معركة ساخنة في كازينو «السمكة»!
فُتحتْ طاقةٌ صغيرةٌ في الجدار المقابل له، وظهرت فُوَّهةُ مسدس. تعلَّقت عينا «عثمان» بالطلقة، وانتظر. إنَّ المسدسَ الذي ظهر الآن لا بُدَّ أنه سيُطلِق طلقةً تكون فيها نهايته.
فكَّر بسرعة: هل يَستخدم قنابل الدخان؟ أم يستخدم مسدسه، وهو يستطيع ذلك في لمح البصر؟ أو ينتظر ليرى ماذا سيحدث؟
قرَّر في النهاية أن ينتظر، لكنَّه في نفس الوقت كان يقِظًا تمامًا حتى لا يُفاجَأ بالطلقة … في نفس اللحظة تحرَّك «جاكو» من مكانه بعد أن أفاق. مسح وجهه بمنديل، ثم ألقاه بعيدًا. كانت عيناه حادَّتَين، وكان ينظر إلى «عثمان» في قسوةٍ. تقدَّم خطوةً أو خطوتين، ثم توقَّف. كان جميع الموجودين في صالة الكازينو يراقبون ما سوف يحدث …
فكَّر «عثمان»: هل رأى أحد من الموجودين فُوَّهةَ المسدس عندما ظهرت في الطاقة، فلقد شغلتهم المعركة جميعًا، أو إنَّ هذه مسألة عادية … لكنَّه لم يستطع أن يحدِّد بالضبط.
تحرَّك «جاكو» من جديد، ثم فجأة صرخ صرخة وحشية، وطار في الهواء في اتجاه «عثمان». تحفَّز «عثمان» في انتظار أن يصل إليه … لكنَّ ضوءَ الطلقةِ لمع في الطاقة وسقط «جاكو» بعدها كالعُصفور.
راقب «عثمان» ذلك في دهشة، وقال في نفسه: ربما يكون كازينو «السمكة» أحد أوكار العصابة!
لم يتحرَّك أحدٌ من الموجودين. فجأة، فُتح الباب، وظهر رجل أشيب، نحيل القوام، تظهر على وجهه ابتسامة هادئة. صفَّق بيديه، فعادت الحياةُ إلى الصالة من جديد … ثم غرقت في الموسيقى وبدأ الساهرون يصخبون، وكأنهم عرائس تُحرِّكها خيوط.
في لحظة تقدَّم اثنان وحملا «جاكو» واختفيا به. شَعَرَ «عثمان» أنَّ ذهنَه يكاد يتوقَّف … فهو لم يكن يتوقَّع أبدًا هذه الأحداث. عندئذٍ اقتربَ الرجل منه، ثم مدَّ يده يصافحه، وقد ظلَّت الابتسامة الهادئة تُغطِّي وجهه. اضطُرَّ «عثمان» أن يبتسم ومدَّ يده ليُصافح الرجل، إلَّا أنَّ ضحكةً رنَّت في الصالة جعلت «عثمان» يتوقَّع شيئًا، ولذلك شدَّ قبضة الرجل في قوة، حتى إنَّ ابتسامة الرجل اتسعت حتى غطَّت وجهه. في نفس الوقت، اتجهت عينا الرجل إلى مصدر الضحكة التي اختفت في لحظتها …
قال الرجل في هدوء: دعني أدعوك إلى شراب مُثلج!
ردَّ «عثمان» يشكره رافضًا، فقال الرجل: إني أودُّ التحدثَ معك!
فكَّر «عثمان» بسرعة: ربما يكون الرجل أحدَ المهمين في العصابة، وتكون هذه فرصة جيدة.
نظر «عثمان» إلى الرجل لحظةً، ثم قال: اسمي «لو» من جنوب أفريقيا.
قال الرجل: أهلًا بك، يمكن أن تدعوَني «توب».
تصافحا مرةً أخرى، وقال «توب»: هل تقبل دعوتي لنشرب مشروبًا مثلجًا؟
ردَّ «عثمان»: نعم!
