عثمان يذهب إلى المجهول!
عندما أغلق «عثمان» باب غرفته، أسرع إلى جهاز الإرسال وأرسل رسالةً سريعةً إلى رقم «صفر»، انتظرَ قليلًا، فجاءه الردُّ في رسالةٍ شفريةٍ قصيرة …
كانت الرسالة تقول: ««٣٠–٤٠» وقفة «٢–٨٠–٣٠» وقفة «١٨–٨–٢٣» وقفة «٤–١٠–٥٠–٦٠» وقفة «١٤–١٨–٢–٥٠–٧٠» وقفة «٦–٢–٤–٢٣–١٠–٢٨–٥٠» انتهى.»
ما إن انتهى من قراءة الرسالة حتى ألقى نفسه على السرير، وراح في النوم.
لكنَّه كالعادة استيقظ مُبكرًا. أجرى بعض تمارين الصباح، ثم أخذ دُشًّا باردًا جعله أكثر نشاطًا. كان هواء البحر يأتي من خلال النافذة التي فتحها عندما غادر السرير … وكانت له رائحة خاصة أقرب إلى رائحة السمك. بدَّل ثيابه، ثم جلس ينظر إلى البحر الأزرق الممتد إلى ما لا نهاية.
أخذ يتذكَّر ما حدث أمس، فابتسم راضيًا.
قال في نفسه: سوف يكون الشياطين سعداء تمامًا عندما أحكي لهم ما حدث. بل إنَّهم يتمنَّوْن أن يكونوا شركائي في هذه الليلة.
نظر «عثمان» في ساعة يده، ثم قال لنفسه: ينبغي أن آخذ فطوري في مطعم الفندق، وسوف يسعد بذلك «براتي» العجوز. وفي لحظة، كان يغادر الغرفة، وبينما كان ينزل السلالم القليلة إلى مطعم الفندق تذكَّر أنَّ الرِّسالة التي تحدَّث عنها رقم «صفر» لم تصل. قال في نفسه: لا بأس، أستطيع أن أتلقَّاها في أي وقت، فمعي الجهاز الصغير.
استمرَّ «عثمان» في نزوله. فجأة … شعر بدفء الجهاز، فعرف أنَّ رسالة رقم «صفر» في الطريق. لم يعد إلى الغرفة، وأخذ طريقه إلى المطعم. كان الجهاز في هذه اللحظة يستقبل الرسالة ويسجِّلها … رأى «عثمان» «براتي» من أقصى المطعم، فرفع يده له بالتحية.
اقترب «براتي» مسرعًا، وعندما أصبح أمام «عثمان» قال: صباح سعيد يا صديقي البطل «لو»!
ابتسم «عثمان» وقال: صباح سعيد يا سيد «براتي»!
داعب «براتي» وهو يضيف: أيها البطل القديم!
ضحك «براتي» في طيبة، فلم يكن أحد في المطعم في هذه الساعة.
قال «براتي»: عليك أن تجلس، ودعني أُجهِّز لك الإفطار بنفسي.
نظر له «عثمان» في ودٍّ وهو يقول: دعني أشكرك أولًا، ثم دعني أُعدُّ فطوري بنفسي كالعادة …
قال «براتي» مبتسمًا: ولكني أريد أن أحتفل بك.
ضحك «عثمان» وهو يقول: إنك بذلك سوف تضع نظامًا جديدًا، فسوف أعتمد عليك، وليس هذا نظام الفندق.
استغرق «براتي» في الضحك، ثم قال: اليوم فقط، وربما مع كل انتصار تحقِّقه.
ضحك «عثمان» وقال: إذن، لا بأس، ما دام اليوم فقط!
انصرف «براتي» مسرعًا، فأخذ «عثمان» يرقبه مبتسمًا. جلس إلى منضدة صغيرة. كان المكان هادئًا تمامًا، ويبدو أن النزلاء قد انصرفوا مُبكِّرين …
شرد «عثمان» يُفكِّر: ماذا يمكن أن يحدث اليوم في هذه الدعوة إلى الغداء مع «توب»؟ ماذا يكون بعدها؟ وهل سوف ينجح في مغامرته الجديدة؟
عاد «براتي» يحمل صينية متوسطة فوقها إفطار جيد. وابتسم قائلًا: ليس هذا إفطار كل يوم، إنه فقط بمناسبة الاحتفال بك.
شكره «عثمان»، فانصرف «براتي» مباشرة، ثم استغرق في عمله. بدأ «عثمان» يصبُّ الشاي … لكن يده توقَّفت؛ فقد ظهر في الباب رجل ضخم الجثة، وقف ينظر إلى «عثمان» لحظةً، ثم اقترب منه، وقال في غلظة: هل أنت السيد «لو»؟
ردَّ «عثمان»: نعم!
قال الرجل: السيد «توب» ينتظرك على الغداء في مطعم «الصدفة».
