الحمار
١
بدا الأمرُ هكذا: كان كارل إرب يبتسم عندما استيقظ، لكنه لم يكن يعرف السبب. لم يتذكَّر أنه كان يحلُم. وفيما بعدُ — بعد قليل — تذكَّر الفرويلاين، الآنسة، برودر.
لنقُل إنه بدا له فيما بعدُ أنه كان يبتسم عندما استيقظ في ذلك اليوم (هذا هو ما قاله للآنسة برودر: «كان الأمر غريبًا. كان بوسعي أن أشعر بشفَتيَّ تتقوَّسان في ابتسامة، وبعد بضعِ دقائقَ ظهَرَت صورتُكِ. أجل، هكذا بدا الأمر معي.») ومن المحتمل أنه يُصدِّق اليوم هذه الرواية؛ فلم يعُد يعرف أنه في ذلك الصباح، مثلَ كل صباح، كان المُنبِّه قد انتزَعه من النوم العميق، وأنه في البداية أخذ على نفسه عهدَ الصباح الباكر المألوف بأن يلجأ إلى الفِراش مبكرًا، ثم استقصى الأجزاء السخيفة من برنامج اليوم، ثم فكَّر في ذقنه وهل يحلقه في المنزل أم في المكتبة. ولم يخطُر بباله أنه أقلُّ ضِيقًا من المألوف إلا عندما داعبَت يدُه الخارجة من دفء الفراش ذقنه البارد، وقاده هذا إلى البحث بارتيابٍ عن الأسباب، وهو بحثٌ أدَّى به أخيرًا إلى تقوُّس الشفتَين المشار إليه أعلاه. وبعد ثوانٍ قليلة، أدرك أنه من البَلَه أن يقبع رجل في الأربعين بفراشه مبتسمًا في صباح قاتم، وهكذا عاد ركنا فمه إلى وضعهما الطبيعي. وكانت عودةُ وجهه إلى حالته الطبيعية تعني أنه قد أُرغم على الانصياع إلى جدول أعمال الصباح الطبيعي. خمس دقائق في الفراش بين النوم واليقظة، ثم خارجه في شيء من الترنُّح ولكن دون إشعال الضوء، ثم فَتْح النافذة وخَلْع المَنَامة، وعشْر مراتٍ من ثَنْي الركبتَين ومَد الذراعَين، وفي نفس الوقت نظرة من النافذة إلى شجر التفاح الممتَد في رماديَّة الفجر، والضباب الواطئ الذي حرَمَه من منظر نهر شبريه، والمنزل المقابل، وصائد الأسماك العجوز ذي القُبَّعة الرمادية، المصنوعة من الفِراء، والذي كان يظنه أستاذًا جامعيًّا متقاعدًا. دَعَك كرشَه الناشئة بلهفةٍ يائسة، وهتَف في الضباب بتحية الصباح، متلقيًا إجابةً بصوتٍ رفيع. وكالعادة تجنَّب أن يسأل عن موقف الأسماك من الطُّعم؛ فربما أفزعَها الصوتُ المرتفع وجرَفَها بعيدًا.
في هذا الصباح بدأ الأمر كله بالابتسامة ومحاولة استعادة صورتها. من الضروري أن نؤكِّد ذلك، حتى لا تتجلَّى شخصية كارل في ضوءٍ زائف، أو على الأقل ضوء الفجر الكاذب أو الضوء الأخضر السام للأنانية؛ لأنه في هذه الحالة سيَلِج الكتابَ موصومًا بعلامة السلب؛ فلو كان يعرف في الأمسية السابقة بابتسامة الصباح، لكانت راحةُ باله رياءً خالصًا، ولكانت موضوعيتُه مجردَ وسيلةٍ لخدمة مصالحه.
لكنه ما كان يستطيع ذلك؛ فقد كان الإحساس بالإثم كفيلًا بأن يُجرِّده من الثقة التي جلبَت له النصر. كان مقتنعًا أنه اتخذ القرار بموضوعية، ولم تخطُر لأحدٍ من الحاضرين أية شكوك، ولا حتى هازلر، وهو الوحيد الذي صوَّت ضد القرار، بل إن هازلر لم يتهمه أبدًا فيما بعدُ اتهامًا مباشرًا بأن حماسه لتعيين الآنسة برودر كان بدافعٍ شخصي، وكل ما فعلَه هو أنْ أوضَح أنَّ انطباعًا مماثلًا قد تكوَّن لدى الآخرين في الاجتماع، وكل من يعملون في المكتبة، وهو انطباعٌ لا يمكن دَحضُه.
إن شيئًا كهذا لا يبدأ بابتسامة في الصباح، وبالتأكيد لا يبدأ فجأة. إنه يبدأ تدريجيًّا، خفية، في سكون، وبطء. إنه ينمو يومًا بعد يوم، أسبوعًا بعد أسبوع، وشهرًا بعد شهر، بصورةٍ غير ملحوظة، حتى إنك تستطيع أن تُغفِل العلامات بعد نصف سنة، وتُعطيَ صوتك لأمينة المكتبة — تحت الاختبار — برودر (وضد أمين المكتبة — تحت الاختبار — كراتش) بثقةٍ تامة، وبضميرٍ مستريح وحُججٍ قوية لا تُبرِز فقط عنايتك بشأن المكتبة، وإنما أيضًا اهتمامك بالفرد. إن معرفتها عظيمةٌ للغاية، لا أحد يستطيع إنكار ذلك، وموقفها الإيجابي من العمل فوق كل تساؤل، ولا بُدَّ أيضًا من أن يُؤخَذ في الاعتبار أنها وُلدَت ونشأَت في هذه المدينة. أليس هذا صحيحًا؟! كان من المستحيل قبول مزاعم البعض بأن تمسُّكها الصارم باللوائح يثير الإزعاج، أو أن بعض الإناثِ الشابَّات من العاملات قد يُرحِّبن بانضمام رجلٍ إليهن. ألم يكن عملها ذا نوعيةٍ بارزة؟ أمرٌ لا شك فيه. حتى هازلر نفسه اضطُر للاعتراف بذلك، لكنه عاد يثير الجدل من البداية ليتجنَّب الهزيمة. لكنه سرعان ما أصبح يقف بمفرده؛ إذ كان منتصف الليل قد اقترب، وهو موعدُ آخرِ قطارات المترو السفلي، بل إن أولئك الذين أخذوا جانبه في البداية بدَءُوا يشعُرون بالتعب، وهم يعرفون أن رئيسهم يفضِّل مواصلة النقاش حتى الفجر على تغيير وجهة نظره؛ لهذا تنازلوا عن موقفهم، وأعطَوْا أصواتهم للآنسة برودر، وهم يصفقون أقفال محافظهم الجلدية في نفاد صبر، ويزيحون مقاعدهم في ضَجَّة، بينما هازلر يَخطِر جيئةً وذهابًا فوق ساقه الزائفة التي تُحدِث صريرًا، معلنًا آراءً يشاركونه فيها حقيقة؛ فعلى سبيل المثال، ليس العمل في مكتبةٍ عامة عملًا مع الكتب وحدها، لكنه عملٌ من أجل الجمهور، وثقافة الآنسة برودر، رغم كل مزياها، تتميز بشيءٍ ما سلبي إذا ما نُظر إليها من هذه الزاوية. «أتدرك يا رفيق إرب، إنها ليست محبوبةً من زميلاتها والقُراء؟ حقًّا أن عاملات النظافة يعبُدنها ولا أدري ما هو السبب، ربما لأنهن يبحثن عن شيءٍ ما يُعجَبن به، ولا يصلُح الآخرون لذلك لأنهم على قدْرٍ كبير من الشفافية، لكن عندما يتطلَّب مني الأمرُ الاحتكاك بالآنسة برودر، أخشى دائمًا أن تتجمد مشاعري. وهذا هو أيضًا، عدا استثناءاتٍ قليلة، ما يشعر به الآخرون. ربما نكتفي بالقول إنها تفتقد إلى الحرارة، وهو ما يحتاج إليه الكُتبِي كما تحتاج الصلاة إلى البخور. وكي أكون أمينًا، أقول إنها لو كانت بيننا الآن ما استطعتُ الحديث هكذا؛ لأني سأخشى ابتسامتَها وأسئلتَها التي سأُضطَر إلى تجنُّبها كي لا أفضح الطابع غير العلمي لآرائي.»
هذا ما قاله هازلر. وقد اعتبَره إرب موقفًا شخصيًّا؛ لأنه نفسه كان من تلك الاستثناءات القليلة، إذ كان يستمتع بكل لقاءٍ مع الآنسة برودر.
وكي نحدد طبيعة العلاقة بين برودر وهازلر، يجب أن نوضِّح أنها كانت امرأةً جميلة، لكن بعيدةَ المنال بالنسبة إليه.
السؤال هو: من رآها جميلة؟ حتى إرب اعترف فيما بعدُ أنه كان عليه أن يتعلم كيف يرى جمالها. وكان يفكِّر في هذا ذلك الصباح، بينما كانت طقوس الإفطار تجري طبقًا للجدول المحدَّد؛ تفاحة، الخبز الصحي الخاص بالرجيم، عسل ولبن، بيض نصف مسلوق، ثم القهوة (وكاكاو للأطفال) مع بسكويت منزلي. كان الموضوع الوحيد المصرَّح به أثناء الطعام هو الطعام نفسه، أما بقية الموضوعات فكان موعدها هو سيجارة ما بعد الوجبة، وهكذا كان لدى إرب الوقتُ لاستجلاء التحوُّل الغريب في صورته من الآنسة برودر. لقد بدأ كل شيءٍ قبل أن يلتقيا؛ فقد تلفنَت له ناظرة المدرسة وقالت: سوف تحصُل على ما تريد، اثنَين من خبراء الأرفف المفتوحة، يمكنك أن تختار أيَّهُما، وكلاهما سيفوز بدرجاتٍ جيدة، وسيكون الأمر حسنًا لو استبقيتَ الفتاة لأنها من برلين، من النوع الذي يذوي إذا أُبعد عن المدينة، ليس من السهل التفاهم معها؛ فهي واعية لنقاط الضعف في الناس والأشياء، وذكاؤها يفوق أحاسيسها، إنها ليست كوبَ الشاي لكل إنسان، لكني أستطيع أن أُوصيَ بها.
لكنها لم تَبْدُ على تلك الدرجة من السوء التي توقَّعها إرب بعد ذلك الوصف. لم تكن ترتدي نظارات، ولم تكن ثَنْيتا الحياكة في جَورَبها معوجتَين، وكانت سترتها ورداؤها متسقَين مع جسدها. لم يكن بها ذلك الشحوب المميز لمن يقضي أغلب الوقت بين أربعة جدران، ولم يكن في مشيتها ووقفتها وطريقة جلوسها ما يوحي بالعكوف على طاولة الكتابة، كما أن شيئًا في وجهها لم يشِ بالكَبح والكَبت أو التعالي. كانت هادئة، طبيعية وواثقة من نفسها، تتحدث الألمانية التي يتحدثها المتعلمون دون أَثَر من اللغة الدارجة ودون جهدٍ خاص، ولم تبذل محاولة للإبهار أو الإغراء. وبدا أن أسلوبها لم يتأثَّر بأن إرب هو رئيسها، ورجلٌ في الوقت ذاته؛ فقد ظلت متحفظةً وتركَت الآخرين متحفظين. وقد أحدث ذلك انطباعًا جيدًا لدى إرب. أما الأثَر المستتر من الضيق فكان خفيفًا بحيث لم يَعِه، تجنَّب أن يلجأ معها إلى النكات واللمسات الشخصية التي كان يدَّخرها للعاملين العصبيين، وحَرَص على أن يكون مقتضبًا وعمليًّا، فخالجه الشعور اللطيف بأنه كان ندًّا لها. وعندما تركَت الغرفة لم يكن لديه أدنى فكرة من شكلها. وكان قمينًا بأن يُجيب لو سئل عن وجهها بأنه بارد، متحفظ، وحاد، يبعث على الاهتمام لكنه لا يثير البهجة. وبعد نصف عام فقط، أمام مائدة الإفطار، خطر له الوصف الصحيح لوجهها؛ جامد لكن بمعنى أنه مصمَتٌ حازم، مستغلق، مقاوِم. سرَّته تلك الكلمة كما لو كانت اكتشافًا عظيمًا، ليس فقط لأن القدرة على تعريف شيءٍ ما هي منتصف الطريق لامتلاكه، لكن أيضًا لأنها الكلمة المناسبة، وبهذا أبرزَ قدرته على التوصل إلى حكمٍ موضوعي. لم يلحظ كيف كان يخدع نفسه؛ فبينما كان يفكِّر في الكلمة، إذا بها تكتسب معنًى خاصًّا بالنسبة إليه. أصبحَت مرادفًا للجمال؛ ذلك أنه في تلك الأثناء، أُتيح له أن يرى الآنسة برودر تضحك، وبينما كان يشرب اللبن المحلَّى بالسكر، بغضاضةٍ لم يعترف بها أبدًا، استعاد حركة شفتَيها، وسمع لهجة صوتها الناعمة التي أحيانًا ما أثارت ارتباك الناس.
لم يكن من السهل مقاومتُها عندما تخترق روحُها الطبيعية تحفُّظها المُصطنَع. وقد وصف هازلر ذلك بأنه خداع؛ لأنه كان في حاجة لحماية نفسه من السِّحر الذي هزم كارل.
كان ما وصفه هازلر دهاءً، وكان طبيعيًّا. طبيعية مستخدمه بدهاء. كان إرب يعرف ذلك، وفي ذلك الصباح كان يستخدم معرفته بدهاء. سمح لنفسه أن يتأثَّر بتلك النعومة الساذجة (لأنه كان في حاجة لأن يتأثَّر). وأُعجب بالدهاء الذي أثار مجالاتٍ أخرى غير المشاعر (عندما اعترف لها فيما بعدُ بأنه سرعان ما اكتشف حقيقتَها، ضحكَت، وعرف الاثنان في تلك اللحظة أن هذا أيضًا سوف يربط بينهما كاثنَين من المتآمرين). وتذكَّر أيضًا أنه أدرك منذ وقتٍ مبكِّر أن هذه الفتاة لا يمكن أن ترضى بشابٍّ في سنها.
في تلك الأثناء كانت إليزابيث تشرح لطفلَيها بهدوءٍ تأثيرَ الفيتامينات (دون أن تُبرِز أنها أيضًا تعاني من طغيانهما)، وتلوم بيتر الذي كان يحاول أن يوضِّح لأخته كيف سقطَت أسنان البحَّارة المصابين بداء الإسقربوط في اللحم المملَّح الذي يأكلونه، ثم وجَّهَت إلى زوجها سؤالًا، تلقَّت عليه الإجابة بكلَّا بسيطة. وتقبَّلَت الإجابة.
لم تشعر حتى بعدم الارتياح، رغم أن السؤال كان: هل ستعود هذا المساء في موعدك؟ كانت تعرفه جيدًا بحيث تُوقِن أنها ستعلم كل شيء، لكن ليس في الصباح؛ فلم يكن قادرًا على الاحتفاظ بسرٍّ ما. وفي مساءٍ قادم، عندما يكون الأطفال في أَسِرَّتهم، وهو قد فرَغ من قراءة رسائله، وهي قد حدَّثَته عن يومها، عندئذٍ سيبدأ: هل تذكُرين يوم الأربعاء الماضي، عندما عدتُ بعد منتصف الليل؟ وستُطرِق برأسها وتنتظر، وتُبدي اهتمامها بأسئلةٍ ثانوية لا يجب أن تبدُو استجوابًا، فإذا كان الأمر مشكلةً في العمل فستُدلي برأيها، أسفًا أو إعجابًا، وإذا كان يتعلق بفتاةٍ فستدفن كل مشاعر الغَيرة وتُبدي عطفها على البنت المسكينة؛ لأن الفتيات في أحاديثه كن دائمًا جديرات بالشفقة؛ إما لأنهن كن يعبُدنه، ودفعَتْه طيبة قلبه لأن يستجيب لهن قليلًا، حتى لاحظ أن الأمور بدأَت تخرج عن سيطرته، وإما لأنهن كن غبياتٍ بصورةٍ مروِّعة ومنفِّرات، وهو ما اكتشفَه متأخرًا بعض الشيء، لكن في الوقت المناسب. لم تكن تخشى المغامرات التي من هذا النوع؛ لأنها جميعًا كانت تنتهي دائمًا، سواء افتُضحَت أو بقيَت سرًّا، بأنشودة عن جمالها وحكمتها وطيبتها، وقدرتها على الفهم، وطاقتها، كان النصر دائمًا من نصيبها، رغم أنها حدسَت أنه في حالة أو أخرى لم يكن المعبود وإنما المتعبِّد، وأن الفم لا الوجنة هو ما تم تقبيله، وأن البراندي لا الليمونادة هو ما كان يجري احتساؤه. كانت واثقةً أنه لم يخدعها، لم يفصم عُرَى الزوجية، رغم أنه قد يكون آسفًا على أنه لم يفعل. ولحسن الحظ أنه لم يكن يفتخر بذلك، ولم تكن ترى من سبب لأن يفعل. كل ما هنالك أنه لم يواصل الأمر حتى النهاية، ببساطة فقد اهتمامه سريعًا، لا أحد يعلم لماذا، ربما لأنه يفضِّل العودة مبكرًا إلى المنزل لينام جيدًا، أو ربما بسببها. كانت تعرف بالخبرة أن كل مغامرةٍ جديدة تنتهي ببساطة، لكنه لا يفقد أبدًا اهتمامه في الشروع بواحدةٍ أخرى. ولعله كان في حاجةٍ ماسة إلى أمثال هذه المغامرات. ولم تكن تسعى لإقناعه بالعدول عنها. كانت تعرف كيف يمضي الأمر؛ فهو يستعرض في الصباح المغامرات المحتمَلة لهذا اليوم ويتذكَّر وجهًا ما، عندئذٍ يفيض إطراءً ومداهنة، ويعلن أنه لن يعود في موعده مساءً. ثم في وقتٍ لاحق، عندما يكون الأطفال في أسرَّتهم، يخفِّف عن ضميره الذي لم يتلوث إلا قليلًا، ويتلو غنائيته، مدركًا أن زوجته وطفلَيه ومنزله وحديقته هي أجزاءٌ من نفسه، مثل يدَيه وشعَره وشفتَيه اللتَين لم تجدا سوى متعةٍ محدودة مع الفتاة الغريبة. ولهذا فإن «لا» التي لفظَها ردًّا على سؤالها لم تكن مدعاةً للقلق، مثلها مثل رشفتِه الأخيرة من قدَح القهوة، وخطواتِه المعدودة نحو السيارة، والتفاتتِه المصحوبة بقبلةٍ أثناء ابتعاده.
٢
إنها على الأقل حاولَت أن تكبت هذه المشاعر. وقد أوشكَت أن تنجح بسبب ما لديها من خبرةٍ كبيرة، لكن ربما لم يكن هذا هو السبب. لعلها نجحَت لأن لديها من المتاعب والأحزان الخاصة ما جعل غراميات البيوت الزجاجية (التي تزدهر في المساء وتذبل في الفجر) التي يقوم بها إرب تبدو عديمة الأهمية. وفيما بعدُ، في الفصل الثامن، ستُحاوِل أن تشرح هذا لرجلٍ آخر فتضرب مثلًا بالقمر الذي يدور حول كوكبه؛ لأن قانون الحب يتطلب ذلك، أو هكذا يبدو. أما في ذلك الصباح، بينما وقفَت في الحديقة الأمامية، وسط آخر زهور الخريف النجمية الزرقاء، تبتسم وتلوِّح لطفليها مودِّعة، لم تكن قد فكَّرَت بعدُ في ذلك التشبيه، لكنَّ شعورًا ثقيلًا كان قد استولى عليها، مثلما يحدُث دائمًا عندما تنفرد بنفسها في المنزل لتواجه جبلًا من الأعمال تُزيحه كل يوم ليظهَر في اليوم التالي.
أما كارول فكان مرحًا؛ فرغم إيمانه بأن الأجدى للطفلَين أن يقطعا على أقدامهما تلك الدقائق العشرين التي تفصلُهما من المدرسة، إلا أنه كان يصحبُهما دائمًا في سيارته؛ لأنه كان يبتهج بالحماس الذي يرتقيانها به، وبالكبرياء التي يغادرانها به أمام زملائهما، صافقَين بابها بقَدْر ما وسعَهما من طبيعية. وفي هذا الصباح ضحك أكثر من المعتاد وودَّعهما بمصابيح الإشارات بينما كان ينطلق مبتعدًا. وكالمعتاد وصل المكتبة في موعده تمامًا، حيث همسَت له سكرتيرته، أن هازلر في انتظاره.
ضحك إرب كثيرًا، لكنه فكَّر أيضًا كثيرًا أثناء انطلاقه بالسيارة عَبْر المدينة، ولهذا السبب تستحق الرحلة أن تُذكر (من قبيل المصادفة أنه لم يقل أبدًا: أنا ذاهب إلى المدينة. لكنه كان يقول دائمًا: أنا ذاهب إلى برلين. مقلدًا بذلك جيرانَه المتقدمين في السن الذين لا يريدون الاعتراف بأن ضاحيتَهم كانت طوال أكثر من أربعين عامًا جزءًا من برلين. وقد أشار هو إلى ذلك في حديثه مع الآنسة برودر ذاتَ مرة، كمثال على السرعة التي يتكيَّف بها المرء مع المكان الجديد الملائم لطبيعته ومزاجه، فقد كانت الضاحية الواقعة على نهر شبريه متسقةً معه للغاية من كافَّة النواحي). وهكذا ضحك مع طفلَيه، لكنه كان يدرك في الوقت نفسه أن علاقته بهما ضعيفةٌ ومدعاةٌ للتساؤل. هل بوُسْعه أن يتخيَّل الحياة بدونهما؟ واجه هذا السؤال للمرة الأولى، وفوجئ عندما أدرك أن ردَّه كان دونما تردُّد بالإيجاب … كان يراهما قليلًا. كل صباح، بعض الأمسيات، أكثر قليلًا في أيام الآحاد، ولا يراهما على الإطلاق أثناء العطلات. لم يكن يطمح لأن يكون مُربِّيًا، وكان يُحب تسليتَهما، لكنهما كانا في الأغلب مصدر إزعاجٍ له أثناء عمله أو راحته التي يستحقها عن جدارة. وعندما يكونان بعيدًا في معسكرٍ للعُطلات لم يكن يفتقدهما، رغم ما يغشاه من رعبٍ إذا ما خطَر له أن شيئًا قد وقع لهما — حادثةً أو مرضًا. كان على استعداد لأن يقوم بكل ما وَسِعه ليراهما صحيحَين، مكتفيَيْن، سعيدَين، ولا أكثر من هذا. وعلى وجه الخصوص، لم يشعر أبدًا نحو أكبرهما، ذلك الذي استقر بجواره في السيارة، وجعل يعلِّق على كل حَنْيَة وكل علامة مرور وكل عربة، بما يُسمى بنداء الدم. استرق نظرة إلى ابن الحاديةَ عشرةَ الذي يُثرثِر بنضجٍ مبكر إلى جواره، وشعَر — كدأبه دائمًا — بغُربة وجهه الشاحب، الذي لم يكن يُشْبه في شيءٍ له أو لإليزابيث. ولو كانت قد التقطَتْه من دار الأيتام بدلًا من أن تلِده في الآلام، ما اختلفَت مشاعره نحوه. كان مسئولًا عنه، قانونيًّا، وأخلاقيًّا، وقد ألِفَه، وهذا هو كل ما هنالك.
لماذا يحمل مشاعرَ مختلفةً لكاتارينا؟ لا شك أن كونها أنثى عابثة، تتوق للحنان، وتُعجَب به، قد لعب دورًا في ذلك. نادرًا ما تجرَّأ على لمسها، بعد أن رأى كيف تُعامِل الأمهاتُ الشابات صغارهن العُراة. لكن ربما كان المهم أن كاتارينا كانت مثله (أو كما يظن نفسه) هادئة الأعصاب، معقولة، متفوقة، وأكثر جِديةً بكثير من شقيقها الأكبر وأمهر منه. لعل إرب كان يعشق نفسه فيها وحسب. كان يعترف بذلك في لحظات الميل إلى الصدق التي تأتيه في الصباح الباكر، لكنه في الوقت ذاته كان يجد العُذر؛ فكل ألوان الحب أقربُ إلى الأنانية منها إلى العطاء. وربما جاء الوقت الذي يتم الاعترافُ فيه بذلك، بعد أن تحقَّق ذلك في مجالاتٍ أخرى. وأصبح من المسموح به اليوم أن تفكِّر وتقول إنك تُحب وطنك لأنك تعيش فيه على وجهٍ مريح.
لم يمضِ وقتٌ طويل على ذلك العهد حتى كان يقطع الطريق فوق درَّاجته، وحيدًا. كانت إليزابيث تنتظره عند محطة المياه وقد ارتدَت أفضل أرديتها (من برلين الغربية) لتُقدِّمه إلى والدَيها. ولم يكن من السهل إثارة شجارٍ معهما. لكن هذا كان أمرًا لا مفرَّ منه؛ إذ إنه كان الأسلوب الوحيد للتعويض عن الأثَر الذي أحدثَتْه فيه الحديقة المُعتنَى بها، والتراس المشرف على النهر، والمنزل المؤثَّث بذوقٍ رفيع، وجو الأسرة المتحابَّة. لكن هذا الشجار لم يُوقِف مجرى الأحداث أو يُبطئ منه؛ فقد أقسمَت إليزابيث أن تقف إلى جانبه مهما حدث، وتصالَح هو مع حمويه عندما اكتشف أنهما لم يمتعِضا من فقره أو آرائه. وصارا يقضيان عطلات نهاية الأسبوع على نهر شبريه. بل وتمَّت خطبتُهما بكافة المراسيم الواجبة، وبعد ذلك جعلا يستقبلان بحماسٍ كل خطوة في الطريق إلى الامتثال والتواؤم والإذعان؛ الامتحانات، أول عمل، الزواج، حجرة في المدينة، بيتر، زيادة الراتب، الأثاث، الراديو، المسكن الخاص، وهلُمَّ جرًّا. لم يَعرِف الفشل في شيء؛ فقد كان ناجحًا في عمله، يلقى التقدير المناسب في حينه. وتبيَّن أن كافة الصراعات يمكن أن تُحل. وكان في وسعه أن يستفيد من سلسلة من الفرص السعيدة، وكان في صحةٍ جيدة، مزدهرًا، محترمًا، محبوبًا وراضيًا عن نفسه … حتى هذا الصباح، عندما بدا ينعى فجأة ذلك الاستقلال الذي لم يُحاوِل المحافظة عليه أبدًا. كانت اعتباراتُه سليمة تمامًا؛ فنفقات الأسرة لن تسمح له بالانتقال إلى عملٍ ذي أجرٍ أقل، كما أن المنزل ربطَه إلى برلين، واستنفدَت الحديقة عطلاته الأسبوعية التي كانت حُرةً من قبل، وأخرجَه المركز، والمنزل، والسيارة من عالمه الطبيعي وعزلَه، ولم يحقِّق له الاستقلال. كان يُمضي في السابق ساعتَين هادئتَين كل يوم في قطارات الضواحي واحدًا بين آلاف. كان يشعُر كل يوم، أن العالم لا يتألف فقط من الأُسرة والمكتبة. وبين الآلاف كان يصبح لمدة ساعتَين، هو نفسه، قادرًا على أن يتكلم، يقرأ، يلجأ إلى الصمت، يُراقب، يُصغي، أو يفكِّر، لكنه الآن ببساطة المدير في طرف ورأس الأسرة في الطرف الآخر، وبينهما كان وحيدًا في قوقعته المتحركة. لم يكن من الممكن طرح هذه الأفكار جانبًا في الحال، والأسوأ من ذلك أنه لم يجرؤ على ذكر السبب باسمه الحقيقي … برودر.
لم تكن مثل هذه الأفكار بالجديدة عليه؛ فعندما اجتاز امتحاناته بمرتبة الشرف سُئل عن مشاريعه للمستقبل، وقال عندئذٍ: أودُّ لو أبقى في برلين عدة سنوات أكتسب خلالها خبرة، ثم أذهب إلى الريف، ولو أمكن إلى منطقة بلا مكتبة، حيث أستطيع، متحررًا من عبء التراث، أن أبني شيئًا حيث الثورة الثقافية ثورية حقًّا، لقد كنتُ فيما سبق أخصائيًّا في زراعة البساتين والحدائق، وقد ألِفتُ أن أرى بعيني نتائجَ عملي. وفيما بعدُ عندما عرض عليه حمواه المنزل، تردَّد طويلًا قبل أن يتخذ قراره.
من الذي كان سيعزف عن اتخاذ قرارٍ مماثل لذلك الذي اتخذه إرب؟ إنه لأمرٌ يدعو للسخرية أن يشعُر المرء بعدم الارتياح إزاء موقفٍ خلقه بنفسه عن طواعية.
لكنه كان يعرف أنها متعلقة بالمنزل والحديقة والنهر، بالإضافة إلى أنها قضت أغلبَ حياتها في ذلك المكان.
تكتيك التبريرات والأعذار. لجأ إليه مرةً ثانية عندما أعطاه تدفُّق المرور وقتًا للتفكير. لقد حمل على عاتقه عبء الملكية من أجل إليزابيث، ومن أجلها ضحَّى بحريته وهجر أحلام شبابه. أنَّ بصوتٍ مرتفع عندما تحوَّل ضوء المرور في «تربيسكوف آلِّيه» إلى اللون الأحمر، وبكل هذا ظل، من الناحية القانونية، فقيرًا تمامًا كما كان منذ عشر سنوات. حتى السيارة التي سيزور بها الآنسة برودر هذا المساء، كانت في واقع الأمر ملكًا لزوجته.
تنهَّد مرةً ثانية عندما ولَج مكتبه قبل الثامنة بدقيقةٍ واحدة، لا لأنه شعر بالأسف على نفسه (فلم يكن يسمح لنفسه بهذه الرفاهية في المكتب)، وإنما لأن لهفتَه إلى العمل كانت في خطر؛ فقد كان يعمل دائمًا بصورةٍ أسرعَ وأكثر تركيزًا بين الثامنة والحادية عشرة. ومن شأن زيارة هازلر الآن أن تعوقه عن ذلك. اقترحَت الآنسة زافاتسكي طريقةً مجرَّبة، وهي أن يتحدث لضيفه في الساعة التاسعة أو التاسعة والنصف عن موعدٍ عاجل، لكنه أزاحها جانبًا؛ فمثل هذه الأساليب لا تنجح مع هازلر.
٣
بظهور ثيو هازلر، كان يمكن أن تلج صفحاتِ هذا الكتاب شخصيةٌ نموذجية من شخصيات المُراجِع، لولا أنه يفتقد شيئَين؛ أولًا الشعر، وثانيًا القدرة على التعبير عن نفسه بوضوح. حقًّا إن الرأس الأصلع هو المكان التقليدي لأكاليل الغار، لكن هذا أمرٌ قاصر على يوليوس قيصر؛ ولهذا السبب نجده خارقًا للمألوف. وليس من الممكن اتخاذ طريقة هازلر في الحديث نموذجًا لنا لأنها تتألف من عباراتٍ غير دارجة، معقَّدة وغير ملائمة للعصر، وفي نفس الوقت تبشِّر بغرابة الأطوار، الأمر الذي لا يتحقق. لم يكن شخصًا غريبًا، ولو بذلك القياس الذي يملك به كل شخص (كما نتمنى) غرائبه. إن الكثير من معاصرينا يقضون حياتهم في إعادة ترتيب بوصلاتهم الداخلية التي وُضعَت بصورةٍ زائفة في شبابهم، وقد أنجز هازلر هذه المهمة بسرعة ودقة في نهاية الحرب، وتركَت هذه العملية ندوبًا واضحة من الاستعارات والتشبيهات الدينية في حديثه. وبالإضافة إلى هذا لم يكن متزوجًا، وإلا فما كان هناك ما يمكن الاعتراض عليه. كان أحيانًا يعرج عَبْر الشوارع الخالية بالليل إلى محطة القطار حيث يستعين مع الآخرين بالخمر من أجل الإسراع بعجَلة الليل البطيئة، ولكن هذا كان بسبب أن الفودكا تفقد مذاقها إذا ما احتساها المرء على انفراد، ولأنه أيضًا مسئول عن الثقافة في مجلس الناحية، وبالتالي يعلو كارل مباشرةً في السلك الوظيفي. لم يكن يستقر في مكانه طويلًا، بل يظل في حركةٍ دائمة، كان يعشق القلق ويكره «غيبوبة» الوعي المتمثلة في النوم. وكان النوم ينتقم بأن يتمنَّع عنه عندما يريده، أو يختفي بعد مجيئه بساعةٍ أو ساعتَين. وكان ذلك يُرغمه على أن ينهض ويعمل، أو يرقُد ويفكِّر. هكذا طَفِق يسترجع ما جرى في الاجتماع متأملًا كل عبارةٍ تردَّدَت فيه كما لو كان يقرأ التقرير الحَرْفي. بحث عن الدوافع الكامنة وراء الآراء المختلفة، وهي دوافعُ صعُب عليه تحديدها فيما عدا ما يتعلق به شخصيًّا. ولما فشلَت قهوة الصباح في تغيير مجرى أفكاره، تملَّكَته الرغبة في مناقشة الأمور على الفور، ولهذا قام بزيارة كارل.
استقرَّ في المقعد الرث (الذي كان المرء قمينًا بأن يجده أنيقًا لو كنا في بداية الخمسينيات)، وشرَع في الحديث قبل أن يعود كارل إلى مقعده.
«أنا واثق إنك لم تنَل تعليمًا دينيًّا ممتازًا في صباك مثل الذي تلقيتُه أنا؛ ولهذا لا بُدَّ من أن أشرح لك الفارق بين التوبة الناقصة، والتوبة النصوح. الأولى وليدة الخوف من العقاب وحب الذات، لكن ثمرة لحب الله. وإذا ما طبقَّنا هذا على حالتي، كان معنى هذا أنني إذا أردتُ أن أسحب بعض كلماتي بالأمس عن الفتاة برودر، خوفًا من أن يتضح أنها غيرُ صحيحة وعندئذٍ أبدو مضحكًا، كانت هذه توبةً ناقصة، لكن إذا ما أسفتُ لهذه الكلمات بدافع من إحساسي بالعدالة، كنا أمام توبةٍ نصوح. وأنا أُقسِم لك أن الحالة الثانية هي الواردة، وإني لواثقٌ من الغفران. وأيضًا لأني لم أَفُه بكلمةٍ واحدة غير صحيحة بالأمس؛ فهي حقيقة تتميز بالنواقص التي ذكرتُها، رغم أنها أقل أهميةً مما أردتُ إقناعكم به. إني أعرف الآن أني بالغتُ في التوافه، وبعد أن راجعتُ ضميري، عرفتُ الأسباب التي دفعَتْني إلى ذلك، أو الأصح الهاوية التي ألقيتُ بنفسي فيها.
وهذا يُرينا من جديد كيف أننا لا نصلُح لحسم مصير الآخرين، ولأن نقوم بدور العناية الإلهية، أعني أن نكون في مركز السلطة. إن الوحيد الذي يملكُ هذا الحق هو الله، إذا وُجد؛ لأنه وحدَه سيكون حكيمًا وعادلًا على الوجه الكافي. وليس هذا بوسعنا لأننا لسنا مجرَّدين من المشاعر الجنسية مثل ذلك الذي لا يُوجد؛ لأننا نملكُ شهواتٍ تَضطرِم وتُعمي الحواس، أو تزحفُ في سكونٍ حتى تُسيطر على أفعالنا وتُصيب تقديرنا بالتبلد. إن هذه القوى تؤثِّر على الجنسَين، لكن آثارها أكثر على الرجال، طالما أن السيادة ما تزال لهم رغم كافة قوانين الحقوق المتساوية. إن الوزيرات، ورئيسات الأقسام ومديرات المصانع، لسن سوى استثناءاتٍ تثبت القاعدة؛ فما زالت السيادة للرجال ابتداءً من الأمم المتحدة حتى فِراش الزوجية، ولا نعلم أي دورٍ تلعبه الميول الجنسية في قراراتهم. وكمثالٍ للتعقيدات الواردة، خذ رئيس أحد الأقسام، يحب العالم، والشعب، ونفسه، لدرجة أنه يودُّ لو يجعلهم جميعًا أفضل مما هم عليه. يودُّ أن يلعب لعبة القدَر، هذه اللعبة الكريهة والضرورية في الوقت نفسه، بكل ما يمكن من حكمة وعدل، وعندما يتعلق الأمر بالنساء بوجهٍ خاص، ينتبه إلى ظهور عواملَ مغلقةٍ في نفسه؛ لأنه رجل، ذكَرٌ حقيقي، ويعرف أن شيئًا بداخله يستجيب، بهذه الطريقة أو تلك، للمرأة في كل أنثى رفيقةٍ أو زميلة. ولهذا يضع لنفسه مبدأً حديديًّا؛ ألَّا يلمس امرأةً تربطه بها علاقات عمل، وأن يُغربِل كل حكم أو تقدير يشوبه تأثير الدافع الجنسي. وعندما تعيَّن عليه ذات يوم أن يساهم في إصدار قرارٍ خاص بإحدى السيدات، وهي أنثى كاملة، قال لنفسه: إن العناصر التي تُحبها في هذه الفتاة لا علاقة لها بالقضية. ولهذا يتماسك، ويقدِّم حكمًا سلبيًّا تمامًا، ويصبح فخورًا بنفسه حتى يدرك، في غضون ليلةٍ مؤرِّقة، أن خوفه من إعطاء حُكمٍ زائف قد أوقعَه في حُكمٍ أكثر زيفًا.»
هذا، وأكثر منه، شرحه هازلر في الثامنة صباحًا بمكتب إرب. بينما جعل هذا يفُض بريده حتى لا يُضطَر للنظر إليه.
بدا على وجهه أنه ليس متحمسًا لهذا النوع من الاعتراضات. وربما كان السبب أنه ذكَّره أكثر مما يجب بتكتيكاته هو في النقد الذاتي.
داعبه الأمل وهو يسير في أن يستدعيه كارل، حتى يسأله هذا السؤال: وماذا عنك؟ لأنه لم يأتِ فقط ليُدلي باعتراف، وإنما أيضًا ليسمع واحدًا. أراد أن يكون الأب الذي يتلقى الاعتراف، والتائب الذي يُدلي به. كانت صراحتُه متعمدة كالطُّعم. لكن كارل لم يعضَّ على الطُّعم، وإنما تظاهر بذلك قائلًا: «لا أحدَ منا بعدُ يستطيع قبول المساواة في الحقوق مع المرأة حقيقة.» ودفع ببريده جانبًا ليتطلع إلى هازلر، لأول مرة غالبًا، وأدرك فجأةً أنه كان موشكًا أن يعزف على تفوُّقه الثلاثي (فهو قد قدَّر تقديرًا سليمًا صلاحية الآنسة برودر للوظيفة، ولم يشُكَّ أحد في حقيقة مشاعره نحوها، كما أن لديه فرصًا). كان يمكن أن يقول مثلًا: حتى ولو كن أطول منا قامة، أو: إننا نطالبهن بمكانةٍ أدنى من الناحية الشكلية على الأقل. لكنه أمسك ولم يستسلم لإغراء الثرثَرة مع هازلر عن النقاط الإيجابية بشأن الآنسة برودر. فضَّل أن يلعب دَور المتفرج، مثنيًا ثناءً تقليديًّا على أمانة هازلر، مبديًا بعض الاهتمام بصحة الآنسة برودر (متاعب الدورة الدموية في سنها قد تعني إجازاتٍ مرضيةً كثيرة)، ثم انتقل بأسرعِ ما يمكن إلى الشكل الذي سيُبلغ به كراتش بالقرار.
