفروضة على تلك الكائنات نفسها؟
في عام ٢٠١٢، ألقت البروفسير آن جلوفر، كبيرةُ المستشارين العلميين لرئيس الاتحاد الأوروبي، كلمةً في المنتدى العالمي للتكنولوجيا الحيوية التابع لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. ذكرت فيها كيف أن القرون تكتسب أسماءها من التطورات العلمية الحادثة فيها؛ لقد كان القرن التاسع عشر هو عصر الهندسة؛ حيث إنه شهِد تطوير تكنولوجيات غيَّرت المجتمع، مثل قطار ستيفنسون البخاري، وسيارة بنز، وراديو ماركوني. وفي القرن العشرين، كان هابر وبوش السببَ وراء حدوث انفجار سكاني عبر تطوير وسيلة للإنتاج الواسع النطاق للنشادر، ومن ثَم المخصِّبات الزراعية؛ وأنشأ فلوري وتشاين وفليمنج دواءً غيَّر الطريقةَ التي نتعامل بها مع أنواع العدوى؛ ووضعت ماري كوري نظريةَ النشاط الإشعاعي؛ وقدَّم تيم بيرنرز-لي لنا شبكةَ الويب العالمية، وبذلك أصبح القرن العشرون هو عصر الكيمياء والفيزياء. ولما بزغ فجر القرن الحادي والعشرين، حُدد تسلسل الجينوم البشري ما يبشر بأنه «عصر علم الأحياء»، في ظل حدوث توسُّع كبير ومستمر في التكنولوجيات القائمة على الكيمياء الحيوية التي تهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع (سواء للأفضل أو للأسوأ)، تمامًا كما فعلت السيارات والمضادات الحيوية وشبكة الإنترنت في القرنين الماضيين.