هزَّ «عثمان» رأسَه، وقال: سوف أكون هناك، هل أدعوك لفنجان شاي؟
ردَّ الرجل: ليس الآن؛ فيجب أن أعود بالرد للسيد «توب».
ثم انصرف مباشرة. ظلَّ «عثمان» يراقبه حتى خرج في نفس اللحظة التي اقترب فيها «براتي» متسائلًا: هل كان يريد شيئًا؟
ردَّ «عثمان»: لا شيء.
هزَّ «براتي» رأسه ثم انصرف. أخذ «عثمان» يتناول إفطاره في هدوء. تذكَّر فجأةً رسالة رقم «صفر». أخرج الجهاز الدقيق ووضعه أمامه، ثم ضغط زرًّا فيه. بدأت الرسالة الشفرية تتردَّد في خفوت لا يسمعه سوى «عثمان». وعندما انتهت الرسالة ابتسم «عثمان» وهو يقول: ولكم التحية أيضًا!
ثم أعاد الجهاز إلى جيبه … أنهى «عثمان» إفطاره، فحمل الصينية لإعادتها، إلَّا أنَّ «براتي» كان أسرع منه، فقد أتى مسرعًا وهو يقول: إنَّ البطل لا ينبغي أن يفعل شيئًا اليوم.
أمسك «براتي» الصينية من «عثمان» وقال: ماذا تريد أن تأكل في غداء اليوم؟ سوف أُعِدُّ لك وليمة خاصة.
ضحك «عثمان» وقال: سوف أتناول غدائي مع أحد الأصدقاء.
اتسعت عينا «براتي» وهو يقول: بالتأكيد، إنَّ معركة الأمس جعلت لك أصدقاء في «أنكونا».
ابتسم «عثمان» وهو يقول: أرجو أن يكونوا كذلك!
حيَّا «براتي» ثم انصرف. عندما خرج من باب الفندق، وقف لحظة. كانت الشمس دافئةً وحركة المكان نشيطة … قال في نفسه: سوف أتجوَّل في المدينة … حتى يأتيَ موعدُ «توب».
ثم تحرَّك من مكانه ليغرق في حركة المدينة. كانت مدينة «أنكونا» ككلِّ المدن الساحلية. إنها لا تكاد تفترق عن الإسكندرية أو بورسعيد في مصر، أو طنجة في المغرب، أو أي مدينة ساحلية أخرى، فكلها تأخذ شخصية واحدة، وإن اختلفت بعضُ التفاصيل …
أخذ طريقه إلى المنطقة التجارية في المدينة … كانت مزدحمةً بالناس من كلِّ شكل ولون. أهالي المدينة … والسياح، أمريكيُّون، وأفارقة، وفَرَنْسيُّون، وإنجليز … وعرب أيضًا. ورغم أنه شعر بالرغبة في أن يتحدَّث إلى أحد العرب، إلَّا أنَّه لم يفعل. كان يخشى أن يكون هدفًا، أو أن يكون مراقَبًا. توقَّفت أفكارُه عندما تردَّدت في فكره كلمة «مراقَبًا».
قال في نفسه: من الممكن جدًّا أن يكون «توب» قد أرسل من يراقبه، فحتى الآن تبدو تصرُّفات «توب» غامضةً، فهو لم يتحدَّث عن طبيعة العمل الذي سوف يُسنده إليه … بجوار ما حدث أمس في كازينو «السمكة»، وكيف قضى على «جاكو»، كما أنَّ هناك كثيرين يأتمرون بأمره. هذه التفاصيل كلها تقول إنَّ خلفَ «توب» أشياءَ غير عادية.
وقف «عثمان» أمام أحد محلات الملابس وأخذ ينتقي بعضها … لكنَّه في النهاية لم يشترِ شيئًا. اقترب منه أحد الرجال مبتسمًا وهو يقول: إنها صناعة محلية، وهي من القطن المصري.
نظر له «عثمان» مبتسمًا، ثم أمسك كُمَّ الفانلة التي يلبسها وقال: وهذه أيضًا من القطن المصري.
هزَّ الرجل رأسه وهو يقول: ولهذا تبدو أنيقة تمامًا.
سكت لحظة، ثم قال: هل أنت مصري؟
ردَّ «عثمان»: أفريقي.
هزَّ الرجل رأسه وانشغل في مشاهدة الملابس المعروضة. تحرَّك «عثمان» مبتعدًا، لكنَّه أحسَّ أنَّ الرجل قد تحرَّك أيضًا خلفه. لم يتوقَّف، بل استمرَّ في طريقه. ثم انتقل إلى الرصيف الآخر. وعندما وجد منطقة عبور المشاة، اتجه مباشرة إلى مقهًى صغير وجلس. في نفس اللحظة، وقعت عيناه على الرجل، كان يمشي مُتمهِّلًا على الرصيف الآخر. قال في نفسه: لعلها مصادفة. أتى الجرسون فطلب شايًا. ظلَّ يراقب الرجل الذي كان يتلكَّأ في خطواته. ابتسم وقال في نفسه: إنه ليس ذكيًّا بما يكفي.