كان شديد الحذق والبراعة، وهذا بالتحديد ما قوَّى من شكوك هازلر.
٤
لم يعهد كارل منذ أمدٍ بعيد، يومًا كان العمل به على هذه الدرجة من المَلالة التي انتابته. بدأ يقسِّم الساعات إلى دقائق، وشحب وجهه عندما تنبَّه إلى ما يفعله، فأصدر لنفسه قرارًا صارمًا بعدم النظر إلى الساعة أو التفكير بأية طريقةٍ في الآنسة برودر، لكنه انتهك هذا القرار أكثر من مرة، أرغم نفسَه على التركيز، عكَف على ملفاتٍ طال إهماله لها، أملى رسائل، أجرى عدة اتصالاتٍ تليفونية، وأخيرًا استدعى كراتش ليُبلغه بقرار لجنة المكتبة. وعلى عكس خطته الأصلية، امتد الحديث حتى توسط النهار؛ لأنه لحظ غضب كراتش، ولأنه لا يحتمل قبول الناس لقرارٍ ما دون اقتناع كان يُطالِب الآخرين، كما يطالب نفسه، بمواجهة الحقائق، ولو كانت غير سارة؛ لهذا آمن بأن واجبه يحتِّم عليه مواصلة الكلام حتى يتفهَّم الشاب الموقف. كان ودودًا دون أن يكون مداهنًا، صريحا دون أن يكون جارحًا، لكن أعصابه توتَّرَت عندما ظل كراتش صامتًا، يحدِّق فيه من خلال نظاراتٍ سميكة في وجهٍ جامد. تكلَّم كثيرًا، أكثر مما يجب، وكرَّر نفسه، وأخيرًا، وقد ضاق بانعدام الاستجابة، بدأ يُواسي كراتش بالحديث عن مساوئ برلين، راويًا الكثير في هذا الصدد عن نفسه؛ فعندما اجتاز امتحاناته؛ أي منذ قُرابةِ خمسةَ عشر عامًا، كان الحصول على عملٍ في برلين يُعتبر نجاحًا، لكنه لم يكن من هذا الرأي؛ لأنه اكتشف قبل ذلك بعهدٍ بعيد وَهْم الفكرة، فإذا كان العمل في برلين يعني نقودًا أكثر، فليس معنى هذا أنك تحصُل على مزيد؛ ففي «آلت – شرادوف»، التي جاء منها، يمكنك أن ترقص إذا كنت مستعدًّا للذهاب بالدرَّاجة إلى لو فردورف أوبتشين، وهم يعرضون فيلمًا كل يوم جمعة في فندق القرية، وبوسعك أن تذهب إلى برلين ثلاث أو أربع مراتٍ في العام بالتأكيد لرؤية المتاحف والمسارح؛ أي أكثر مما يُتاح لأهالي برلين أنفسهم، الذين يعرفون ثروات مدينتهم من الصحف وحدَها. إن أهالي المدينة اليوم، شأنهم شأن سكان الريف، يقبعون في منازلهم حيث يقدِّم لهم التليفزيون وَهْم الاتصال بالعالم أجمع، وهو ما يحتاجونه في عزلتهم، التي تفوق كثيرًا عزلة الريف. وفي البداية قاسى كثيرًا من انعدام الهُوية في المدينة الكبيرة؛ فقد ألِف أن يوجِّه التحية لكل من يلتقي به في الطريق، ويعرف منه متى جاء، ومن هو، ويحدِّد بذلك موقفه منه. ووجد من العسير عليه أن يفهم كيف يُعتبر اهتمامه بشئون جاره تطفلًا مزعجًا، واكتشف أن إبداء التعاطف والاستعداد للمساعدة يُعتبر تدخلًا غير مرغوب فيه، واكتشف أنه صار معزولًا لأنه لم يحترم تقاليد العزلة.
بالطبع أنه لأمرٌ جذَّاب أن تعمل في مكتبةٍ كبري كهذه تسير على نظام الرف المفتوح، لكنَّ هناك إشباعًا أكثر في أن تكون في الريف؛ فليس سرًّا أنه ما تزال هناك ثغراتٌ كثيرة، وهو أمرٌ لا تستطيع أجمل الإحصاءات إخفاءه، ما نوع المكتبة التي تُوجد في آلت – شرادوف مثلًا (ففي إقليميته البرلينية لم يكن يعرف مكانًا عداه منذ غادرها، هو وأخصائي الحدائق ذو الميول الأدبية)؟ لم يتطلع أحدٌ في الغالب إلى الخمسين كتابًا التي وصلت في قفص في نهاية الأربعينات، وعفا الزمن على أغلبها الآن. لم يكن هناك من كُتبِيٍّ واحدٍ مدرَّب، وما زال الأمر كذلك. كان أبوه مدرسًا في القرية طوال عشرين عامًا (طُرد عام ١٩٤٥م بتهمة أنه كان من أنصار النازي، وعندما أرادوا إعادته إلى عمله عام ١٩٤٨م لم يذهب؛ لأنه كان قد صار في تلك الأثناء بستانيًّا في دار للحضانة)، وروى له كل شيء عن الأحوال هناك في رسائله الأسبوعية، تلك الرسائل الطويلة التي لا يملكُ كتابتَها غيرُ المتقاعدين.
أجل، أن تذهب للعمل في منطقةٍ نائية، هذا هو التحدي؛ فلن يقتصر الأمر على العمل مع الكتب، بل مع الناس أيضًا، عملٌ مرئي ويمكن لمس حجمه، كما لو كنتَ تدُق شفرة المحراث في الأرض ثم تتطلع خلفك إلى الشق الذي صنعَتْه. هذا هو ما يتُوق إليه كل من يعمل في المكتبات؛ النتائج الظاهرة. وهي لا تُوَجد في أغلب الأحوال. من ذا الذي يشهد الأثَر الفوري لكتابٍ ما؟ قد تقرأ عنه في الصحف، لكنك تعرف كيف يتم ذلك. هذا هو التفسير الوحيد لأن كثيرًا من الكُتبِيِّين يكرِّسون أنفسهم بحماس للإحصائيات والكتالوجات وفن الأرفف، بحيث يصبحون مثار فكاهةٍ للغريب، ويصدُق هذا بوجه خاص على النساء، أولئك اللواتي بلا زوج أو أسرة، اللاتي يعشن ويتقدمن في السن في عالم من التصنيفات والكتب الجديدة. خذ على سبيل المثال الآنسة «فسترمان» التي كانت ما تزال تحتفظ بجاذبيتها عندما التحقَت بالمكتبة، وهي أصغر السيدات اللاتي جعلن حياة فرد مانتك جحيمًا لا يُطاق. كانت واحدةً من أكثرهن فصاحة، لا تُغفِل فرصةً تكشف جهل مانتك كتعبير عن بربرية النظام الجديد. لكنها لم تقبل عرضًا واحدًا للعمل في برلين الغربية (حيث كانت تعيش في ذلك الحين)، رغم أنها كانت تجد الحياة هنا غير مُحتمَلة يومًا بعد يوم، بل إنها ما لبثَت أن انتقلَت للإقامة هنا، وهي تعاني اليوم تحت رئاسة كارل مثلما كان شأنها في ظل مانتك. لكنها علَّمَت الكُتبِيِّين الشبان والمتدرِّبين، عامًا بعد عام، كيف تُدار المكتبة، وأدَّت عملها بأمانة وكفاءة وثقة، وبدونها كان يمكن أن يتعقد ويتشابك سير العمل في المكتبة. كانت عمودًا من القوة، رغم خلوِّه من الجاذبية واكتسائه بالطحلب. إن أجيالًا من الشباب، الذين يفوقونها معرفة، يستخفُّون بها، لكنهم يتعلَّمون منها، وينطلقون إلى الأمام يدفعهم طموحٌ تفتقده. وهم دائمًا على استعداد للمجاهرة بآرائهم الإيجابية بالنسبة للنظام، وهو ما كانت ترفُض القيام به. كانت شخصًا كوميديًّا، شيئًا يصلُح للكتالوجات، كائنًا أعطى كل قلبه للمكتبة.
ومن غريب المصادفات (وهو ما يتعلق بالتأكيد بالتاريخ أكثر منه بالبيولوجيا) أن النساء، هن أكثر استعدادًا من الرجال بكثير للتخلي عن الشهرة والبروز والترقي، دون التقليل من أهمية الأجر الأعلى كقوةٍ دافعة لتغيير الوعي؛ فهن يبدين طموحًا أقل واستعدادًا أكبر للخدمة. ليس معنى هذا أن كافة النساء هكذا؛ فهناك استثناءات (الآنسة برودر مثلًا) ولكن الاستثناءات تؤكِّد، ببساطة، القاعدة. وهل هي مصادفةٌ أن هذه الاستثناءات تتميز بذكورةٍ معيَّنة، غير مستساغة دومًا؟
هكذا تحدَّث كارل، وقد ولَغ في الارتباك، حتى الظهر، وروَّعه أنه انتهى إلى الآنسة برودر بعد كل هذه التفريعات … وابتهَج عندما مدَّت الآنسة زافاتسكي رأسها من فُرجة الباب لتذكِّره بطعام الغداء. أما كراتش فقد ظل وجهه محتفظًا بجموده.
كان كراتش ممتعضًا، وهو ما كان واضحًا، ولم يستسغ كارل بالطبع أن تبقى كلماته الحماسية دون صدي — رغم أنه كان بوسعه أن يلتمس العزاء في أنه وجد طريقةً لا بأس بها لقتل بضع ساعاتٍ من الانتظار. ووجد إرب موقف كراتش غير لائق. ربما كان يظن نفسه أعلى شأنًا من الآنسة برودر؛ أي إن غروره بلغ به حد الارتياب في سلامة قرارٍ اتُّخذ بصورةٍ جماعية مستقلة تمامًا، حرة من أي موقفٍ ذاتي. لعله شعَر بأنه يفوقها معرفة؛ ولهذا لم يستطع التفوُّه بكلمة تقدير لموضوعية القرار الصعب، لكنه على الأقل كان يجب أن يُبدي شيئًا من الأذهان القائم على التفهم.
خُيل إلى إرب أنه يلمَح التواءة سخرية في ركن فمه، عندما أكَّد له للمرة الثالثة أن المشاعر الشخصية لا علاقة لها بالقرار. ولعله كان مخطئًا، لكن ما كان يمكن أخطاء الصمت العنيد، والنظرة الساخطة، والشعر القصير للغاية الذي يرتعش كأنما من الغضب. لم يكن التدليل على كراهية كراتش له يحتاج إلى المشهد الختامي، عندما نهض إرب يبحث عن منشفة؛ فقد ظل الآخر جالسًا ثم قال مؤكدًا على كلمة «أنت»: «لماذا لا تذهب أنتَ إلى الريف إذا كنتَ قد ضقتَ ذَرعًا ببرلين؟»
ولحسن الحظ أنه لم ينتظر إجابةً ما، بل اختفى دون كلمة. وقالت الآنسة زافاتسكي في غضب إنها لم تشهد شيئًا كهذا من قبلُ، واستمتع إرب بأن يجيبها مشيرًا إلى شباب كراتش. كان يبتسم عندما قال ذلك، رغم أنه لم يشعر بالرغبة في الابتسام. كان اكتساب الأعداء يعذِّبه؛ لأنه ألِف أن يُحبه الجميع.
٥
دوَّت الصرخة في اللحظة التي أغلق فيها السيد باشكه النافذة، وقد فتحَها بالطبع من جديد على مصراعَيها، واضعًا وسادة بين بطنه وقاعدتها. أبرَز وجهَه من جديد في الضباب، متجاهلًا احتجاجات زوجته وابنته، آملًا أن يتكرر الصوت أو على الأقل يتلقى تفسيرًا له، وهو ما كان أمرًا غير مألوف في مثل هذا الوقت (السابعة مساء). لكن الطريق كان كدأبه دائمًا في تلك الساعة؛ سيارة؛ سيارة أجرة، وصبي يمسك بسلة من اللفائف، وامرأة تدفع عربة أطفال، ورجل ذو نظارات يحمل حافظة رسائل، من ذلك النوع الذي يأتي من الضواحي ظانًّا أنه يستطيع ابتياع قليلٍ من المغامرة في هذه الناحية مقابل ثلاثين أو أربعين من الماركات. بزغوا جميعًا دون صوتٍ تقريبًا من الضباب واختفوا ثانيةً عندما ابتعدوا عن المنطقة الساطعة المحيطة بمصباح الطريق (كانت مصابيح الغاز القديمة قد أُزيلَت منذ عام فقط وما زالت ترقُد فوق موضعِ قنبلةٍ قديمة مجاور)، إنه مشهد قد يبدو للغريب شبحيًّا، لكنه كان بالنسبة لباشكه محبطًا. انحنى أكثر ليرى ما إذا كان باب الشارع مغلقًا (كان)، وما إذا كان النور ما زال شاعلًا في المدخل (لم يكن). ثم أسرع يعبُر الغرفة، مارًّا بزوجته التي كانت تُعِد مائدة العَشاء، ومن الردهة إلى المغسل حيث ارتقى مقعدَ المرحاض ليتمكَّن من الرؤية خلال النافذة، لكنه لم يرَ شيئًا لأن الفناء وبئر السلم كانا غارقَين في الظلام. جرَّ قدمَيه عائدًا إلى غرفة المعيشة، حيث قالت له أنيتا، التي كانت قد شرَعَت بالأكل: «كان بوسعي أن أذكُر لك يا أبي، أن رجلًا يقف في الخلف متطلعًا إلى النوافذ.»
غضب باشكه، لا من أنيتا (كان بوسعه أن يدرك غَيرتها من الفتاة برودر ورجل السيارة)، وإنما لأنه لم يعرف ما إذا كان الرجل زائرًا أو عاشقًا أو زميلًا في العمل، أو شخصًا في مهمةٍ رسمية، وتملَّكَه الغضب لأنه لم يستجوب الزائر، عن الفتاة برودر بالطبع، لأنه لا يعلم إلا القليل من أنبائها الأخيرة، كانت توجِّه إليه تحية الصباح، لكنها لم تتوقف أبدًا تحت نافذته. وإذا ما تحدَّث إليها، كانت تُجيب باقتضابٍ أثناء مرورها بعباراتٍ عامة مثل: «ربما، سوف نرى، ليس هناك من سوء، أنا في أحسن حال.» كانت إجاباتها غير محدَّدة بطريقةٍ مهينة وكانت تتحدث دون أن تبتسم، كما لو كانت تعرف موضوعه القديم الذي وقع قبل أن تُولد وتم منذ زمنٍ بعيد الصفح عنه ونسيانه. لم يستطع صبرًا على الأكل، ففتح الباب الأمامي، دون أن يُشعِل الضوء، وهبط الدرجاتِ القليلةَ المؤدية إلى باب الشارع، وهناك فقط ضغط مفتاح النور. كشَف الضوء مربعًا في الفناء، وأكسَب الإسفلت لمعانًا، عاكسًا صناديق الفضلات في مياه البِرك الصغيرة، ملقيًا ظلالها على الجدار. هذا هو كل شيء. وما كان جديرًا بالملاحظة هو أن نور الجناح ولم يكن شاعلًا.
والآن، ما علاقة باشكه بهذه القصة؟ حسنًا، إنه والد أنيتا، لكن أنيتا نفسها شخصٌ هامشي يمكن حذفه. إن الشيء الوحيد الهام في هذا الفصل هو الحديث بين كارل والآنسة برودر، وسوف يحتل هذا الحديث مساحةً كبيرة، ولعل بضعة سطور كانت تكفي لتقديم الحديث، من قبيل:
الآنسة برودر.
من هي؟ حتى الآن لم تكن تزيد إلا قليلًا عن مجرد اسم، واسم غير كامل (فلا بُدَّ لها من اسمٍ أول). وفي نظر إرب قد تكون شخصيةً أسطورية، ذات بروفيل جميل، لكنها ليست بعدُ صورة، بالأسود والأبيض أو بالألوان، وبالتأكيد ليست ذات أبعادٍ ثلاثة أو أكثر؛ فالأبعاد الأخيرة هي المهمة (ليس شكل حاجبَيها أو قياسات صدرها أو لون شعرها)؛ ولهذا فإن كل ما قد ساهم في تشكيلها يجب أن يُؤخَذ في الاعتبار؛ ولهذا السبب يجب أن نأخذ لقطةً طويلة، ربما طويلة جدًّا في كلٍّ من الزمان والمكان. لا يكفي ببساطة أن نقول: منزل قديم بفناءَين وثمانية أجنحة، يتجاوز عدد سكانه سكان قرية ألت – شرادوف، إذا ما أردنا أن نصف المنزل الذي وُلدَت به الآنسة برودر (بالمعنى الحرفي للكلمة، رغم وجود مستشفًى قريب للولادة لأن والدها كان معاديًا للمستشفيات والأطباء)، والذي عاشت به حتى بدء الدراسة. إنها الآن تعيش هناك من جديد، لكن ضيفًا، مواطنة من الدرجة الثانية، دون حقٍّ مطلق في الإقامة؛ إذ تتمتع به طالما تعمل في برلين.
لا يكفي أن نقول ببساطة: منزل قديم في حي بوسط المدينة، وبالتحديد الحي الذي يحمل الرقم البريدي ١٠٤، وهو في منطقةٍ يحدُّها من الجنوب نهر شبريه، ومن الشرق شارعًا روزنتهالر وبرونن، ومن الشمال والغرب حائط برلين.
وظلت الكتب سنواتٍ عديدة بعد الحرب فوق المائدة المجاورة للفِراش الذي رقد فيه فيلهلم برودر، يقرأ، ويكتب ملاحظاته، ويتكلم، يتكلم، يتكلم، أمام مستمعه الأخير، ابنته؛ ذلك أن زوجته تنطلق إلى ماجدبورج سعيًا وراء السُّكَّر، أو إلى بيسكوف لتحصُل على بطاطس، أو إلى فردر لتأتي بالفاكهة. وهي تركَب ألواحًا خشبية متحركة أو ظهر عربة، مقتفيةً أثَر طرقٍ خطَّط لها هو من فِراشه، وعندما تحصُل على شيء يعرف دائمًا كيف يمكن مضاعفته دون صعوبة؛ فعلى سبيل المثال يمكن مبادلة السكر والسجائر الأمريكية في السوق السوداء عند بوابة براندنبورج، ثم السفر بعد ذلك إلى بوتسدام (بالقارب البخاري عَبْر البحيرة في الشهور التالية لانتهاء الحرب، وبعد ذلك بواسطة القطار البخاري، بالإضافة إلى مسافة بالأقدام عَبْر جسرٍ خشبي ضيق)، وفي بوتسدام تتم مبادلة السجائر برغيف من الخبز العسكري الروسي، يُقسَّم شرائح، تغطَّى بدبس السكَّر، وتُباع بسعرٍ مرتفع للمستحِمِّين على شواطئ إحدى بحيرات برلين، وأثناء الصيف يشتري الحطب في محطة هيرمان شتراسه (بداية الخط الحديدي الضيق إلى متنفالد)، ويقايض في الشتاء بأحجار القدَّاحات وفتائلها، ثم يبادل بعض هذه الأخيرة لدى الأسرى العائدين مقابل قدَّاحات صنعوها من صناديق القذائف، ويثبِّت ما تبقى من أحجار وفتائل في هذه القدَّاحات، ثم إلى ماجدبورج لبيعها مقابل سكَّر.
لم تكن زوجته لتعترض على هذا الطريق المؤدي إلى الرفاهية، لكنها كانت تختصره باستخدام السكَّر مباشرة لتحسين الحَسَاء الهزيل، مفسِّرة اختفاءه بغارةٍ بوليسية، وتنطلق مباشرة إلى بازفاك بآخرِ ما تبقَّى من ملاءات لتحويلها إلى بطاطس. إنها سعيدةٌ طالما أن مَعين زوجها من الأفكار لا ينضب، ويقرأ ويتكلم، ويرعى ابنتَهما. وينتابها الرعب عندما يصمُت فجأة، ويئنُّ بين الحين والآخر، دون أن يعطيها تعليماته، وعندما يكُف من القراءة تُهرَع إلى الطبيب متجاهلةً اعتراضاته، وعندما يأتي الطبيب يأخذ فيلهلم برودر بعيدًا معه.
وتتساقط دموع السيدة برودر القريبة دائمًا من السطح، في ملابس الآخرين، ولما كانت لا تريد أن تصحب معها ابنتَها في رحلاتها التموينية، أو تتركها بمفردها، فقد تعلَّمَت الحياكة من السيدة فولف (التي كانت تقطن فيما سبق بالجناح «س»، ثم انتقلَت إلى مسكن برودر عندما بدأَت الغارات الجوية على برلين، محتفظةً لنفسها بمدخلٍ مستقل). وهي الآن تَحيكُ لكل من يملك الثمَن في صورة طوابعِ تموينٍ أو فحم أو دقيق، ومن عملائها السيدة باشكه الجديدة التي تزوَّجَت الأرمل العجوز بسبب مسكنه الكبير، ووهبَتْه بعد سنواتٍ قليلة طفلًا أسمر من سيرجنت أمريكي. وتذكُر السيدة باشكه للسيدة برودر أن باشكه ما زال يخشى برودر بسبب موضوع اليهود، وأنه يُهرَع دائمًا لمساعدة السلطات حتى يكون معروفًا جيدًا ومذكورًا لديهم بالخير إذا ما وشَى به أحد.
لكنَّ أحدًا لا يفعل، ولا حتى عندما يعود فيلهلم برودر إلى المنزل بربع معدة وقلبٍ مريض بعد فترةٍ طويلة في المستشفى، قادرًا على المشي ببطء، ممتلئًا بالأفكار. ويجعل باشكه، رجل البريد المتقاعد، من نفسه إنسانًا نافعًا؛ يُوزِّع بطاقات التموين، يُراجع طلبات إصلاح الموقد، يجمع التبرعات لحملات التضامن، للصليب الأحمر، ولضحايا الزلازل، وللنصب التذكارية القومية، ولأنصار السلام المسجونين في ألمانيا الغربية، ويتأكد من إثبات كل جديدٍ في سجل المنزل، ويُراجع القوائم الانتخابية، ويعلِّق صور رجال الدولة فوق الباب الأمامي، ويرفعها، وينصب الأعلام، ويُراقب الداخلين إلى المنزل والخارجين منه، ويقدِّم المعلومات. وبينما باشكه مشغول هكذا، فإن فيلهلم برودر، الذي أُحيل على التقاعد بسبب العجز، يَذرَعُ طرقات برلين في شَعَره الأبيض والمهابة التي أكسبه إياها ضيقُ تنفُّسه، بحثًا عن آثار المشهورين، ويتعين على ابنته أن تذهب إلى مكتبة المدينة بعد الظهر سعيًا وراء المزيد عنهم. بدأ هذا كله بمندلسون، الذي ظل وفيًّا له في كل الكوارث. لقد تم تدمير قبره الملاصق للمنزل واختفى تمامًا، ولم يعُد من الممكن العثور على منزله في شارع شبانداور، لكن هناك عوضًا عنه آثار لليسنج، ونيكولاي، وكورنر، وشولتزدليتشي، وكارل ماركس ورانكه وتسلتر، وشودوفيسكي، وهوفلاند، وليتفاسي، وهومبولت، وهيجل. والقائمة تنمو يومًا بعد يوم، وربما كان خليقًا به أن يضع كتابًا عن برلين ورجالها العظام.
أصبح أكثر تواضُعًا، ولم يعُد يُحاوِل فهم كل شيء. إن اهتمامه مركَّز الآن على حياة الناس، وشيخوختهم بوجهٍ خاص، وتتحوَّل هذه التفاصيل في الحال إلى حكاياتٍ من قبيل: «وعندئذٍ قال ليسنج لفولتير: يا صديقي العزيز ….» ويعلو كَوم دفاتر الملاحظات في الخوان. أصبح عددها أخيرًا ثمانية عشر دفترًا، يتألف كلٌّ منها من خمسين صفحة؛ أي حوالي الألف من صفحاتٍ بلا هوامشَ امتلأَت بالملاحظات، لكن الإصلاح التعليمي في النهاية يحطِّم قلب فيلهلم برودر المريض، وكلما تقدَّم به السن، وازدادت قراءاته، تضاعَف إعجابه بهؤلاء الذين يستطيعون فهم تلك الأشياء التي يُغلق عليه فهمها. وتحصُل ابنتُه على درجاتٍ جيدة في المدرسة، وبموافقته الفخورة تلتحق بمدرسةٍ لقواعد اللغة. منذ اختفى العجوز فالشتاين، لم يعُد أمامه من هدف لإعجابه، فأسبغَه على ابنته، وأدَّى به هذا، مع اقتراب موعد امتحاناتها النهائية، لأن يُحرِّرها من دورها في عمله، ويذهب بنفسه إلى مكتبة المدينة التي كان يتجنَّبها حتى هذه اللحظة في وقارٍ متواضع.
وعندما شرعَت الموظفة ترتدي قُبعتَها ومعطفها، ظنَّت العجوز الوقور نائمًا. صفقَت حقيبةَ يدها في ضجة، وطهَّرَت حنجرتها بصوتٍ مرتفع، ثم أطفأَت نور السقف، وعندئذٍ فقط لمسَت كتفه. أجل، إنه نائم، وليس بوسع الطبيب إيقاظه. ولا ابنته التي تشعُر أنها مسئولة لأنها لم تجد الشجاعة لأن تُخبره بأن فكرتَه الأصلية قد خطَرَت لكثيرين غيره من قبلُ، وأنهم بإمكانياتٍ تفوقه، قد وضعوها موضع التنفيذ.
بعد وفاة الاثنَين، يقوم باشكه بجمع التبرُّعات من السكان القدامى في الأجنحة الثمانية، لشراء إكليلٍ من الزهور يستقر ذات يوم فوق مقعد المطبخ في الفِناء الأمامي إلى جوار صناديق الفضلات، كما يُقرِّر أيضًا التخلي عن بعضٍ من واجباته المُرهِقة، وتتلقى الآنسة برودر كلمات العَزاء من القس والسيد باشكه والسيدة فولف في مقبرةٍ غير معروفة في برنتسلاوبرج، وهي ليست حزينة وحسْب بل ومحرجة أيضًا لأنها انفصلَت عن الكنيسة حديثًا. وقبل أن تعود إلى لايبزيج، تَعِدها السيدة فولف، الساكنة الأساسية الآن في مسكن الطابق الرابع مع زوجها (مهنته: ساقٍ، هوايته: تربية الحمام، عاد من معسكر أسرى الحرب في أوائل الخمسينيات) تَعِدها بأن تحتفظ لها بالغرفة ذات المدخل الخلفي التي تستطيع منها أن تُطِل على المقبرة اليهودية؛ حيث يقوم قبر موسى مندلسون من جديد أمام تلك القبور التي يعود تاريخها إلى أبريل ومايو ١٩٤٥م.
وأمام هذا الباب الخلفي، على دَرَج الجناح ب، وقف كارل دون حراك عدة دقائق، قبل أن يستقر رأيه على دق الجرس.
لكن ليس بعدُ. لقد وقف أولًا في الفِناء المظلم، وهو منفعلٌ أكثر مما يجب أن يعترف، وقد دبَّ إليه شيءٌ من الخوف بعد لقائه بالسيدة جيورنج، التي صرخَت، واستولى عليه الشعور بأنه أقربُ إلى مُواطنٍ محترم في إحدى ضواحي الأضواء الحمراء، منه إلى فارسٍ أسفل شرفة معبودته، أو مغامر في أنحاءٍ أجنبية. حَفزَه الأمل في اكتشاف شيءٍ مميز للآنسة برودر من الستائر أو الضوء، أن يتطلع إلى النوافذ، حتى اختار في النهاية (بوسعنا القول إنه أمرٌ مميز أيضًا) الوسيلة السعيدة؛ أي درَج الجناح ج. وبنصف وعيٍ جعل يصوغ الطريقة التي سيصف بها هذه الدقائق للآنسة برودر فيما بعدُ.
توَّج وصفَه اللاحق بهذه الكلمات: «بعد سنواتٍ قليلة سيزور السائحون آخر ما تبقى من هذه المنازل كما نزور نحن منازل كيدلنبرج نصف الخشبية، وسيُلقي المرشدون على مسامعهم مقتطفاتٍ من نثر دوبلين أو أرنو هولتز؛ كاد السقف يناطح النجوم، وتردَّد ضجيج الورشة في الفِناء، كان حقًّا مسكنًا من نوع تل النمل، تتردَّد موسيقي الأرغن في فنائه، وفي القبو فئران …. أنت تعرفين الأسلوب.» وقد سارعَت الآنسة برودر التي لم تكُن تعرف، وفقط تذكَّرَت اسم هولتز من دروس الأدب الألماني، بالقفز فوق حاجز جهلها، وشرعَت تتحدَّث عن تاريخ البناء. ولم تتمكَّن من التغلُّب على هذا الخجل والاعتراف بوجود ثغراتٍ في معلوماتها إلا بعد شهور، عندما غيَّرها الحب.
وخَز الغُبار أنوفَهم جميعًا عندما برَزوا عند قمة السلَّم الأمامي، وهم يُزيلون أنسجة العنكبوت من وجوههم، لكن الغُبار أعفاهم من جزء من السلَّم؛ لأنه أصاب كؤاده بنَوبة عَطْس. وأخرجَت هذه النوبة باشكه ذا الأذن الحادة (هو وابنته) من مسكنه ودفعَتْه إلى صعود السلَّم؛ بحيث أمكن النظر في سوء الفَهم الحادث وتصفيته عند الطابق الثاني، مما لم يدَع للجماعة سوى أن تتقهقر، هادئةً محبَطة.
وقف دقائق؛ لأن قلبه كان يدُق بصوتٍ مرتفع. كان يتطلع منذ الصباح الباكر إلى هذه اللحظة، لكنه شعَر فجأةً الآن بالخوف من أن تدمِّر كلمةٌ واحدة أو نظرةٌ واحدة منها كل آماله.
هكذا روى القصة أكثر من مرة للآنسة برودر، دون أن يذكُر أنيتا. كان من الصعب أن يذكُرها لأنه أخفى مغامرة السلَّم بأكملها؛ فما كانت لتتفق مع الصورة التي حاول أن يُبرِزها عن نفسه؛ فهو لم يتصرف بدرجةٍ خاصة من الشجاعة أو الثقة بالنفس، أو البرود، ولم يدافع عن نفسه؛ فقد تركهم يفعلون به ما بدا لهم، محتجًّا بخجلٍ فحَسْب، مستخدمًا في الاستفسار عن بغيته العديد من كلمات الاعتذار، ملتجئًا إلى السخرية مرةً واحدة فقط («يهمني حقيقةً أن أعرف من تظنُّونني»)، شاعرًا بقليل من الخوف في السندرة، وباختصارٍ إنه تصرَّف على طبيعته، كما هو، لا كما أراد أن يبدو، وبدا له أنه لو قدَّم نفسه إليها في هذا الضوء لكان معنى ذلك النهاية قبل البداية؛ ولهذا صمَت تمامًا بشأن ما حدث. وعلى أية حال كانت لديهما مادةٌ كثيرة للساعات الست التي جلس خلالها في مواجهتها.
٦
ولمَّا كانت الشخصيات الأساسية في هذه القصة لا تتعاطى الحبوب المنومة، ولمَّا كانت نفوسهم جميعًا تُعاني من ضياع بعض الأوهام، فإن أحدًا منهم لم يكن قد نام بعدُ في الثالثة صباحًا. رقَد كلٌّ منهم على ظهره في الفراش (فراش كلٍّ منهم)، الآنسة برودر على مرتبة من القش، وإرب وإليزابيث على مرتبة من الشرائط المعدنية الداخلية، وحدَّقوا جميعًا في السقف، وفكَّروا فيما طرأ على الآخر من تغيير، مكتشفين أنه (أو أنها) لم يعُد يشبه الصورة المتخيَّلة عنه (أو عنها). إليزابيث وحدها كانت عادلة بعض الشيء؛ لأن إرب تصرَّف كما توقعَت؛ فلم تكن صورتها عنه هي الزائفة، وإنما هو نفسه الذي كان زائفًا.
لكن ما المعنى هنا للزائف والصحيح، الصح والغلط، المذنب والبريء؟ لقد تغيَّر كارل، هذا حقيقي، لكن كل شيء يتغيَّر؛ فلا شيء يبقى ثابتًا.
الديالكتيك كعذر للخيانة الزوجية؟
كان الوقت ما زال مبكرًا في هذه المرحلة للحديث عن الخيانة الزوجية؛ فقد بدت نائيةً أكثر من أي وقتٍ مضى. كانت إليزابيث تُدرِك هذا أيضًا. وما أقلقَها لم يكن هو استعداده لها (وهو ما أحسَّتْه بصورة مهمة)، وإنما التغيُّرات، غير الهامة في حد ذاتها، التي لحظَتْها فيه على مدى نصف ساعة من تلك الليلة. كانت غارقةً في النوم في الثانية والنصف، ولم تسمع صوت السيارة. استيقظَت فقط عندما فتح الباب، وقبلَت في صمتٍ اعتذاره («كنت أظنك في انتظاري»)، وعدلَت بناء على طلبه عن إشعال النور، ثم لحظَت على الفور بتقزُّز رائحة الخمر.
ولنقل الضيق بدلًا من التقزَّز؛ فلم تكن هي التي لا تقرب الخمر، وإنما هو، وخاصة في المنزل. كان يحتفظ ببعض المشروبات حتى لا يبدو أمام الضيوف خارجًا على المألوف، ولما كانت إليزابيث ترحِّب بين الحين والآخر بتناول كأس، فإنه كان من الطبيعي أن تثور إذا كان كل ما ينالها من نوبات شرابه (النادرة) هو الرائحة. كما لاحظَت بنفور عودتَه المتأخرة (وهو ما كان يتجنَّبه من ناحيةٍ أخرى بسبب الساعات المقرَّرة للنوم)، كما لاحظَت هرعَه غير المألوف إلى إطلاعها على كل شيء.
هذا الموقف الأخير ينبع من حاجة كارل لأن يكون أمينًا؛ فعلى مدى الاثنَي عشر أو الأربعة عشر عامًا الماضية لم يُخْفِ عنها أية أسرار (طالما كانت تُبدي تفهمًا لكل شيء، أو على الأقل تُحاول في صمتٍ أن تفهم)، ولما كان كل شيء ما زال طازجًا، فقد وجد صعوبةً في تمييز الهام من غير الهام. وبالرغم من هذا، كانت نصفُ ساعة كافية، منذ كانا يفهمان بعضهما، وكثيرًا ما كانت التلميحات والكلمات القليلة كافية.
«عندما تعلمتُ الأبجدية في ١٩٤٦م، كنا قد اجتزنا الحرب، وليست خبرتنا سوى تاريخ بالنسبة لها، إننا نتقدم في السن يا إلي.» كان خائب الأمل وغاضبًا، لكن إليزابيث لم تستجب.
رقدَت بلا حَراكٍ في الظلام، شاعرةً بالخطر (لكن بالقوة أيضًا على مواجهته) مقاطعةً إياه مرةً واحدة فقط (زوجة حقيقية) لتسأل عن شكلها.
وعندما انتهى، وانصرف، وقد خاب أمله نتيجةً لصمتها، قالت: «إذن فقد وقعتَ في الغرام».
إذا ما أرجعنا حديثه المتدفق طوال نصف ساعة للأمانة، كان ذلك نصف الحقيقة أو ربعها فحسب، وبالتالي غير حقيقي. كان لهذا الفيض عددٌ من الدوافع المتدفقة في قوة أو السائلة في هدوء؛ الرغبة البسيطة في رواية ما حدث، الحاجة إلى الاعتراف لتخليص ضميره، الخشية من أن تقلق زوجته، الخوف من شكواها. تفجر ينبوع الأمانة بصورةٍ طبيعية (في هدوء)، لكننا نعرف كيف يحدُث هذا مع العشَّاق والمتزوجين، في بداية البداية، هناك اعترافٌ كبير صادق، وثقةٌ في الغفران؛ فكل ما حدث يمُتُّ إلى الماضي، قد وقع قبل العهد الجديد، فقد شرعيته لأن المرء قد تغيَّر، وكل شيء تغيَّر. أجل، تغيَّر؛ لأنه منذ اليوم الأول، تعني الأمانة إحداث الألم للشريك، ولا أحد يودُّ إلحاق الأذى بالمحبوب. لكن أحدًا لا يرغب أيضًا في الكذب، وعندما يقول الآخر: «أريد أن أعرف كل شيء»، فإنه ليس صادقًا تمامًا؛ لأنه أيضًا يخشى ألم التفاصيل. والنتيجة أن المرء يكتفي بحقيقةٍ مُشَذَّبة، حقيقة تمت سنفرة حوافِّها الجارحة، أو قُسمَت هي ذاتُها إلى أجزاء تبدو أخف، ويمكن ابتلاعها بلا صعوبة.
لم يذهب إرب بالطبع بعيدًا إلى هذا الحد؛ فلم يكن هذا هو أسلوبه، ومن التجني عليه أن نزعم ذلك؛ فما كان باستطاعته أن يفعل ولو أراد. لكنه تمكَّن بشكلٍ ما من الجمع بين السنفرة وملف الكليشيهات بمهارة (لم يصبح الفأس ضروريًّا إلا فيما بعدُ) فيقول مثلًا شيئًا وديًّا ومجاملًا عن وجهها بينما يضيف أنه غريب، والواقع أن وجهها يبدو غريبًا بالفعل بصورةٍ مفزعة إذا شُوهد من مقربة، على بعد بوصتَين أو ثلاثٍ عندما حاول تقبيلها. ومن الطبيعي أن تذهب هذه الحقيقة ضحية ورقة السنفرة كما حدث من قبلُ لقرار زيارتها التي ألمح أنها تمَّت بدافع «الواجب»، وشرائه الخمر في الطريق، واجتذابه حافظة أوراقه فجأةً في الساعة التاسعة قائلًا: «أوه، إن معي بالصدفة شيئًا من الخمر. هل أستطيع؟ هل تُحبين؟»
لكن الآنسة برودر تعبث بكأسها في ضجَر، وتملَّك إرب شعورٌ بأنه ارتكب خطأً ما. لعلها لا تُحب الرجال الذين يَشْكون، وبالتأكيد خاب أملها لأنه حطَّم بنفسه الصورة الخارجية التي حاول أن يقدِّمها عن نفسه، أو ربما شعَرَت بأنه أهملها. وها هو يغيِّر الموضوع من ثانية إلى أخرى، ويبدأ في الحديث عن الفتيات ذوات العقول، والصعوبات التي يواجهنها لأن الرجال (الآخرين بالطبع) لا يقبلون الإناث اللاتي هن أنداد لهم، فضلًا عن اللاتي يتفوَّقن عليهم، ويبدو أن هذا الوضع تحكُمه قوانين الشهوة، أو الغريزة الجنسية، لكنها لا تُوجد — أم تُوجد؟ — في صورةٍ واضحة، إنه لا يفهم هذا، لكنه يعرف كيف يتكلم الرجال عن أشياءَ مثل هذه.