تحرَّك الرجل إلى منضدة بعيدة حولها عدد من المقاعد، وعندما وصل إليها جذَبَ مَقْعَدًا، ثم جلس. فعل «عثمان» نفس الشيء. نظر «توب» إلى الجرسون، فاقترب مسرعًا. طلب «عثمان» عصيرًا طازَجًا، وطلب «توب» قهوة. وعندما اختفى الجرسون قال «توب»: ماذا تفعل هنا يا عزيزي «لو»؟
ردَّ «عثمان»: أبحث عن عمل.
قال «توب»: وماذا تعمل؟
ردَّ «عثمان»: لقد كنت ملاكمًا، وعملت بعض الوقت في الميناء.
ابتسم الرجل وهو يقول: ماذا كنت تعمل؟
نظر له «عثمان» لحظة، ثم قال: حمَّالًا.
رفع الرجل حاجبيه في دهشة، ثم سأل: ولماذا لم تفكِّر في احتراف الملاكمة؟ إنَّك تُجيدها تمامًا!
ابتسم «عثمان» وقال: لا أظنُّ أنني أفكِّر في ذلك. إنني فقط أريد أن أعمل.
هزَّ الرجل رأسه، ثم قال: يمكن أن تجدَ عملًا هنا سريعًا.
سكت «توب» لحظة، ثم أضاف: أين تقيم؟
ردَّ «عثمان»: في فندق «الشاطئ».
اقترب الجرسون، فوضع العصير أمام «عثمان»، والقهوة أمام «توب»، ثم انصرف. رشف الرجل رشفة قهوة، ثم قال: ومتى تريد أن تعمل؟
ابتسم «عثمان» وقال: من الآن!
نظر له «توب» لحظةً ثم ضحِكَ ضحكةً مفاجئةً جعلت «عثمان» يؤخذ للحظة، ثم يبتسم ابتسامة عريضة، وكأنَّ الضحكةَ كانت شفرة، فقبل أن تختفيَ ضحكة «توب» كان «عثمان» والمقعد الذي يجلس فوقه قد أصبحا في نهاية الصالة، حتى اصطدم المقعد بالحائط، غير أن «عثمان» كان قد أدرك كلَّ شيء بسرعة، فاستطاع أن يحتفظَ بتوازنه، ولم يسقط على الأرض … نظر له «توب» من بعيد، وكانت الموسيقى قد توقَّفت، ثم قال: أنت رائع يا سيد «لو»، فدعني أهنِّئك!
اقترب «توب» من «عثمان» لكنَّه لم يقِفْ، فقد ظلَّ جالسًا فوق المقعد. ضحك «توب» ضحكةً عالية أخرى، وأضاف: أنت شديد الذكاء يا صديقي «لو»!
فهم «عثمان» ما يعنيه «توب» لأنه لو وقف لكان قد لقيَ حركةً مفاجئة من «توب» … وبقاؤه فوق المقعد لا يُعطي «توب» هذه الفرصة.
قال «توب»: يبدو يا «لو» … أننا سوف نتفق سريعًا.
ظلَّ «عثمان» فوق مَقْعَده، حتى أصبح «توب» بعيدًا عنه. عندما عاد إلى مكانه وجلس، قال «توب»: إنني أعتذر لك، فلقد كان من الضروري أن أُجريَ معك اختبارًا قبل أن يُصبحَ اتفاقًا نهائيًّا!
كان «عثمان» ينظر إليه بابتسامة صغيرة، فقال «توب»: هيَّا اشرب عصيرك حتى تخرج.
سأل «عثمان» بهدوء: إلى أين؟
ابتسم «توب» وأجاب: منذ الآن، ثق بي تمامًا. إنني في حاجة إليك، وسوف تجد كلَّ ما تريد.
رفع «عثمان» كوب العصير، ثم شربه دفعةً واحدةً. وبرغم أنه لا يفعل ذلك أبدًا، إلَّا أنَّه قصد ذلك أمام «توب» حتى يعطيَ لنفسه صورة مخالفة.
وقف «توب» وهو يُلقي بقية كوب القهوة في فمه، ثم أخذ طريقه إلى الخارج فتبعه «عثمان».
كانت الأحداث تجري بسرعة، فلم يكن «عثمان» يتوقَّع كلَّ ما حدث، وهو الآن يمشي بجوار «توب»، لا يدري ماذا يُمكن أن يحدث له. كان هواء الليل مُنْعِشًا تمامًا، وأمواج البحر تضرب الرصيف في رقة.
