«عثمان» وحده بين العمالقة
نظر «عثمان» إلى نفسه في المرآة، ثم ابتسم ابتسامةً عريضة. كان يلبس فانلة نصف كُمٍّ، وبنطلون «جينز»، وحذاءً خفيفًا، وحول وسطهِ حزامٌ عريض. في نفس الوقت كانت جيوب البنطلون تحمل كلَّ ما يحتاجه في لحظة الصدام. قفز مرةً أو مرتين أمام المرآة، ثم اتجه إلى النافذة العريضة، وألقى نظرةً على المياه الزرقاء في البحر «الأدرياتيكي».
كان «عثمان» وحده، وكانت هذه أول مرة يقوم فيها بمغامرة بمفرده. هكذا كانت تعليمات رقم «صفر»، بجوار أنَّ المغامرة لا يُمكن أن يقوم بها مجموعة.
تذكَّر «عثمان» لحظة الاجتماع في المقر السِّري، حيث كان الشياطين جميعًا يجلسون في القاعة في انتظار حضور رقم «صفر». لم يكن أحدٌ منهم يعرف طبيعة المغامرة. غير أنَّ الجميع كانوا في انتظار أن يبدءوا المغامرة الجديدة؛ فهم يعتبرون المغامرة نوعًا من الرحلة الممتعة.
في ذلك اليوم، كانت أول جملة قالها رقم «صفر»: إنَّ مغامرتنا الجديدة لن يقوم بها مجموعة كالعادة … فهي في مرحلتها الأولى تحتاج إلى فرد واحد.
وتذكَّر «عثمان» أنَّ الشياطين قد التقتْ أعينهم لحظتها في دهشة … إلَّا أنَّ كلمات رقم «صفر» بعدها أزالت دهشتهم، فقد قال رقم «صفر»: إنَّ هناك عصابةً جديدةً ظهرت في إيطاليا، وقد حاول عملاؤنا هناك أن يعرفوا شيئًا عنها، إلَّا أنهم لم يستطيعوا جَمْعَ معلوماتٍ كثيرةٍ؛ فحتى الآن لا نعرف أين مقرها بالضبط. إنَّ كلَّ المعلومات التي لدينا هي أنَّ بعض أفراد العصابة يسهرون في كازينو اسمه كازينو «السمكة»، ويقع في مدينة «أنكونا» على البحر «الأدرياتيكي».
لقد ارتكبت هذه العصابة الجديدة التي تُسمِّي نفسها عصابة «اليد الحديدية» عددًا من الجرائم، كان آخرُها مع بعض الأثرياء العرب الذين ذهبوا في الصيف لقضاء بعض الوقت هناك.
يومها، كما يذكر «عثمان»، كان كلٌّ من الشياطين يتمنَّى أن يكون هو صاحب المغامرة، وقد نظر البعض إلى «أحمد» على أنه سوف يقوم بها، ولأنه يكاد يكون شريكًا في كل المغامرات، إلَّا أنَّ دهشتهم كانت شديدة عندما أعلن رقم «صفر» أنَّ «عثمان» هو الذي سيقوم بالمغامرة. ثمَّ حدَّد الزعيم ما هو مطلوب من «عثمان» بالضبط، يومها قال: إنَّ المطلوب أن يكون «عثمان» واحدًا من أفراد هذه العصابة، فإذا نجح فإنه سوف يضع نهايتَها.
داعب هواءُ الليل وجهَ «عثمان»، فتنفَّس في عمقٍ … إنَّ عليه الآن أن يُغادرَ فندق «الشاطئ» الذي ينزل فيه، ويذهب إلى كازينو «السمكة» حيث يُمكن أن يلتقيَ هناك بأحدِ أفراد العصابة.
فكَّر «عثمان» وهو لا يزال ينظر إلى مياه البحر «الأدرياتيكي» التي كانت تلمع تحت الأضواء. قال في نفسه: إنني لا أعرف أيَّ أحد من أفراد العصابة. ولم يستطع عملاء رقم «صفر» أن يتوصَّلوا لأي شيء. إنها مهمة صعبة، لكنَّها مثيرة في نفس الوقت؛ لأنني أبدأ من الصفر.
ابتسم «عثمان» مرة أخرى، ثم أغلق النافذة وغادرَ الغرفة مباشرة.
كان فندق «الشاطئ» يقع على شاطئ البحر مباشرة، ولم يكن فندقًا كبيرًا. ولذلك تميَّز بنظافته وبقلَّة عدد النزلاء. كان يملكه ويُديره رجلٌ عجوز يُدعى «براتي». كان رجلًا خفيفَ الظلِّ. ولذلك استطاع «عثمان» أن يَعْقِدَ معه صداقةً سريعةً.