وهكذا (بعد قرابة ست ساعات من الغزَل العقيم) سألَتْه: «لماذا أنت عضو في الحزب؟» ألم يكن من الأفضل إجراء حديثٍ قصير بالليل مع الزوجة، يستحيل فيه الانسياق إلى التفاصيل. ليس فقط من العسير ذكر الحقيقة إذا كانت تؤذي الآخرين، لكنك أيضًا عندما تفعل تعترف بأنك تصرَّفتَ كدُمية تحرِّكها الخيوط. عفوًا؟ السؤال يتكرَّر. ويتهرَّب منه لاجئًا إلى الإطراء؛ بمفرده في الليل مع فتاة على هذا القَدْر من الجمال ثم سؤال كهذا؟ «أتدركين حقيقة كم أنت جميلة؟» «لقد قيل لي ذلك من قبلُ بطريقة أقل ابتذالًا.» ثم تُكرِّر سؤالها مرةً أخرى. وأخيرًا يبدأ من البداية: الحرب، المُثُل المزيَّفة، الانهيار الداخلي، الشعارات المضحكة حول إعادة البناء والتي لم يأخذها على محمل الجد إلا عندما تجلَّت النتائج الأولى، عدو الفاشية الذي يدير مدرسة المكتبات، الكتب، السلام، منظمة الشباب … لكنها قاطعَتْه. إنها لا تريد أن تعرف لماذا انضم للحزب، لماذا هو عضو به اليوم. ويشعر أنه يتعرَّض للهجوم، ويحاول أن يتبيَّن الاتهام الذي تُوجِّهه إليه. أهو شعور «الصباح التالي» (لقد تحقَّق كل شيء والآن ماذا)، أم نواقصه الأخلاقية؟ لكنها لا تتهمه بشيء، إنها فقط مهتمة بالحقائق، وهي في الحقيقة واقعية بشكلٍ مهين. وخلاصُه النهائي هو نظرةٌ إلى ساعته، بفزع ولا تحاول استبقاءه. وفي الظلام بالمنزل قام بتقييمٍ أمين للأمسية كلها. وشعَر بالضيق. لكن لماذا؟ وأعلن بإخلاص أن كلمات إليزابيث الختامية ليست إلا هُراء. لكن هذه الكلمات أرضَتْه؛ فالحب يمكن تبريره. لكن الأسوأ أن تكون قد أدركَت الحقيقة؛ أنه زار الآنسة برودر بهدف ارتكاب عملٍ خليٍّ من أعمال الفسق.
من النادر أن تكون طرق الحب هي أقصر طريقٍ بين نقطتَين؛ ذلك أنها تتعرَّج، تصعَد وتهبِط، تلتفُّ كالأفاعي، وتدور كالحلزون، وتمتد فوق الجبال والأودية، المتعة والألم، وتبدو كالمتاهة، وخاصة لمن يمشي بها، يزحف خلالها، أو يطير فوقها. لماذا لا تمضي هذه الطرق عَبْر الشهوة ببساطة؟ لكن حتى هذا لم يكن قضية كارل؛ فقد أحبها منذ استيقظ باسمًا (ولم يكن غضبه نابعًا إلا من الإحساس بأنه ارتكب شيئًا خاطئًا، الخوف من أنه قد لا يفوز بها أبدًا)، وليس هناك من سببٍ للافتراء عليه واتهامه بأنه مغامرٌ محدود بإطار الجنس وحده.
يقول المثل: «الحب الحقيقي دائمًا على صواب». وليس نصف مصيب، كما كانت الآنسة برودر لا بُدَّ قائلة في مقتبل شبابها، عندما كانت تجعل شعرها على هيئة ذيلِ حصانٍ ذي رأسٍ بارز، وتسرق الحطَب من الحُطام، وعندئذٍ كانت ستدُق بإصبعها على جبهتها. وفي الأعوام اللاحقة (بعدما تقدَّمَت في الموضوع ببطء) كان من شأنها أن تتحدَّث عن المقولات الأخلاقية التي لا يمكن استخلاصها من المشاعر الثابتة بدرجة وأخرى. لكن في تلك الليلة، قبل الثالثة بقليل (أبقاها روتين التجميل المسائي الإجباري مستيقظةً إلى ما بعد ذلك الموعد، وبالرغم من ذلك كانت، بصفتها أقل الأطراف تورطًا، أسرعهم إلى النوم) كل ما كان يمكن أن تَفترَّ عنه شفتاها، اللتان تحظيان بإعجابٍ كبير، لو كانت مطبوعة على الحديث إلى نفسها، هو «خسارة!»، أو «شكرًا لله» (أو شيء بين هذا وذاك)، وموضع التعليق هنا ليس شعارًا من الشعارات، أو إحدى التفاهات النظرية، وإنما هو الرجل كارل إرب، رئيسها كارل إرب، الذي خيَّب أملها؛ لأنه لم يكن يتفق والصورة التي كوَّنَتها لنفسها عنه.
قد تقولون إن هذا خطؤها. لكنها أيضًا، وهي أكثر شخصيات هذه الحكاية قاطبةً يقظة، كانت طفلةً من أطفال عصرنا، وصحفنا، ومدارسنا، كُتبنا، ومعنى هذا أنها تعلَّمَت أن ذوي الشأن لا يحملون قُرحًا على أجسادهم، ولا يتأخرون في الاستيقاظ، أو يرتكبون أخطاء. وبعض الوقت كان قد تملَّكَها حماسٌ طفولي لتلك «النماذج البطولية»، ثم وجدَتهم باردين مُضجِرين، وبين المرحلتَين مرَّت بالأزمات المعتادة؛ عندما ظهَرَت القروح من وجوه الأبطال، عندما لم تعُد الحياة تتألف من أعمالٍ عظيمة، وإنما من توافهَ سارَّة أحيانًا منفِّرة أحيانًا أخرى، عندما تكشَّفَت حقيقة الدوافع السامية سموًّا مطلقًا خلف القرارات السليمة، عندما اتضح أن العظماء من هُواة جمع الطوابع المشغوفين، وأن الحب يُسبِّب آلامًا مبرِّحة، ويتطلب منشفة.
لقد تغلَّبَت على أزمات من هذا النوع في وقتٍ مبكِّر بعض الشيء. انكمشَت صورتها الضخمة عن أبيها العالِم إلى صورةٍ متفسخة لمعتوه يبعث على الخجل، يتحدث طول الوقت عن أشياء لا يفهمها، لكنها لم تلبث أن نمت من جديد إلى صورةٍ واقعية من الحجم الطبيعي لشخصٍ موهوب لم تُتِح له فرصته تطوير إمكانياته. كان حبها الأول، وهو شاعرٌ تعرَّفَت به نتيجة رسالةٍ حماسية، يعكُف كل مساء على تخدير الإنسان القديم في نفسه بالخمر ليتمكَّن من الإنشاء للإنسان الجديد. وأبدى أحد مسئولي منظمة الشباب استعداده للفِرار معها إلى الغرب (عن طريق بلغاريا حتى يبتعد عن أسرته). أما الليالي الرومانسية التي كانت تنتظرها في معسكرات العطلات فقد قضتها في مكافحة البعوض. وانفصمَت أواصر صداقات بسبب مشاعر لا معنى لها من الغَيرة. وأصبحَت الصورة التي لا يمكن الحياة بدونها مبعثَ ضجَر بعد ستة شهور. وانتهَت ليالي الكرنفالات، التي يجري الإعداد لها أسابيع، بالقيء. وتلاشى سحر الكُتب المحبوبة. وثبَت عبَث الثقافة التي كان الحصول عليها شاقًّا.
لقد تعلَّمَت في الحقيقة كيف تميِّز بين المثَل والواقع، بين الفن والحياة، لكنها بالرغم من ذلك كانت، أكثر من مرة، تنتظر من الناس أكثر مما يمكنهم أن يُعطوا. وانطبق هذا على إرب، على سبيل المثال. لكن الأمر لم يكن سيئًا، لم يكن أزمة، وإنما مجرَّد خيبةِ أملٍ صغيرة قبل النوم لا يمكن تجنُّبها، ظل صغير ضعيف فوق المنظر الطبيعي المشمس لبهجتها؛ فقد فازت بالوظيفة، وستبقى في برلين وتُواصِل عملها. لقد بيَّنَت لها التجربة أن المتعة المستمَدة من عملها وكل ما هو متصل به، قد ظلَّت ثابتة رغم الآمال الضائعة، ولأن كل شيء في التحليل النهائي (الأدب، السياسة العلم، التكنولوجيا، وفوق كل شيءٍ الناس) له علاقةٌ بعملها، فإن اهتمامها بالأشياء وبالناس لم يتغيَّر، مثلما كان شأن هدفها، الذي حدَّدَته في وقتٍ مبكِّر من حياتها؛ فحينما كانت ما تزال تذهب إلى المدرسة، كانت تجلس في مكتبة المدينة بين جميع القُراء كي تُشبِع نهَم أبيها المجرَّد من الهدف للمعرفة، وألِفَت أن تتساءل عن ثمار كل هذه القراءات بالنسبة للفرد؛ فعلى خلاف أمها (التي كانت تلعَن كل الكتب بصفتها مسئولةً فيما يبدو عن فقر الأسرة) كان جميع الذين تركوا لديها انطباعًا قويًّا يرَوْن في القراءة شيئًا طيبًا. وبدا لها الارتيابُ في صحة هذا بلا معنًى مثل الارتياب في صحة جدول الضرب، ونتيجةً لهذا لم يكلِّف أحدٌ نفسه بحث هذه المسألة، ولا حتى موظفو المكتبات، الذين يؤكِّدون أن القراءة أمرٌ طيب من أجل تبرير منفعتهم للمجتمع.
ولكن بالنسبة لها (أمام عينَيها كان هناك كلٌّ من أبيها وقروح الأبطال التي يُخفيها الأدب)، لم تبدُ المسألة واضحةً تمامًا؛ فمن الكتب العلمية تتعلم كيف تُبنى الجسور، وتبنيها، تتعلم قوانين تطوُّر المجتمع، وتطبقها. لكن ما هو أثَر الأدب؟ (حتى إذا ما اقتصر الأمر على ما يُسمى بالشرائح الممتازة). ماذا يؤثِّر فيمن وكيف؟ إذا صور العمل شيئًا أخلاقيًّا، فهل يكون له حقًّا أثَرٌ أخلاقي؟ هل تصوير الشر يحمل حقًّا على تجنُّبه؟ هل يجب أن نفترض، في كل حالة، وجود الرغبة في تَمَثُّل أبطال هذه الأعمال؟ من الذي تجتذبه المؤلفات الغريبة؟ ومن تجتذبه المؤلفات العادية؟ وما هو القَدْر الذي يجري استيعابه؟ القَدْر الذي يجري تَمَثُّله؟ وما هو الدور الذي تلعبه في ذلك التجربة والتعليم والمعرفة؟ كيف يعمل العنصر السيكولوجي في القراءة؟ كانت دراساتُها هي وسيلتها الأساسية للإجابة على هذه الأسئلة، وبذلَت جهدًا كبيرًا في دراسة أساليب المكتبات وإحصائياتها؛ لأنها كانت تعتبرها أدواتٍ لأبحاثٍ جديدة. ولم تغضب عندما اكتشفَت أن كثيرين قبلها قد تقصَّوا هذه الأسئلة. قرأَت ما كتبوه ووجدَته غير كافٍ، مثلما هو الشأن في كل ما كُتب من تاريخ للأدب، وعجَز تمامًا، للغربة، عن أن يقدِّم تاريخًا لتأثيرات الأدب.
وخلال فترة دراستها العلمية عكفَت على الإحصائيات، وأجرت استفتاءاتٍ خاصةً بها (لا من أجل الوصول إلى نتائج، وإنما لاختبار الأساليب)، وسرعان ما أدركَت أنها لن تتقدَّم كثيرًا دون أن تحصُل على تدريبٍ سيكولوجي واجتماعي. لكنها كانت ما تزال في مقتبل العمر. وبعد سنواتٍ قليلة من النشاط العملي كأمينةِ مكتبةٍ سيكون بإمكانها مواصلة الدراسة. وقد وقعَت ذات مرة في أعدادٍ قديمة من المجلات التكنيكية على مقالاتٍ عن موضوعها، يتميَّز بعضها، وهو من إنشاء كارل إرب، بالمعلومات والتشويق. استفسَرَت عنه، كان معروفًا بأنه من خبراء المكتبات الجيدين، محبوبًا من زملائه، وبذلَت جهودًا لتُنقل إلى مكتبته، لكنها عندما سألَتْه من مقالاته، لم يكد يُبدِي اهتمامًا.
وها هو يأتي إليها، رجل كبقية الآخرين، على قَدْر من الغرور الذي لا يتصف به غير البُلهاء، ممتلئ بنفسه، وبالكآبة مع الفودكا، لا تكاد تثيره القضايا التي لا بُدَّ أنها أثَّرَت فيه بعمقٍ ذات يوم، تشغل رأسه فكرةٌ واحدة: هل ستنام معه أم لا. كانت تعرف كل شيء عن ذلك، ولم تثُر دهشتها، ولا حتى لاعترافه بهزيمته اعترافًا مغلفًا بقناع من الحكمة والسخرية. والحقيقة أنها لم توِّجه إليه ذلك السؤال عن الحزب إلا لترى ردَّ فعله عندما يُحاوِل الإجابة (بالفعل سرَّها عجزُه، وكانت تتوقَّع منه السخرية). والحقيقة أن الشيء الوحيد الجارح لها هو نظرته لها كمجرد هدفٍ جنسي وحَسْب. أما الشيء الوحيد الحسَن فهو وصوله على غير توقُّع، ولم يتوفَّر لها الوقت لمتعة الترقُّب، لكنها يجب أن تنام. وإلا سمع الطبيب في الصباح من قلبها أنها لم تحصل على الراحة الضرورية. وفكَّرَت: كان يجدُر بي حقًّا أن أقذف به إلى الخارج عندما بدأ ذلك الروتين المخجل بزجاجة الخمر. ثم استغرقَت في النوم.
ألم يسُرَّها كونُها مرغوبة؟
أجل، لكنها تعلَّمَت أن تَكبِت سرورها؛ فقد تتدفأ في شمس الإعجاب حتى يفوت الوقت، فتستسلم في لحظةٍ ما، بدافع العرفان والحُنو (وأيضًا لأنه ليس من السهل الحياة دون رجل) له، رئيسها، زوج أخرى. وبعد ذلك يصبح الأمر فظيعًا؛ الأكاذيب لزملائها، النظرة السريعة للساعة وهما في الفِراش، الوحدة أيام الآحاد، الاعتذارات عندما يكون هناك عيد ميلاد لأحد أطفاله. لم تفكِّر في الأمر بوعي؛ فلم يكن هذا ضروريًّا، إذ كانت لها تجاربها التي استقرَّت في أعماقها، وأصبحَت نوعًا من الغريزة، لا يحتاج الأمر إلى جلبها إلى مستوى الوعي؛ لأنها تمارس تأثيرها في كافة الأحوال، تقوم بدور الفرملة لمشاعرها، تُبقي على يقظتها، وتمنعها من نسيان إحباطاتها.
وفيما بعدُ، عندما جعلَت تستمتع بتذكُّر بدايات حبها، كانت غالبًا ما تؤكِّد الأثر الإيجابي لتحفُّظها الأصلي. ألا يبدو هذا أشبه بالحسابات المتروِّية؟
الغريب أنه في هذا المجال يُعتبر الأمر دائمًا أكثر نبلًا إذا كانت الدوافع المحرِّكة هي المشاعر. المسألة أنه لم يرُق لها؛ لأنها لم تكن تعرفه بعدُ، ولأنه لم يُبدِ نحوها ذلك الاحترام الذي هو أساس كل حبٍّ حقيقي. ولو كانت هناك حساباتٌ في الأمر، لكانت حساباتٍ ماهرة حقًّا، مسألة ونتيجتها. لقد توفَّر له الوقت كي ينمو وينضج، فما كان أحد ليعلم مصير هذا الحب لو مضى كل شيء بنعومة كما كان يشتهي؛ ذلك أنه عندما اشترى الخمر في السادسة والنصف لم يكن يفكِّر إلا في قليل من اللهو، وعندما كان ما يزال عاجزًا عن النوم في الرابعة صباحًا، ونهض ليكتُب لها خطابًا، لم يكن يفكِّر إلا (والأفضل أن نقول: أصبح يفكِّر بالفعل) في كسب ودِّها. وبالرغم من ذلك، كان دائمًا يرفض نظريتها عن مزايا البداية الصعبة؛ لأنه آمن بأن حبَّهما مسألةٌ قدرية؛ فهما، مهما حدث، قد خُلقا لبعضهما، وكان من المحتَّم أن يلتقيا بهذا الشكل أو ذاك. وقد سرَّها وأثَّر فيها أنه يفكِّر هكذا، لكنها كانت تعرف أفضل منه.
كانت تنتمي ببساطة إلى جيلٍ مختلف. كان الحب (والأخلاق) لديها مشاكل عملية أساسًا.
لعله الجيل، ولعله مجرد جنسها، الذي يفضِّل الرجال أن يعتبروه أضعف الجنسَين حتى لا يُضطَرُّوا للاعتراف بأنه (على الأقل حيث نشأَت الآنسة برودر) أكثرهما معقولية؛ فمثلًا، إن من يتأمل أجنحة منزل فالشتاين السابق (الذي تُديره السلطات البلدية الآن) بعينٍ غير متحيِّزة، سيُضطَر للاعتراف بأن أفراد الجنس الذكري لا يتأخرون في نمُوهم وحَسْب (وهو أمرٌ معروف ومُعترَف به)، لكن نمُوهم لا يكتمل أبدًا؛ ولذلك لا يستطيعون الحياة دون لعب (واسمها الشفري: هوايات)؛ فعندما تنصرم الثماني ساعات التي يلعبون فيها دَور البالغين، ينصرفون إلى طيورهم، وجرذانهم، ونباتاتهم، وقطاراتهم الكهربائية، ومجموعاتهم من سدادات الزجاجات وطوابع البريد وماركات صناديق الثقاب، والرايات الورقية، ويملئون ملاعب كرة القدم، ويلعبون الورق، ويصنعون نماذج للطائرات، ويُغرِقون أنفسهم في الشراب في الحانات (لأنهم إن لم يفعلوا ذلك ما أخذهم رفاقُهم على محمل الجد). كل ذلك تتحمَّله النساء، اللاتي تقع عليهن مسئولية الطعام والملابس والمنزل والأطفال، بالحب والصبر اللذَين يكنِّهما البالغ للطفل، بل لكي يمنحن البهجة يتظاهرن بالاهتمام وبأنهن يأخذن الألعاب بجدية. لقد قُدن رجالهن «المريلين» من الحانات إلى المنزل، عُنِينَ طول الحرب بالحمَام (فأطعمنه من بطاقاتهن التموينية)، ونقلن طوابع البريد إلى مخابئ الغارات الجوية، ولم يهزأن عندما عبَّر المرح الطفولي بالملابس عن نفسه في أغطيةِ رأسٍ غريبة، وشرائط، ونجوم وميداليات. لم يناقضن أبدًا قسَم الحب، كن مسرورات بهم، رغم أنهن يفقنهم إدراكًا؛ كان بوسع الرجال أن يسمحوا لمشاعرهم بأن تغلي وتفور، أما النساء فعليهن الاحتفاظ بها دائمًا تحت درجة الغليان، مطلقين على الخوف المبرَّر من النتائج اسم «المحافظة على احترام الآخرين»، مراعين الحذَر عندما يُطلِقن العِنان لأنفسهن. مشاكل عملية؟ بالطبع، فماذا غير ذلك؟ إن السيطرة على النفس مشكلة، لا جدال.
حتى إليزابيث التي تعلَّمَت وتمرَّسَت بأمورٍ مختلفة تمامًا (الزوجة المُحبَّة يجب أن تكرِّس نفسها بثقةٍ للعناية بزوجها وراحته، وكثمن لهذا، تكيف نفسها معه) توصَّلَت في تلك الليلة (بينما كان إرب يواصل، على الورق، مغامرته غير المسئولة)، إلى تيارٍ مشابه من التفكير (ذلك الذي يُسمى افتراءً بأنه عملي)؛ فبالرغم من الكرب والضيق الشديدَين اللذين استولَيا عليها، فكَّرت في النتائج المحتملة للانفصال، المنزل الذي سيبقى لها، فرصتها في الحصول على دخلٍ ما، كيف تُعنى بالأطفال؛ فأنبل الفتيات يتعلَّمن الحساب عندما يصبحن زوجاتٍ وأمهات، والصمت والتفكير لا يُلغي أحدهما الآخر، والاستسلام الصابر للمعاناة قد ينقلب فجأةً إلى فعل. لقد حرَصَت حتى الآن على أن تُهيئ السلام والنظافة في المنزل، وكانت تظُن أن ما تفعله هو الصواب. لعلها كانت مخطئة؛ فربما كان يحتاج إلى شيءٍ مختلف.
لكنه هو نفسه لم يكن يعرف على وجه الدقة؛ فهو لم يفكِّر في الأمر تلك الليلة، بل لم يُحاوِل تحليل مشاعره «البرودرية»؛ إذ شغلَته محاولةُ مواجهةِ فشله. فكَّر في أجوبةٍ جديدة، ونظرات، وأعمال، وأسئلة مضادة وأخيرًا كتب «الرسالة رقم واحد» في هذه المغامرة، وهي رسالةٌ تبريرية في مرارة من عضو في الحزب إلى شخص لا يتمتع بعضويته (شخص قادم من القمر أو من بون)، يجب أن تُتاح له أخيرًا الفرصة ليعلم أن الحزب ليس جمعيةً من جمعيات الدعوة إلى الأخلاق والفضيلة، وأن الأخلاقيات الاشتراكية لا تتطلب بالحتم قسم العفَّة، وأن الجرائم الموجَّهة ضد أخلاقيات العمل أخطرُ بكثيرٍ من تلك التي تقع في المجال الشخصي، ولا تؤذي المجتمع ككل. هكذا دافع عن نفسه ضد هجوم لم يحدث، عازيًا إياه إليها؛ لأنه لم يعرف السبب الحقيقي في خيبة أملها، التي جعلَتها أولًا ترفض محاولتَه لتقبيلها ثم تسأل عن عضويته في الحزب. هكذا تجنَّب عناء التفكير في نفسه، والاعتراف بأن غروره لا يتحمل الرفض البارد، متى شرع في مغازلتها بحمية. وتمخَّض عمله عن خطابٍ غبي مُفْعَم بالكلمات الحادة، انتهى دون تحية أو توقيع، تسلَّمَته في الصباح، قبل السابعة بقليل (يا للمقابلة الماكرة!) مُذيَّلًا بالحاشية التالية:
«الساعة الآن النصف بعد الرابعة. كم كنتُ أتمنى بدلًا من محاولة النوم بغير جدوى، أن أكون إلى جوارك في السيارة عَبْر الطرقات التي يخيِّم عليها الضباب في الطريق إلى آلت – شرادوف. ومع تباشير الفجر الأولى نجلس مع أبي إلى جوار مدفأةٍ متوهجة، لنحتسيَ ألذ قهوة في العالم.»
شعَرَت الآنسة برودر بعدم الارتياح عندما وجدَت الرسالة (دون طابع أو ختمٍ بريدي) في صندوق بريدها أثناء مغادرتها لمنزلها في الطريق إلى الطبيب. يا له من عنيد!
٧
كان كارل في النوبة الأخيرة بقسم الاستعارات. كان عمله متخلفًا بصورة لم تحدُث من قبلُ، وارتكب أخطاءً كان يعيبُها على زملائه طوال سنوات. جلس في الركن أمام كتابٍ مفتوح، أو وقف في النافذة يتطلع إلى ثلج المساء المتساقط، بينما القُراء يتجوَّلون بين الأرفُف لا يعرفون ماذا يُريدون، ولا يجدون ما يبحثون عنه، ولا يجرُءون على مخاطبة ذلك الرجل ذي الوجه المتجهِّم. ظل قريبًا من المكتب؛ أي بالقرب من التليفون. وجعل يحدِّق فيه كما لو كان منوَّمًا، وحدَّق فيه التليفون بدوره بعينه الهائلة وظل صامتًا. ولما كان عاجزًا عن التفكير في شيء آخر غير المكالمة التي وُعِد بها، فقد شعَر بعد عدة ساعات أن حبه وأمله ومستقبله يتوقف على اتصالها به.
والحق أنه أطلق العنان لعواطفه بطريقةٍ لا تناسب سنَّه أو مركزه. وكان هازلر، الذي يفتقد إلى المعرفة بأفكار أمناء المكتبات عن الكرامة والشرف، قد اقترح ذات مرة إعفاء المدير من ساعات العمل المقرَّرة له في قسم الاستعارة حتى يتخلص من عبءٍ زائد، فدافع كارل عن حقوق المدير وواجباته في هذا المقام؛ ذلك أن التخلي عن العمل في قسم الاستعارة يعني فقدان الأرض التي تقف عليها قدماك، التخلي عن الأساس، فقدان الاتصال بالنشاط العملي، بالناس، الجماهير، العمل في فراغ، الانعزال، الانسحاب إلى مكتبك الساكن، فقدان النفس في العمل الإداري والمسائل النظرية و… و… إلى آخر الحجج المعروفة. وأدرك هازلر في النهاية أن الساعات الأسبوعية المقرَّرة لمدير المكتبة في قسم الاستعارة هي كالقدَّاس اليومي بالنسبة للقس؛ لأن قسم الاستعارة (كما يتعلم المرء في مدرسة المكتبات) هو النقطة المركزية في عمل أمين المكتبة.
عمل «أمين مكتبة الشعب».
إن أمناء المكتبات العاملين في مكتباتٍ علمية، أو مكتبات النقابات والمصانع والمنازل والمؤسسات لا يَرِد ذكرهم في هذا الكتاب، وهكذا يكفي ذكر الاسم المألوف لهذه المجموعة المهنية، مما يتسم بثلاثٍ مميزات؛ فأولًا، بوسع الأخصائي، وهو ما سوف يفعله، أن يعتبر هذا الوضع دعوةً حارة إلى وحدة جهاز المكتبات التي جرت المطالبة بها منذ عقود، وثانيًا أن هذا يعطينا الفرصة كي نبيِّن دون تطفُّل للرجل العادي، أنه لا يجب الخلط بين أمناء المكتبات وباعة الكتب (الذين يتقاضَون أجورًا أقل)، وثالثًا يُتيح لنا تجنُّب التسمية التي أعلنَتها الحكومة بشأن أمناء مكتبات الشعب، التي سيؤدي استخدامها في هذا الكتاب إلى إضافة خمس وعشرين صفحةً إليه، مما يكلِّف الاقتصاد القومي (إذا طمعنا في أن يُطبع منه عشرة آلاف نسخة) حوالي ٢٢٥٠٠٠ صفحةً من الورق، وهو ما لم يأخذه في الاعتبار آباء (أو على الأصح أجداد) الاسم الرسمي الجديد: «أمناء المكتبات الجماهيرية العامة». ما الذي جعلهم يجرِّدون أمين مكتبة الشعب من اسمه التقليدي في عصر ديمقراطية الشعب وبوليس الشعب وحركة تضامن الشعب، وأيضًا حوانيت كتب الشعب؟ الإجابة هي «مطابخ الشعب»، التي ما زالت تعبَق برائحة الاسم القديم، والرابطة التاريخية مع كارل برويسكر من جروزنهاين وفريدريش فون رويمر و«اتحادات الشعب التعليمية» النابعة من الطبقة المتوسِّطة في القرن الماضي، وبعبارةٍ أخرى تقاليد قائمة لكن غير مرغوبة، ولن يتم تناولها هنا بتفصيلٍ أكثر من ذلك؛ لأنها لا تكاد تلعب دَورًا ما بالنسبة لكارل إرب، ولا تلعب أي دَور على الإطلاق بالنسبة للآنسة برودر. ثم إن التناول الأشمل لهذا الموضوع ليس ملائمًا للرواية التي تلتقي في هذا الشأن مع طائرة من الورق تصعَد عندما تُمسِك الخيط مشدودًا، وتهبط أو تتحطَّم عندما تُرخيه (استعارة مأخوذة من أعمال جان بول. لكن من يعرفه؟ إنكم على أي حال تعلِّقون في غرفكم لوحات الغرباء).
دعونا نمسك بالخيط مشدودًا: لقد انتهك أمين المكتبة إرب أقدس واجباته بأن ترك لمرضه النفسي (الذي أسماه في البداية شيئًا من الكدَر لكنه صار يدعوه الآن بالحب) العِنان بدلًا من ترويضه بجاروف النظام. ونتيجةً لهذا صار ينام نومًا مضطربًا ويرى أحلامًا فظيعة، ونادرًا ما يتكلم مع زوجته وطفلَيه، ويصرخ دونما سبب في الآنسة زافاتسكي الحساسة، وصار عاجزًا عن التركيز في العمل، يعاني من شكل من أشكال مركَّب الاضطهاد؛ فعندما يلج غرفةً يعمل بها في صمتٍ بعض موظفي المكتبة، ينتابه يقينٌ بأنهم كانوا يتحدثون عنه لتوِّهم، وشعَر أن كراتش تسيطر عليه الرغبة في الانتقام، وأن الآنسة فسترمان، التي تعرف كل صغيرة وكبيرة مما وقع في هذه الغرف خلال العقدَين الأخيرَين، تعرف أيضًا بشأن حبه، وأن كل ملحوظة يبديها هازلر مليئةٌ بالتلميحات. وبالرغم من خوفه وحذَره ألفى من المستحيل مقاومةَ إغراء الحديث كلما أمكن عن الآنسة برودر. وأصبح الانحراف اليومي عن مساره المعتاد إلى داخل المدينة، ثم المرور ببطء من أمام منزلها، عادة.
كان يُعاني كما لو كان مريضًا حقيقة … وبعد أسبوعٍ واحد فقط كان بوسعه أن يرحِّب بردٍّ سلبي أفضل من هذه العذابات.
لكنه بحذَر لم يدفع الأمور في هذا الاتجاه. حدَّث نفسه مستخدمًا إحدى العبارات المألوفة أيام الحرب «نهايةٌ مرعبة أفضل من خطأٍ متصل ولا نهائي»، لكنه تجنَّب كل مخاطرة؛ لأنه كان يأمُل في نهاية للرعب بلا ألم، أشفق على نفسه، وأفسح المجال للأعشاب الطفيلية الضارة لمشاعره أن تترعرع وتخنُق النبات الرقيق لأخلاقيات العمل (مبرهنًا بذلك على أن الحُجَج الواردة في رسالته كانت بلا معنًى)، وقاسى من ذلك (بشدَّة)، لكنه ألقى اللوم كله عليها؛ فلو كانت قالت «نعم وآمين» في أول مساء، ما تعرَّض هو أو عمله للمعاناة.
هي — المرأة الأمينة المنضبطة المؤمنة بالمساواة مع الرجال — كانت قادرةً على التوصُّل إلى قرارٍ سريع؛ فبعد الرسالة الأولى، على أكثر تقدير، أصبحَت تعرف مشاعره، وعندما زارها في نفس المساء، بزعم السؤال عن نتيجة لقائها بالطبيب، كان من السهل عليها أن ترفُضَه. كان سيعتذر إليها عندئذٍ ولا يعود مرةً أخرى. لكن الذي حدَث أن آماله كانت تتلقى دائمًا وقودًا جديدًا. لم تسمح له بمغازلتها، لكنها دعَتْه للدخول، وقدَّمَت إليه عَشاء، وجاذبَتْه أطراف الحديث حتى منتصف الليل، رغم أن الطبيب أمرها بالالتجاء إلى الفراش في الثامنة. وخلال مرضها هذا، زارها عشر مرات، ونادرًا ما كان ينصرف قبل الثانية عشرة، لكنها لم تُعطِه أبدًا الفرصة ليتفوَّه بالكلمة التي ربما كان من شأنها أن تجلب القرار؛ وبعد هذا، هل يُدهِشنا أن نراه في آخر يوم من أيام مرضها يهمل واجباته في قسم الاستعارة؛ لأن مكالمتها الموعودة قد تأخَّرَت؟
أما الوعد فكان تحقيقًا لرغبة من ابتداعه؛ فقد قالت له الآنسة زافاتسكي: «هر إرب، لقد تلفنتُ الفرويلاين برودر، وسوف تعود إلى العمل غدًا صباحًا.» عندئذٍ استفسر إرب عما إذا كانت الآنسة برودر قد رغبَت في الحديث إليه. أجابت الآنسة زافاتسكي (أخشى ما يخشاه أن يكون ذلك عن عمد) بشيءٍ من عدم الوضوح أنها أنبأت الآنسة برودر بإمكان الاتصال به حتى الساعة السابعة في قسم الاستعارة. بعد هذا لم يجرؤ على أسئلةٍ جديدة، وبدلًا من ذلك جعل يرقُب التليفون، وهو يتساءل للمرة المائة عما يدعو الآنسة برودر إلى تحمُّل زياراته دون استياءٍ واضح، ما لم تكن تنوي الاستسلام. لم يكن بوسعه أن يصل إلى نتيجةٍ ما؛ لأنه يعرف القليل عن النساء، ولا يعرف شيئًا مطلقًا عن أمثال الآنسة برودر. ونتيجة لهذا كان دائمًا يوجِّه لنفسه السؤال الخطأ: هل أروقُ لها أم لا؟ بدلًا من أن يتساءل: أي نوع من الأشخاص هي؟ ماذا تحتاج؟ وماذا تخشى؟
ما كان ليُوجِّه إلى نفسه أسئلةً مثل هذه؛ لأنه كان يعتقد (مثل أغلب الروائيين) أنه من التجديف أن نبحث عن الأسباب في نشوء الحب (أي التربة التي يمكن أن ينمو فيها). وبالإضافة إلى ذلك، فإن ملكات التفكير في هذا الركن من حديقته الذهنية كانت مخنوقة بالأعشاب والطحالب؛ بحيث إنها لم تكُن تنبُت إلا ضعيفةً صفراء وهشَّة. لم يكُن حتى في وضعٍ يساعده على تخيُّل ما يروق له حقيقةً فيها (غير مظهرها وشعرها وصوتها)؛ ذكاؤها، ثقافتها، ثقتها بنفسها؟ إن معرفة هذا ليس بالشيء الكثير، لكن لا بأس به، وربما يساعده على أن يكُف عن معاملتها كفتاةٍ صغيرة ترغب (دون أن تبيِّن) في المغامرات والرجال، ومستعدة للإعجاب برجلٍ قوي متفوق مُستعِد للإقدام على أي عمل من أعمال الخسَّة والنذالة، نتيجةً لذلك، ظلت لغزًا بالنسبة له، وظل هو لغزًا بالنسبة لها، مما أثار فضولها. كانت تعرف أنه يقدِّم إليها قناعًا، لكنها لم تكن تعرف ما يختفي خلف القناع. لم تكن ترتدي أيَّ أقنعة، لكنها كانت مسيطرةً على نفسها، متحفِّظة، حتى تترك الباب مفتوحًا لكافة أنواع الاختيارات. كانت في الثانية والعشرين. وكانت وحيدة. لكن ربما كان هذا من المتطلبات الأساسية لمشاريعها الدراسية. وكان يمكن أن تكون على ثقة من هذا لولا نقطةٌ هامة، يُمكِن تجنُّبها أحيانًا، لكن لا يمكن إزالتها تمامًا. كانت نقطة لصالح إرب؛ فقد كان يروق لها أن تنظر إليه، ومن هذه الوجهة كان إمكانيةً محتملة. لكن هذا أيضًا كان شأن عشرات غيره، فليس بوسعك أن تنظر إلى الأمور من هذه الزاوية وحدها. كانت طفلًا احترق ذات يوم، والتأَمت الجراح لكنها لم تختفِ من الذاكرة. وكانوا جميعًا من نوع ذلك الرجل الذي يتظاهر به إرب: الفرسان الذين تحدَّوا الموت والشيطان، الساخرون الذين لا يخشَون غير ضمائرهم، أسرى آليُّون (روبوت) لأطماعهم الذاتية؟ مكتئبون عند الشراب، وأسودٌ في مخدع سيدتي. كانت موشكةً على الاختناق بين هذه الحالات البارزة من الغرور والأنانية لو لم تلُذ بالفِرار في الوقت المناسب. انهار أخيرًا الوهم المجنون بأنها يمكن أن تصبح أقوى من خلال التحالُف مع هؤلاء المتبجِّحين، وأضعفَها نضالها للمحافظة على نفسها، لكنه أعطاها تجربةً وجعلَها أكثر حذَرًا. كانت هذه نقطة في غير صالح إرب، أو على الأصح قِناعه؛ فكلما أزاح القناع قليلًا، بدأ درعها المعدني يلين قليلًا. هناك المساء التالي لأول خطاب (وهو الخطاب الذي لم يُشِر إليه أيٌّ منهما)؛ أي المساء الثاني الذي (تميز مثل الأمسيات التسع التالية بخُلُوه من القبلات والخمر) امتَد حتى منتصف الليل. بدأ إرب ذلك المساء في صورة الرئيس النشط الذي يعود زميلًا مريضًا، وأنهاه واثقًا أنه قد دمَّر كل فرصةٍ كانت أمامه.
إنهما يجلسان متواجهَين إلى المائدة التي تحمل ما يكفي اثنَين فقط من الآنية الفخارية (كانت قد وهبَت كل ما فاض عن حاجتها عندما ماتت أمها)، وهو يشرب شايًا قويًّا لا يستسيغه حقيقة، ويأكل خبزًا أبيض كان سيلفظُه بازدراء في حالةٍ أخرى، ويُثني على الشِّواء الجاهز، رغم أنه لا يُحب سوى النوع المنزلي المحسَّن (بالبصل والتفاح والعنز)، ولا يُتْلِف شهيته أن الزُّبد وشرائح السجق قد استقرُّوا على المائدة في الورق الذي ابْتِيعا فيه (لتجنُّب العناء؛ فهي لا تُحب إضاعة الوقت في أعمال المنزل)، وهو يتخلى عن شوكته عندما يرى أنها لا تستخدم واحدة. وعلى الجملة فإن أُلفة تناوُل الطعام تسبِّب له الارتباك، لكنه يُخفيه بالنكات حتى تبدأ في الحديث عن مقالاته القديمة. وبعد شيء من اللغو عن أوهام الشباب، يطلق العنان لنفسه، فينسى دوره، ويتحدث عن الحماس الذي استولى عليه في مدرسة المكتبات، منذ أكثر من خمسة عشر عامًا عندما اشْتَمَّ لأول مرة مشاكلَ استقصاء مشاكل القراءة. إنه يصف لها الحماس الذي جعل ينقِّب به بين المؤلَّفات السيكولوجية، وتأريخات الأدب والثقافة، والسيَر الذاتية، وكيف قام بالأبحاث، وكتَب المقالات، أثقَل على الجهات العليا بالاقتراحات، ثم أخيرًا كيف انقشعَت الأوهام عندما تبيَّن استحالة صياغةٍ سليمة، وعندما ظلت نداءاته من أجل التعاون بلا صدًى، وعندما اعتصمَت الجهات العليا في مبدأ الأمر بالصمت ثم اتخذَت موقفًا سلبيًّا؛ ليس هناك ما يمكن قوله ضد ضرورة مثل هذا البحث، لكن الوسائل المقترحة تبدو بصورةٍ تبعث على الشك أقرب إلى علم الاجتماع (وهو ما كان يُعتبر في ذلك الحين علمًا برجوازيًّا تمامًا)، بالإضافة إلى أن الأمور يجب أن تعد بشمولٍ أكثر.