جاءه الشاي. فكَّر: قد أكون مُخطئًا أو متوهِّمًا.
شرب قليلًا من الشاي، ثم قال لنفسه: من المؤكَّد أنَّ «براتي» لا يمكن أن يتفق معه على عمل بهذه السرعة، ومن المؤكَّد أنَّه يخضع الآن لاختبارات لا يدريها.
رفع «عثمان» كوب الشاي، وأخذ يشرب. فجأة، اختفى الرجل من على الرصيف المقابل. ابتسم «عثمان» وقال في نفسه: لقد ظلمت الرجل!
أخذ يرقب حركة الشارع، كان المقهى مزدحمًا. قال في نفسه: كعادة المدن الساحلية تكثر المقاهي، وتكثر الزبائن!
وعندما انتهى «عثمان» من شُرب الشاي دفع ثمنه، ثم انصرف. كان يفكِّر: ماذا يمكن أن يفعل الآن؟ هل يظل يمشي في المدينة بلا هدف؟ إنه يريد أن يحتفظ بقواه كاملةً استعدادًا لأيِّ شيء. ولهذا عاد «عثمان» من نفس الطريق إلى حيث يوجد فندق «الشاطئ»، وحيث لا يبعد مطعم «الصدفة» كثيرًا. كان الجوُّ مُمتِعًا. نَظَرَ في ساعة يده، كان الموعد لا يزال مبكرًا … وأمامه ثلاثُ ساعاتٍ على الأقل. فكَّر: هل يعود إلى الفندق؟ لمعت في خاطره فكرة: إنه يستطيع أن يلعبَ مباراة شِطْرنج مع «أحمد» الآن، حتى تنقضيَ هذه الساعات. أسرع إلى الفندق، لكن فجأة اقترب منه شاب متوسط العمر، وقف أمامه مباشرة، وقال: السيد «توب» يُريدك الآن.
نظر له «عثمان» لحظة وقال: أين هو؟
لم يكد ينتهي من جملته حتى اقتربت سيارة «فيات»، ثم توقَّفت بجوارهما، فتح الشابُّ الباب، وقال: هيَّا.
فكَّر «عثمان» بسرعة: هل هو نوع من الاختبار، أو إنَّه سوف يلقى شيئًا لا يتوقَّعه؟! لكنَّه مع ذلك لم يتردَّد، فركب السيارة مباشرة. انطلقت السيارة التي لم يكن بها سوى الشاب والسائق. كان «عثمان» يرقب الطريق جيدًا، حتى يعرف إلى أين يأخذانه. أخفى ابتسامة … فقد تذكَّر المباراة التي كان سيلعبها مع «أحمد» عن طريق جهاز الإرسال. مضت نصف ساعة، كان الطريق يمتدُّ بمحاذاة الشاطئ … نظر إلى الشاب وقال: هل لا يزال الطريق طويلًا؟
نظر له الشاب، وأجاب: لا، ليس كثيرًا. ألقى نظرةً على البحر الهادئ في هذه اللحظة، ثم نظرَ مرةً أخرى إلى الشاب، وسأله: هل نتعارف؟
ردَّ الشاب في هدوء: لا أظن أننا نستطيع ذلك الآن، لكن ربما في المستقبل.
ابتسم «عثمان» ولم يُعلِّق بكلمة.
مضى وقت آخر … ثم أخذت السيارة تُبطئ من سرعتها، وقال الشاب: ينبغي أن … ثم قدَّم له قناعًا. نظر له «عثمان»، وسأل: هل يجب أن أضعه فوق وجهي؟
ردَّ «الشاب»: نعم … وهذه تعليمات السيد «توب».
أخذ «عثمان» القناع ووضعه فوق وجهه، فلم يرَ شيئًا، فهِمَ أنه اقترب من مكان «توب»، وأنه لا ينبغي أن يعرف الطريق. ولذلك، فقد ركَّز إحساسه جيدًا حتى يتمكن من تحديد المكان. شَعَرَ بعد قليل أنَّ السيارة قد انحرفت وغيَّرت طريقها. بعد قليل، شعر أنَّ السيارة تعود إلى نفس الاتجاه الذي جاءوا منه. مرةً أخرى، شَعَرَ أنها انحرفت مرةً أخرى، وشَعَرَ بهواءِ البحر. عَرَفَ أنَّ السيارةَ قد انحرفت، كانت قد ابتعدت عن الشاطئ. لكنَّها عادت إليه مرة أخرى. فجأة توقَّفت السيارة، وقال الشاب: هيَّا، سوف ننزل الآن.
سمع صوت الباب يُفتح، فنزل … أمسك الشابُّ بيده، ثم قاده. شَعَرَ أنَّه ينزل طريقًا منحدرًا، وأنَّ صوت الموج قد أخذ يختفي، وأنَّ الهواء أصبح ثقيلًا. وتردَّد في نفسه سؤال: تُرى إلى أين؟