كانت الساعة تقترب من العاشرة عندما ظهر «عثمان» في صالة الفندق. كان العجوز «براتي» يجلس وحيدًا وهو يحتسي كوب الشاي. اقترب منه وألقى تحية المساء، فغطَّت وجه «براتي» ابتسامةٌ طيبةٌ، وقال: إلى أين أيها الصديق الأسمر؟
ابتسم «عثمان» وهو يقول: سوف أتجوَّل في المدينة قليلًا، وربما سهرتُ بعض الوقت.
قال «براتي»: لن تجد في المدينة شيئًا في هذه الساعة؛ فالناس هنا ينامون مُبكِّرين ليستيقظوا مُبكِّرين أيضًا.
صمت «براتي» لحظةً ثم أضاف: ربما تجدُ سهرةً طيبةً في كازينو «السمكة» القريب، ولو أنَّ بعضَ الرجال يُثيرون الشغب في بعض الليالي!
ابتسم «عثمان» وقال: لن أبقى هناك طويلًا، إنني فقط أريد أن أعرف مكانَه.
قال «براتي»: هل أنتظرك حتى تعود؟
ردَّ «عثمان»: لا داعي … فمعي مفتاح الباب الخارجي.
تمنَّى «عثمان» ﻟ «براتي» نومًا هادئًا، وتمنَّى «براتي» ﻟ «عثمان» سهرةً طيِّبةً. بعدها غادر «عثمان» الفندقَ، وعندما أغلق الباب خلفه كان الهواء القادم من البحر مُنعِشًا تمامًا، حتى إنه شعر بنشاطٍ مفاجئ. ألقى نظره في اتجاه الكازينو الذي لم يكن يبعُد كثيرًا، وتمنَّى لو أنَّ الشياطين معه في هذا المكان الهادئ الجميل.
قطع «عثمان» المسافةَ القليلةَ إلى كازينو «السمكة» في هدوء. وعندما اقترب وصل إلى سمعه موسيقى صاخبة. قال في نفسه: إنها صاخبة كالذين يسهرون معها.
اقترب من باب الكازينو المُغلَق، ودقَّ الجرس، فانفتحت طاقةٌ صغيرة، ظهر منها وجه الحارس الذي قال: ماذا تريد؟
ردَّ «عثمان»: أريد أن أدخل.
سأل الحارس: ماذا تعمل؟
ردَّ «عثمان»: إنني سائح.
علَتْ وجهَ الحارسِ ابتسامةٌ عريضةٌ، ثم فتح الباب، تقدَّم «عثمان»، فأغلق الحارس الباب مرةً أخرى، ارتفع صوت الموسيقى الصاخبة أكثر حتى إنَّ أحدًا لا يستطيع أن يسمع شيئًا غيرها. مشى في رَدْهةٍ طويلةٍ يسبقُه الحارس. كانت الرَّدْهةُ ضعيفةَ الإضاءة، لكنَّه استطاع أن يلمح بابًا جانبيًّا على يمينه. كانت عيناه تحاولان رصدَ كلِّ شيء. فمن يدري … قد يحتاج إليه بعد ذلك … وقف الحارس ثم فتح بابًا، فانساب الضوء وكأنه عمود من النور يغرق في الدخان. وارتفع صوت الموسيقى بطريقة غريبة. ومعها كان ارتفاع الضحكات.
خطا «عثمان» خطوةً إلى الداخل، لكن المفاجأة كانت غريبة، فقد غطَّتْ وجهَه قطعةُ كِريمة ضخمة جعلته لا يرى شيئًا.
لا يدري «عثمان» لماذا أخفى ابتسامته في هذه اللحظة السريعة؛ فقد تذكَّر بعضَ الأفلام الكوميدية التي يشاهدها … والمطاردات بالكِريمة والجاتوه. وتذكَّر «شارلي شابلن» في بعض أفلامه، لكنَّه عاد إلى نفسه بسرعة، فقد انفجرت ضحكات عالية. فعرف أن منظره الآن يُثير الضحكَ؛ فالكِريمة البيضاء تُغطِّي وجهَه الأسمر. رفع يده بسرعة، وأزاح الكِريمة التي كانت مُثلجةً عن عينيه، كانت كلُّ الأصابع تشير في اتجاهه، والضحكات لا تنقطع.
ووسط الضجيج سمِعَ من يقول: لقد كانت رميةً صائبةً يا «جاكو»!
فهم «عثمان» بسرعة أن من رمى الكِريمةَ يُدعى «جاكو». تجوَّل بعينيه بين الجميع. كان هناك شابٌّ مفتولُ العضلات يقفُ في غير اكتراثٍ وقد وضع يديه في وسطه، بينما البعض حوله، فيبدو وكأنه زعيم. لا يدري «عثمان» لماذا أحسَّ أن هذا هو «جاكو»، وأنَّ عليه ألَّا يُضيِّعَ الفرصة.