«وهكذا انتابك اليأس؟» – «أجل» (في نغمة الشهيد) مرفقةً بنكتةٍ هادفة للدلالة على أنه فوق مثل هذه الأمور. إن قِناعه يعود إلى مكانه، ولا تتفوَّه شفتاه بشيءٍ ما (بغير قصد) يملأ قلبه فجأة ويناضل من أجل التعبير. ماذا يمكن أن تظُن به لو اعترف بعمق خيبة أمله (وخاصة بالنسبة لقصوره الذاتي وفتوره)، وألمه عندما تبيَّن محدوديته ونقص طاقته وجبنه (عندما انصرم حماس الشباب وبدأ العمل الجدي)، وهجرانه لكل طُموح، وخجله من نجاحه الظاهري (الذي يعود في جزء منه إلى أنه لم يتسبَّب أبدًا في صعوباتٍ ما) وسلبيته المعوِّقة، وأخيرًا تراجعه إلى راحة الرفاهية، منزله وحديقته وسيارته؟ الواقع أنه يدرك هذا كله فقط في مواجهته لها، شابة لكن غير ثملة، يتجه نشاطها نحو العمل الجدي، إنه يدرك ذلك ولا يتبيَّنه في جلاء، إن أسئلتها تُثخِنه بالجراح، لكنه لا يصرخ، وبدلًا من ذلك يُبدي العزم والتصميم ويبتسم، ويتجنَّب الموضوع. لكنها لا تكُف، وتُحاول مرارًا الاستفادة من خبرته، لتستخرج منها أشياء تُفيدها في عملها؛ أي كل ما هي مهتمة به، لكنها كي تتوصل إلى ذلك، لا بُدَّ وأن تُكيِّف نفسها معه، تتعرف على وجهه الحقيقي. ولن تكون المغازلة عونًا على شيء، لأنها لن تؤدي إلا إلى دعمه في دوره. عليها أن تُغرِيه باهتمامها الجلي في الحديث عن أشياء لها أهميتها لديه، عن الماضي، والحديث عنه أيسر، عن الأشياء التي شكَّلَته؛ صباه في القرية، الحرب، فترة عضويته في منظمة الشباب (وهي الفترة التي يتم استبعاد إليزابيث منها).
وهي تضيق بأمثال هذه الملاحظات؛ فمعناها أنه لا ينوي التخلي عن نوايا لا تُشارِكه إياها، وهذا ما يجعل قيام علاقاتٍ عملية ودية بينهما أمرًا مستحيلًا. وعندما يكون معها تدخِّن كثيرًا، ولا تنام المدة التي أمر بها الطبيب، ولعلها كانت مُسترِدةً صحتها لولاه، وهكذا فإنها لا ترحِّب بمجيئه، وتُبدي له ذلك، وتتخذ كل مرةٍ قرارًا بأن تقذف به إلى الخارج في العاشرة، وتقول للطبيب إنها تشعر بالتحسُّن، كي تعود للعمل. وقد أرضاها أنها لم تتحدَّث إليه عندما تلفنَت؛ لأن عزمها على إيقافه عن استخدام لهجة الألفة في الحديث معها، يمكن وضعه موضع التنفيذ بصورةٍ أفضل في أول أيام العمل وليس عَبْر التليفون؛ ولهذا السبب يُحاول إرب عبثًا، بطاقة حب مركزة على طريقة «التليباثي»، أن يُجبر التليفون على الرنين. وفي السابعة تمامًا تخلى عن المحاولة، مصممًا لا أن يتجه بسيارته كالعادة إلى داخل المدينة، وحسب، وإنما أيضًا أن يعجِّل أخيرًا بالنهاية المرعبة. وبعد أن دفع بآخر القُراء إلى الخارج بإطفائه الأنوار، وتمنَّى لمساعدته وهو شارد ليلةً طيبة، إذ بفتاة في جينز وبلوفر تستوقفه؛ أنيتا، زهرة الجناح (أ) السمراء، الفتاة التي تعتقد أنها ابنة باشكه: «كنتُ مارَّة بالصدفة، وخطَر لي أن أُطِل عليك؛ فربما يُقلُّني الهر إرب إلى المنزل، وهو على أية حال يأتي إلى منزلنا الآن كل مساء.»
بدَت السيدة إيزيلت، المساعدة (كانت ما تزال واقفة في المدخل تعقد غطاءً من البلاستيك فوق شعرها المصفَّف حديثًا؛ لأن الجليد الهش بدأ يتساقط) كما لو كانت ستندفع إلى نجدته، لكنه رغم حاجته إلى المساعدة تمنَّى أن تختفي قبل أن يتردَّد اسم برودر. وما كان بوسعه أن يطلب ذلك منها؛ لأن الرغبة في الانفراد بهذه العينة الشابة الشهية قد تُفسَّر بصورةٍ خطأ؛ ولهذا حاول أن يغيِّر الموضوع مستفسرًا من أنيتا منطقيًّا عما تودُّ قراءته. كان لذلك وقعٌ سيئ لديها؛ إذ أنتج شيئًا من السخط وغمغمةً مفادُها أنها ليست من هذا النوع من الفتيات. أي نوع؟ واحدة بنظارات وبلا صدر تقتل وقتها بالقراءة بدلا من العمل؟ أو ربما مثل الفرويلاين برودر؟ وبدا أنه من الأفضل عدم توجيه السؤال والانتقال إلى منظمة الشباب، التي كانت في الغالب مسئولةً عن ظهور أنيتا في هذا القطاع من المدينة، لكنها لم تسمح لنفسها بالتحوُّل عن موضوعها الرئيسي، فأزاحت السؤال جانبًا، وعادت إلى موضوع السيارات، وحقيقة أنها لم تركبها — زعمًا — أبدًا. ثم انتقلَت إلى الجو السيئ، والمسافة البعيدة التي تفصلها عن موقف الترام، بينما كانت تَخطِر في أرجاء المكتبة وتُقاطِع نفسها بملاحظاتٍ من قبيل: «أوه، يا لها من كميةٍ كبيرة من الكتب! هل قرأتها جميعًا؟» ويشير إرب للفراو إيزيلت بما معناه أنه قادر على معالجة الموقف، ويلاحظ بارتياح أن يدها تُمسِك بمقبض الباب. لكن هذه كانت اللحظة بالذات التي استفسرَت فيها أنيتا عن المكان الذي تعمل فيه الآنسة برودر. واستخدمَت في ذلك اسمها الأول الذي كانت السيدة إيزيلت تعرفه بالطبع هي الأخرى.
لكن القارئ لا يعرفه بعد.
بدافع من الأمانة. لأن هناك أسماء تَصِم الأبرياء الذين يحملونها، وتستدعي للذهن ارتباطاتٍ بعيدة عن الحقيقة. يعرف الروائيون هذا؛ ولهذا يهتمون اهتمامًا بالغًا بالأسماء التي يطلقونها على أبطالهم، ويعرف القُراء أن فيلهلم مايستر، أو ماسكه، أو تونيو بونيفانتس أو فايخمانتل لم يكتسبوا هذه الأسماء صدفة. وإذا ما أسميناها كلوديا، أو كاتارينا، أو بتينا، أو ربما آنا، نكون قد وجدنا مخرجًا من هذا المأزق، لكن واجبات المؤرِّخ تحول دون ذلك؛ لذلك من الأفضل أن نتحدَّث عن إرب الذي لم يقرِّر فقط في السابعة أن يَفِر من اتخاذ القرار، وإنما أيضًا أن يبتاع فودكا (كقوةٍ دافعة ثم قاتلة للألم)، وقد رأى هذا القرار يتعرَّض للخطر بظهور أنيتا؛ لأنه لا يستطيع في وجودها (من أجل الآنسة برودر) الذهاب إلى حانوت بيع الخمور؛ لهذا قال لأنيتا إنه لن يذهب إلى المدينة اليوم، لكنه يستطيع أن يُقِلَّها حتى موقف الترام، وهو عرضٌ قبلَته بعَداءٍ واضح. وفي الشارع كانت ساخطةً لأن أحدًا لم يلحظ كيف صعِدَت إلى السيارة برشاقة. وبدا أنها ساخطة على أشياءَ كثيرة؛ على صديقها الذي وصفَته بأنه مغفَّل (وهي في الغالب تقصد أنه خجول) وعلى التوصيلة القصيرة، وعلى صمت إرب، وعلى رفضه المؤدَّب مرافقتها إلى مقهى. وعندما توقفا أمام محطة الترام، أبدت اهتمامًا مفاجئًا بالتفاصيل التكنيكية، أرادت أن تفهم ما هو ناقل الحركة، ووجدَت ثمَّة ما هو مُوحٍ ويدعو للسخرية في مصطلح جهاز تعشيق التروس، وأرادت أن تُمسِك بالمقود للحظة فمالت بليونة نحو إرب الذي تذكر فجأةً الكمثرى التي تُرى من نافذة المطبخ في ألت – شرادوف (من نوع الفان ماروم كما يُعرف). وبعد أن حثها على مغادرة السيارة ثلاث مرات، فارقَتْها أخيرًا متجهمةً قائلة: «أراك فيما بعدُ».
ومن أول كشك للتلفون قابله اتصل بإليزابيث. وأمام حانوت الخمر الذي يظل مفتوحًا حتى ساعةٍ متأخرة داخل محطة فريدريش شتراسه وقف في طابورٍ طويل، ولم يكتشف أنه نسي حقيبته إلا عندما صار أمام البائع. كان قد تركها في المكتبة؛ ولهذا اضطر أن يحمل الزجاجتَين في يده. أوقف سيارته في ميدان مونبيجو، وواصل طريقه سيرًا على الأقدام. وفي المدخل الرئيسي التقى بأنيتا، وكانت تبريراته تُثير الشفقة. قالت: «تصوَّروا»، وأغلقت باب الشارع بالمفتاح.
٨
حان الوقت لأن نُلقي نظرةً مقربة على إليزابيث. لكن كيف. ليس في هذه القصة ما هو أكثر من ذلك صعوبة.
ربما نبدأ هكذا: فوق صوان الملابس الخاص بالجدة تُوجَد أصدافٌ غريبة الشكل. تضعُها على أذنك فتَهْدر. تهزُّها، لا يحدُث شيء. تنظر داخلها، ظلام. لكن الهدير الغامض مستمر. هكذا كانت إليزابيث.
هذا ما قاله عنها إرب.
كان هناك شيءٌ ما غامض بشأنها. إذا ما سألتَ من يعرفونها عما إذا كانت تتمتع بالجاذبية، لترددوا وقتًا طويلًا قبل أن يردُّوا بالإيجاب، ثم يضيعون في محاولة للإيضاح؛ إنها جاذبيةٌ هادئة بدرجةٍ غريبة، متحفظة، غير متباهية. لكن كل من رآها شعَر، فكَّر، عَرَف وقال على الفور: إنها إنسانٌ جيد.
أما كيف تم تكوين هذا الرأي، فهو ما يظل أمرًا غامضًا.
قال آخرون إنها تفتقد إلى الحيوية. بل قال أحدهم إنها عفيفةٌ طاهرة. ولعل سرَّها يكمن في أنها كانت هادئةً ودودة، بصورة أكثر ثباتًا من الآخرين.
كانت متحفظة بدرجةٍ غير عادية.
وهذا لا يدُل على شيء؛ فالتحفظ قد يُخفي الوفرة أو الفراغ. وبالإضافة إلى ذلك يجب أن تعلم متى كان ذلك؛ منذ اثنَي عشر عامًا مضت، أم في زمن هذا التقرير، أو بعده بستة شهور؟
إن الحادثة التي ألِف إرب أن يرويَها كالملاحم (وربما بنفس المحتوى من الحقيقة) لا تُنبئنا بالمزيد؛ فقد أرسلَته مدرسة المكتبة لزيارتها (أثناء عصر ما قبل التاريخ في حبهما) كي يتغلَّب على يأسها بخُطبٍ طيبة عن المستقبل. وقد ألفاها في غرفتها (غرفتهما فيما بعدُ)، ودودة بلا دموع، رغم أنها علمَت قبل يوم بنبأ الثقب الموجود في رئتها بحجم حبة البازلاء، ورغم أنه تم بالفعل حجزُ فراش لها في المصحة. وعندما شرع يواسيها بالكلمات التي أعدَّها بعناية، أشارت فجأةً إلى النافذة لأنها (وليس هو) قد رأت طائر الرفراف، ولا بُدَّ من الانتظار في صمت حتى يعود بعد ثلاثين دقيقة (دون أن يراه أيضًا هذه المرة).
وبعد أن وصفَت الطائر السحري السريع لمواسيها، ودَّعَته بابتسامة. وقال إرب فيما بعدُ: «إن اللغز الذي قدمَتْه لي في ذلك اليوم، ما زال حتى الآن بلا حل. كان بوسعي أن أتحدث معها عن أي شيء، فيما عداها هي. كنتُ أعرف كل شيءٍ عنها فيما عدا الأمور الهامة. إنها قادرة على أن تتكيَّف مع أي إنسان، لكنها لا تُعطي لأحدٍ الفرصة كي يتكيف معها.»
لكن ماذا ينبئنا ذلك؟ في الأغلب بشيءٍ ما عنه. إنه قد تدفأ في وهج حبها دون أن يلمس ما أسماه بلُغزها.
هل كانت تودُّ شيئًا مخالفًا؟ لقد كانا على أية حال، بطريقتهما الخاصة، سعيدَين معًا طوال اثنتَي عشرة سنة.
كان راضيًا بالحياة معها. هذا هو كل ما تعرف. كان هناك سببٌ واحد لصمتها بشأن مشاعرها؛ فلم تكن قادرةً على الحديث معه. لكن ذلك كان بإمكانها مع الآخرين، كما حدَث في تلك الأمسية من شهر نوفمبر التي نصِفها الآن. عندما دقَّ الجرس، وضعَت مفكرتها جانبًا، وفتحَت الباب. وجدَت أمامها رجلًا يسأل عن إرب، وقَبِل بسرعة دعوتَها لانتظاره، فنفض الجليد عن معطفه، وتقدم بساقٍ صناعية ذات صرير، والتقَط بعضًا من قِطع البلاستيك المتداخلة الخاصة ببيتر. وطلب منها ألا تعبأ بشأنه، ثم شرع يصنع من هذه القِطع أحد النماذج. كان بوسعها أن تتحدث مع هذا الرجل.
ربما لأنهما كانا يحتسيان الخمر؟
أما كان بوسع إرب أن يُشاركها الشراب؟ كان التقرير السنوي وكتاب شولوخوف الجديد، والحديقة، وغسيل السيارة، أهم دائمًا لديه، وعندما يجلس معها أحيانًا في المساء يكون هو الموضوع دائمًا.
أدرك هازلر أيضًا كيف يجتذب انتباهها الصامت الرغبة في الاعتراف.
«هل لكِ في كأس أخرى مثلي؟ إن لها مذاقًا أفضل عندما تكون هناك رفقة. كنتُ أتصوَّر دائمًا أن اعتدال كارل في الشراب يعود إلى تأثيرك. إني أعتذر.» هل كان عمدة؟ كلا كان هذا فيما بعدُ في موزيفتز، ولم تكن هناك كنيسةٌ على الإطلاق. في فارنيفتز (التأكيد على المقطع الخطأ كان يكشف الغرباء) كان هو الرئيس والموظف الوحيد لمكتب المسجِّل؛ حيث قام بتسجيل المواليد والموتى، وعقد زواجًا واحدًا ونصف زواج فقط. ركَن هازلر إلى الصمت، وأبرَز مساكن العمال، والمغسل، والكنيسة، والمدرسة، ثم وضع تصميمًا لمبنًى جديد. وحوَّلَت قِطع البلاستيك اللامعة كل شيء إلى مبانٍ حديثة، ودون شرحه ما أدرك غيره أن هذا كوخٌ على حافة القرية، وذاك حجراتٌ صغيرة، ومنزل، ومرحاضٌ خارجي، وحظيرة لعنزتَين.
احتج هازلر على التعميم، مفكرًا في الرجل الذي أصر على أن لكافة الإنجليز لحًى حمراء؛ لأن الإنجليزي الذي عرفه كان هكذا، وفي الطبقات التي عفا عليها الزمن والتي تعتبر انهيارها انهيارًا للعالم كله، لكنه استفسر بصورةٍ مباشرة (كان يفضل لو تجنَّب الموضوعات الشخصية، لكنه كان يعرف أن التجنُّب في أغلب الأحيان تكتيكٌ سيئ) عن زواج إرب، الذي كان يعتبره دائمًا زواجًا ناجحًا. وأكَّدَت إليزابيث ذلك بابتسامة، وبالادعاء بأن الحب والسعادة عندما يتحققان يمكن أن ينفي أحدهما الآخر، وظلت في إطار التعميمات ثم ما لبثَت (طبقًا لطبيعتها الحقيقية) أن بدأَت تتكلم، وفي خلال حديثها اتضحَت أمورٌ كثيرة، لكنها لم تكُن بالطبع كل شيء. كان الأمر ببساطة هكذا: إن إرب يعرف كل شيء أفضل منها، هذه حقيقة؛ فهو أفضل منها تعليمًا وتدريبًا وأكثر خبرةً وتجربة، تعلَّم أكثر منها، ورأى أكثر، وبحث الأمور بدقة أكبر. وهو يُبرِز هذا كله يوميًّا.
ويبدو إرب في صورة من يعرف كل شيء، ويستعرض ثقافته لكن الأمر ليس كذلك؛ فهو يقدم العون أينما وعندما يستطيع. كان يُصدم في البداية بجهلها، لكنه لم يكن يدَعُها تلحظ هذا دائمًا. والواقع أن الأمر لم يُزعِجه حقيقة؛ فكما عشق فيما بعدُ سخافاتِ ابنته وغرابة أطوارها، أحب ضعف إليزابيث، ولم يجد أبدًا صعوبةً في أن يُحاوِل، بصبر، وبالصداقة والحب، الارتفاع بثقافتها ومواهبها إلى مستواه.
لنعُد إلى الوراء. نحن الآن في شهر يونيو، في بداية صيف حبهما. لا شيء يفصل بين قلبَيهما غير بلوفر وصدرة، وليس في عينَيها سواه (عندما ينظر)، ومن أجلهما خاصة أزهَرَت الشمس عديدًا من الزهور على شاطئ الشبريه، وأعربَت إليزابيث عن عرفانها بأن جعلَت تكتشف شيئًا مدهشًا في كل زهرة، داعيةً إياها بالاسم، سواء كانت تعرفه أو لا؛ لأنها تستطيع دائمًا أن تخترع شيئًا؛ بنفسجة عباد الشمس، عين الغزال، حلوة المرج أولًا تثق بي، وهي أسماءٌ ألْفاها هو أكثر جمالًا من الأخرى الحقيقية التي يعرفها والتي (ضاحكًا من غرامها بالتعميد) يذكُرها (مع أصولها اللاتينية بين قوسَين)؛ الأمر الذي يجده هو نفسه مضحكًا ومؤثِّرًا في آنٍ واحد. إنها لا تعرف غير اثنَين من الألقاب الرسمية هما فيولا تريكولر وبريمولا فيريس، وهذان فقط لأن الكاتبَين ليناو وشتورم قد يستخدمانهما في عنونة بعض كتاباتهما. ويتعيَّن عليه أن يعلن أسماء الزهور الحقيقية مع ذكر تاريخ ميلادها ومواطن ضعفها الملحوظة، لينتقل على الفور إلى نقاط الخلاف بين شجرة البتولا التي تنمو في المناطق الرملية وتلك التي تنمو في المناطق الجليدية، وهي التي تُعجب بها إليزابيث لسببٍ واحد هو خضرتها التي تشبه النقاب.
وعندما يبلُغان القناة يكتشف أنها تظن ما يُسمى بالأكاسيا أكاسيا حقيقية؛ فهي لا تعرف أنها في الواقع روبينا تأتي من أمريكا (وماذا أيضًا؟ البطاطس والذرة والتبغ)، وليست من النباتات الأصلية لأفريقيا أو أستراليا مثل الأكاسيا الحقيقية، وهي لم تسمع مطلقًا بفرانسيس دريك والكابتن كوك (اللَذين يَرِدان على الخاطر فورًا بهذه المناسبة). وهذا يقدَح على الفور غُددها الدمعية، ولا يُسبِّب فقط تدفُّق المياه وإنما يؤدِّي أيضًا إلى جفاف حبالها الصوتية، حتى إن حبيبها المذعور يُضطَر للانتظار طويلًا حتى يتلقى إجابة على استفساراته الملهوفة: «لأني شديدة الغباء»، ويستطيع أن يحتوي الفتاة التي هدأَت الآن بين ذراعَيه، وهو نفسه بين الضحك والبكاء. هذا هو ما حدَث، لكن تعقيبها عليه كان: «أرجوك أن تصدِّقني، يا هازلر، عندما أقول إن أسوأ ما في الأمر أنني لم أكن أملك تفسيرًا لدموعي، التي لم أستطع تجنُّبها والتي آذته، وعلى كلٍّ فقد أردتُه كما كان، ودفعتُه لأن يكون هكذا، يجب أن يُبرِز ثقافته كي أستطيع تمثُّلَها وبلوغ نفس المستوى.»
إنها تكتُب بحث الامتحان (في سنةٍ لاحقة بسبب إصابتها بالسُّل) وهو (تقريبًا ضد رغبتها) يبذلُ الكثير لمساعدتها، موضِّحًا الصعوبات، مصحِّحًا الأخطاء، الإضافات، موقظًا أفكارًا جديدة عن طريق الأسئلة السقراطية، وهو يكرِّس الكثير من الوقت لهذا، وتذوب هي في داخلها بالعرفان وتبكي. وتعود كل يوم إلى المنزل من مكتبتها الصغيرة المتهدمة بأسئلة وشكوك، ويظل هو إلى جانبها حتى ساعةٍ متأخرة من الليل، يساعدها في الفهرسة والتنظيم، وتخطيط مشاريع الأرفف الجديدة، والإشراف على ما أعدَّتْه من قوائم الوارد والصادر، ويتركها وقد سيطر عليها شعور بالعجز التام؛ فبدونه ما كانت ستتمكن من تنظيم هذه الكَومة من الكتب. وتكتشف فجأةً أنها صارت تأمُل في أعماقها أن يرتكب خطأً ما، وتُعارِض آراءه التي يشرحها بصبر (رغم أنه بالطبع، دون أن يعترف بذلك، يعتبر معارفه المتخصصة معارف عامة) حتى تُضطَر للاعتراف بأنه على صواب، وتستسلم أخيرًا وتوطِّن نفسها على الصمت، وهو ما لا يلحَظه إلا بعد أعوام، مما يثير ضيقه لأنه لا يجد تفسيرًا له. وخلال هذه الفترة، تُقرِّر أنها ترغب في طفل، وعندما يصبح في إمكانها أن تستعرض بطنَها المتضخِّم أمامها، يصبح كل شيءٍ على ما يُرام؛ لأن هذا شيء لا يمكن لأحدٍ غيرها أن يقوم به.
سألها هازلر: «والآن بعد أن كَبِر الأطفال؟» – «هل تعرف أن الساعة بلغَت الواحدة؟» – «هل قال كارل إلى أين هو ذاهب؟» ودون أثَرٍ من دموع، بهدوء وابتسامة، تُجيب: «أجل، إلى موعد مع الرفيق هازلر.» هذه هي إليزابيث على حقيقتها. لم يعرف هازلر ما إذا كان يجدُر به أن يُعجَب بها، أو يعتبرها على شيءٍ من الغرابة، لكنه شعَر أن الوقت قد حان لمواجهة الصراحة بالصراحة (ورغم أن التراجع يمكن تبريره بتأخر الوقت) لأن يذكُر لها سبب مجيئه، مما سيعني إدخال السلك الوظيفي في المأساة العائلية البازغة، رغم أنه، كأعزب، لم يكن الممثل الملائم له (إنه لم يقرأ حتى النصوص المقرَّرة في هذا الشأن، ثم إنه قد مضى العهدُ الذي كان بوسعك فيه أن تقول، وربما تؤمن أيضًا، بأن كافة الإجابات يمكن العثور عليها في تلك النصوص). وأمكن بسرعةٍ التغلُّب على مشاعر التضامن الخجولة (ألا يجدُر بالمرء أن يساند بأي ثمن مزاعم شخصٍ يحمل ذات البطاقة الحزبية ومن نفس الجنس، عن مكان وجوده؟) كما أمكنه أن يقمع فورة غضبٍ ضد إرب ويختزنها للوقت المناسب. وبعد أن سألها: «هل تعرفين أين هو؟» ليختبر ردَّ فعلها للألم، بدأ يُدلي بتقريره، بينما أصابعه تصنع بقِطع البلاستيك أشكالًا هندسية يمكنُها أن تُنبئ الطبيب النفسي بالكثير عن درجة اضطرابه. وأدَّى تقريره إلى إيقاظ ردِّ فعلٍ لدى إليزابيث لم يكن يتوقَّعه.
وردُّ فعل إليزابيث؟
إنها تُبدي اهتمامًا بكراتش، وتريد أن تعرف ما إذا كان حقًّا متعلقًا بالآنسة برودر، وما إذا كان إرب مسئولًا عن خسارةٍ مزدوجة، وتضع نفسها مكانه، وتدمع عيناها وهي تفكِّر في مشاعره خارج باب الفتاة التي يُعجب بها، كانت عيناها بالتأكيد ستمتلئان بالدموع حتى تفيض، لولا جرسٌ قاطَع رنينُه الرحيم خيالها وكلماتها. مضت إلى التليفون. ونظر هازلر إلى ساعته أولًا (الثالثة إلا عشرين دقيقة) ثم تطلَّع إلى وجهها، هل هذه المرأة حقًّا لا تعرف الغضب، ولا الخوف ولا الحقد؟ أم أن عواطفها من العمق بحيث لا تظهر على السطح؟ أم أنها نَسيَت كل هذه الأمور؟ لم تُبدِ أثَرًا من دهشة أو فزع عندما قال لها صوت رجلٍ غريب: «هنا مركز الشرطة رقم ١٢٠ …»
٩
بدا له كما لو كان يعود إلى منزله؛ ذلك أن المدخل، والفِناء المظلم، والخطوات الحديدية المؤدية إلى الجناح (ب)، لم تعُد تبعث على الانقباض. عثر على الفور بمفتاح النور إلى يسار المدخل. ولم تعُد تكَّات ضوء السلَّم الأوتوماتيكي، والرائحة، والدرجات البالية التي ارتقاها ثلاثًا، بغريبة، استقبله الكلب في الطابق الأول (واحد على الأقل في كل سُلَّم، هل كان هناك أكثر في آلت – شرادوف؟) نابحًا عندما مَرَّ مسرعًا، وقدَّم له الباب الوحيد ذو الطلاء علامةَ منتصف الطريق، ألا وهو الطابق الثاني، وفي الثالث اهتزَّ الدرابزين، وعندئذٍ لمح هدفه، اللوحة النحاسية العريضة اللامعة التي تحمل الاسم: ف. برودر، وإلى جوارها الجرَس، الذي عمل بالضغط في حركةٍ دائرية يصدُر عنه بعدها لفظٌ غير واضح يتعيَّن دعمه بالطرق على الباب، إذا كان المذياع دائرًا بالداخل. لكن المذياع لم يكن هو الذي عجَز الجرس عن منافسته هذه المرة، وإنما صوت السيدة فولف. لم يطرق كارل الباب؛ إذ بدت له استحالة الالتقاء اليوم بالآنسة برودر في حضرة شخصٍ ثالث. كان قد قرَّر أن يُنبئها على الفور بما يريده؛ القرار، أما الآن، ولغير ما خطأ من جانبه، فيتعيَّن تأخير هذا القرار.
كان يُسعِده أن يتمشى ساعةً أخرى في الجليد الموشك على الذوبان، ليراقب تغيُّر ألوان إشارات المرور عند «أورانينبورجرتور»، أو الرقصة الصامتة التي تؤديها الملاءات والقمصان في آلات المغسلة الكهربائية، لكنه لم يكن يملك مغادرة المنزل؛ لأن أنيتا أغلقَت الباب الخارجي من خلفه. وهكذا ارتقى نصف طابقٍ آخر في الظلام حتى بلغ باب السندرة الحديدي، الذي وصلَت إلى سمعه من خلفه أصواتُ لغو، وطقطقة، وجر، وخربشة. الحمَام؟ أم الفئران؟ جلس على الدرجة العليا، وأوقف زجاجتَي الخمر إلى جواره، وأصغى لفراو فولف، التي كانت تقف الآن فيما يبدو في مدخل الباب الفاصل بين الغرفة وركن الطهي في الصالة. وتتحدث بسرعة كأنها في عجَلة من أمرها، رغم أن هذا فيما يبدو لم يكن حقيقة الحال، أو لعلها نسيَت عجَلَتها عندما جعلَت تحكي عن عهد الجوع والبرد، وهو الزمن الذي يطيب الحديث عنه عندما يكون موقدك ساخنًا، ومعدتك ملأى.
هكذا أفاضت، أحيانًا في المطبخ خلف الباب الأمامي مباشرة، ثم واقفة في فتحة الباب الأمامي، ثم خارجه في الصالة، وإصبعها على زر النور حتى لا يكُف التكَّاك الأوتوماتيكي، حتى انطلقَت أخيرًا: «أتمنى لك نومًا طيبًا!» والتصافح بالأيدي، وخطوات، لا إلى أسفل كما كان يتوقع (أربعة طوابق ثم عَبْر الفناء ثم أربعة أخرى إلى أعلى) وإنما نحو السندرة (فهو طريقٌ أقصر وغير مبتل)؛ أي نحو كارل الذي كان يجلس في الظلام، لا يملك أحدٌ رؤيته، لكنه يرى. والذي قال، بكل ما وسعه من رفق: «لا تخافي»، لكنه فزع هو نفسُه من صرخة السيدة فولف. والتعبير الثائر على وجه الآنسة برودر عندما رأَتْه (وزجاجيَّته). لم تسمح له بالدخول إلا بعد أن كرَّر ثلاث مراتٍ اعتذاراته المتعثرة، وقادَته إلى مقعده المألوف بإيماءة من رأسها، ثم جلسَت بدَورها، ولم تُقاطِع اعتذاراته المتكررة. كما أنها لم تكن على استعداد لأن ترى فكاهة الموقف التي حاول مستميتًا إيضاحها، وعاقَتْه بقدر الإمكان عن توجيه السؤال الحاسم، لكنها من الناحية الأخرى. قادَتْه إلى السؤال برفضها الانغماس في الحديث، ولعبَت بتفوقٍ تام ذلك الدور الأنثوي الذي زعمَت أنها تزدريه، فسمحَت بتوجيه السؤال، في النهاية، رغم أنها رأت كيف كان يعذِّبه تجاهُلُها الرد بالإيجاب أو النفي، وأبقَتْه على مدى ذراع بأن اتجهَت إلى العموميات عندما كان المطلوب هو أن تتحدث عن نفسها.
كانت رغبتُه الآن مجرد تظاهر. وقوَّتُه قوة اليأس، الأمر الذي تملكُ مواجهته. هكذا كفَّت عن المقاومة، ورقدَت ساكنة، متصلبة، صامتة، عندئذٍ تركَها وشأنها. رقدا متجاورَين دون أن يتلامسا. لكنها شعَرَت بضرورة الحذر (من نفسها أيضًا)؛ لهذا السبب بدأت تتكلم: «كم هي مدعاة للشك كافة الأوصاف التي يطلقونها على الحب والجنس!» هكذا بدأَت، بطريقتها الاستطرادية الموضوعية، التي تلجأ إليها عادةً عندما تريد أن تُعلِن شيئًا ذاتيًّا، وبهذا تركَت له وقتًا يستعيد فيه قلبُه ورئتاه إيقاعَهما الطبيعي. كانت لغتُها الآن، كما هي دائمًا، نقية، دون أثَر من عامية، واضحة، سليمة، منمَّقة، نتاج اصطناعي بالتأكيد، ولِمَ لا؟ كانت تقدِّر الفن والثقافة تقديرًا كبيرًا، وتقدِّر في الرجل أساسًا تلك العوامل التي ترفعه فوق الطبيعة (تشاجر معها إرب فيما بعد عدة مرات حول هذا الموضوع، وفي أثناء ذلك سمحَت لنفسها أن تُستفز وتعلن أن كل كرة من إناءٍ خزفي في متحف أكثر أهمية لديها من البلابل، والبنفسج المائي أو المناظر الجبلية). وكان هناك أثَرٌ من هذا الموقف في محاضرتها عن الأدب والحب والشهوة.
«البعض يَقْبلون بلاعقلانية الحب، يرفضون رؤية الجوانب غير النشوانة للحالة، ويقنعوننا بتفاصيل — مثل النظرات والكلمات والإيماءات — سارت مألوفة بالتوارث، أن شخصَين يتبادلان الحب، وأنه إذا لم يتدخل أحدٌ في أمرهما، فازا بالسعادة من غير جدال. ويقتصر الآخرون على الحوافز البدائية، التي إما يصوِّرونها على أنها تُثير الاشمئزاز — الرجل حيوان — أو يصفونها بأنها أعظم المتع.» هي دائمًا تقيم إطارًا نظريًّا صغيرًا حول ما تريد قوله، وتقوم بلغةٍ طويلة، لكنها سرعان ما تقترب من هدفها بتصويبٍ محكم: لقد بدأت الآن بأنبياء المتع الجسدية، اليونان الجدد، رجال عصر النهضة (وهم ليسوا عمالقة في شخصياتهم فقط، وإنما أيضًا في قوة عواطفهم، وبالتالي من ناحية الجنس) الذين أرادوا في النهاية تحرير الشهوة الحسية، والذين يواجهون الآن، بعد منتصف الليل، وفي الجناح (ب) السؤال التالي: تحريرها من ماذا؟ من فرط الاحتشام؟ وأين ما يزال ذلك يمثل عقبةً حقيقية؟ ربما من الثقافة، من القوة البشرية التي تكبح جماحها؟ أيجدر بالمرء أن يهتف مُرحبًا عندما ينهار السد ويفيض النهر المحرَّر على الحقول والقُرى؟ إن الناس عندما يصفون الشهوة المحرَّرة بأنها التعبير الملائم عن المجتمع الجديد، لا يمكن أن يقصدوا التحرُّر من الأخلاق، من القواعد الاجتماعية للسلوك. فهم يعنون في الغالب قيد «الواقع»، أو بمعنى أدق «الواقعية». فلا بُدَّ وأن يتحرر المرء من هذا القيد إذا ما كان يرغب في الدفاع بحميةٍ عن شيءٍ ما ليس إلا خيالًا وإن داعب أحلام الكثيرين. أن مُتَع الفراش المطلَقة شيءٌ لا وجود له في الواقع، ومن باب أولى في حالة الشعراء الذين يميلون إلى البدانة، والذين يجتمعون مرةً في الأسبوع بعشيقات في نحافة عود القصب، وبعد ذلك يستبعدون من قصائدهم كل المتلازمات المزعجة؛ الكذب على الزوجة، الخوف من الحمل، الخوف من الفضيحة، وحدة الفتاة لمدة ستة أيام، السؤال المكبوت دائمًا عن الطلاق الذي صدر به الوعد ذات مرة، فضلًا عن النواقص الجسدية المحتملة. إنهم يبذلون جهودهم لنسيان كل هذا، لكنهم بالتالي لا يستطيعون تحقيق ذلك إلا في قصائدهم. إنها تفهم هذا؛ لأنها لا تستطيع أن تفعل المثل (دون شعر) إلا في الذاكرة التي تقدم دائمًا الأوهام للمستقبل. وهنا بلغَت أخيرًا ما أرادت قوله في هذا الموقف الأفقي الشاذ؛ ففي غضون الأيام القليلة القادمة، ستأتي لحظة تفكِّر فيها هكذا: في المرة التالية سيكون كل شيءٍ قد نُسي، وأيضًا القبح الذي سينبُع منه، لكنها لحُسْن الحظ لن تكون قادرةً على الإتيان به في المرة التالية أيضًا. «لأن حسيتي ليست حرة، ليست حرة مثلًا من التطلع إلى الاستمرارية، ومطلب الاحتكار. إنني أقدِّر نفسي لدرجة تمنعني من أن أصبح عشيقتك. كلا، أرجوك لا تقل شيئًا الآن، فأنا لم أنتهِ بعدُ. في بداية هذا المساء تحدَّثَت عن الحب، بشيء من الخفة على ما أعتقد. يجب أن أترك السؤال بلا إجابة، فلستُ أعرف واحدة، وكياني كله يقاوم محاولة العثور عليها، ربما لأني أخشى المسئولية، لأنني سأتحمل المسئولية، لو واصلتَ الانقياد لعواطفك وحدها. هل أصنع بعض القهوة؟»
زوجٌ غريب من البشر.
نار ومياه.
أما الفتيات اللاتي ينفرن من الظهور بمظهرٍ غير عصري يَبْدونَ فيه كالعنب البري، متحفِّظات، فهن دائمًا طائعات. إنهن لا يستمعن إلى غرائزهن الأنثوية التي تُنبئهن (من أجل ادخار شيءٍ للمستقبل) بألا يبدأن بما يجب أن يكون الذروة، فيُسهلن الأمور على الرجل، ولا يطالبنه بشيء، ويدَعْن جلالَتَه يهوي في أحضانهن، حتى لا يُخيبن الأمل وبذلك يخيَّبن الأمل فعلًا؛ لأنهن يحقرن من شأن أنفسهن، وينحططن بها إلى مستوى السلع التالفة، بدلًا من أن يقتدين بالآنسة برودر، التي لم يؤدِ رفضُها إلى إخماد حبه وإنما جعلَه يتقد اتقادًا، مما أدى إلى تحويل صاحب الجلالة كارل المعظم إلى كارل إرب الأكثر لطفًا والمدرك لحدود سلطانه؛ ولهذا اعترف بالعاهل المجاور، ومن ناحية الأمر الواقع والمشروعية، واضطُر في نهاية الأمر إلى تقديم فروض الاحترام الواجب لها.
وافترقا دون أن يسوِّيا نزاعهما.
افترقا دون أن يصلا إلى حلٍّ وسط. لكن كلًّا منهما كان واثقًا أنه ما زال أمامهما كثير من القول، ربما من باب الجدل.
وكان يجدُر بذلك أن يثير لديه الشك.