قال «توب» بعد لحظة: متى تنوي العودة إلى بلدك يا «لو»؟
أجاب «عثمان» بسرعة: لا أظن أنني أفكِّر في ذلك الآن، وقد أفكر فيه مستقبلًا.
ظلَّا يسيران في صمت، ولم يكن يسمع إلَّا صوتَ ارتطامِ موج البحر بالرصيف. كان «عثمان» يقظًا تمامًا، فهو يخشى أيَّ حركةٍ مفاجئة يُمكن أن تحدث … لقد كان يُفكِّر: هل تصرُّفي سليم في الخروج مع هذا الرجل الذي لا أعرفه، في بلد لا أعرفه، خصوصًا بعد ما حدث؟ وهل يكون «توب» هو الهدف الذي أسعى إليه؟ وهل يمكن أن أنضمَّ للعصابة بهذه السرعة؟!
قطع «توب» أفكار «عثمان» وهو ينظر إليه قائلًا: ينبغي أن نعود الآن، وأن نذهب إلى فندقك مباشرة، وسوف يكون لنا لقاءٌ على الغداء.
نظر له «عثمان» لحظة، ثم قال: أين؟
قال «توب»: سوف تصلك رسالةٌ أُخبرك فيها بالمكان.
لم يردَّ «عثمان»، ولم يتحدَّث «توب» بعد هذه الجملة، وعادا في خطواتٍ هادئة، وعندما اقتربا من الفندق شدَّ «توب» على يد «عثمان» في قوة، ثم قال مبتسمًا: إلى اللقاء غدًا!
ردَّ «عثمان»: إلى اللقاء!
اتجه «عثمان» إلى الفندق. واتجه «توب» إلى الكازينو … فتح «عثمان» الباب ثم دخل، كان «براتي» لا يزال مُستيقِظًا. ألقى عليه «عثمان» التحية وهو يقترب منه مبتسمًا: لقد سهرت الليلة يا سيد «براتي»!
قال «براتي»: وأنت عدت مبكرًا يا سيد «لو»!
جلس «عثمان» بجوار «براتي» الذي قال وهو ينظر إليه: تبدو وكأنك خرجت من معركة قريبة!
ابتسم «عثمان» وهو يقول: هذا صحيح!
ظهر الانزعاج على وجه «براتي» العجوز وهو يقول: لقد حذَّرْتُك من رُوَّاد كازينو «السمكة»؛ فهم يُثيرون المتاعب دائمًا!
ابتسم «عثمان» وقال: لقد كانت معركةً جيدةً!
تساءل «براتي»: لعلك انتصرت!
هزَّ «عثمان» رأسه وهو يقول: نعم، انتصرتُ انتصارًا عظيمًا!
أسرع «براتي» يقول بفرح وهو يعتدل في جلسته: إذن، صِفْ لي ما حدث بالضبط.
ثم أكمل بسرعة: لا تحكِ لي الحكاية بسرعة، يجب أن تحكيَها بالتفصيل، إنَّ ذلك يُذكِّرُني بأيام شبابي؛ فقد كنت أهوى المعارك الشخصية.
ضحك «براتي» ضحكةً صافيةً وهو يقول: لقد كنت أتشاجر كلَّ ليلةٍ تقريبًا، وأنتصر في كل مرة.
ابتسم «عثمان» وهو يقول: ألم تخسر معركة واحدة؟
ضحك «براتي» وقال: ربما مرة أو مرتين، لكني بشكل عام كنت أنتصر.
سكت لحظة، ثم قال هيَّا … احكِ لي بالتفصيل منذ خرجت من باب الفندق وحتى عدت الآن! ضحك «عثمان» ضحكة خافتة، ثم أخذ يحكي ﻟ «براتي» بعض تفاصيل المعارك التي خاضها، كان «براتي» سعيدًا وهو يستمع، وأخيرًا قال: إنني سعيد بك تمامًا، لأنك تعتمد على نفسك.
كان الليل قد تقدَّم، فاستأذن «عثمان»، وأخذ طريقَه إلى غرفته، فقد كان وراءه عمل آخر …