كان وجه «عثمان» مثيرًا للضحك فعلًا، فقد كان وجهه الأسمر مُختفيًا تحت طبقة الكِريمة، ولا تظهر سوى عينيه اللامعتين …
اقترب منه أحد الرجال ضاحكًا يقول: أنت لذيذ بالكِريمة!
في لحظةٍ كان «عثمان» قد جمع الكِريمة بكلتا يديه من فوق وجهه، ثم غطَّى بها وجهَ الرجل، عندئذٍ ضحِكَ الحاضرون، في نفس اللحظة تحرَّك فيها الشابُّ المفتولُ العضلات من مكانه، وفكَّر «عثمان» بسرعة واستعد. ارتفع صوتٌ من خلف الشاب يقول: دعه يا «جاكو»، سوف أقوم أنا بتأديبه!
تأكَّد «عثمان» أنَّ الشابَّ هو «جاكو»، خصوصًا عندما رفَعَ «جاكو» يدَه مُشيرًا بأنه هو الذي سوف يقوم بالمهمة. اقترب «جاكو» أكثر، كانت السخرية تملأ نظراتِه وهو يقترب. وقف في النهاية أمام «عثمان» ونظر لحظة، ثم ابتسم ابتسامةً صغيرةً وهو يقول: معذرةً، لكنك أخطأتَ عندما دخلت في تلك اللحظة!
ومع نهاية كلماته، كانت يدُه تنطلق لتسدِّدَ ضربةً إلى «عثمان»، إلَّا أنَّ «عثمان» كان يقِظًا تمامًا؛ فقد استطاع أن يتفادى الضربة ليُسدِّد ضربةً قويةً إلى «جاكو» جعلتْه ينحني، فعاجله «عثمان» بضربة أخرى. كانت الضربات سريعةً ومتلاحقةً، حتى إنَّ «جاكو» لم يتمكَّن من صدِّ الهجمات المتتالية.
وبدأ «جاكو» يتراجع إلى الخلف من تأثیر ضربة «عثمان» الأخيرة … لكنَّ «عثمان» لم يُعطِه الفرصة، فقد تابعه، وضربه ضربةً قويةً جعلته يتراجع مندفعًا، حتى اصطدم بالحائط.
فجأة شعر «عثمان» أن ثقلًا هائلًا قد سَقَطَ فوقه، ودون أن ينظر كان قد أيقنَ أن أحدَ رجال «جاكو» قد دخل المعركة.
وكان «عثمان» قد سقط على الأرض، لكنَّه استعاد وقوفه بسرعة، غير أنَّ ضربةً قويةً جعلته يترنَّح. أعطى نفسه فرصةً للتراجع إلى الخلف مسافةً كافيةً تجعله بعيدًا عن العملاق الذي استطاع أن يراه لأول مرة، وقبل أن يتحرَّك العملاق من مكانه كان «عثمان» قد طار في الهواء وضربه ضربتين متتاليتين جعلتاه لا يستطيع التصرُّف، ثم طار في الهواء کأروع لاعب كاراتيه وضربه ضربةً جعلته يترنَّح.
كانت فرصة «عثمان» في أن يُلاحقه بالضربات؛ حتى لا يستعيدَ توازنه وحتى لا يملك لحظةً للتفكير. طار «عثمان» في الهواء كسهمٍ مندفعٍ، ثم اصطدم بالعملاق في صدره، فتراجع بقوة حتى اصطدم ببعض الرجال، فوقع بهم على الأرض.
كانت الصالة في كازينو «السمكة» قد تحوَّلتْ إلى حلبةٍ للصراع، غير أنَّ أحدًا لم يشترك غير «جاكو» والعملاق.
كان الجميع يشاهدون ما يحدث. وقد توقَّفت الموسيقى، ولم تكن هناك أصواتٌ غير أصوات المعركة الشرسة التي كان أحد أطرافها «عثمان». وقف ينظر إلى الجميع وقد تحفَّز الآن أكثر … ألقى نظرةً سريعةً في اتجاه «جاكو»، كان أحد الرجال يحاول إفاقته. أمَّا العملاق فلم يتحرَّكْ من مكانه، وكان الجميع يراقبونه وهو مُلقًى على الأرض وكأنه ثور.
كان الصمت يسود المكان، وكان «عثمان» قد أسند ظهره إلى الحائط حتى لا يفاجئه أحد من الخلف … في نفس الوقت، كان يفكِّر في استخدام قنابل الدخان الصغيرة لكنَّه لم يفعل؛ فقد رأى في وجوه الجميع إعجابًا به.
لكن اللحظة التالية كانت مفاجأةً لم يتوقَّعها.