فكَّر في الأمر، لكنه وصل إلى نتيجةٍ إيجابية. وهذا ما يجعل من العسير تقييم هذه المغامرة؛ لقد كانت شيئًا إيجابيًّا، بالنسبة لها، وله، وللجميع (بالاستثناء المحتمل، محتمل: للأطفال). لقد استيقظ أخيرًا بعد أعوام من السُّبات. وبينما كان يهبط السلَّم، ويعبُر الفِناء المُغطَّى بالجليد، شعَر بقدرته على معالجة القرارات التي تُواجهه، كافة القرارات، ليس فقط تلك المتعلقة بالآنسة برودر وإليزابيث والأطفال، وإنما أيضًا الأخرى، المرتبطة بالمكتبة. خطَرَت له المكتبة فجأة، وكان من السهل أن يتبيَّن السبب في ذلك؛ لأن برودر والمكتبة تنتمي إحداهما للأخرى، مثلما هو شأن إليزابيث والحديقة، وكما كان يتحدَّث للواحدة مرارًا عن الأطفال وتشذيب السياج وإصلاحات السقف، سيُجادل الأخرى بالتأكيد حول كافة مشاريعه، مشاريعه التي دُفنَت وينتوي الآن التنقيب عنها؛ مكتبة الحديقة، قسم الموسيقى، التنسيق مع مكتبات المصانع، قاعة المحاضرات. لم تكن الخمر هي التي أمدَّته بهذا العزم، وإنما الهزيمة التي بدَت تُخفي في طياتها انتصاراتٍ قادمة، وجداله مع الآنسة برودر (ذلك النقاش غير الهام تقريبًا والذي جرى من موقعَين غير محدَّدَين، ونشأ بدافع من الرغبة الذَّكَرية الطفولية في الانتقام، وكان المقصود به مداراة حرَج الموقف، لكنه أراه في الحقيقة أنه ما زال قادرًا على المجادلة على قدَم المساواة، وأنه من المفيد التخلي عن السلوك الدكتاتوري المُريح)، وإدراكه لأن ردود الفعل الدفاعية الجادة لم تتمكَّن من قتل مشاعره.
لا شك أن هازلر سيُفاجأ، هكذا فكَّر وهو يتقدَّم وسط موسيقى راقصة صاخبة من باب الشارع المفتوح. هناك وقف صبيٌّ يحمل راديو ترانزستور، برفقة اثنَين آخرَين بدَوا جميعًا متطابقين؛ فقد كانت تسريحة شعورهم واحدة، وبالمثل أيضًا ستراتهم وسراويلهم، والحركات الإيقاعية التي كانوا يشجِّعون بها أنيتا. كان ذراعاها عند خاصرتها وقد انحنَت ركبتاها، وجعلت تهزُّ مؤخرتها وصدرها البديع، وواصلَت الاهتزاز وهو يمُر بها ويطلب من السادة الشبان أن يُفسِحوا له الطريق. وهذا ما رفضوه، وهم يرفعون صوت الراديو وطقطقة ألسنتهم، حتى استسلم لحافز القيام بشيء، وحاول أن يشُق طريقه بينهم. شعَر بالرغبة (التي لم تكن تواتيه إلا في الأحلام) في تجربة معلوماته عن الملاكمة من أيام الشباب، لكن الفرصة لم تُتَح له؛ فقد أمسك به الصبية من يمين ويسار من معصمَيه وأعلى ذراعَيه. وفي أَسْر هذه القبضة المماثلة لأفاعيل الشرطة دفعوه بغلظةٍ إلى الطريق. وتبعَتْهم أنيتا، مبيِّنة لهم أين يذهبون، متحدثة، تشرَح أحيانًا، وتُلاطف أحيانًا أخرى، وتُهدِّد أحيانًا ثالثة. امتد بهم الطريق خلال شوارعَ بيضاءَ خالية، لم يعلم بأهميتها التاريخية (الملجأ اليهودي، نصب شاميزو التذكاري الذي ما زال يفتقد الأنف الضائعة في الحرب العالمية الثانية، حُطام معبدٍ يهودي، منزل هومبولت، قبر هيجل، منزل بورزيج) إلا فيما بعدُ وسرعان ما نسيها. ولم يُطلِقوا سراحه إلا عندما بلغوا مركزَ شرطةٍ متهدِّمًا في الطابق الأول؛ حيث أبدى شرطيٌّ متعَب تلهفًا على الاستماع لكل شيء على لسان هذه الشخصيات الواعدة.
وطبقًا لدفتر الشرطة حدث هذا في الساعة الواحدة والدقيقة الثانية والثلاثين.
ومضت ساعة كان إرب يبحث عبثًا فيها عن دورٍ مناسب له.
لكنه كان قد وعد بأن يكون هو نفسه بشكلٍ تام!
حقًّا، إنه في حضرة الآنسة برودر لم يعُد يلعب أي دور، لكنه هنا رأى نفسه مُضطرًّا إلى ذلك؛ لأن ذاته الحقيقية كانت مختلفة تمامًا في ناحيةٍ ما، ولأنه كان في حاجة إلى ما هو أشبه ببديل يقدِّمه إلى مركز الشرطة بعد أن يزوِّده بتعليماته، لكن هذه التعليمات كانت متناقضة للغاية؛ ففي البداية احتجاج حاد، ثم استبدل هذا بموقف التفهُّم لواجب الشرطة التي لا بُدَّ لها وأن تستمع لكل ما يريد الشخص قوله، ثم الغضب واستخدام عبارات عن «الحرمان من الحرية الشخصية»، ثم الاستماع في صبر وتمالُك للنفس إلى كافة الأكاذيب التي كانت ترويها أنيتا عنه وعن هدف عواطفه. وبنظرةٍ يائسة هزَّ رأسه، وقد انتهَت محاولته الهادئة لمقاطعة التدفق الأنثوي للحديث («هل يمكنك أن تُصغي إليَّ، أيها الرفيق اللوتنانت …؟») بابتسامةٍ مستسلمة، وأخيرًا، وقد استقرَّت رأسه المرهقة فوق يده، أسلم نفسه للانتظار.
لقد ثبتَت هنا صحة تلك العبارة التي تردِّدها الصحف مؤكدة أن الوقوف موقف المتفرج فقط لا يكفي؛ ذلك أن إرب لم يستطع التأثير في الشرطة لأنه لم يكن بكل قلبه في الأمر. لكنك لا تستطيع أن توجِّه إليه اللوم على ذلك؛ فليس بوسعك أن تكون بكل قلبك في كل مكان في وقتٍ واحد، وهناك في التحليل الأخير علاقةٌ ما لهذا الأمر باختلاف الطباع؛ فبعض الناس يميلون بكل قوة إلى ملاحظة الأشياء، بما في ذلك ذواتهم هم، ولا يستطيع أي إنسان أن يقفز فوق ظله ولا حتى أولئك الذين يبدُون قادرين على ذلك؛ لأنهم بلا ظل، بعد أن باعوه لإحدى الشخصيات السوداء.
لقد أعدَّت أنيتا انتقامها جيدًا. كانت ملابسها بسيطة، لكنها تنطبق على مقاييس جسمها، وحديثها بسيطًا ومباشرًا، واتهامها خطيرًا، حبكَتْه بنجاح. لقد تعلَّمَت الكثير من باشكه؛ اللهجة القلبية الصريحة التي بها مسٌّ من احترام للشخصية الرسمية، ومحاولة التزام الموضوعية التي تتخللها على فتراتٍ غير منتظمة انفجاراتٌ غاضبة بواعز الحماس للأخلاق، والإشارات إلى أوجه قصورها ونواقصها. وإلى كل هذا أضافت ما كان يفتقد إليه والدها المزعوم، جسدًا شابًّا وبراءة، كان لهما تأثيرٌ كبير بسبب تناقضهما، بسبب التوتُّر القائم بينهما، وهو توتُّر يأسف أي رجل (بما في ذلك رجل الشرطة) ألا أن يكون بوسعه إذابته في الحال. كانت هذه العذراء البالغة النضج عائدة، كما قالت، من أمسيةٍ هانئة في نادي الشباب عندما لاحظَت هذا الرجل، وهو عضو في الحزب (نظرة إلى الشارة المثبتة في عروة سترته) ومتزوج (نظرة إلى خاتم إصبعه)، يتعثر خارجًا من الباب العمومي (وهو ثمل للغاية) متجهًا إلى سيارته، حيث صَعِد إليها وجلَس خلف المِقوَد ثم أدار المحرك، وكان سيسوقها متعبًا لو لم يتدخل هؤلاء الشبان الثلاثة الممتازون وهي أيضًا («قبضوا عليه بالطريقة السلمية»)، وأحضروه إلى هنا. ربما لم يكن هذا من حقهم. لكن القيادة المخمورة («يكفي أن تشمُّوا أنفاسه») جريمةٌ خطيرة، أليس كذلك؟ وكل مواطن، بما في ذلك الشباب، من حقه وواجبه أن يحول دون وقوع هذه الجريمة، أليس كذلك؟ لكن هذا ليس هو كل شيء، هناك شيءٌ آخر يصعُب على فتاة أن تتحدَّث عنه لأنها لا تعرف الكلمات الملائمة، الصحيحة والمهذَّبة والرسمية، إنها لا تعرف سوى الكلمات التي تسمعها في المنزل وفي الشارع، لكن لا بُدَّ من قولها، وسوف تفهم الشرطة. لقد كان هذا الرجل في زيارة فتاة أو امرأة، أو أيًّا كان ما يتعيَّن قوله، تعيش بمفردها في الجناح (ب)، تستأجر غرفة في مسكن السيدة فولف وليس هذا الرجل هو الوحيد الذي يزورها، بينما تقبع زوجاتهم المسكينات في المنزل غارقاتٍ في البكاء بالتأكيد، لكن بالطبع هذا ليس من شأن الشرطة؛ لأن مغامرات الرجال المتزوِّجين بقَدْر ما تعلم، لا تقع تحت طائلة العقاب. أليس كذلك؟ إن أنيتا لا تفهم هذا؛ فالدولة هي التي تعقد الزواج وتنهيه إذا ما دعت الضرورة، وبالتالي يجدُر بها أن تُشرِف على سريانه، لكن هذا ليس هو ما يعنيها هي وجيرانها؛ فما يثير قلقهم هو استمرار هذه الفتاة في سلوكها وسمعة المنزل والشارع، اللذَين كانا يحظيان بسمعةٍ سيئة في الماضي؛ ولهذا يجب أن يكون كل فرد على حذَر، وحتى لو لم يكن يعرف شيئًا محددًا فإن تلميحًا كهذا لن يؤذي أبدًا، فإذا ما اتضح خطؤه، يكون هذا أفضل («وفي هذه الحالة، انسَ أني قلتُ شيئًا»).
كان هذا هو كل ما قالته، والآن على الرجل أن يحاول إنكاره. كانت سيارته ما تزال في مكانها، وقد غطاها الجليد بالطبع، فهو حتى لم ينظِّف زجاجها الأمامي. وخطَت أنيتا خطوةً إلى الخلف، وانضمَّت إلى رفاقها الصامتين، وبدا فمُها جذابًا للغاية حتى وهو مُغلَق، لدرجة أن التقريع بشأن تهوُّرها واندفاعها كان وديًّا للغاية، ولم يُحْدِث دفاع كارل القصير عن نفسه إلا أثَرًا ضئيلًا. لم يكن هناك مجال للحديث عن العقاب؛ لأن كل ما كانت تريده هو تحرير مذكِّرة بالأمر، أن الفتاة المعنية تُدعى برودر، ولقبها هي باشكه، وها هي بطاقتها الشخصية.
«حسنًا، والآن يمكنكِ أن تذهبي إلى فراشك. طابت ليلتكِ.» كانت أنيتا على وشك الانصراف، بعد أن انحنَت قليلًا في مرح، عندما حققَت انتصارًا آخر غير منتظر؛ فلم يكن كارل يحمل معه بطاقة. كانت في حافظته التي تركَها في المكتبة في الساعة السابعة عندما اعترضَت أنيتا طريقه.
«إن أعظم الأحداث في الحياة قصيرة وفريدة؛ الميلاد والوفاة. فإذا خَشِي المرء هاتَين الخاصيتَين في الحب، ألا يعني هذا الخوف مما هو عظيم؟
إنها تحب كل ما هو واقعي والدُّوار العاطفي، كاليقظة، من الأمور الواقعية. يبدو لي أنها لا تُحبها، وإنما تخشاها.
هناك رغبة لا تتحقق أبدًا، وهي أن تبقى الأمور على ما هي عليه. إنه لجدير بالرثاء ذلك الذي لا يملك، عند رؤية المائدة المبسوطة، إلا أن يفكِّر في الفضلات، والصحاف المتسِخة، والعظام المقضومة، والبُقع التي تلوِّث غطاء المائدة.
من النادر أن يلتقي المرء بشخصٍ جدير بالمجادلة.
إن الحياة بالمعنى الحقيقي، الواقعي تمامًا، لا يمكن أن تكون إلا الوجود الواعي في الحاضر. أيعيش على الإطلاق ذلك الذي لا يستطيع ممارسة ذلك، ويقف في مفترق الطريق بين الماضي والمستقبل دون خوف، دون دُوار، متناسيًا التجربة والبصيرة؟
أيُوجد من يتمتع بقَدْرٍ عالٍ من الحكمة يحول بينه وبين الحب؟
أفضل دواء لعلاج الحب العظيم هو الاستسلام لأقل إغراء.
إنه لحدَث؛ عندما يُدرِك أنه كان قمينًا بأن يهتم أيضًا بما قالته، لو لم تكن امرأة.
حقيقة الجمال النائم: لقد أيقظَت الأمير الذي أقام سياجًا بينه وبين العالم من أجل السلام.»
كل هذا فكَّر فيه خلال كلمة الادعاء التي أدلَت بها (أنيتا)، بل وأكثر من ذلك، مما لم يضمنه الخطاب، مثل: كل محاولة للغواية تستند إلى أكذوبة. ولعل الآنسة برودر قمينة بأن تترجم «الأكذوبة» إلى «وهم»؛ وبالتالي تؤكِّد نظريتها عن قصور المتعة الجسدية، لكن لعلها حدَسَت (وهذا أسوأ) ما كان يفكِّر فيه: إليزابيث؛ ذلك أن عدم ذكر اسمها على الإطلاق بينهما كان أكذوبة، أكذوبة تمت بواسطة الصمت المتعمَّد؛ ففي حديثهما الليلي، لم تكَد تَرِد فِقرة لم تخطر له فيها المرأة التي عاش معها أربعة عشر عامًا، على سبيل المثال أو البرهان أو الدحض.
لم يكن لديه ما يقوله بشأنها إلا كل خير، وقد شعَر أن هذه لم تكن الفرصة الملائمة لذلك، لكنها كانت أفضل الفرص. وفيما بعدُ، كانت إيضاحاته تتسم فيما ندر بالتحفُّظ، إنه لم يَفتَرِ عليها أبدًا بشيء، ولم يُلقِ على عاتقها أبدًا بالجريرة (التي لم تكن جريرتها)، وقد فعل ذلك بالتأكيد بدافع الأمانة، لكن ذلك الدافع أيضًا لم يكن بلا أسسٍ تكنيكية (موجَّهة ضد نفسه). كان السبب الأساسي لصمته في ذلك المساء، هو أن اسمها كان سيقع كالحاجز بينه وبين الآنسة برودر. وطالما أنه ما زال يأمل في الفوز، فلا بُدَّ أن يبقى الشعور بالظلم ضئيلًا قَدْر الإمكان، ولم يكن ليجرؤ على تجسيد الشخص المخدوع، فلا بُدَّ له من إعطاء المخادع الفرصة ليتخيل وحشًا، برجوازيةً صغيرة، جبلًا من الثلج، أو مريضةً بالشبَق الجنسي، يُصبِح خداعها عدلًا. كان يعرف أن صدور اسم زوجته من فمها سيكون أفضل وسائل الحماية ضده.
وألم تُحْدِس الفرويلاين الأريبة ذلك؟ لماذا لم تسأله عن زوجته؟ لماذا لم تسأله عن الأطفال؟ لعلها لم تكن راغبةً في مثل هذا الدرع الواقي؟
إن لهذا الشرطي المجهول الاسم أثرًا مؤكدًا، لكن غير حاسم، على التطورات القادمة، لكن ليست بالمعنى المرغوب، وهو انتصار المبدأ الأخلاقي الذي يمثِّله. على العكس: حقًّا أن إصبعه المحذِّر قد أوضح الاتجاه المطلوب، لكن ذلك تم في الوقت الذي كان فيه الطائر محلقًا، كما أن الإصبع لم يُعَيِّن الطريق السليم، ونتيجةً لهذا عجز الطائر عن تجنُّب الهاوية، بل بلغها بصورةٍ أسرع. إن نصائح هذا الرجل المستقيم المحايد بأن يتخذ كارل طريق الأمانة، والحق، والاستقامة، قد شجَّعَته على اتخاذ قرارٍ سابق لأوانه. وبالإضافة إلى هذا اكتشف أن وصفه لمغامراته تلك الليلة لم يُصَدَّق؛ فقد قال له الليتنانت: «إذن فقد قضيتُما الليلة تُناقِشان الكتب حتى منتصف الليل.» كان غاضبًا، وأخيرًا أدار رقم تليفون إرب.
١٠
مرَّ الحديث (من الرابعة إلى السابعة صباحًا) خلال مراحلَ متعددة. افتتَح إرب إحداها بهذه الكلمات: «لستُ واثقًا إذا كنتُ قد أحببتكِ على الإطلاق.» إليزابيث: «لكنك تزوَّجتني.» – «لأنك أردتِ هذا.» – «هل قلتُ أنا ذلك؟» – «كلَّا، لكني عرفتُ وأردتُ أن أُرضيَك. وفضلًا عن ذلك، كان هناك جيرهارد. لقد عثَرتُ بالصدفة على القصيدة التي كتبَها إليك.» – «لم تكن له أبدًا أية أهميةٍ عندي، وأنتَ تعرف ذلك.» – «دونه كان بوسعنا أن نفترق من غير صدمة أو ألم، لكني لم أكن أستطيع ترككِ له. الكبرياء والغرور، ورغبة التملك، أنت تفهمين.» – «هل هذا هو السبب الوحيد؟» – «الوحيد. كنتِ جميلة.» – «لماذا لا تعترف بأننا كنا نتبادل الحب؟» – «لأن هذا ليس صحيحًا، كان بوسعي أن أخونك في اليوم الثاني لزواجنا.» – «لكنكَ أجَّلتَ ذلك اثنَي عشر عامًا، حتى الليلة، آه!» – «لقد خُنتُكِ بالفعل في أفكاري وأحلامي مئات المرات. إننا لا نستطيع الحياة بمفردنا، هذا هو كل شيء، وبالصدفة بقينا سويًّا، الوحدة، المصادفة، وشيء من الشفقة! لماذا ترفضين مواجهة الحقيقة؟ إنكِ تطالبين بالأمانة، لكنكِ لا تستطيعين تحمُّلها. لقد أمكنكِ دائمًا أن تجدي طريقةً لتجنُّب مواجهة الحقائق، أو لتخفيفها بواسطة المشاعر.»
كان حقًّا يريد أن يكون أمينًا، أراد أن يثير كل ما كان مكبوتًا طوال اثنَي عشر عامًا، وقد خفَّف عن نفسه الآن، وحزن لأن الأمر كان سهلًا للغاية. كان فخورًا بأمانته، لكنه أيضًا كان خجلًا؛ لأن الإساءة إليها كان مصدر متعةٍ كبيرة، ولأن التدمير المتعمَّد كان جزءًا من العملية. الأمل في أن يستطيع هو بسهولةٍ أكثر التخلُّص من مشاعره إذا ما قتلَها لديها. حاول أن يُحطِّم ما اعتبره في حاجة للتحطيم، لكنه شعَر أن صرحهما المشترك لم يتحوَّل بعدُ إلى حطام، وأنه لا بُدَّ من مواصلة التدمير، وتدمير الماضي أيضًا. كان لا بُدَّ من إنكار الحب الذي تبادلاه، وإلا اضطُر للاعتراف بأن هذا الحب قد مات في الطريق، دون قصد لكن ليس بلا جريرة. كان من شأن هذا الإقلال من عظمة حبه الجديد وأمانته، التي أراد إبرازها، والتي من أجلها اضطُر للكذب (الكبرياء والغرور ورغبة التملك، الوحدة، والمصادفة، والشفقة).
مرحلة أخرى: «والأطفال؟» – «سأكون رهن إشارتهما دائمًا.» – «وهل ستطالب بضمهما في الطلاق؟» – «من الذي يتحدث عن الطلاق؟» – «أنا، هل هناك إمكانيةٌ أخرى؟» – «لا أعلم. لا بُدَّ لك أن تعطيني وقتًا.» – «من أجل ماذا؟» – «حتى الآن، أعلم فقط أني أحبها، لكن هذا لا يعني أنك لم تعودي تمثِّلين شيئًا بالنسبة لي. يجب ألا نتصرَّف بعجَلة، وحاولي أن تكوني متسامحة وصبورة، وانتظري قليلًا.»
«لستُ في حاجة إلى التسامح، أنا أحتاج إلى علاقة واضحة.» – «لأنك تُسهِّلين الأمور على نفسك للغاية. إنني أتحمل الجريرة الأكبر، هذا حقيقي. لكن هل تؤمنين حقيقةً بأنك بريئة؟ ألا تذكُرين بأي أملٍ بدأنا زواجنا؟ كم مرةً دافعنا أمام أنفسنا، وأمام الآخرين، عن هذا الزواج بين أمناء المكتبات؛ مهامُّ واحدة، واهتماماتٌ واحدة، يمكن تبادُل المساعدة، والانطلاق يدًا في يد. وماذا آل إليه الأمر؟» – «وماذا يحدُث عندما تُنجب الآنسة برودر طفلًا؟» – «أنا لا أريد أن أقلِّل من شأن جريرتي، أنا أريد فقط أن اقترح فترةً للتفكير. أتظنينني أقلَّ انزعاجًا منك؟ لكني لا أملك أن أفعل شيئًا آخر، الشيء الوحيد الذي أملكه لكِ الآن هو أن أكون أمينًا.»
لم يكن بوسعه حقًّا غير ذلك، كان لا بُدَّ له أن يكون أمينًا وقد كان (بل أكثر من أمين؛ لأنه اعترف بوقوع شيءٍ كان فقط يأمل في احتمال وقوعه)، لكن ليس لأن ضميره أملى عليه ذلك، أو أن الشرطة نصحته به، وإنما لأن إليزابيث سبقَته (وجنَّبَته بذلك عذاب اتخاذ القرار) وأطلعَتْه على زيارة هازلر (قبل أن يبدأ ما كانت تخشاه، وهو تقديم وصفٍ تفصيلي لأمسيتها مع هازلر). لم تكن تبحث عن نصرٍ رخيص عقب صمتٍ غادر، وإنما كانت راغبةً عن وساخة الأكاذيب. وجلَب لها ذلك نتائجَ سيئة؛ لأنه جرَّد الحديث من البشاعة التي كان بوسعها أن تقضي على كافة مشاعرها نحو إرب. وكان من الأفضل لها بالتأكيد لو واجهت كاذبًا بائسًا، يتخلص من زيفٍ بآخر، يسعى جاهدًا للفوز بثقتها، وينفخ من الغضب في مواجهة ارتيابها وسوء ظنها، أو يلتمس ملاذًا في الوقاحة.
لكن من يفهم إليزابيث؟ إن استعدادها للبكاء عندما تسمع صوت الأطفال في المذياع، وإمدادها حُجَّاب غرفة المعاطف في حفلات الاستقبال بشطائر الكافيار، لا يعني أنها عاجزةٌ عن التصرف وفق لحظةٍ مقرَّرة. وربما كان الأمر هكذا: إنها لم تتخلَّ بعدُ عن كارل، حالت دونه والكذب حتى تكون قادرةً على مواصلة حبه، ولعلها أيضًا أرادت أن تمنع الرابطة الجديدة التي قد تخلقُها الأكاذيب بين كارل والآنسة برودر. كان الهدوء الذي أصغت به للأمر كله مدهشًا (وجارحًا لكارل). لم تصرخ أو تبكي، وظلَّت هادئة هدوءًا طبيعيًّا فتراتٍ طويلة تاركةً كارل يتكلم، لكنها وجَّهَت إليه عددًا من الأسئلة الصريحة التي استثارت إجاباتٍ واضحة.
أمكنها أن تحتفظ بهدوئها لأنها كانت مستعدة، ليس فقط بواسطة هازلر وربع الاعتراف المنمَّق الذي قدَّمه كارل منذ أسابيعَ قليلة، وإنما أيضًا بذلك القلق الذي يصاحب كل حب، ويحتاج إخماده دائمًا إلى تكرارٍ يومي، وكل ساعة، لقسم الحب (مستحيل، ليس في حالتنا؛ فنحن مختلفون عن الآخرين)، لكنه لا يتلاشى أبدًا، رغم أنه يتقلص بمرور الوقت، ويبدو كما لو كان قد هجع في غرفةٍ جانبية بالروح. وقد يتم تناسيه في لحظات اليقظة، لكنه يضطرم من جديد في الأحلام، والليالي الوحيدة، عندما يكون الآخر بعيدًا، أو في صخب حفلٍ تنكري راقص حيث يؤدي فمٌ غريب بل وغير جذاب أو صدر ليس بأكثر جمالًا، إلى يقظة الانفعال، مذكرًا بذلك الوقت الذي لم يكن فيه جسد الآخر بعدُ مألوفًا كجسد المرء نفسه، وكان يستثير الرغبة، عندما لم تكن القبلة في الصباح أو عند الافتراق أو عند اللقاء، أو بالليل، تُعطَى بنفس الطريقة التي يمسح بها المرء حذاءه، أو ينظِّف بها أسنانه، أو يدخن بها سيجارةَ ما بعد الإفطار. قد يختبئ القلق، لكنه لا يتلاشى، إنه يكتسي بمتاعب كل يوم، ويُعزل بواسطة الثقة والعادة، لكنه لا يَنِي يعود بلا دعوة، تزداد حدَّته أحيانًا حتى يتحول إلى شوقٍ عارم لهدوء الشيخوخة وخُلوها من الشهوة، أو يقدِّم تنويعاتٍ غير محدَّدة المعالم على موضوع الألم، يتحوَّل أحدها فجأة، في الساعة الرابعة من صباح أحد أيام شهر نوفمبر، إلى واقعٍ متجسِّد. بهذا يكون المرء دائمًا مستعدًّا، ولديه الشعور بأنه قد خبَر الأمر كله من قبلُ، فيعقد المقارنات، ويُحاول أن يتذكَّر، ويُدرِك أن الأمور كان يمكن أن تكون أسوأ مما هي عليه، ولا يصرخ، ولا يبكي، ويحتفظ بهدوئه، بل ويهتم بمعرفة كيف حدَث الأمر كله، بالرغم من الألم الذي لا يبلُغ مداه الكاملَ إلا عندما تزول دهشتُه من معرفته بالأمر كله.
استمر الحديث، دون نتيجة، ساعتَين، كتب بعدهما (كما لو أن الحديث لم يكن) «الخطاب رقم ٢». وكان بإمكان الحديث أن يستمر عشرين ساعة، وهو ما حدث في الواقع، وإن توزَّعَت على مدى الأمسيات القليلة التالية. كانت الصراحة التي انبثقَت بينهما أشبه بنوبة من الحُمَّى، تُمارِس وجودها في الأمسيات، عندما يستقر الأطفال في أَسِرَّتهم، وينتهي تمثيل دور الأسرة، وفي غمار هذا الحديث، ازدادت معرفة كلٍّ منهما بالآخر بصورةٍ لم تتحقَّق من قبلُ، واعترف كلٌّ منهما بتفاصيلَ حميمةٍ كان من شأن الاعتراف بها قبل الآن أن يكون مدمرًا، وكان هو أساسًا الذي قام بهذه العملية (فهي لا تسمح لنفسها بالانطلاق إلا نادرًا)؛ لأنه أراد أن يحطِّم الجسور (لكن ليس بصورةٍ كاملة؛ فقد كان يفضِّل أن يترك معبرًا ضيقًا لقدم) التي أرادت الإبقاء عليها في الوقت الراهن (وهو ما عجز عن ملاحظته). تحدَّث وتحدَّث، عن الماضي، الذي لا بُدَّ من إعادة تفسيره وتدميره، والذي يقع عليه عبء تقديم الأسباب، والدوافع، وأدلة الإثم. وتحدَّثَت هي أقلَّ منه بكثير، عن المستقبل فحسب، الذي أرادت أن تتبيَّنه من خلال الكلمات. تحدَّثَت أساسًا عن أشياءَ عملية، وخاصةً عندما لاحظَت أنه يتباعد عنها. على العكس منها، هي التي تعرف ما ينتظرها بعد الانفصال، كانت مسيرتُه تتجه إلى المجهول. فكَّر أنه يتركها في منتصف الرحلة، وهو أمرٌ سيئ، لكنه يتركها في محيطٍ مألوف لها. أما هو فسيَلِج نفقًا مظلمًا، لا يعرف إن كان له مخرج. «يجب أن نأخذ الأمر ببطء.» – «لماذا؟» هكذا سألَته وتحدَّثَت عن المنزل والحديقة اللذَين يخُصَّانها، وعن السيارة التي يستطيع أخذها؛ لأنها ستكلفها كثيرًا، لكنه لم يرغب في الاستماع إلى شيء من هذا كله، واستخدمه فقط ليتساءل عما كان يمكن أن يحدُث لو لم يأخذا هذا المنزل، ولم ينجبا أطفالًا، وغيَّرا وظيفتَيهما، وتركا برلين، وغير ذلك.
كانت هناك دموعٌ أحيانًا، وصيحاتٌ أحيانًا أخرى، وصمتٌ أحيانًا ثالثة، وفي أحيانٍ رابعة استيقظَت الرغبة مثل الصدى المتأخر، ثم ماتت تحت وطأة التفريغ (من الذي أهمل الآخر جسديًّا ومعنويًّا، وذهنيًّا، ومن الذي خدع الآخر قبل الكارثة بوقتٍ طويل؟) أحيانًا كانت تعتريه الكآبة عندما يفكِّر في الرحلات التي كانا ينتويان القيام بها (عندما يكبَر الأطفال) أو الحديقة التي ستتحوَّل إلى خراب عندما يترك المنزل وتلتحق إليزابيث بالعمل. وحاولَت هي بضع مرات أن تكون مرحة، وتساءل هو عن الوضع لو كانا من عشاق التليفزيون المُتَيَّمِين (كان هذا سيصنع رابطةً بينهما، ولن يكون ملحوظًا أبدًا أنهما لا يملكان ما يقولانه، وسيمكن تفسير التدهور البطيء في الرغبة؛ فكيف تُمارِس الحب إذا كنت تشاهد البرنامج كل يوم حتى نهايته في منتصف الليل؟ وكان سيصبح مقيدًا إلى المنزل، لا يُضحِّي بساعةٍ واحدة في المساء من أجل أخريات، أو لو كانت الآنسة برودر من عاشقات التليفزيون؟ بعد أن يتناولا العَشاء سويًّا، كانت ستُحدِّق إلى الشاشة من فوق كتفه، وما كانت أصغت إليه أبدًا، وكانت ستجد دائمًا عذرًا، وكان الحديث سيستحيل، وعندئذٍ لن يعرفها جيدًا؛ فدون الحديث ما كان وقَع أبدًا في حبها). لم تجد إليزابيث الأمر فَكِهًا للغاية، وحاولَت أن تبتسم، وتركَتْه يتكلم، وأمسكَت عن انتقاده (للتكرار المستمر في حكاياته وآرائه، وامتداحه لنفسه دون خجل، وتحميلها كافة المضايقات، بينما لا يفترض أبدًا أن تكون شاحبةً أو حزينة أو متعَبة)، وفكَّرَت في أوجه لومه لها؛ كون أن رأسها لا تضُم سوى المطبخ والمهد وفراش الزوجية، هو أمرٌ غير صحيح تمامًا، وإنما به شيء من الصحة، لكن كيف كان يمكن أن تكون الأمور مختلفةً في ظل تقسيم العمل الذي أراده؟ هل كانت الأمور اختلفت لو كانت التحقَت بالعمل، وجلبَت معها شيئًا من العالم الخارجي في المساء، لو كان لها ربما مُعجَبون؟ هل كان يمكن أن تحتفظ بجاذبيتها له مدةً أطول لو رأى أنها جذابة للآخرين؟ هل يحتاج ربما للخوف من المنافسة، وهل كانت الطمأنينة مدمرةً لحبه؟ هل كان من الأفضل لها أن تكون ذات مهنةٍ أخرى، مهنة لا يفهم شيئًا عنها، حتى لا يشعُر بالتفوق في هذا المجال أيضًا؟ لكن أما كان من شأن حشو الأمسيات بالعمل المشترك مع الأطفال وفي المنزل والحديقة أن يستنزفهما ويضاعف البون بينهما؟ ألا يُعتبر عاملًا في الموقف أنها في السنوات الأخيرة أهملَت ملابسها ووجهها وشعرها؟ إن إصبعًا واحدًا من أحمر الشفاه صار يكفيها عدة سنوات، وإنها تخلَّفَت عدة فصول عن المودة، رغم أنها لم تكَد تلحَظ ذلك في حياة الرهبنة التي عاشتها بين المنزل والحديقة. أكان يجدُر بها أن تُجرِّب ذلك المُستحضَر الذي أكَّدَت الإعلانات أنه يضمن صدرًا كاملًا وجميلًا؟
هل قالت هذا، وهل فكرت في ذلك؟
فيما بعدُ لم تعد تعرف، عَرفَت فقط أنه تكلم بلا نهاية، هُراء، وأنصاف حقائق، وأشياء معقولة أيضًا، ولم يساعدها ذلك في شيء، وإنما ساعده هو. كان في حاجة إلى الحديث؛ لأن كل فكرة تظل دون تصريح، كانت تصيبه بالسقم، وتحرمه من النوم. كان في ذلك مثل الآنسة برودر تمامًا، لكن إليزابيث في ذلك كانت شريكًا سيئًا. أكان هذا فقط هو ما جعله يفضِّل الآنسة برودر، أم هو شبابها، بشرتها، شعرها، أو ببساطة لأنها كانت جديدة، غريبة؟ في هذه الحالة هناك أمل، وبوسع المرء أن يركن إلى الزمن.
لكن هل هي راغبة في الأمل؟ لماذا إذن كانت ترسله بعيدًا؟
عندما تعلم أن عمليةً ما ضرورية، فإنك تسأل الطبيب ما إذا كان من الممكن أن تتم على الفور؛ لأنك تخاف من الخوف وتقلَق من القلق. ربما كان الأمر كذلك، وربما ظنَّت أن الصدمة قد تكون فعَّالة، مثلما تقول للطفل: حسنًا. اذهب إذن إلى المعسكر الصيفي، وسترى بنفسك كيف أن البقاء بالمنزل أفضل بكثير. لكن ربما بدا لها من المستحيل البقاء مع رجلٍ رقد مع أخرى، ولعلها أرادت الانفصال حقًّا لأنها حلمَت فجأة بالاستقلال الذي تأخر نَيلُه؟ ربما. لكن من يفهم إليزابيث؟
١١
لم يرَها كارل حتى موعد الغداء. كانت تجلس بمفردها إلى إحدى الموائد على يسار الممشى. وإلى اليمين جلسَت الآنسة زافاتسكي، والآنسة فسترمان، والسيدة إيزيلت، وكراتش، وريبلوس، تناولَت السيدة إيزيلت حقيبة يدها من فوق مقعدٍ مجاور، وأشارت لكارل بيدها أنه خالٍ. وأبطأ هو خُطاه ليكسب بعض الوقت، لم ترفع الآنسة برودر عينَيها. كانت تأكل حَساء الكرنب وتقرأ في الوقت نفسه.
كانت هذه عادةً سخيفة أدت إلى اليأس بعددٍ من الناس قبل إرب (الذي كان ما يزال مستعدًّا أن يرى جاذبيتها). وأول هؤلاء الناس كان أمها، التي لم تكن قادرةً على التمسك بآداب المائدة في المطبخ الكبير (في مقدمة المسكن، حيث صارت السيدة فولف فيما بعد تطهو لمربِّي الحمَام الصموت) لأن فيلهلم، زوجها، كان أقل اهتمامًا بالشكل الخارجي منه بالمحتوى الداخلي (للرأس). ولهذا كان يشجِّع التهام الغذاء المادي والذهني في وقتٍ واحد، ويقرأ بحَسائه ولحومه عن الصراع على عرش الإينكا بين هواسكار وأتاهوالبا، وسرَّه أن يرى ابنته تحصل على متعةٍ مزدوجة من المربَّى والفارسة ذات الكاب الأحمر، شرائح لحم الخنزير وعصابة تيمور، شطائر الجبن وفاوست. وهكذا كانت السيدة برودر تجلس في عزلة أمام المائدة، لا تتلقى سوى همهمة الاستحسان إذا ما استفسرَت عن مذاق الأكل، ولم يرَ أحدٌ الدموع التي أضافت الملح إلى نصيبها. وهكذا نرى من جديد الآثار الفادحة لسوء التربية؛ ففي سن الثانية والعشرين كانت تقرأ في مطعم الصحة البلدية، حيث ظنها كنَّاسو الشوارع وعاملات النظافة، وسائقو عربات المياه، والعاملون في المغاسل وموظفو البنك البلدي، مجردةً من الذوق، وشعَر العاملون في المكتبة أن كبرياءهم المهني قد جُرح لأن واحدًا منهم يقوم بما هو محظورٌ تمامًا على مستعيري الكتب، وعن حق (بسبب خطر البُقع). لكن الآنسة برودر لم تكن تنوي التخلي عن عادة طبيعية لديها، لمجرد أن الآخرين لا يُقِرُّونها. كان من شأن الطعام بلا كتاب أن يصيبها بالضجر، ولم يكن بوسعها أن ترى سببًا يمنعها من إطالة الوقت القصير المخصَّص للقراءة بهذا الشكل.
كان كارل من النوع الذي يتخذ قراراته ببطء، مما يعني أنه كان عاجزًا عن مواصلة السير إلى الأمام؛ توقف، وهو ما زال عاجزًا عن اتخاذ قرار بين المائدتَين، وشعَر أنه متعَب للغاية، وحمل صَحْفته مائلة لدرجة أن الحَسَاء الدهني سال من فوق الحافة. كان يرى إلى يساره شعرًا، وكتابًا، وملعقةً تتحرك بانتظام بينما كان يُلقي بالتحايا يمينًا إلى الوجوه الخمسة المتطلعة نحوه. كان يعرف أنه بعد هذه الثواني من الحَيْرة سيتعيَّن عليه ببساطة أن يجلس إلى جوار السيدة إيزيلت، وسمع ريبلوس يقول شيئًا في صوتٍ مازح («مثل حمار بوريدان»، أو شيئًا من هذا القبيل). لكنه جلس إلى اليسار، في مواجهة الآنسة برودر، التي لم ترفع عينَيها. وإلى المائدة المجاورة، كان كل شيء هادئًا. بدا أن طنين الأحاديث وقعقعة السكاكين فوق المائدة الأخرى قد خفَتا. وشعَر كما لو كان كافة آكلي الكرنب في الكانتين ينتظرون كلمته الأولى. وتُوَلَّد في رأسه، الذي لم يصفُ بعدُ من تأثير الخمر، أن يجعل زملاءه يعتدلون في أماكنهم بأن يقول: آمل أن تكون ساعات النوم القليلة كافية. أنا سعيدٌ سعادةً هائلة برؤيتك ثانية. كم أنتِ جميلة! وجد صعوبةً في استدعاء عوامل الكبح الضرورية. وحدَّق إلى شعرها وقال أخيرًا (بصوتٍ مرتفع للغاية): «شهية طيبة». أعادت هي ملعقتها، التي كانت قد امتلأَت، إلى صَحْفتها، ورفعَت عينَيها، وأجفلَت.
من المحتمل ألا يكون «الانزعاج» هو الكلمة المناسبة، ولا الغضب أيضًا، كان الأمر بين هذا وذاك، القلق ربما، أو الذعر؛ فقد كانت تتمنى أن يدَعَها وشأنها خلال ساعات العمل، لا لأنها لا تُعجب بأحاديثها معه (كانت في الواقع تُعجِبها للغاية)، ولكن لأنها أرادت أن تتجنَّب الأكاذيب التي لا يمكن تجنُّبها إذا كان هناك من يصغي، والتي بدأَت في الواقع على الفور بالموضوعات المتكلَّفة التي وجد نفسه مرغمًا على الالتجاء إليها. مند كان لا يستطيع الجلوس فقط والتحديق فيها. وكشأن المديرين الأَكْفاء كان يتعيَّن عليه أن يحدِّثها كما يحدث موظفًا لديه أُبلَّ من المرض، عن الأطباء، والأسلوب الصحي في الحياة («قبل كل شيء، النوم المبكر!») وعن عملها في المستقبل، وامتحاناتها، ومتاعبها المالية في نهاية العام، وكان لا بُدَّ له أن يكون ودودًا، مهتمًّا، صريحًا. كانت مضطرة للإجابة والمداراة مثله تمامًا، لكن ليس بالقدر الذي يكفي لخداع فشترمان وإيزيلت وزافاتسكي، وكراتش حول المائدة المجاورة. أثارت اللهجة الواثقة للحديث خيبة أملهم، لكنهم لم يسمحوا أن يتم خداعهم. لم يوجهوا مزيدًا من الاهتمام إلى الكلمات (التي لم يعودوا يفهمونها؛ لأن ريبلوس بدأ يتحدث دون توقُّف، ولأن مجموعةً من كناسي الشوارع جلسوا في ضوضاء إلى مائدة الآنسة برودر)، لكنهم ركَّزوا انتباههم على عيون الاثنَين، التي كانت ملتحمة بقوة، وعلى الملعقتَين اللتَين استقرتا في مكانيهما بلا حركة، وعلى حساء الكرنب الذي تجمَّد ببطء. وحدَسوا جميعًا (فيما عدا ريبلوس، الذي لم يكن يستمع مطلقًا إلى النميمة؛ لأنه لا يتوقف مطلقًا عن الكلام)، ما يدور بين الاثنَين، وشعَروا (بجرعات تتفاوت من شخص لآخر) أولًا بالعطف، وثانيًا بمتعةٍ خبيثة، وثالثًا بالسخط على النفاق، ورابعًا بالقلق على الكارثة القادمة، لكن كلًّا منهم فكَّر في شيءٍ مختلف. تمثَّلَت فراو إيزيلت إليزابيث، وفكَّرَت في السنتَين اللتَين كان فيهما زوجها يقضي ورديات الليل بين ذراعَي إحدى العاملات على الروافع، وهي وردياتٌ لم تجلب له أي أجرٍ إضافي، وإنما ثمانية عشر عامًا من الإنفاق على طفل. وشعَرَت الآنسة زافاتسكي، مثل كل السكرتيرات المخلصات، أن لها الحق في الشعور بالغَيْرة. وشعَر قلب الآنسة فسترمان المجفَّف بالعطف على الآنسة برودر التي (كانت واثقة من ذلك) سيحدُث لها مع إرب ما حدث لها هي نفسها مع فرد مانتك؛ سيصعد إلى أعلى، إلى المكتبة المركزية أو وظيفة في الوزارة، وستظل هي في المكتبة مثل الدرج أو الرف، وعندئذٍ ستُربِّت هي، لويزة فسترمان، على شعر الآنسة برودر وتدعوها ﺑ «طفلتي»، وتحدِّثها، وهي تشير إلى الفهرست، عن نتائج خبرةٍ طويلة؛ السعادة الوحيدة الأكيدة تكمُن في العمل.
قال إرب، عندما مكَّنَت ضجة كنَّاسي الشوارع من إجراء حديثٍ خاص: «هناك عفريت يطارد مهنتنا. إنه عفريت الموسوعية السطحية، الذي يدمِّر الأفضل، والأفضل فحسب، الأفضل فقط، ما لم يهربوا منه إلى أعلى؛ أي إلى العمل الإداري، كما فعل فرد مانتك، أو جانبًا إلى مهنٍ أخرى، أو إلى أسفل إلى فن المكتبات، دون أيديولوجية ودون فكر، مثل الآنسة فسترمان، أو إلى الاستقالة.»
لم يكن هاسلر سعيدًا؛ فقد حَرمَه قلبه من النوم بقية الليلة، وآلمه الجزء الباقي من ساقه العرجاء كما يحدُث عندما يُرهِق نفسه. لكن أسوأَ ما في الأمر كان عدم ارتياحه لمجيئه بهدف الحديث إلى إرب، وهو ما قرَّره خلال الليل، رغم أنه كان يُدرِك أنه من الأفضل أن ينتظر بضعة أيام. وقد ازداد هذا وضوحًا عندما رأى الاثنَين يجلسان سويًّا ويتجادلان دون خجل. شعر بثورة من الغضب لا مبرِّر لها وغير موضوعية، نحو كارل، الذي جرَّه إلى هذا كله.
كانت لديه مبرِّراتٌ كافية للغضب ولا بُدَّ لنا أن نؤكد بإعجابٍ الطريقة التي قمع بها غضبه، والطريقة التي أمكنَه بها، في ظل هذه الظروف، أن يتعرف على حدة الآنسة برودر في النقاش. وليس هناك إذَن ما يدعو للدهشة في أنه عندما انفرد بإرب، لم يتمكَّن من العثور على اللهجة الودية التي يستخدمها معه عادة.
كان كارل أكثر منه هدوءًا. سأله: «اعتراف، مجمع مقدس، أم الحرمان الفوري؟ أيها سيكون الأمر؟» لكن هاسلر تجاهل كلماته وتحدَّث حديثًا مباشرًا وخشنًا.
«هل تنوي أن تقوض نفوذك بأي ثمن؟ إن الجميع يعرفونك.» فقال كارل: «الجميع عداي.» وهو ما أساء هاسلر فهمه. «كان يجدُر بك أن تكون قد تجاوزتَ دَور المراهقة الآن!» – «بماذا تتهمني؟» – «أولًا، إنك تخدع زوجتك.» – «هذا شيء لا يعنيك.» – «أتظن هذا حقًّا، أيها الرفيق إرب؟» – «والأمر الثاني؟» – «ليس الثاني؛ فهما شيءٌ واحد. إنك تنتهك واجباتك كموظفٍ مسئول.» – «تريد القول إني أُسيء استخدام حقوقي، لكنك وافقتَ على قراري في موضوع برودر.» – «لأني لم أكن أعلم بما يدور بينكما.» – «هل تبيَّنتَ فجأةً خطأ هذا القرار؟» – «في هذه الظروف، أجل.» – «هذا يعني أنك تعرف أنها الأنسب؟» – «حتى ولو كانت كذلك عشر مرات، ما كان يجب أن يكون القرار لصالحها في هذه الظروف.» – «لا أوافق.» – «إذن فلا بُدَّ من رفع الموضوع كله إلى الجهات العليا للفصل فيه.» – «هذا يعني أنك تهدِّد ولا تناقِش،» – «بودِّي أن أساعدك. إلى أين سيؤدي هذا؟ ليس في الإمكان تغطية الموضوع، فسوف يتكفَّل كراتش بإثارته. وهناك إمكانيةٌ واحدة فقط لتسوية الأمر دون تضحياتٍ ما، وهي الصراحة. يجب أن تعلن للعاملين جميعًا أن الإشاعات غير صحيحة.» – «لا أستطيع أن أفعل ذلك.» – «تستطيع لو عُدت إلى رشدك.» – «العودة إلى الرشد عندك معناها: الأخلاق والنظافة والدماثة، أليس كذلك؟ لكن السؤال هو ما إذا كان هذا صحيحا.» – «ليس هناك من سبيلٍ آخر لتجنُّب الفضيحة دون تضحية.» – «بدون شك الاعتراض الوحيد هو أنك لا تفهم أن الأمر بالنسبة لي أكبر من مجرد تجنُّب الفضيحة.» – «إذَن فالأمر على هذه الدرجة من السوء؟» – «أجل أنه على هذه الدرجة من السوء.» – «لكن إلى أين سيؤدي كل هذا؟» – «أعطني بعض الوقت.» – «بكل سرور، لو كان الأمر يتوقف عليَّ، لكني أخشى أنه ليس كذلك.» – «سأتجنب كل ما من شأنه إثارة الشائعات.» – «لو أن المدرسة وقسم شئون العاملين لم يُخطرا بعدُ بالأمر، سأحاول تغيير القرار الخاص ببرودر» – «لن أسمح بهذا. أفضِّل أن أذهبَ أنا نفسي.» – «لحُسْن الحظ أن الأمر لن يُترك لك لتُقرِّره.» – «أرجوكَ أن تعطيني بعض الوقت.» – «هل تريده من أجل نفسك؟» – «أجل.» – «حسنًا. لكن لا تنسَ الأطفال في حساباتك.» – «وداعًا.» – «وداعًا.» – «وداعًا.» – «وداعًا.» – «وداعًا.»
وهذه الأخيرة كانت صادرة من عمال النظافة، وهم ينطلقون إلى الخارج، هارسين في قوة نفايات الجليد. كانت المائدة المجاورة قد صارت خالية، وكان هاسلر أيضًا على عجَل. وتساءل أحد عمال المطبخ الذي عكَف على تنظيف الموائد، عما إذا كان حَسَاء الكرنب لم يُعجِب إرب. ثم عادت الآنسة برودر لتأخذ كتابها، وأثنت على إرب لأنه لم يسُق سيارتَه بعيدًا في الليلة الماضية. واقترح إرب أن يقوم بزيارةٍ قصيرة لها، خاصة وأنه ذاهبٌ على أية حالٍ ليأخذ سيارتَه، لكنَّها هزَّت رأسها، وقالت شيئًا عن برودة الحجرة، والنوم المبكر، وانصرفَت. وانتظر إرب بضع دقائق قبل أن يتبعها، وشعَر ببطولةٍ فائقة لأنه لم ينصرف معها.
وماذا حدث لقصة الحمار؟
«إذا قرأتَ هذا، كنتَ حمارًا أبلَه!»
١٢
على حافة منطقةٍ باردة من الضغط العالي فوق بولندة، انتشر الهواء المعتدل القادم من الجنوب فوق ألمانيا. فأذاب الجليد وحوله إلى مياهٍ وسخة انسالت إلى المزاريب والبالوعات، وغرقَت في الرمال، ورفعَت مستوى المياه في نهر شبريه عدة سنتيمترات. وغطى المدينة بسُحب زادت من طول الظلال في كلٍّ من الفجر والغسَق. ورفع من معنويات منظفي الشوارع وحراس الحدود، وجعل الأطفال حزانى. وأعطى لزينة الكريسماس في نوافذ الحوانيت، مظهرًا مناقضًا وخفض من استهلاك الكهرباء، وأعطى لملاك أكواخ العطلات فرصةً أخيرة يستعدون فيها للشتاء. وبدت صيحات النورس بين حديقة الحيوان ومتحف ميركيشيز أقل جوعًا، ونشطَت طيور المدينة (الغربان والسمنات والحمام والعصافير) فوق المنتزه المحيط بتمثال شاميزو المجرد من الأنف، واختفت قُبعات الفِراء من الشوارع مرةً ثانية إلى حين، وتبدَّت للعيان سيقان الفتيات، وأصبح بوسع السيدة فولف أن تُثرثِر مع السيدة جيورنج ساعةً كاملة على السلَّم دون خشية التجمُّد، واعتمد باشكه (وقد الْتَحَف بلفاعٍ من الصوف، وغطى رأسه بكاب ساعي بريد عتيق الطراز) على قاعدة نافذته المفتوحة، مراقبًا وصول كارل، أما كارل (فلأنه لم يكن قادرًا على القراءة والكتابة أو الاستماع للراديو) فقد عكف على العمل في المنزل والحديقة كل مساء وخلال عطلة الأسبوع (ما لم يكن مشغولًا بالنقاش مع إليزابيث) وحاول أن ينسى الآنسة برودر.
أو بعبارةٍ أخرى: لمَّا كان العمل الشاق في المكتب كفيلًا بطرد أحلام السعادة التي تدور حول الطابق الرابع الخلفي، ولمَّا كان يُسعِده أن يستسلم لعربدة الخيال، فقد كرَّس نفسه للأعمال اليدوية التي تسمح بشيء من الالتباس، وتربط الجميل بالمفيد؛ الأمر الذي هيأ له ضميرًا هادئًا رغم أحلامه الحافلة بالملذات، ولم يكن في هذا من قسوة إلا بالنسبة لإليزابيث، التي لم تكن في ذلك الحين تعرف ما إذا كان يجدُر بها أن تأمل في عودة الأوضاع القديمة أو تخشاها؛ فبينما كان يُصلِح نوافذ السندرة، ويُثبِّت ممرات التفتيش الخشبية التي تربط بين المداخن، وينظِّف المزاريب، كان يفكِّر في شَعر الآنسة برودر وعينَيها وحاجبَيها والأصابع التي تُداعِبها بها، وكانت إليزابيث تتساءل عما يدعوه للاهتمام بالسقف إذا كان سيهجُرها. أصلَح الستائر الفينيسية، وزيَّت النوافذ الجرَّارة، وثبَّت قِطع الخزف، وفي خلال ذلك كان يراقب الآنسة برودر تخطو من المقعد إلى الموقد بطريقتها التي يتعسَّر تقليدها، وينظر إلى جانب وجهها، وخدها على الخزف، وعُنقها الذي انزلق إصبعُه فوقه، وأدركَت إليزابيث الموقف؛ إنها علامات الاستقرار. جعل يقلِّب كَوم النفايات التي ستُستخدَم في تسميد التربة (هل سيكون هنا في الربيع، عندما تنشأ الحاجة لهذا السماد؟)، وقلَّم أشجار الفاكهة وشذَّب أطرافها (هل يفكِّر في حصاد التفاح القادم)، وقَطع الأخشاب، وكوَّم قوالب الفحم، وغطَّى الورود، وطلى منزل كاتارينا اللعبة، وثبَّت دولاب دراجة بيتر، وهو يُصغي طول الوقت لحديث الآنسة برودر مبتدعًا إجاباتٍ ذكية، شارحًا لها ما يفعله (إن سكان المدينة أمثالك لا يعلمون أن النفايات يجب أن تُقلب مرارًا وتكرارًا بقَدْر الإمكان، وأن طلاء اللاتكس يمكن تخفيفه بالماء، وأن هذه طريقة للتعجيل بظهور البراعم، وإذا لم تفعلي ذلك فإنها تتآكل)، بل إنه خاطبها بصيغة «أنتِ» الحميمة، لكنه لم يتمكَّن من التلفُّظ باسمها الأول، وفكَّر في أسماءٍ لتدليلها لكنَّ واحدًا منها لم يصلُح، وتساءلَت إليزابيث لماذا يعود إلى المنزل فور انصرافه من العمل دون إبطاء ولا يذهب إلى الفتاة برودر. أجل. لماذا، حقًّا!
لأنه أراد أن ينساها.
كانت هناك بلا شك لحظات (وخاصة في الصباح، في الدقائق الخمس الفاصلة بين جرس المنبه ومغادرة الفراش) تمنى فيها حقًّا أن ينسى، لكن هذا هو كل ما هنالك؛ فهو لم يتمكن على الأقل من إقناع نفسه بأنه يبذل حقًّا محاولةً شجاعة للارتداد عن الحب المحرم بتجنُّبه لأسابيع الشوارعَ الواقعة شمال جزيرة المتحف، بل وامتناعه عن البحث عن الآنسة برودر بعينه، ومعاملتها مثل فسترمان أو إيزيلت أو كراتش الذي كان يترصَّده دائمًا. كان يدرك جيدًا أن هذا التحفُّظ من جانبه يرجع إلى بقيةٍ من حُسن التدبر. ومن بعض المهارة الغريزية. وكان بوسعه مشاهدة النتائج؛ فقد صار كراتش عصبيًّا وتورَّط في قليل من البذاءات التي خطأته، وماتت الشائعات عندما لم يقع ما يغذِّيها، ولم يَفُه هاسلر بكلمةٍ واحدة عن الأمر رغم أنهما كانا يجلسان سويًّا كل يوم تقريبًا، منذ كان من الضروري المواءمة بين التعديلات التي أدخلَها إرب على الخطة السنوية (والتي وُلدَت على درجات الجناح ب) وبين الميزانية المتاحة. ولم تبدُر عن الآنسة برودر، التي يحترم رغباتها الآن (بدافعٍ بعيد الأمد؛ حتى الوقت الذي لا تُعَد فيه قادرة على تحمل ذلك)، بادرةُ امتعاضٍ واحدةٌ للموقف الجديد.
لم يكن هذا بالكثير، لكنه كان كافيًا لتشجيع براعم أمل كان بإمكانها أن تنمو بسرعة إلى أشجارٍ هائلة لو علم فقط أنها كانت تنتظره كل مساء (وفي البداية فقط كانت تخشاه) وأن شعور الارتياح الذي كانت تتوقَّعه نتيجة غيابه لم يتحقق، واستولى عليها بدلًا منه قلقٌ تمخَّض عن خوف، من نفسها، خوف من شيءٍ ما داخلها، لا يمكن السيطرة عليه، شيءٍ ما قد يتمرَّد، ويسيطر عليها، ويدفعها في اتجاه لا ترغبه، نحو إرب، نحو أن تصبح عشيقة الرئيس، محظية، في اتجاه الفسق، والزواج المحطَّم، والأكاذيب، والحب بالساعة. كانت تعرف الشكل، فلماذا إذن كانت موزَّعة ضد نفسها؟ من أين أتى ذلك القلق، هذا الانتظار في الأمسيات، لماذا كانت تتطلع مرارًا إلى الفِناء، وتُصغي لكل خطوة على الدرَج؟ وعندما تكون لديها عطلة لماذا كانت تجلس أغلب الأحيان أمام النوافذ تعُد المداخن التي تراها دون أن تتحرك (٣٦ مدخنة)، وتُراقِب أعمدة الدخان التي تعلوها، والسماء، والتي تزداد رماديتها قتامةً عندما يعبُرها نورسٌ أبيض؟ لماذا صارت رحلتها الصباحية بالترام مختلفة؟ ألم تلحظ من قبلُ أن أنوار المُتحف والأضواء الملوَّنة للملاحة ما تزال تسبح في سواد الليل فوق النهر، بينما يكون النهار قد ارتفَع فوق الأبراج، وبالقرب منها سُحُبٌ قليلة في لون الفئران الرمادية، وخلفها سماءٌ قصية باهتة الزرقة؟ هكذا تساءلت، وكانت تعرف الإجابة بالطبع، كان جسدها يطالب بحقوقه، هذا مفهوم؛ فقد كانت في ذلك السن، لكن من الممكن إيجاد حلولٍ بديلة، ربما رجل غريب لا تراه مرةً أخرى، لا يُزعِج عملها، ولا يترك صراعًا من خلفه، وإنما فقط شعورًا خفيفًا بالاشمئزاز، ومتعةً متجددة في كونها وحيدة. لماذا لم يكن إرب غريبًا؟ عندئذٍ كان بوسعها أن تتمنى عودة إصبعه إلى بشرتها دون أقل خوف.
لكن الأمر لم يكن قاصرًا على ذلك. كانت لديها دائمًا أسئلة إليه. وكانت على ثقة من أنها ستضيق من جديد بالأجوبة؛ لأنها ستكون محدودة للغاية، متأثرة أكثر مما يجب بالممارسة وأقل ما يجب بالمبادئ، لكن مُشبعة بالخبرة التي تنقُصها، والتي تستطيع استخلاص المحتوى الأساسي فيها. كانت غالبًا ما تُجري معه مناقشات، أحيانًا في نزَق. وأحيانًا أخرى في تعصُّب؛ لأنها تعرف كيف سيرُد على مقولاتها، وكيف سيهوِّل من شأن سنه ونضوجه وخبرته ورجولته، وتفوُّقه المزعوم. كان الأمر مثيرًا للتقزُّز، وكانت هي دائمًا بالطبع المنتصرة؛ لأنه لم يكن أبدًا قادرًا على التركيز بشكلٍ تام، ودائمًا على أُهبة المغازلة، وهو ما كان أكثر أهميةً لديه، وما كان يُشعِرها بالضعة؛ لأنه يساوي بينها وبين أي شقراءَ غبية. كان يستعرض ذاته، كتلة مقزِّرة من الغرور والمبالغات والأكاذيب والأنانية، واحدًا من شيوعيِّي الرفاهية الشبعانين، يملك منزلًا، وسيارة، ويريد أن يضيف إليهما عشيقة، يُحاول الآن استرضاءها بالرسائل بعد هزيمته في مناوشات الأيدي (تُرى، من أين جاءت هذه الرطانة العسكرية الفظيعة إلى ذهن فتاة؟)
لقد اكتشفَت الآن في حِكَمه ومأثوراته نغماتٍ جديدة أعجبتها، وأراحها التزامه (فيما عدا اليوم الأول) بسلوكٍ سليم في أوقات العمل، «لكن رسالته رقم ٣»، وهي رسالةُ حُب كلاسيكية، ورسالةٌ جميلة بلا شك، مؤثِّرة بكل ما فيها من مهارة، قد صدمَتها، وضايقَتها؛ لأنها رغم صراحتها الواضحة، كشفَت عن مشاعرَ زائفة؛ فقد استبعد كاتبها كل قبحٍ محتمل، وتصرَّف كما لو أن العالم لا يضُم سوى السيد إرب والآنسة برودر، وكما لو كان النعيم سيتحقق على الفور متى بادلَتْه مشاعره وحَسْب.
وبالطبع فإنها لم تُجبه؛ فهي لم تكتب له أبدًا.
حدَث هذا في النصف الثاني من شهر ديسمبر، قبل الكريسماس بقليل. كان كارل إرب يُنشئ كل يوم رسائلَ عديدة للآنسة برودر دون أن يدوِّنها. وعندما فعل في النهاية، كان كأنما وقع تحت سيطرة دافعٍ لا يُقاوَم. لم يرغب في إرسالها. وظلت ملقاةً فوق مكتبه، مُلْصقة الظرف. ورأتها ابنته كاتارينا، فأعلنَت استعدادها لإرسالها بالبريد. لم يملك الشجاعة ليرفُض؛ لأنها كانت ستُطالِب بمعرفة السبب. ألصقَت طابعًا فوقها، وقرأَت العنوان بصوتٍ مرتفع، له ذلك الرنين الذي يميِّز أصوات التلاميذ الجدد. قال لها بصبرٍ نافد: «أسرعي».
وهذا هو ما كان عليه الأمر في الواقع.
حتى في ليلة الكريسماس، بينما كان يُشعِل الشموع، وهو متشوِّق إلى عيون الأطفال اللامعة. لكن هذا يحتاج إلى فصلٍ جديد.
١٣
قبة الكاتدرائية فوق جبل الذوق القبيح المتحجر في خضرة أشجار لوستجارتن، وتحتها يستعرض الجنود أنفسهم في ألوان الببَّغاوات، وسوق الأوراق المالية كثير الأعمدة أحمر اللون، والشبريه أزرق مثل دانوب الفالس، والسفن ترفع راياتٍ زاهية، والسيدات الواقفات أسفل أعمدة المتحف الوطني يرتدين قُبعاتٍ مزيَّنة بالزهور والريش، وفوق القصر ترتفع شمسٌ صفراء؛ إنها مدينة القيصر في جو القيصر، في إطار من أكاليل الزهور المُذهبة، عانت أنيتا تحت ثقله، وتوقَّفَت في الطابقَين الثاني والثالث، قبل أن تضع اللوحة أخيرًا على المائدة وتتهاوى في مقعد.
وبينما كانت الآنسة برودر تبحث عن كتبٍ لهذه الشابة العاملة المتعطشة للثقافة، استمعَت إلى تفاصيل مغامرات إرب مع الشرطة تُروَى بصراحة، وأدركَت فجأة لماذا توقف عن المجيء، الجبان؛ لقد اكتشفَت زوجتُه كل شيء، واعترف لها، ولم يعد يُسمَح له بالخروج، حسنًا هذا هو السبب إذن، جميل، بل جميل جدًّا، فهو سوف يجنِّبها الكثير؛ ضياع الوقت، الخوف، وأساسًا الألم الذي كان ما يزال ضئيلًا في الوقت الراهن، والذي بدأ الجليد يُخفيه عن العيان، الوداع أيتها البجعة المتكبرة. ثم ما هو الذي حدث حقيقة؟ إصبع استقر فوق رقبتها، بضع كئوسٍ مشتركة، وحديثٌ متبادل، ومحاولة اكتشاف ما يُخفيه الآخر خلف القناع.
كان مسرورًا لأنه نجح أخيرًا.
نجح في ماذا؟
في إثارة جدل، وفي الشعور حقيقةً بالغضب المتعمَّد على أقاربه الرجعيين، وبذلك خلق سببًا لهروبه، وتحوُّله نحو الجديد، التقدمي، الشاب.
لم يعُد ببساطة قادرًا على أن يلعب دور رجل الأسرة وزوج الابنة؛ فقد حافظ طوال سنوات، ومن أجل إليزابيث، على وقف إطلاق النار الأيديولوجي، وهو ما كان أمرا مخزيًا، أن يبقى صامتًا في وجه كافة أنواع التهجُّمات، أو ينخر مستسلمًا. أما الآن، وقد افترق عن إليزابيث روحيًّا، فلم يعُد مرغمًا على ذلك.
هكذا حاوَر نفسه وهو يقود سيارته إلى المدينة فوق طرقات يغطيها الجليد. كان كارل إرب، كما سبق إيضاحه، أستاذًا في عمليات التبرير الذاتية، وإذ كان عاجزًا عن مقاومة مشاعره فقد التمس الأعذار للانقياد لها على نحوٍ أعمى. كانت ابنتُه كاتارينا قد جرت خلفه إلى الباب الأمامي: «هل ستعود سريعًا؟» – «بالطبع.» كان يعتقد ذلك؛ لأنه أراد فقط أن يرى الآنسة برودر، ويتمنى لها عيدًا سعيدًا، ثم ينصرف. وبينما كان يرتقي درَج الجناح ب، كان يخشى أن يُواجَه باستقبالٍ بارد، وعندما عاد يهبطه (بعد ضغط زر النور الأوتوماتيكي عشر مرات؛ أي بعد عشرين دقيقة) شعَر أنها خانَته، وأنه وحيدٌ مشرَّد، دون سقفٍ يعلو رأسه، ومعرَّض بلا أمل لشجون الكريسماس السنوية التي كانت قابعةً في الانتظار طول اليوم.
كان مرأى نوافذ فراو فولف المضاءة في بهجة إلى جوار نافذة برودر المظلمة، كافيًا ليُذكِّره بوفاة أمه المبكِّرة، وبشبابه الذي دمَّرَته الحرب، وأعياد الكريسماس البائسة مع والده. وذكَّرَته تيجان الجليد التي تُكلِّل مصابيح الشارع بليلة عيدٍ كان من شأنها أن تحسم مصيره، لو كانت لديه القوة على اتخاذ قرار. كانت هذه ببساطة فرصةً للذكريات ذات الشجون. ذكريات الممرِّضة إنجبورج، التي سافرَت في آخر كريسماس زمن الحرب من برلين إلى براندنبورج مع كارل إرب، قاذف القنابل اليدوية من دبابات البانتسر (جندي مدرعات كما يُسمُّونه اليوم)، ذي التسعة عشر عامًا. وفي غارةٍ جوية أمسكَت بيده، وبعد ذلك وثقَت به. كانت وافدةً (دون إجازة) من الجبهة الشرقية (التي سيَرحَل إليها في اليوم التالي) وتنوي انتظار نهاية الحرب بموطنها، وإثر جولةٍ بالليل خلال شوارع القرميد القوطي المغطَّاة بالجليد، وقبلات في مدخل الكاتدرائية، ووعود أمام تمثال رولاند، أعطته في فِناءٍ موحش ما كان يحلُم به دائمًا، وأيقظه هذا، لكنه آثار متطلباتٍ كثيرة للغاية. ونتيجةً لهذا، عندما نفَث القطار المحلي دخانه مبتعدًا، تخلَّف هو وراءه، مُلوِّحًا في الظلام، وسمح لنفسه أن يُرسل إلى الجبهة، الحمار، ومنذ ذلك التاريخ وهو يُعاني من استبطان الكريسماس المزمن.
وعندما رأى الآنسة برودر خارجةً من كشك التليفون، كان أكبر بعشرين عامًا، وبالتالي أكثر رصانة، ونتيجةً لهذا لم يُفزِعها بعرض مشاعره أو بأيمان الإخلاص، ولا تكلف البرود والسيطرة على النفس. لم يقل شيئًا عن المصادفة أو المفاجأة، وتظاهر بأنه، بل كان فعلًا، هادئًا، بلا توتر، مسترخيًا، دون قناع. لم يبذل أية محاولةٍ لإخفاء سروره العظيم، وعبَّر عنه بصراحة. تمنَّى لها عيدًا سعيدًا كما كان ينتوي، وقال شيئًا عن الجليد، وكيف أنه يمتَص الضوضاء، وعن أشجار الكريسماس في النوافذ، وكيف أنها تجعل المرء يشعُر بالوهن، وشَرَع في وداعها. وطول ذلك الوقت كانت تتساءل عما إذا كان حقًّا قد تخلى عن ريش الطاووس الذي كان يرتديه دائمًا، أو أنها لم تعُد قادرةً على رؤيته؛ لأن عينَيها قد بهرَتْهما متعة الخطر المتجدِّد. غمغم بكلمات الوداع، التي كان بها شيءٌ ما حاسم، وبذلك كان يتصرف بطريقة لم تعهدها فيه — دون غرور، بشيء من السخرية بالنفس، دون ذكورةٍ عنيفة — ثم ابتعد في لا مبالاة (نحو ميدان روزنتالر، حيث ترك سيارته بعيدًا عن أعين عائلة باشكه)، ابتعد كمن يفترق عن صديقٍ له قائلًا له في غير ما جدية: «أراك فيما بعدُ.» ثم استدار قليلًا ورفَع يده في شبه تلويحة، لكنه لم يذهب بعيدًا؛ لأنها (في خوفٍ من ألم الخلاص من الخطر) قالت شيئًا. لو كان لديه وقتٌ فإنها تودُّ لو بقي معها قليلًا.
قالت ذلك بهدوءٍ تام، وبلهجتها العادية، لكن لو كان هذا في فيلم لعزفَت آلات الكمان برقة وعذوبة، وما كانت الأوبرا ستترك هذا المشهد دون دويِّ الأبواق، أما الرواية فستحتاج على الأقل إلى فصلٍ جديد من أجل إبراز أهمية هذه اللحظة، ولتجنُّب الصعوبات التي تَحفِل بها محاولة تصوير الساعات التالية، ولهذا الغرض يُوجد مخرجٌ آخر وهو أن نقفز إلى الفصل الرابع عشر، لنبدأَه بهذه الكلمات: «عندما استيقظنا في الصباح التالي …» تاركين الباقي للقارئ. لكن هذا سيعني ترك الواقع (واقع إرب – برودر الخاص هذا) عُرضةً للتفسير الذاتي، الذي سيكون في الغالب تفسيرًا مغلوطًا، منذ كان لكل شخص عالمه الخاص من الخيال (يُشكِّله الجنس، والوضع الاجتماعي، والأصل، والسن، والحالة الصحية، وحالة التغذية، وربما الفصل المناخي أيضًا) لا يشابه الأحداث الواقعية إلا في حالاتٍ استثنائية. ثم إن كل خيال يقوم على أساس التجربة، فما هو شكل هذه التجربة؟ هناك الرومانسي الذي يخيِّب الواقع آماله، والواقعي الذي تُضايقه الرومانسيات، الحسَّاس الذي يُعاني من القساوة والوحشية، وإنسان الأمازون الذي يطالب بالسلبية فيلقى جشعًا للقوة، والعاشق المُتَيَّم الذي يضيق بالمرح، واحد لا يطيق الرائحة، والثاني يضيق بالكلام، واحد أكبر مما يجب، والآخر أصغر مما يجب، واحدٌ ضيق للغاية والآخر واسعٌ للغاية. في واحدة من الحالات يكمُن الجوهر حيث لا يبحث عنه، ولا تجده هي، وفي حالةٍ أخرى يلعب الخوف دوره مع العُقد والأهواء الغريبة. الحياء في الوقت غير الملائم، أو مطلوبٌ لكنه غير موجود. عاشقان يتسللان بين الأغطية ثم يستيقظان غريبَين. هي لم تعُد قادرة على إجابة أسئلة، أو هو يُغلق عينَيه ليرى واحدةً أخرى غير الراقدة بين ذراعَيه.
كل هذا يتدفق عندما يترك الكاتب فراغًا أبيض، ليلوِّن ذهبية تلك الليلة من ليالي الكريسماس برمادية التعقيدات، وخضرة المعاناة، وسواد التحرُّر من الأوهام (ربما يكون هناك استثناء في حالة الشباب، الذين يستبدلون الخبرة بالشوق؛ فعلى سبيل المثال، تردَّدَت الكلمات التالية في هذه الليلة: «هذا هو ما يتوقعه المرء في السابعة عشرة، وبعد ذلك لا يؤمن بإمكان حدوثه.»)؛ ولهذا السبب يجب أن نتجنَّب هنا الفجوة المعهودة، الفِقرة المفقودة، التعمية، نقاب الصمت (إلى الدرجة التي تسمح بها مقتضيات اللياقة والاحتشام والذوق والمحاكم). لا بُدَّ من هذا لنُوضِّح عظمة ما حدث.
اثنان عشق كلٌّ منهما الآخر بالقلب والعقل، وبالبشرة والشعر واليد والقدم والعين والأذن والصدر والبطن والأنف والفم والذراع والساق وكل شيءٍ آخر لديهما وكاناه وسيَكُونانه.
اثنان عرف كلٌّ منهما الآخر.
وماهية الحب: إنه هذا ولا شيء آخر عداه، لا شيء قبله ولا شيء بعده ولا شيء آخر في هذا المنزل، في هذه المدينة، في هذا البلد، في هذا العالم. إن روميو وجولييت لم يتبادلا حبًّا كهذا، ولا فعل كارل وجيني، أو يعقوب وراشيل، أو هيلدرلين وديوتيما، أو أبلارد وهلواز.
اثنان تبادلا الإعجاب بالكلمات، والنظرات والأصابع والشفاه وتذكَّرا أن هذا هو ما كانا يبحثان عنه دائمًا، مثل هذا الكتف، أو السرة، أو الكعب، أو الشعر، أو البشرة.
اثنان صارا واحدًا.
شعر الواحد منهما بالآخر، وتطابق الواحد منهما مع الآخر، وانتابهما أخيرًا الإحساس بأنهما لم يعودا نصفَين، وأنهما صارا كلًّا واحدًا، وأنهما لم يشعُرا أبدًا من قبل هذا الشعور القوي بقوة ومجد كيانَيْهما.
اثنان عبَد كلٌّ منهما الآخر …
أعلن كلٌّ منهما الآخر بطلًا، جنيَّة، ملاكًا، جبَّارًا، إلهًا، آلهة، وودَّا لو يتبدَّى لهما إلهٌ كي يركعا له ويشكُراه على أنه خلقهما من جديد، وأكَّد وجودهما.
اثنان تحدثا سويًّا.
ساعة وراء ساعة، على المرتفعات وفي الأعماق، بالضحكات وبالدموع، في محاولة للعثور في الكلمات عما أثبَتَه جسداهما، كلٌّ للآخر، بالتأوُّهات والأنَّات والصرخات والتنهُّدات، محاولة بلا جدوى؛ لأنه لا تُوجد غير الكلمات التي تعبِّر فقط عما كان قائمًا قبلهما؛ ولهذا السبب لا يمكن أن تكون الكلمات غير بديل، دلالة واهنة، إيماءة، كلمات استُخدمَت من قبلُ بواسطة هوميروس، فالتر، جوته، ريلكه، هيمنجواي، واستُهلكَت بواسطة نجوم الأفلام والغناء، استشهادات واقتباسات بينما ما يحتاجانه هو لغةٌ جديدة، لكن هذا التفكير ذاته صار مبتذلًا، نمطيًّا، واستولى عليهما اليأس؛ لأن واديًا ما لا يمكن قوله لا يمكن إقامة جسر فوقه، لا يمكن ملؤه بألف، بعشرة آلاف كلمةٍ فارغة.
اثنان اعترفا، كلاهما للآخر، بخطاياه، كلَّا، بأخطائه؛ إذ ظنَّا ورق الزينة اللامع ذهبًا، والماء نبيذًا، والبركة الصغيرة محيطًا.
اثنان لم يغفر كلٌّ منهما للآخر.
(لأنهما ظنَّا من قبلُ خطأً أنهما وجدا ما كانا يبحثان عنه)، بل إنهما أيضًا أقرَّا بالجميل لما حدث (رغم ما سبَّبه من آلام)؛ لأنه أمدَّهما بالقدرة لا على تقدير العظمة وحَسْب، بل وعلى التعرف عليها أيضًا.
اثنان اكتشفا السعادة.
اثنان استعادا ذكرياتِ طفولتَيهما (في برلين ن–٤ وفي ألت – شرادوف)، وشبابهما (في برلين ن–٤ وفي الثكنات)، وسنوات الدراسة (في لايبزيج وفي برلين) … وقسَّما حياتهما بطريقةٍ جديدة؛ النصف الأول (من الميلاد إلى هذه الساعة، السادسة مساء من هذا اليوم ٢٤ ديسمبر)، والنصف الثاني الذي لم يكن يتجاوز أربع، ثماني، اثنتَي عشرة، أربع عشرة ساعة (لكنه صار من الطول بحيث يسمح بأسئلة التذكُّر؛ أما زلتَ تذكُر …؟ ماذا ظننتَ عندما …؟) وسيستمر حتى الممات.
اثنان، لأنهما لم يتمكَّنا من أن يقولا كيف أحبَّا، حاولا أن يقولا لماذا يُحب كلٌّ منهما الآخر وسيُحبه دائمًا … لأنها ماهرةٌ للغاية، وهو (على عكس التوقعات) غير مغرورٍ على الإطلاق لأنه يرتدي ربطة عنق حسنة الذوق، لأن رائحة بشرتها كما هي وليست مغايرة، لأنها ما زالت تحتفظ بسمرة الصيف، لأنه يضحك بصورةٍ لا تماثل أحدًا آخر، ويترك عباراتٍ كثيرة ناقصة، ووضع إصبعَه على عنقها بطريقةٍ لا يمكن تقليدها، ولأنها تعيش في هذا الفِناء الخلفي، وعلى علاقةٍ طيبة بفراو فولف، وليس لها أقارب، رشيقة الخطى، وتُداعب حاجبَيها عندما تصغي، كلَّا، لأنها تستطيع أن تُصغي، كلا، لأن بوسعها أن تتحدث عن كل شيء، وليس بإمكانه الحديث معها عن كل شيء، لأنها تفهم الإيماءات، كلا، السبب هو هذا كله أيضًا، لكنه أحبها أساسًا لأنه يحتاج إليها، لأنه بلغ الأربعين، وبعد نجاحٍ سهل استقر، راضيًا عن نفسه، متعبًا، غارقًا في المستنقع، مستسلمًا، وقد أيقظَته هي، وجعلَته مستعدًّا لبداية جديدة، أجل، هذا هو السبب، وبالطبع بسبب شَعرها، وبسبب أن جمالها كان من نوعٍ لا يكتشفه أي واحد على الفور. وهي؟ لقد أحبَّتْه هو وحده دون غيره لأنه لم يعاملها كما يعامل الرجال النساء، كشيء، ومحتويات فِراش، خادمة، معجبة، منجبة أطفال، كنصبٍ تذكاري منزلي أو زينة، لأنه أخذها على محمل الجد واحترَمَها، أجل لهذه الأسباب وأيضًا بسبب يدَيه الثقيلتَين، يدي البستاني، اللتَين شعَرَت تحتهما برضًا، أنساها كافة الأيدي الأخرى كأنها لم تُوجد قط.
لم يكن من الصعب على هذَين الاثنَين أن يعتقدا بأن سعادتهما ستدوم.
وأن ينسيا مخاوفهما (من الهموم، والأحقاد، والآلام، والأكاذيب، من إليزابيث، وهاسلر، وكراتش، والحمل)، ويشعُرا بأنهما في مستوى أي نزاع (في أول البداية فقط فكَّرَت: حتى ولو حدث هذا مرةً واحدة فحسب، لن أندم عليها! وفكَّر هو مرةً واحدة في سؤال كاتارينا: هل ستعود سريعًا؟ وبعد هذا فكَّرا فحَسْب دون أن يلفظا: ليست هناك قوة في العالم تستطيع التفرقة بيننا! وفي شيخوختَينا سنكون سعيدَين أيضًا). اثنان وجد كلٌّ منهما الآخر في الليل الطويل.
شيءٌ عظيم حدث بين جلَبة خربشة الحمَام وهديله في المساء والصباح التالي.
بالنسبة لاثنَين كانت العطلة مقدَّسة، والكريسماس صلاة.
وعاش منزل آرون فالشتاين القديم يومًا رائعًا.
إننا نوصي القراء المتعلقين بالنهايات السعيدة أن يكتفوا بهذا القَدْر، ويضعوا الكتاب على النضَد المجاور للفِراش، وينسَوا إليزابيث والأطفال وهاسلر وكراتش، ويستغرقوا في النوم بالوَهْم المحترم أن الحب الحقيقي قد انتصر رغم كل شيء. أما الصيغة التالية فهي لهؤلاء الذين يرغبون في تطريز الجدائل المختلفة وهم ينعسون؛ الآنسة برودر تجتاز امتحاناتها، إليزابيث تترك إرب بصورةٍ ودية، هاسلر ينظِّم اجتماعًا للعاملين في المكتبة يعلن فيه إرب طلاقَه وزواجَه الجديد، السيدة برودر-إرب ترقى إلى المعهد المركزي حيث تستطيع تكريس نفسها كليةً لمجالها الخاص وهو سوسيولوجيا المكتبات، الزوجان السعيدان ينتقلان إلى مسكنٍ حديث في كارل ماركس أليه (ثلاث غرف، مطبخ، حمَّام، تدفئة مركزية) حيث ما يزالان يعيشان إلى اليوم، سعيدين، لكن دونما شعورٍ بالاكتفاء.
لكنَّ المهووسين بالواقعية، النَّهِمِين إلى الحقيقة، أعداء الوهم، دعاة الاستنساخ، الوعَّاظ، المعجَبين ببرودر، طراز إرب، الفضوليين، وتجَّار الفضائح، وخاصة أولئك الذين كانوا هناك ويستطيعون الحكم (هاسلر، ريبلوس، مانتك … إلخ)؛ لهؤلاء بالتحديد تُكرَّس الفصول الباقية من هذا التقرير.
١٤
هكذا انفَرد أصدقاء الواقع بالميدان لأنفسهم ذلك الصباح في الغرفة الكريسماسية. ليس هناك أحدٌ بعدُ، مما يتيح للمرء فرصة تأمل جنباتها دون وجَل، الغرفة أدفأ مما هي عادةً في الصباح؛ فقبل توزيع هدايا الكريسماس في المساء أُذكيَت النار في الموقد. أما الرائحة التي عبق بها الجو فيمكن القراءة عنها في كُتب تيودور شتورم. وتكاد الأبواب الزجاجية للتراس تختفي خلف شجرة التنوب الزرقاء، شجرة الكريسماس اليانعة، التي تكشف زينتُها عن ذوق إرب؛ فالألوان الوحيدة المسموح بها هي الفضي والأبيض، الشموع، شعر الملائكة، نجوم القش، كرات الزجاج واختفى الأثاث تحت أكوام الهدايا؛ مائدة القهوة لكاتارينا، ومائدة الطعام لبيتر، والبوفيه لإليزابيث، وجهاز الإرسال للأب إرب. اكتسى السجاد بقشور الجوز، وشذرات من شعر الملائكة، وبقايا الصواريخ، وفُتات كعك الزنجبيل، وقِطَع من الألعاب التركيبية.
لم ينتشر الضوء بعدُ في الخارج بصورةٍ كاملة، لكن غطاء الجليد كان يضاعف من ضوء الفجر الواهن. ومن الأريكة (التي سرعان ما سيجلس عليها إرب؛ إذ إن السيارة صارت في الجاراج بالفعل) يمكن الرؤية عَبْر النهر، حيث تنجرف قِطَع الثلج الطافية. إن صائد السمك، البروفسور، يغطِّي أذنَيه بغطاءَين أسودَين. ويعكِّر الهدوء صوت كاشطة الجليد، اصطدام حديد بالإسفلت؛ ذلك أن إرب ينظِّف الممَر الممتد بين الباب الأمامي وبوابة الحديقة. وتدخُل كاتارينا، وما زالت في منامتها وبينما تلوك قطعةً من البسكويت، تضع لعبة سرفيس الشاي على المائدة. وعندما يدخل إرب تضع إصبعها على فمها: صه، ما زال الآخرون نيامًا.
هذا هو ما ظنَّتْه، لكن إليزابيث سمعَت صوت السيارة، مثلما سمعَت سعلة بيتر في الواحدة، واصطفاق الباب الأمامي للبروفسور المهووس بالأسماك في السادسة، وصرخة طفل الجيران في السابعة وعشر دقائق. أما عدا ذلك، فقد كساها الهدوء مثل ركام من القطن. كان لا بُدَّ وأن تنهض فورًا؛ فما كانت قادرةً على أن تسمح له بالمجيء إليها، والجلوس على فِراشها، والإدلاء باعترافات أنصاف الحقائق، ووضعِها في مكان الشخص الغفور الصبور النبيل، أو تحويلها إلى رفيق، شريك، لا بُدَّ وأن تطرح جانبًا وعلى الفور أغطية الفراش، وتغتسل وتمشِّط شعرها وربما تضع قليلًا من الزينة حتى تبدو مختلفة. كلا، ليس ذلك؛ لأنه لن ينخدع. انهضي، انهضي! لكنها رقدَت في مكانها، باردة، متصلبة، وأصغت إلى إغلاق باب الجاراج، وصرير خطواته، وأنين كاشطة الجليد، وتنظيف الحذاء، وصوت المفتاح. ثم ساد الهدوء. وفيما بعدُ عاد الطفل يصرخ. وتحطَّم جزع شجرة تحت ثقل الجليد. ودوَّى انفجارٌ كالرعد على مبعدة؛ إذ ذاب ثلج البحيرة. في أول شتاءٍ لهما سوية كانا يتجوَّلان عَبْر الثلج حتى الأحراش، ومن هناك كان المكان الذي عاشت فيه كل حياتها يبدو غريبًا للغاية. كانا يستلقيان على الشاطئ ومن خلال فجوات الثلج يرقُبان الضفادع القابية بعيونٍ مفتوحة وأعضاءٍ متصلبة مثل الحيوانات الدقيقة، حتى تسري فيها بعدَ ما بدا كالدهر، حركةُ تنفُّسٍ سريعة. كانت إحدى محطِّمات الجليد قد قطعَت عليهما طريق العودة، وواجها على غير توقُّع قناةً سوداء من المياه، وشعَرا فجأةً بالبرد والخوف، وفي ذلك الوقت لم يُرعد الثلج فحسب بل صرخ أيضًا وأَنَّ، مثل الأطفال المرضى، والقِطَط في ليلةٍ ربيعية. يجب أن تنهض. إنه لم يأتِ. هل كانت تأمل، ربما، في مجيئه أكثر مما كانت تخشاه، حتى تستطيع البكاء والعفو؟ لكن الأمر لم يعُد أَمْرَ عفو، وإنما انفصال، حتى لا تشيِّد مرةً أخرى منازل الأمل الورقية، لتنهار على الفور. حتى لا ترقد مرةً أخرى هكذا تنتظر وتفكِّر: تعالَ، اجلس إلى جواري على الفراش، اروِ حكايتك الخيالية، اخدعني، أمسك بإزميل، ومبرد، وسنفرة، حتى لا تكون الحقيقة ذات حوافَّ حادة هكذا، اشتغل فيها، ابذل جهدًا، غيِّر الحقيقة، غطِّها، أخفِها، اقدَح في الأخرى، امتدح رقتي، قل إن البراعم الوردية الغضة لا تلائمك، وإنها لا تستطيع منافسة الجلود البنية، قل إن قبلتي هي كالعودة إلى المنزل لديك، أو ازعم على الأقل أنكَ لستَ راغبًا في بذل الجهد الذي ستتطلبه الجديدة، وأنك منهكٌ للغاية، وأنك وأنتَ بين ذراعَيها اشتقتَ إلى كُتبك وإلى وجهَي طفلَيك النائمَين، ولقهوتي لو أحببت، اكذب، برهن لي بخداعك على حبك، وإذا لم يكن هذا بإمكانك، فمن خلال الثقة، لا تُخفِ عنى أية تفاصيل، قل لي إحساسك بكل شيء؛ ثديها في يدك، شفتاها على صدرك، أصابعها في شعرك، شعرها في وجهك، قبضة ساقَيها، إيقاع جسدها، فمها، صرختها. قل لي؛ لأني قوية، ولن أبكي، سأشاركك نشوتك وطربك، سأقول: أستطيع أن أتخيل الأمر، كم أنتَ جديرٌ بالحسد. وسوف أسأل: وكيف كان شعورك؟ سأكون صديقك، حليفك، رفيقك، أي كائنٍ شئت، فقط تعالَ اجلس على الفراش واحكِ حكايتك، اكذِب، وابتهِج، لكن أرني أنك تحتاجني! لأي شيء؟ من أجل الوجود القديم للواحد بجوار الآخر، من أجل الأعلى والأسفل، السيد والخادم، من أجل القلق القديم، الذي قد صَعِد الآن إلى مرتبة الوعي، سيُصبح بلا شك عذابًا لا يُحتمل لي، لك؟ هل كان ألَم الأشهر الماضية بلا جدوى؟ هل استهلكتَ عبثًا القوة التي تطلبها الصمود؟ كلا، ابقَ بعيدًا، لا تقترب برائحة الأخريات. أو، أجل، تعالَ، حتى لا يداعبني مرةً أخرى أبدًا إغراءُ بناء المنازل من الورق، حتى أستطيع أن أصرخ أخيرًا في وجهك برأيي الحقيقي فيك، حتى أريك الصَّدْع الأسود الذي لا يمكن رأبُه. تعالَ، أبرز ضعَتك. لكنه لم يأتِ. وظل كل شيء في المنزل هادئًا. وفي الخارج نعبَت الغربان، ومرَّت أسراب النحل السوداء فوق المنطقة، ككل صباح في الشتاء، في طريقها من الغابات إلى الحقول.
لسوء الحظ؛ فقد كان من الأفضل لو اتبعَت حكمة الزوجات العجائز في أمثال هذه الحالات؛ بتأجيل الأمر كلية. كان المكانان اللذان قدما منهما لتناول الإفطار مختلفَين؛ فقد جاء هو من قمة البهجة، وجاءت هي من هاوية اليأس؛ ولهذا لم يكن من الممكن أن تمضي الأمور على ما يُرام.
حدث الأمر مع السيجارة. كانت صامتةً وهي تنظر إليه، لا بتعاسة، أو عتاب، أو فضول، أو تساؤل، إنما نظرَت إليه فقط، ربما بشيءٍ من الخواء، لكن ليس بالقَدْر الذي يكفي ليكون عذرًا. كل ما كان قادرًا على قوله ما كان سيتجاوز: لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟ (وهي جملةٌ أدَّت إلى نشوب عدد من الحروب الوقائية)، لكن هذا ما كان سيصلُح الآن وما كان سيؤدي إلى نتيجة، ما كان سيتمخَّض عن أكثر من هزَّة كتف وابتسامةٍ مريرة. في الأيام الأولى (قبل أن يصحبهما الطفلان النشطان دائمًا بثرثرتهما خلال جولاتهما في الغابة والمرج) بدا له صمتُ إليزابيث أكثر من مرة (عندما كان مزاجه منحرفًا) خسَّةً لا تُحتمل. وكان ساعتَها ينظر خلسةً إلى ساعته، ويقول لنفسه: سوف نرى الآن كم من الزمن تنوي الاحتفاظ بصمتها. لكنه لم يجد الإجابة أبدًا؛ لأنه لم يستطع الانتظار أبدًا، وكان ضيقه ينفجر (في شكل محاضراتٍ غاضبة؛ اللغة هي العامل المميز بين الإنسان والوحش، أو تبادل الحديث أكثر أهميةً من تبادل الحب)، موجهًا لإليزابيث، التي تكون سعيدةً غير مرتابة، صدمة مُفزِعة. واستغرق الأمر طويلًا قبل أن تتعلم كيف تتفادى انفجاراته بالسخرية من نفسها؛ ليس بالإمكان مواصلة الثرثرة دون توقُّف. لم تكن الآن تبدو قادرةً على ذلك، كانت الآن جادَّة؛ أجل هذا هو الأمر، كانت نظرتها جادَّة. وما اعتبَره خواءً كان افتقادها إلى المرح، وهذا ما جعل وجهها يبدو غريبًا، غير مألوف. لكنه يجبُ أن يتكلم، هذا هو ما طالب به وجهها، يجب أن يشرح، لكن كيف كان ذلك ممكنًا في مواجهة هذا الوجه الغريب؛ الذي لم يُبدِ استعدادًا للفهم.
أجل كان خبيرًا في تحويل الجُبن والخوف، والضمير المثقل إلى غضب. إنه لخبثٌ منها أن تعكِّر بجديتها شمس سعادته.
ألم يكن مستعدًّا للتخفيف عنها وإسعادها (كما فعَل مع ابنته) بهذه الشمس؟ ماذا كانت تريد حقيقة، ولأي شيءٍ تلومه، ألم تكن علاقتهما واضحةً منذ أسابيع؟ هل هو في حاجة لأن يسمح لنفسه بأن يُعامَل (أي يُنظر إليه) بهذا الشكل؟ ثم إنها تعيش على حسابه، وفي مستوًى معقول. وهو لم يوجِّه إليها اللوم بهذا الشأن (على الأقل بصوتٍ عالٍ)، لكنها يجب أن تفكِّر في ذلك لنفسها بين الحين والآخر. ألم يكُن دائمًا أمينًا ورفيقًا طيبًا، وهذا هو عرفانها بالجميل؛ هذا الوجه وهذه النظرة؟ وهي على أية حال تبدو غير متأثِّرة. وبوسعه أن يحذو حَذْوها، كلا لا يستطيع، ليس هو؛ فالأمر كله يؤلمه ألمًا شديدًا. حقًّا، بوسعها أن تتكلم كنوعٍ من التغيير. لكن عليه أن ينتظر وقتًا طويلًا حتى يحدث ذلك. لهذا بدأ في لهجةٍ لائمة: «لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟» – «أنا في انتظارك حتى تقول شيئًا.» – «لماذا أنا؟ إنني أتكلم منذ أربعة عشر عامًا.» – «أريد أن أعرف كيف سيكون الوضع.» – «أظن أن هذا واضحٌ منذ أسابيع.» – «الواضح أنه ليس كذلك. هل ذهبتَ إلى محامٍ؟» – «إذن فأنت تريدين التخلص مني. إذا كان ذلك ضروريًّا، فبوسعي أن أذهب من اليوم.» – «سأكون شاكرة؛ لأني لا أستطيع الاحتمال أكثر من ذلك.» – «ماذا؟».
اعترف بأن ذلك كان منه سؤالًا غبيًّا، لكن هل من الضروري أن تلوذ بالصمت من جديد، وترفع محتويات المائدة وتنظِّفها كما لو كان غير موجود، رغم أنه لم ينتهِ من سيجارته؟ يجب حقيقةً أن يكون مسموحًا بعشر دقائق من السلام للتدخين. كان صمتُها حيلةً قذرة؛ لأنه أثار غضبه، ونتيجةً لذلك لم تتورط أبدًا في موقفٍ يخطئها، لكنها ستتلقى هذه المرة درسًا. سيرُد بنفس الوسيلة، فلن يفُوه بصوت، وسيذهب إلى غرفته، ويحزم متاعه، ويستقل سيارته دون كلمة. أم يقول لها وداعًا حتى يؤكد حسمه للأمر؟ سحَق سيجارته في المطفأة البرونزية، وغادر الغرفة صافقًا البابَ من خلفه. لكنه فقد سيطرتَه على نفسه من جديد فوق الدرَج، فعاد جريًا وفتح الباب في عنف: «أودُّ لو أرى رجلًا يستطيع احتمال هذا سنوات!» وكان يعني بالطبع الصمت، الذي وصفَه خلال هجومه المتزايد ارتفاعًا بأنه كريهٌ خبيث وغاضب وغادر وعدائي، وأخيرًا غير إنساني، وأسوأ من الشجار والخلافات والشتائم، بل أسوأ من الضرب، حوَّل حياته الزوجية إلى جحيم، ويدفعه الآن إلى الضياع والظلام والتشرُّد والغربة. «لقد حقَّقتِ الآن ما كنتِ تريدينه!» وشعَر بالارتياح، وبأنه أحسن حالًا، بل وفتح الباب لإليزابيث وهي تحمل الصينية الممتلئة إلى المطبخ، ووقف بعض الوقت مترقبًا إلى جانبها وهي تضع الأطباق في الحوض، وعندما لم تَفُه بشيء، غادرها بخطواتٍ مفعمة بالأهمية.
وكما تخيل ساعة الرحيل الختامي هذه في الأسابيع القليلة الماضية، بدَت له أصعب ساعةٍ في حياته منذ وضعَت الحرب أوزارها، كان منفعلًا الآن، هذا حقيقي، لكن دون ألمٍ عريق. كان حزينًا، لكن ليس أكثر حزنًا من أي مرة عزال سابقة. كانت آخر نظرة من النافذة، وآخر ملامسة للكُتب حزينة، لكنه شعر بنفس الشعور عندما انتقل من ألت – شرادوف إلى مونشبرج، ومن مونشبرج إلى برلين، ومن الغرفة المفروشة إلى المسكن الجديد، ومن هناك إلى مُستقَرِّه على نهر شبريه. كان من العسير دائمًا أن تترك شيئًا أَلِفْتَه، هذا هو كل ما في الأمر ولا شيء أكثر منه. لقد لاحظ دائمًا أن الترقُّب أفضل من الإشباع، ولاحظ الآن أن العكس هو الصحيح أحيانًا؛ فانتظار الأسى أسوأ من وقوعه.
وليس هذا بمفاجأة، عندما تكون حواسك، (وحسيتك) تتوق للعودة إلى مسرح المتع الليلية، بل إن ما أسماه بالأسى كان تحت تأثير هذا، ويمكن وصفه وصفًا أفضل بالخوف، الخوف من رد فعل الآنسة برودر بالتحديد؛ لأنه كان في سن يعرف فيها أن كلًّا من الصور الفوتوغرافية ووعود الوسادة تتلاشى في ضوء النهار لو لم تكن مُثبتَة (بواسطة الممارسة).
كان يقوم بالعزال دائمًا مستعينًا بصندوقٍ من الكرتون، أو حقيبةٍ عسكرية، أو عربة يد، أو سيارة نقل، وفي كل مرةٍ كان يأخذ كل ممتلكاته معه. لم يحدُث أبدًا أن ملك الكثير الذي لديه الآن، وتخلى عنه هكذا ببساطة.
فيما عدا الكنز الأكبر؛ السيارة.
كان أشبه بالشروع في رحلة.
«وداعًا، إليزابيث.» كانت منحنية إلى أسفل، تضع الإوزَّة في الفرن. اعتدلت واقفةً ومسحت يديها في مئزرها. لكنه احتفظ بالحقيبة في يده مضيفًا: «سأرسل إليك النقود بانتظام بالطبع»، ورحل.
هكذا تخيل خروجه (وهكذا كان سيصفه لو طُلب منه ذلك). ولم يكن الواقع مختلفًا إلا في القليل؛ فقد ذكر الوداع، والكلمات الخاصة بالنقود، لكنه عندما أعطَته ظهرها دون أن تتأثر ظل واقفًا وسأل إذا ما كانت ستذكُر الحقيقة للأطفال. «لا أعلم بعدُ». «أرجوكِ ألا تفعلي.» «سيعرفون إنْ عاجلًا أو آجلًا.» – «لا أريد أن يُعانُوا هم أيضًا.» قال ذلك في أشكالٍ مختلفة، متوسِّلًا، مهدِّدًا متوددًا، آمرًا. لكنها كانت منهمكة أمام الموقد، تقشر البطاطس، ولم يفقد وجهُها طابعَه الخالي من التعبير (وبصورةٍ كاملة) إلا عندما وقفَت أمام النافذة، وراقبَت كيف شحَن الصناديق ثم استقل السيارة ومضى بها.
هل أدركَت حقيقة ما سيكون لهذا الرحيل السريع من أثَر؟
ربما كان في الأمر شيءٌ ما غريزي. (لو كانت النساء يتمتعن بشيء كهذا، لكانت إليزابيث في عدادهن بالتأكيد). لكن المؤكد أنها لم تكن قادرةً على احتمال الشك. ورغم استمرار الألم، شعرَت في الأيام التالية براحةٍ معيَّنة؛ فقد كان إرب (بين الصفات الأخرى والأفضل) دكتاتورًا صغيرًا مثل الكثيرين منا. وفي الأيام التالية عادت إليزابيث تشتري الخمر لتشرَبها، وأنقصَت من الطغيان الفيتاميني، واستمتعَت بعدم الالتزام بمواعيدَ صارمة لوجبات الطعام.
وعندما عاد بيتر وكاتارينا من التزلق، بوجناتٍ أرجوانية مبتلَّين وجوعانَين، وسمعا باتزانٍ ورباطة جأش أن بابا اضطُر للسفر فجأة، كان هو يقف في الباب الفاصل بين المطبخ – الردهة الخاص بالآنسة برودر وغرفتها، متأملًا (للمرة الثانية) مدينة القيصر ذات الإطار الذهبي و(للمرة الأولى) الوجه الذي يحمل آثار النوم، غير المغسول، وغير المزيَّن، للآنسة برودر، التي كانت غاضبةً لأنها لم تكن تريده أن يراها هكذا. لم يُدرِك ذلك وظن أن غضبها مبعثُه عودتُه المفاجئة، ونتيجةً لهذا أمضى دقائقَ مفزعةً وكئيبة في الفِراش (بينما كانت تُصلِح من شأن نفسها في المطبخ). واستغرق وقتًا طويلًا ليعترف لها بالحقيقة، ولم يقتنع إلا بعد ساعاتٍ طويلة بأنها كانت تقول الحقيقة المطلقة عندما جعلَت تكرِّر بناءً على طلبه (ودون خوف من فساد الذوق والعبارات المُستهلَكة): «أنا سعيدةٌ لأنك تودُّ البقاء معي.»
١٥
بدأ اليوم الثاني للكريسماس بضجَّة؛ قرع ازداد إلى طرق، تسلَّل إلى حُلم كارل، وتحوَّل إلى سلسلة من القذائف النارية أثارت نافوراتٍ من الرمال جعلَت تقترب منه بانتظامٍ مميت حتى بلغَتْه، وأخيرًا أيقظَتْه. شعَر بصلابة الألواح الخشبية التي تتألَّف منها أرضية الغرفة من خلال المرتبة المنفوخة، ورأى اهتزاز الإطار المُذهَب الذي استند إلى باب مسكن فراو فولف، ونهَض جالسًا، فشعَر بظهره يؤلمه، ولاحظ وجه الآنسة برودر الذي كان يبدو وهو نائمٌ أقرب إلى فتاة في الخامسة عشرة، وقال: «نعم؟» توقَّف الطرق، وسألَت السيدة فولف في ارتباك: «أهذه أنتِ يا عصفورة؟».
رأى الآن لأول مرة كيف تستيقظ الآنسة برودر. حدث هذا دون مراحل، دون تمَطٍّ أو تثاؤبٍ ودعكٍ للعينَين. رقدَت هادئة على جانبها، وقد فتحَت عينيَها، وهي في أتم وعيها.
«ماذا هناك؟» – «تعالَي بسرعة.» – «هل حدث شيء؟» – «أجل، زوجي.» كان كارل بدَوره مُضطرًّا للانصراف. واتخذا الطريق المختصر عَبْر السندرة، وكان مظلمًا بسبب الجليد الذي استقر فوق سقف المنور. لم تُبطئ الآنسة برودر خُطاها، لكنها مدَّت يدها إلى كارل خلفها «انتبه لرأسك! خطوة كبيرة هنا! حذارِ من العارضة!» كان باب مسكن فولف مواربًا، وفي الردهة بدَت أكياسٌ من الورق مليئةٌ بطعام الحمَام. جرَت الآنسة برودر مباشرةً إلى غرفة المعيشة. كان الهر فولف جالسًا إلى المائدة في سترةٍ سوداء، وقميصٍ أبيض، ورباط عنق على شكل الفراشة (بابيون) وقد استقرَّت جبهتُه فوق المائدة. أقامت الآنسة برودر رأسه. لكنها سقطَت من جديد، وقد تدلَّى فكه، وحدَّقَت عيناه دون رؤية إلى السقف. خرجَت فراو فولف من المطبخ. كانت هناك رائحة شيٍّ. سأل كارل في اضطراب وعجز: «هل هناك تليفون في المنزل؟» هزَّت السيدة فولف رأسها نفيًا. قالت الآنسة برودر: «إنه ثَمِل». قالت السيدة فولف: «هذا أيضًا منذ الواحدة لم يفعل شيئًا عدا الشراب، بوسعك أن تتبيَّني هذا، وإنها لمعجزة أن الأمر لم يوقظك، والساعة الآن العاشرة، لكنه ما يزال بعيدًا عن الفِراش، والأسوأ من هذا وما يبعث على قلقي هو أنه لم يُطْعِم الحمام، وهو شيءٌ لم يُغفِله أبدًا من قبلُ، لو اضطُر لارتقاء الدرَج زحفًا على أربع، أنتِ تعلمين، وكان يجب أن أناديكِ على الفور، حتى يمكنكِ أن تسجِّلي الأمر وتبعثي به، حتى يتلقَّوه بعد العيد مباشرة.» وكانت تعني الشرطة وقسم الحمَام في رابطة مُربِّي الحيوانات الصغيرة، أما ما يجب إرساله فهو شكوى أو إعلام أو اتهام يصف كيف تعرض الهر فولف، الساقي، عند عودته من عمله إلى الإهانة عند الباب الخارجي من جانب الهر كؤاده من ساكني الجناح (ج). «برفقة كلبه الهجين النابح»، الذي استخدم كلماتٍ لا يمكن تكرارها، وهو يُصِر على أن يتلقى منه اعتذارًا علنيًّا. ماذا قيل؟ بوسع باشكه، الذي لا يفوتُه أبدًا التواجد في أمثال هذه المواقف، أن يشهد بأنه قد تردَّدَت أكاذيبُ بشأن رائحة إفرازات الحمَام التي يحملها الغسيل وبشأن الحشرات. لكن (فيما بيننا) لم تكن هذه هي أسوأ الإهانات التي وجَّهها كؤاده إلى فولف؛ فالأسوأ من هذا، والسبب الحقيقي في إقبال فولف على الشراب اليوم حتى هذه الدرجة من السُّكْر البيِّن، هو التهديد الذي وجَّهه له كؤاده عندما لعَن كلبه الدائم النُّباح؛ فقد قال إنه، كؤاده، سيعمل على ذهاب الحمَام من المنزل. وهو قادر على هذا حقيقةً لو أراد؛ فقد كان الحمَام من نفس فصيلة نافذة عربة القطار؛ إذا ما اعترض شخصٌ واحد على فتحها وجب إغلاقها، ولو كان الباقون ينزفون عرقًا لدرجة الموت أو يختنقون؛ فالاحتفاظ بالحمَام في المنازل التي تضُم عدة مساكن مسموح به إلى أن يعترض ساكنٌ واحد فقط، وعندئذٍ يجب أن تذهب. وقد حدث هذا لأعضاء قسم الحمَام التابع له فولف أكثر من مرة، «ولن يستطيع التغلب على هذه الصدمة.» هذا هو الهدف من الشكوى المطلوب تقديمها ضد كؤاده، حتى يخاف ويسحب تهديده.
«اكتبيها الآن يا عصفورة، حتى يهدأ ويذهب إلى الفِراش؛ فلا بُدَّ له من الذهاب إلى عمله بالحانة في الرابعة. ومقابل ذلك سأدعوك إلى الغداء؛ فالحمام في الفرن فعلًا، وفولف لا يأكل منه؛ فهو لا يستطيع، ولم يستطع أبدًا.» لكن العصفورة كان لها رأيٌ مخالف عن كؤاده، الذي كان ساكنًا جديدًا، شخصًا لا تعرفه من قبلُ. أتعنين الرجل الجبل؟ الذي يعمل في إدارة المنازل التابعة للدولة؟ أيعيش هو نفسه هنا، ولا حتى في أحد المساكن الأمامية؟ إذن فلا بُدَّ أنه شخصٌ دمث يمكن التوصل معه إلى اتفاقٍ سلمي. أما إجراءات التقاضي فلن تنجح إلا في استفزازه. إن شخصًا ما يُحب كلبه لا بُدَّ أن يكون متفهمًا بشأن الحمَام. ومن المستحسَن أن نصحب معنا باشكه أيضًا. لكن أولًا يجب أن يذهب العم فولف إلى الفِراش. «ساعدني يا كارل.» وبينما كانوا يجرُّونه إلى غرفة النوم، حدثَت معجزة، إذ تفوَّه فولف بكلمتَين في وضوحٍ تام: «مُربِّي براغيث!» كان الرجل الجبل كؤاده قد أهان مربي الحمَام فولف وحمَام السباق ذي السلالات إهانةً بالغة، وكان هذا هو الرد عليها، والكلمة الوحيدة التي سمعَها كارل من هاته الشفاه، وعبثًا سأل نفسه (والآنسة برودر بعد ذلك) عما إذا كان هذا البكم نتيجةً أو سببًا لشلالات الحديث التي تدفَّقَت من زوجته بلا توقُّف في الساعات التالية؛ أثناء الإفطار السريع، وفي الطريق إلى باشكه، وعند باشكه، وفي الطريق إلى كؤاده، وعند كؤاده (الذي أذعَن بصوتٍ مرتفع لكن برقَّة، وتفهَّم وجهة نظرهم، وتراجَع)، وفي الطريق إلى طعام الغداء، وأثناء طعام الغداء، وبينما كانوا يتناولون القهوة، والتي لم تعترضها للحظاتٍ قصيرة سوى الردود (بسبب إيجازها). كان الظلام قد حل من جديد حينما بلغا أخيرًا صمت الغرفة التي لم تتم تدفئتُها بعدُ، كما يبلغ الغرقى مرفأ الشاطئ، وتركا الموقد لراحته الباردة والتجآ إلى الفراش.
لماذا كل هذه الأمور البعيدة عن قصتنا؟ ليس لأنه أمرٌ حسن، طبقًا لكافة مخططي ومديري الأدب المعاصر، أن يتم من جديدٍ اكتشاف الغسالة العجوز (كانت السيدة فولف من عاملات النظافة)، وإنما لأن ذلك اليوم كان حاشدًا بالاكتشافات بالنسبة لإرب وبرودر؛ فعلى سبيل المثال، اكتشفَت هي كيف أن حُبهما العظيم قد قلَّل إلى درجةٍ كبيرة من حجم القلق على سُمعتها وعلى سلوكها المغاير للتقاليد. وكيف أنه من السهل والسائغ أن تتحدَّث عن زوجها المقبل، وكيف أنها كانت سعيدة بأن يراهما الناس سويًّا، وكيف كانت فخورةً به، ومسرورةً لأنها تمكَّنَت من أن تُريَه فولف وباشكه وكؤاده والسندرة والحمَام والممَر والفِناء (انظر: كل هذا يأتي معي!)، وكيف كان ردُّ فعله رائعًا عندما ابتسمَت ابتسامة الرضا الصامت خلال طوفان السيدة فولف، وكيف كانت مهمةً ومثيرة، مرةً أخرى، حكايات طفولتها ووالدَيها التي سمعَتها عشرات المرات، وكيف صار كل شيءٍ جديدًا ومختلفًا وهامًّا من خلاله، خلال إرب. وحقَّق إرب أيضًا عدة اكتشافات، الكثير منها سارٌّ للغاية، والبعض سارٌّ قليلًا، ولم يكن منها ما هو كريهٌ على الإطلاق. اكتشف، على سبيل المثال، كيف سرَّه للغاية أن يشترك أشخاصٌ آخرون في سرِّ الغرام الجديد، وكيف ملأَه بالفخر أن هذه المرأة الشابة (امرأته!)، تحظى بتقدير واحترام وتبجيل الكافة (لا بسبب جمالها لكن بسبب مهارتها وحزمها)، بينما كان هو من الناحية الأخرى شخصًا عاديًّا للغاية كان ودودًا، لكن غير نافع (كان يكتسب حب الآخرين وكانت هي تفوز باحترامهم)، واكتشَف فيها العصفورة من خلال رؤيتها في عالَم طفولتها، وبهذا ازداد اقترابًا منها، وأُلفةً لها، وأحبَّها أكثر من ذي قبل، أما الاكتشاف الذي لم يكن مريحًا تمامًا، فهو أن الرباط الداخلي الرائع بينهما يمكن أن يتحطَّم أحيانًا لثوانٍ أو دقائق (نتيجة خطئها بالطبع) دون أن تلحظ هي ذلك.
ما كان بوسع أحد في وضعه أن يفهم كيف تُضحِّي للآخرين بأول يومٍ لهما معًا.
لكنه لم يتحدث عن أرقامٍ محددة، جرى الحديث عنها بعد ذلك في الفِراش بين السادسة والثامنة، وبين العاشرة والحادية عشرة، والثانية عشرة والواحدة، عندما وضَعا خططهما، لا لأن ذلك كان ضروريًّا (فقد كانا يعلمان بالضبط ما سيحدُث)، وإنما لأن الحديث عن مستقبلهما المشترك كان أمرًا ممتعًا، ولأن كل نظرة بعد ذلك ستكون إعلانًا بالحب، ووعدًا بالإخلاص، وعناقًا متوقعًا، كان تخطيطًا من أجل التخطيط، وهو شيءٌ مألوف. في هذه الساعات والأيام والأسابيع تحوَّلا إلى أساتذةٍ في هذا الفن، يخطِّطان أفقيًّا ورأسيًّا وزمنيًّا ومنهجيًّا وأبجديًّا، ويضعان مُسَوَّدات المقدِّمات، ويُعيِّنان المسئوليات، ويُحدِّدان المواعيد، ويوزِّعان الميزانية، ويخترعان الاختصارات (ك ض إ س ت = الكفاح ضد إدارة الإسكان) ويبتدعان الشعارات (المسكن: الاتساع لا الجمال)، وعلى أساس ف م ت (فهرست المكتبات التعليمية)، أقاما نظامًا من المجموعات الرئيسية التي قُسِّمَت عندئذٍ بمعونة الأرقام العشرية إلى مجموعاتٍ كثيرة بصورةٍ رائعة وأخرى فرعية أولى وثانية. وشعَرا بالزهو والفَخار بأنفسهما وبفساحة وتنوُّع الخطَط والاحتياجات عندما اكتشفا أن بوسعهما استخدام كافة المجموعات الأساسية من الباء إلى الواو. ورغم كافة هذه الجهود لم يجدا فائدةً من مجموعة الألف («الماركسية اللينينية» – «عام») و«الياء» («عام»). كانت المواد الهامة هي «المجموعة ب» («الاقتصاديات»، «علم الاقتصاد») التي تضُم اقتصاد المالية والمحاسبة، و«المجموعة ج» («الدولة»، «الشئون القانونية» والعسكرية) التي تتضمَّن القانون المدني للطلاق والشرطة لتسجيل العنوان، «المجموعة ﻫ» («الشئون التعليمية والثقافية») التي تضم كافة مشاكل المكتبات، والتي تبدو سهلة الحل في الفِراش؟ «المجموعة ل» («الجغرافيا وأصل الإنسان») التي تتصل بمشاريع الرحلات، «المجموعة ن» («الخدمات الصحية والطب») المتصلة بالضروريات الصحية التي لا تتوفر في الجناح ب، وبالطبع أيضًا «المجموعة ق» («علم التدبير المنزلي») بما يتبعها من اثنتَي عشرة مجموعةً فرعية حدَّدَها «فهرست المكتبات التعليمية». والأكثر إثارة، بسبب إمكانية توسيعها بصورةٍ مرضية هي المجالات التي لم تكُن تبدو لها مؤشراتُ تخطيطٍ واضحة، لكنها كانت تستثير مناقشاتٍ متنوعة. كانت هناك، على سبيل المثال، «المجموعة د» («التاريخ والشئون المعاصرة»)؛ حيث كان التقسيم إلى مجموعاتٍ فرعية موضعَ نقاش؛ فقد أراده تقسيمًا على أساس الأشخاص (د١ برودر، د٢ إرب)، بينما كانت هي تفضِّل التقسيم على أساس الموضوعات («د١ متع الاعتراف»، «د٢ ذكريات الطفولة» بما فيها «تاريخ الأسرة»، «د٣ تاريخ حبهما هما»، «د٤ تبادل المعرفة التاريخية»، «د ٤١ تاريخ برلين» – من خلالها، «د٤٢ تاريخ المكتبات» – من خلاله) وعندما بلغا «المجموعة ف» («التربية البدنية والرياضية والألعاب») وافقا بسرعة على استبعاد الألعاب (يا للحظ! كان من الممكن أن يكون أحدهما بسهولة من لاعبي الورق أو الشطرنج المتحمسين)، وعلى ألا يكون هناك هامشٌ مثل «عن ألعاب الحب، انظر ف» وعلى أن يقوما بالتمرينات الرياضية في الصباح والنافذة مفتوحة عندما يحلُّ الصيف.
لم يأخذ الأمر على محمَل الجد. كان يعرف مدى تعلُّقها ببرلين.
والواقع أنه لم يكن يرغب في أخذ الأمر على محمَل الجد. هذه هي الحقيقة.
١٦
قال إرب: طاب مساؤك، فرد. هذه زوجتي. وتعرَّضَت أكذوبته لصدمة عندما ولج غرفة المعيشة في منزل مانتك، وهي صدمةٌ استحال عليه معها، بعد أن كرَّر خمس مرات — «اسمي إرب، طاب مساؤك.» — أن يجد الكلمات المناسبة وهو يهزُّ اليد السادسة. أما الآنسة برودر، فقد تمكَّنَت عندما قيل لها: «طاب مساؤك أيتها السيدة إرب.» أن تجيب على الأقل: «إننا في الحقيقة لم نتوقَّع رؤيتك أيها السيد هاسلر.»
وهكذا بدأَت أول مناسبةٍ اجتماعية يظهر فيها العاشقان سويًّا بصدمة، كانت أيضًا تمثِّل بداية المصاعب لمؤرخ هذه الأحداث؛ فحتى الآن كانت الجهود تُبذل لاستخراج العصير من فاكهة الواقع، ثم تعريضه للغليان حتى يتبخر منه الماء، كي يمكن تقديم البهريز السميك إلى القارئ في كوباتٍ سهلة التناول، لكننا الآن نواجه جالوناتٍ من هذه الفاكهة تتمثل في مجموعةٍ من الأشخاص يشتركون في حفلٍ أُقيم بمناسبة العام الجديد. وكي نحُول دون أن تسيل محتويات الإناء عندما يبدأ في الغليان، لا بُدَّ لنا من القيام بعملية انتقاءٍ صارمة (وهو أمرٌ عسير)؛ فالدكتور بروخ، على سبيل المثال، ليس مجردًا مما يثير الاهتمام؛ فهو خبير في الجماليات، يكتب دائمًا «أنا» بحروفٍ كبيرة، وهو ما لا يثير امتعاض أحد (مثلما لا يمتعض أحد من «أنا» الإنجليزية التي تتألف من حرف واحد يُكتب دائمًا كبيرًا)، ربما لأن له بعض الحق في أن يفعل ذلك، لكننا لا نحتاج إليه هنا، إلا فيما بعدُ. فلنُلقِ به جانبًا.
الأمر الذي يتركنا مع شخصيات نعرفها؛ ثيو هاسلر من مجلس المدينة، وفرد مانتك. وكما ذكرنا فإن مانتك وهو نمط كارل، رفيقه، وصديقه منذ السنوات الأولى، وسلفه كمدير مكتبة، وطوال سنوات كرَّسَته وزارة الثقافة لميدان المكتبات الشعبية أو بالأحرى «المكتبات التعليمية العامة».
والسيدة مانتك. كانت هي، من علماء البيولوجيا (في ميدانٍ خاص لم تذكُره بعدُ دوائر المعارف، لا يستطيع التعرُّف عليه إلا واحد في المليون) المسئولة (بسبب هَوَسها بالثقافة وحبها للتجريب) عن جمع هؤلاء الأشخاص المختلفي الميول تحت سقفٍ واحد؛ فقد رأت عقم الاحتفال بالأعياد مع الزملاء الذين يعرف الواحد منهم الآخر ويعرف آراءه، والذين لا يملكون القيام إلا بذلك النوع من الحديث الذي كانت تدعوه بحديث المرآة؛ حيث يقول الواحد ما يفكِّر فيه الآخر، بينما يرُد هذا بأفكار الأول، وهو شكل من الحديث يذكِّر المرء ببعض المناقشات الجماهيرية التي لا يبقى فيها سؤالٌ واحد دون إجابة لأن سؤالًا واحدًا لا يوجَّه فيها. قالت (يساندها فرد، زوجها) إذا كان يجب أن نحتفل، فلنحتفل مع أناسٍ يفكِّرون؛ أي يستطيعون توجيه الأسئلة، ولديهم هم أيضًا أسئلة، بل قد يكونون هم (بالنسبة لأنفسهم وللآخرين) مثار تساؤل. هكذا يتولَّد السأم بأقل جهدٍ ممكن.
كانت فراو مانتك هي صاحبة فكرة دعوة إرب – برودر وهاسلر، أمام المعارضة – الأولية من جانب زوجها (الذي يعمل في المجال الثقافي وهو بالتالي أقل حماسًا للتجارب). وعلى أية حالٍ فإنه بعد أن وافق، صار مستعدًّا لقبول المسئولية (وهو عبءٌ ثقيل كما تبيَّن لأن إرب، الذي شعر بأنه سِيق إلى فخ، قد غضِب وتعيَّن على فرد مانتك أن يهتم بأمره، بينما كان على اللامانتك، من الناحية الأخرى، أن تهتم بأمر الجانب الأكثر لطفًا من الزوجَين، السيدة إرب المزعومة، التي تحوَّلَت بالنسبة للسيدة مانتك إلى أكثر ضيوف الأمسية سحرًا وطرافة).
وكان الأمر متبادلًا؛ فقد كانت واحدة من تلك المناسبات النادرة التي تكتشف فيها امرأتان نفسَيهما، في الأخرى. أدركَت السيدة مانتك أنها لو كانت وُلدَت متأخرة خمسة عشر عامًا، لكانت قد سارت مثل هذه الفتاة، ووجدَت فيها الآنسة برودر نموذجًا لما تريد أن تكونه وما سوف تكونه بالتأكيد، بما في ذلك الجزء الخاص بالزواج؛ فقد أرتها حالة اللا وفرد مانتك إمكانية ذلك؛ وحدة دون تبعية، تعايش شخصيتَين تحتفظ كلٌّ منهما بسيادتها التامة دون صراع على السلطة، توازنٌ لطيف للقوى، مركزان تتداخل دائرتاهما دون تعقيدات، شمسان في سماءٍ واحدة، شجرتان متشابكتان لا تسرق واحدةٌ منهما الضوء من الأخرى وتنموان سويًّا قويتَين سامقتَين، شعَرَت بهذا على الفور من الطريقة التي كان كلٌّ منهما يعامل بها الآخر، كيف يشتركان بصورةٍ طبيعية تمامًا في دور المضيف، كيف يتحدثان الواحد مع الآخر، والواحد عن الآخر، كيف يترك كلٌّ منهما للآخر الفرصة حتى ينتهي من حديثه، وكيف أيضًا (دون تعصُّب) يناقض الواحد منهما الآخر، مبديًا الاحترام والتسامح، دون أن يسمحا لحظةً واحدة للرابطة التي توحِّدهما أن تنفصم. أخذَت الآنسة برودر بالزوجَين، وسألَت باومجارتنر عنهما، باومجارتنر، النبات الشائك الذي عَلقَ بها، الكاتب المشهور، المغازل المدرب و(بالتالي مدرب على التكيُّف). أكَّد لها بأسلوبه الخاص، المرصَّع بتوابل السخرية، التي كان يظن خطأً أنها كفيلة بإحراز النجاح مع رابطات الجأش من النساء: «أجل، هذا هو الوضع، وقد بذلا جهدًا شاقًّا حتى أحرزا هذه الحالة المرهقة من الديمقراطية الزوجية، وهي ليست فحسب ضد الطبيعة، وإنما ضد العقل أيضًا، الذي يرمي إلى تحقيق أقصى درجات الراحة. قد يقبل المرء في حالةٍ استثنائية مثل هذه العلاقة المتعِبة مع عشيقة، أما مع زوجته فيجب أن يطالب المرء بإعجابٍ مجرد من أي انتقاد، وموهبة في التدبير المنزلي وإذا أمكن أيضًا، معرفة بالضرب على الآلة الكاتبة؛ فمنذ القِدَم لم يكن يُسمح إلا للغواني والمحظيات بتطوير شخصياتهن. وفي النهاية فإن جوته نفسه تزوَّج من كريستيانه لا من فراوفون شتاين.»
فوجئَت الآنسة برودر بالطبع، أن باومجارتنر العظيم، الرجل الذي أبدع شخصيتَي الزوجَين اللذَين يوحِّدهما النضال مثل أرنا وفريتز ستيد فاست، يمكن أن يتفوَّه بأشياء كهذه (سألَتْه عن الأمر فقدَّم لها نظريات الصدق الصغير والصدق الكبير والأدب الذي يتقدَّم الحياة بخطوة)، لكنها لم تغضب، منذ كانت تعرف كل شيء عن المغازلين. لقد أكَّد لها حديثها مع باومجارتنر ببساطةً رأيها في عبث الحديث مع أمثاله من الرجال؛ فهو لم يَكشِف شيئًا عن نفسه وعن كتابة الكُتب، كان يتحدَّث فقط لأنه يريد شفتَيها، ثَرثَر عَبْر شوارعَ جانبية تؤدي إلى هدفه، لم يأخُذها هي — بل جسدها — على محمل الجد، لم يرغب في إطلاعها على شيء وإنما في أن يُلين من عريكتها، لم يَعنِ ما قاله، لكنه قال ببساطة أي شيء وكان دائمًا يعني شيئًا واحدًا، شنَّ حربًا خفيةً ضدها، وصار واثقًا من النصر، امتدح جمالها ومهارتها لمجرد أن تظُنه وسيما وماهرًا. ثم يتحدث عن شهرته (بل قال عندما أشار إليها أحدهم: إن البعض قد رأَوا أسماءهم محفورة على الحَجَر، لكنه لم يكن إلا رملًا)، لكنه كان يعرف بالضبط كيف كانت شهرته تعمل بهدوء في صالحه، مثلما حدث بالضبط مع كل من عرفوه (ومن هو الذي لا يعرفه في عصر التليفزيون؟) وكان من الممكن أن تتأثَّر الآنسة برودر أيضًا بإدراكها أن باومجارتنر العظيم يُغازِلها، لو كانت ما تزال نصف إنسان، وحيدة، كما كانت منذ بضعة أسابيع. لكنها الآن فكَّرَت: لستَ أنت، رغم شهرتكَ ورغم لحيتك، حتى لو كنتَ أمهر لما أدَّى هذا إلى شيء؛ فقد فات الوقت، وحيلك لا تحقق شيئًا، لا سخريتك الطريفة ولا مكانتك ولا حتى صراحتك الأخَّاذة — أنا أعتقد أنكِ امرأةٌ ذات أهمية (وبالتالي عشيقةٌ رائعة) — مضى هذا الوقت، رغم أنه من الطريف تمامًا أن يشعُر المرء بالثقة في نفسه، وألا ينتابه للحظةٍ واحدة الشعور بأن فرصةً ما قد أفلتَت منه. صدِّقني إن الأمر لا يستحق كل هذا العَناء، وفِّر جهودَك، إنك كاتب، كيف يمكن أن تعجز غريزتك من ملاحظة مدى ما ينتابني من سأم وأنا أستمع إلى نكاتٍ وحَسْب ردًّا على أسئلة جادة؟ ألا ترى العلاقة التي بين كارل وبيني، وكيف يربط بيننا رباطٌ وثيق لا ينفصم؟ جعلَها الحب منيعةً في مواجهة دوافع الإثارة الخارجية، أخصب وقوَّى من عزم جَلَدها الخارجي، لكنه في نفس الوقت وبطريقة يصعُب وصفها جعل مشاعرها الداخلية تنفتَّح لكل ما يرتبط بالعواطف، للدفء، والجمال، والخير، ولهذا الحفل أيضًا وضيوفه الدين يُحاوِلون إمتاع أنفسهم. لقد جاءت كما لو كانت قد شَرعَت في مغامرة، وهي الآن في انتظارها.
كان هاسلر نفسه ما زال مدهوشًا من وجوده في هذه الصحبة، ولمَّا كان مقتصرًا على تشمُّم النبيذ واحتسائه، فقد مضى بعض الوقت قبل أن يتخلص من شعوره بأنه اقتحم هذا المكان بصورةٍ غير مشروعة. لم يكن يعرف مانتك جيدًا، بل إنه لم يعرفه حقًّا إلا من خلال حكايات كارل عنه، لكنه حدَس أنه قد يكون ناضجًا جيدًا وحليفًا قويًّا. كان قد تلفن له وزاره، واستغرق وقتًا أطول من المعتاد ليُلقي عن كاهله بملاحظاته الابتدائية (منذ كانت مطالبة السيدة مانتك له بالحقائق والدقة قد جعلَته عصبيًّا)، ثم وافق أخيرًا على مؤامرة العام الجديد هذه، رغم أنه لم يطمئن إليها منذ البداية؛ فقد كان النجاح مثار شك، وكان من المحتمل أن تتحطم الأمسية الاحتفالية لا بالنسبة لكارل وحده، وإنما بالنسبة له هو أيضًا.
ومن الطبيعي أنه لم يكن قادرًا على التفكير في غير الحديث القادم؛ فالنساء اللاتي قد يُثرن اهتمامه غير موجودات (وبالتالي لم يكن لديه من سببٍ للرقص)، ولم تكن هناك فودكا أو بيرة، ولم يكن لديه المزاج أو القدرة على الخوض في المياه الضحلة لأحاديث الحفلات، وكانت السيدة مانتك مضيفةً ممتازة، فلم تسمح له (حتى بدأ الحديث مع كارل) بالنعاس في أحد الأركان. شعَر بعدم الارتياح وتمنى لو كان في حانته الكائنة بمحطة الخط الحديدي، لا يواجه غير مشكلةٍ واحدة هي تبيُّن طريق العودة إلى منزله والذهاب إلى الفِراش.
شعَر بنفسه زائدًا عن الحاجة، وأقل مقدرةً من الآخرين كافة. هذا هو كل شيء. كان الأمر سخيفًا، لكن لا يمكن تغييره. وقد أعربَت السيدة كراوتفورست، التي كانت تهتم بكافة الرجال وتتميَّز بضيق الأفق عن شكوكها فيما بعدُ قائلة: «إنه واحدٌ من النوع الآخر، في هذا السن دون زواج! إن البقاء بمعزل عن النساء عملٌ غير أخلاقي بالمرة.»
لكنه كان مصيبًا في عدم ارتياحه بشأن المؤامرة المرتبطة بالدعوة إلى حفل العام الجديد؛ فقد صور مانتك الأمر بطريقةٍ لطيفة؛ حديثٌ عابر بين أصدقاء، لن تكون له سمة النقاش الرسمي أو التحقيق. لكن كيف كان في الإمكان الوصول إلى ذلك طالما أن إرب (وله بعض الحق) سادرٌ في عناده؟ لم يكونوا قادرين على دفعه بالرغم منه إلى مائدة المباحثات، لا هو ولا مانتك الذي تكبِّله واجبات الضيافة. دبَّر إرب الأمر بحيث لا يمكن مفاتحته؛ فقد كان يجلس دائمًا وسط مجموعة، ولا يستجيب للنظرات. ويهربُ إلى مباريات الرقص عندما يجلس هاسلر أو مانتك إلى جواره. وكانت الفتاة أخيرًا (سبب كل المتاعب، التي أخذَت تزداد جاذبيةً باطراد في عينَي هاسلر، منذ كانت تتخلى يوميًّا عن تحفُّظها القديم) هي التي فرضَت الموضوع؛ فقد رآها هاسلر تهربُ من براثن الحديث مع اللامانتك فوق الأريكة، ثم تتحدث مع إرب. وهزَّ هذا رأسه عدة مرات ثم قطَّب جبينه، وأخيرًا قام واتجه نحو الركن الذي استقَر فيه هاسلر، وما لبث أن انضَم مانتك إليهما.
في تلك اللحظة بدت حالة إرب لمانتك أكثر قتامةً مما بدت لزوجته، التي أُتيح لها في هذه الأثناء أن ترى الأمر في الضوء الذي أسقطَته الآنسة برودر (وهو أحادي الجانب لكنه أكثر إضاءة). وكما توقَّعَت اللامانتك، فإن الفتاة اتجهَت على الفور إلى لُبِّ الموضوع دون أن تحوم حوله: «أنت تعرفين بأمرنا؟» حسنًا، فما السبب إذن في هذه المؤامرة؟ إن النقاش بهدف تصفية الجو هو من مصلحتها أيضًا. بالطبع لا يعطي سلوك كارل هذا الانطباع، لكنه لا يستجيب للأحداث بسرعة، ويحتاج دائمًا إلى مسافةٍ طويلة من الجري قبل القفز. ثم جاءت العبارة ذات الثقل حول موقف كارل، الذي وصفَته الآنسة برودر بأنه «ثوري»؛ فقد قطع أواصر علاقته بالظروف القديمة، وما تدعو الحاجة إليه الآن (ضد المقاومة ودون تجربة) هو خلقُ ظروفٍ جديدة، وهو شيءٌ وجده الأقوياء أنفسهم أمرًا صعبًا. «هل سيتمكن؟» أجابت الآنسة برودر بابتسامة، وسُرَّت اللامانتك من البساطة الأخَّاذة التي تعتمد بها الفتاة على قوَّتها الذاتية.
جلس الرجال الثلاثة يشربون ويدخِّنون ويناقشون الكتب كما لو كان أحد مخرجي التليفزيون يقدِّم برنامجًا بعنوان «الحياة الثقافية». لم يكن الفرق بين أعمارهم كبيرًا (كان هاسلر في الخمسين ومانتك في الخامسة والأربعين وإرب في الأربعين) و(باستثناء صلعة هاسلر) لا يكاد يبين، لكنك إذا ما أصغيتَ إليهم، ألفيتَ إرب يعطي انطباع الشاب بين بالغَين. وليس هذا بأمرٍ يبعث على الدهشة إذا ما راعيتُم شعوره بأنه محاطٌ بالأعداء الذين يحسُدونه على أروعِ امرأةٍ في الوجود، وشعوره بأنه يقف بمفرده؛ لأن محبوبته كانت تتحدث من جديدٍ مع أسد الأدب وتضحك، كما لو كانت لا تدري شيئًا عن الموقف العسير الذي ألفى نفسه فيه.
جعلَته الغَيرة (التي سنكتفي هنا بالإشارة إليها بين قوسَين، ونعالجها في الفصل السابع عشر) غير منتبه، وكان متحفظًا.
وهو ما كان غير ضروري.
لكن مانتك لم يتمسك بالكلمة. ما كان يعنيه هو أن حيوية كارل وحماسه، انتهيا بانتهاء شبابه؛ فقد صار متعبًا، مستقرًّا، وهجَر كافة طموحاته، وقد أضاف الآن إلى منزله وسيارته عشيقة. هل كان الأمر كذلك؟ التعبير خَشِن حقًّا، لكنه حقيقي. كلَّا؛ لأن الأمر هنا مرتبط بالحب، والانضباط أيضًا! وفي المقام الأول يتعلق الأمر بالناس. أجل، ليس فقط اثنَين، وإنما على الأقل ثلاثة، والأطفال. وهنا تذكَّر هاسلر عبارة لماركس عن الزواج الميت الذي يعتبر استمراره دون حب أمرًا غير أخلاقي، لكنه لم يجرح مانتك بذلك، منذ كان مانتك بالتأكيد ليس أخلاقيًّا صارمًا، ولا من المتعصبين للزواج أو المُعادين للطلاق. كان ردُّ الفعل لدى مانتك مماثلًا ببساطة لمن يسمع، دون أن يُلِم بالظروف، أن شخصًا ما هجَر زوجتَه وأطفاله من أجل فتاةٍ صغيرة. كان لا بُدَّ وأن يكون هذا هو رد فعل مانتك، وليس غيره، منذ كان يعرف إليزابيث ويُقدِّر أمانتها الهادئة، وكان ردَّ فعل حادًّا؛ لأنه ظن أنه يتكلم مثلما يتكلم الصديق مع صديقه.
وهو ما كان سذاجةً حقًّا في هذا الوضع؛ فمن الطبيعي تمامًا أن يكون إرب نفسه كالقنفذ ويُبرِز أشواكه، بينما فضَّل مانتك أن يتحدث عن الوقت الذي عملا فيه معًا، دون نشوة أو عاطفية. كان يعتبرهما غير واقعيَّين، وغير لائقَين، ومُدمرَين؛ لأن من شأنهما تضخيمَ مصاعبِ تلك الأيام، والتقليل من شأن نجاحاتها، ومحو عظمة اليوم. وشعَر إرب عن حقٍّ بالإساءة؛ لأن محصوله من النشوة ترَعرَع، مثلما يحدُث لأولئك الذين يتأملون بأسفٍ حماساتِ الماضي.
كان مانتك يملك مجموعةً كاملة من الأقوال المأثورة؛ ليس بوسعك أن تظل شابًّا، لكنك تستطيع أن تستمرَّ شجاعًا، ليس هناك من قانونٍ طبيعي ينُص على أن أولى الشعرات البيضاء تؤدي بمُثل الشباب إلى القبر؛ ففي بعض الأحيان تقدِّم زوجتُك إكليل الجَنَّاز، البعض يبتلعون مبادئهم مع عَشاء يوم الأحد، ويدوسونها بالسيارات، ويُغرِقونها في البيرة، ويحبسونها في أكواخ العطلات، أو يفقدونها فوق إحدى الأرائك أو في مباراة لكرة القدم أو في فراش غريب، لكن هذا لا يعني بالطبع أن الرفاهية تؤدي حتمًا إلى تدهور الأخلاق، ومع ذلك فإنها أحيانًا ما تنخر في عظام الإنسان وفضائله.
كان خطأ مانتك واضحًا؛ فقد اعتبَر حافرة قبر أسلوبٍ معيَّن في الحياة (أي الآنسة برودر) مُرضعةَ هذا الأسلوب.
ولم يصحِّح هاسلر الخطأ.
لم يصحِّحه لأنه ظن أن الوقت قد حان كي يُعلِّق إرب بوضوحٍ أن اللوم الموجَّه إليه قد جاء متأخرًا، وأن الرحلة إلى شواطئَ جديدةٍ قد بدأَت بالفعل، وأن القارب قد ابتعد عن الشاطئ، لكن إرب احتفظ بصمته. وغضب هاسلر للمرة الأخيرة في السنة القديمة، غضب من نفسه (بسبب مؤامرة العام الجديد المجرَّدة من الذوق)، ومن مواعظ مانتك الأخلاقية وعبوس إرب، الذي كان في الحقيقة مزيجًا من الخوف من الشعارات (فمن ذا الذي يُعلن، تحت وطأة الاستجواب، عظمة حبه؟) والافتقار إلى التركيز.
سأله مانتك: «لماذا لم تقل شيئًا؟» أجل، لماذا؟ لأنه، على سبيل المثال، رجلٌ بالغ وليس تلميذًا، ولأنه يجب ألا يغفُل لحظةً عن زوجته (الجديدة) وهو في مخبئه القنفذي، ولأن هذا حفل العام الجديد وليس اجتماعًا حزبيًّا، ولأنه لا يحتاج إلى نصح أو لوم، ولأن كل شيء بالنسبة له قد حُسم وكل ما ينتظره هو أن يقرِّر هاسلر ما إذا كان سيضع العقبات في طريق مدير المكتبة والكُتبِيَّة الشابة المبتدئة. وذكَر هذا السبب الأخير بلهجة توضِّح بجلاءٍ أنه ليس بحاجة إلى معونة مانتك الودية، وأن هاسلر يجب أن يُوجِز. وقمَع هاسلر كل ما قفز إلى ذهنه وله علاقة بالوصايا العشر لكلٍّ من الكتاب المقدس والاشتراكية، بالخطيئة والمسئولية والتكفير، ودَوره كقُدوة (رغم أنه جذب انتباه إرب إلى الرأي المتطرف المُحتمَل، وهو أنه يستقل مركزه في أغراضٍ غير أخلاقية)، وعدَّد شروطه بجلاء ودون تزويق: قرار سريع (أي الطلاق) ونقل أحد الزوجَين إلى مكتبةٍ أخرى. لم يكن مانتك راضيًا عن الطريقة التي انزلقَت بها المناقشة إلى القنوات الإدارية، لكنه أطرق موافقًا.
مثلما سيفعل القُراء جميعًا.
وعندئذٍ دقَّت الأجراس، وفُرقعَت الألعاب النارية، وصاح الناس «عامٌ جديدٌ سعيد»، ورُفعَت الكئوس، وتُبُودلَت القبلات، وشُربَت الأنخاب (لمن تهمهم التفاصيل: شمبانيا القرم).
وردَّ إرب. لم يُعطِ واحدًا. كان لديه شيءٌ أكثر أهمية، وهو إبعاد الكاتب عن الآنسة برودر.
١٧
نتناول الآن في عُجالةٍ غَيرة إرب.
كانت عظيمةً مثل حبه. كافح بثباتٍ ضدها، وكان يخسر دائمًا. عندما نتحدث عن سعادته، فيجب أن نذكُر أيضًا تعاسته.
اكتساب القداسة عن طريق جَلْد النفس بالسياط؟ هذا كثير؛ فقد عذَّبها بغَيرته أكثر مما عذَّب نفسه. ولماذا؟ لأنه كان مدركًا لتقلُّبه، وجعل الآنسة برودر تدفع الثمن. لم يكن في حاجة إلى أسسٍ للغَيرة كي يختلق بعضها؛ فقصة دعوة رأس السنة قصةٌ تقليدية. وبدايتها واحدة لدى الجميع؛ فمشكلة رأس السنة تُطرح جانبًا حتى يأتي الكريسماس، وعندئذٍ تصبح ملحة. ماذا نفعل؟ الاختيارات كالآتي: الاحتفال في المنزل على انفراد، الذهاب إلى مكانٍ ما، الراحة والنوم، التفرُّج على الآخرين يحتفلون من أجلهم على شاشة التليفزيون، معاناة المَلَل في بار، دعوة أصدقاء، أو الحصول على دعوةٍ لدى أصدقاء، تكلَّما، ناقشا، وقرَّرا، ثم عدَّلا القرار حتى استقر على: سوف نحتفل على انفرادٍ ما لم تصلنا دعوةٌ واعدة. لكن ممن؟ هؤلاء لن يدعوهما، وأولئك لم يعرفوا بأمرهما، وإلى هؤلاء لن يذهبا، وإلى أولئك ربما يذهبان، كلا، الأفضل لا، كلا، سوف يبقيان بالمنزل. وتظهر صديقةٌ من أيام الدراسة: كيف الحال؟ ألم تتزوَّجي بعدُ؟ لم أركِ منذ قرون؟ ماذا ستفعلين في رأس السنة؟ ويُتلفِن زميل من كويبنيك: ماذا ستفعلين في رأس السنة؟ إنه مجرد سؤال، أجل، أجل، حسن. وتسأل فراو فولف من الباب: أنا أُعِد فطائر العيد فهل أُعِد شيئًا منها لك أيضًا؟ هناك برنامجٌ جديد في التليفزيون. وتتنوَّع الإجابات، لكنها جميعًا تتلخَّص في لا، حتى يتلفن مانتك ويطلب إرب مهلة للتفكير. وفي المساء يَشْرح لها موقف «لكن – من – الناحية – الأخرى»، ويترك لها القرار، لكنه يخشى أن تقول لا؛ لأنه سَعِد بأن تُتاح له أخيرًا الفرصة ليظهر معها أمام الناس الذين سيُقدِّرون كم هي فريدة. لكنها عندما تقول أجل، بسرور (لأنها تشعر بمدى ما يُعلِّقه على المناسبة من أهمية، وتعرف قَدْر مانتك لديه) يتحوَّل اتجاه مشاعره، وربما الأفضل أن نقول (حتى نُعِد ذهن القارئ للاستعارة البحرية التالية) إن اتجاه الرياح يتغيَّر من الجنوب إلى الشمال. إنه يبدأ على الفور يفكِّر: لقد ملَّتني بسرعة، إنها تريد الالتقاء برجالٍ آخرين، ويتصوَّر الأمر كله في كل تفاصيله؛ أول اتصالٍ جسدي في حلبة الرقص، أول ضمة يد، الحديث التافه، وبدايات الحقد على الزوج التعس الذي يُفسِد عليها متعتها، التواعُد الذي يتم عند الافتراق بسرعة حتى لا يلحظ أحد شيئًا (ففي تهيُّؤات الغَيرة لدى إرب لا تبخل النسوة بعطاياهن إذا ما توفَّرَت عوامل الكتمان والحذَر). لكن هذه المعاناة الأولية لا تكتمل في صورةٍ واضحة، وتبقى مجرد اضطرابٍ خفيف للمياه لا صوت له أحدثَته رياح الشمال، ولا تثور الأمواج إلا بعد عبور محيط العذابات. ويحدث هذا في رأس السنة، بينما هما في طريقهما إلى المنزل فوق الجليد، الذي يُغطِّي على صوت وَقْع الأقدام كأنما تكتسي خفوفًا. شارع كارل ماركس أليه: أعجَبَك الحفل إذن، حسنًا، حسنًا، ولمَ لا؟ اللامانتك على وجه الخصوص، إيه؟ وباومجارتنر؟ طاووس؟ لكنه وسيمٌ بالتأكيد. ميدان ألكسندر بلاتز: هُراء، لا يتقدَّم رجل بمثل هذا الاقتراح إلى امرأة دونما تشجيعٍ من جانبها، وعلى أية حال فإنه لا تُوجد الزوجة التي تَرْوي كل شيءٍ لزوجها، أبدًا؛ فالجميع يَلْوون الحقيقة قليلًا في مثل هذه الاعترافات. شارع دير كزنشتراسه: إذن فهي لم تلحظ كم كان يعاني، حسنًا، لا أهمية للأمر؛ فقد كان الشيء الرئيسي بالنسبة لها هو أن تضع يدها على ذراع المقعد حتى تتمكن الأصابع العنكبوتية لهذا العاشق المحترف من مداعبتها. ميدان هاكشر ماركت: لم تكن ضحكاتُها تبدو ملولة، لكن لماذا يجب أن تُؤخذ الأمور بهذه الجدية، وهناك الكثيرون هكذا، مجرد حياتَين متوازيتَين، وهناك الحفلاتُ لتقدِّم لهما التنوع؟ ولمَ لا؟ بوسعه أن يفعل هكذا أيضًا، كل ما في الأمر أنه حتى الآن كان يفترض أن هذا شيءٌ غير ممكنٍ بينهما، لكنهما بالطبع يستطيعان الاتفاق، فيفعل كلٌّ منهما ما يشاء عندما يشاء، وربما كانت هذه هي الإمكانية الوحيدة بالنسبة لها، منذ كانت معتادةً دائمًا على التنوع، وتفتقده الآن كما هو واضح … إلخ، حتى بلغا تمثال شاميزو بقُبَّعته الجليدية، حيث تتمكَّن الآنسة برودر أخيرًا من التخلص من خوفها المتجمِّد وتقول لنفسها: هدوءًا يا فتاة، هذا أشبه بمرض لا يمكن مواجهته بالمنطق أو الغضب، وإنما يحتاج إلى التمريض والكمادات المرطِّبة. عندئذٍ يستمع الشاعر الحجري (الذي يحتفظ بأذنَين أسفل شعر الخنافس) إلى إعلان مبادئ من جانبها، قدَّمَته في صوتٍ هادئ، وأجابت فيه على هُرائه، محلِّلة، موضِّحة، واعدة، حتى يمحو قطارٌ عابر الباقي، وتتمكَّن بالفعل من إيقاف الرياح العاوية، وتهدئة الأمواج الثائرة. حتى يسطع القمر والنجوم من جديد، عند المقبرة اليهودية القديمة، فوق المحيط الوادع لروحَيهما.
هو نفسه لم يكد يعي جهاز مسك الدفاتر الداخلي لديه، عندما سجل تحت الرقم واحد مادة: مغازلة باومجارتنر. وكان أقل من ذلك وعيًا بعلَّة ضيفه الذي كان يجب أن يعبِّر عنه بهذه الكلمات: ماذا تظنين نفسك فاعلة؛ إذ تتخذين قرارًا بأن أُناقش الأمور مع هاسلر ومانتك؟
١٨
العودة من المسكن الفاخر ذي التدفئة المركزية في كارل ماركس أليه إلى الجناح ب. لقد ارتقى كارل إرب سُلَّم هذا الجناح لأول مرة مغامرًا رومانسيًّا، وبعد أن عاش به أربعة عشر يومًا صار محللًا طبيعيًّا، السقف يكاد يبلغ النجوم … مثل هذا الحماس يتلاشى عندما تهزُّ المطبعة المجاورة الجدران في الرابعة صباحًا، وعندما يسيل الثلج الذائب من السقف بالقرب من الجدار الخارجي، وعندما يكتسي بياض الجدران ببُقع الرطوبة، وعندما تتسابق الفئران والقِطط بالليل عَبْر السندرة وتنخر الجدران، وعندما تعزف الرياح كونشرتاتٍ دقيقة بمصاحبة القطرات المتساقطة من الميازيب، وعندما تتقيأ الحانة المقابلة كل منتصف ليلٍ رجالًا مزهُوِّين بقدراتهم الغنائية، وعندما يُحوِّل ضغط الغاز المنخفض في الصباح عملية إعداد القهوة إلى لعبة صبر.
أشياءُ صغيرة.
هذا حق، لكن الحياة كلها تتألف من أمثال هذه الأشياء الصغيرة، مثلما يتألف الحبل من خيوطٍ رفيعةٍ كثيرة. إن الأعوام تتألف من شهور وأسابيع وأيام ودقائق وثوانٍ، والأفعال العظيمة يمكن تجزئتها إلى آلاف من الأفعال الصغيرة، والمجلَّد السميك لن يكون شيئًا دون صفحاته وحروفه، وأخيرًا الأفكار لا يمكن التوصُّل إليها دون العديد من الملاحظات الصغيرة. إن للأشياء الصغيرة قوة، وهي في حالتنا هذه قوة الإنهاك؛ فلم يكَد كارل يتمكَّن، في أعقاب طيور منتصف الليل المغرِّدة، من بسط ملاءة النوم فوق مُخه المتوقِّد، حتى طعنَه الصفير الحاد لغلاية. كانت السيدة فولف تُعِد قهوة، في الثالثة والأربعين دقيقةً صباحًا. عبثًا دفَن رأسه في الوسادة، وعَدَّ إلى الألف، وأدار عينَيه في محجرَيْهما دون أن يفتحَهما، وأعطى لنفسه أوامرَ موحيةً ذاتيًّا بالنوم؛ فقد جعل يصغي إلى الضجَّة المنبعثة من الباب المجاور؛ مونولوج مبهم، قعقعة الفنجان على الطبق، صرير تقليب السكر، تكَّة مفتاح الراديو، موسيقى الصباح الباكر المرحة حتى أول إشارةٍ للوقت، رنين المنبِّه، ثم اصطفاقه، قفل حافظة أوراق، صليل حزمة مفاتيح، وانفتاح باب المسكن. صمتٌ متوتر؛ لأن آلات الطباعة ستبدأ الدوران على الفور غالبًا. لكن الآلات لم تكن في دقة محافظة السيدة فولف، عاملة النظافة؛ لأنها تتأخر دائمًا بين خمس وعشر أو عشرين دقيقة قبل أن تبدأ العمل بزمجرةٍ مكتومة لم تلبث أن صارت زئيرًا، قاطعَته بعد ثوانٍ قليلة خبطاتٌ منتظمة. اهتزَّت الجدران، ومعها جسد كارل، لكن التوتر تبعه نومٌ عصي على الزوال (أخيرًا الآن) في السادسة، عندما خشخش طعام الحمَام في البرج، وبدأ الحمام يلتقطه. أصبحَت الآن الدقائق الخمس القديمة التي كانت تفصل بين رنين المنبه والنهوض، ثلاثين واحدةً تفصل بين تناول الحمام لطعامه ورنين المنبه، هي أكثر دقائق اليوم إرعابًا. لا بسبب آلام الظهر أو الإرهاق، لكن بسبب سلسلة الصور التي تدافعَت في مُخه المستثار، بينما كانت محبوبته، إلى جواره، أعلى منه، وأبعد بياردةٍ واحدة، فوق الأريكة، تنتفع بكل دقيقة من النوم، دون صوت، وغافلة عن كل شيءٍ آخر.
وأظهره الفيلم الداخلي الذي أخرجه، في مكتبةٍ مركزية بالريف، في غرفةٍ بالية رثَّة (المَغسَل في الفِناء) بنصف الراتب، أو في الاجتماع الحزبي الذي انعقد لمناقشة قضيته، أو في غرفة المحامي الذي كان يسأله عن تاريخ آخر ممارسة للعلاقة الزوجية، أو أراه نفسه واقفًا أمام محكمة الطلاق إلى جوار إليزابيث الباكية، وأعاد الفيلم أكثر من مرة مشهد غرفته الخالية المُطلَّة على نهر شبريه، والبروفسور الصائد الأسماك وفِراشه (بالمرتبة المعدنية)، وكُتبه، وحمَّام الصباح، ومائدة الإفطار المرتَّبة المزيَّنة بالزهور، وطفلَيه. وباختصار: كان يخوض في مستنقع من القلَق والرثاء للذات.
لكن هذا لم يكُن يحدُث إلا عندما ينتابه الأرق. وقد كافح ضده … بلا جدوى.
كان بوسعه أن يتخذ إجراءاتٍ مضادة، مثل القراءة. وقد اقترحَت ذلك الآنسة برودر أكثر من مرة عندما تحدَّث هو (دون ذكر التفاصيل بالطبع) عن الأمر، وقالت إن الضوء لن يُضايقها، وإنها على العكس، ستسعد إذا تنبَّهَت على وجوده، ثم تعود إلى النوم.
لكنه لم يفعل ذلك أبدًا؛ فقد فضَّل أن يراعي مشاعرها ويعذِّب نفسه؛ لأنه بذلك صار الشهيد، وأصبحَت هي مدينةً له.
إن كل راغب في المعاناة سيجد دائمًا من يعذِّبه ولو كان شخصًا نائمًا.
خيالاتٌ سيكولوجية، تصبح غير ممكنة التصديق عندما تعرفون قَدْر الروعة التي التمَسَها في مراقبة يقظتها. كانت تلك مصدر إثارة لا تنتهي لديه.
لكنها سرعان ما كانت تقضي على هذه المتعة بالاختفاء. كانت تؤمن بأن الحب يمكن أن يُضارَّ من تبادُل الغزل في غرفة لم تتم تهويتُها، وبأسنانٍ لم تُنظف، وشعرٍ لم يُمشط، فإذا كان قد أَلِفَها جميلة، فإن هذا كان مبعث سعادتها، لكنها اعتبرَتْه خطأً، يجب تأجيل اكتشافه أطول مدةٍ ممكنة؛ ولهذا السبب كانت تفضِّل ألا ينظر إليها قبل الإفطار. كما أنها لم تستطع التعوُّد على انطلاقه في الحديث عند استيقاظها عن نوع النوم والأحلام وأفكار الليل. كانت تحتاج بشكلٍ حاسم إلى المدة الفاصلة بين الاستيقاظ والعمل كي تنظِّم مجرى اليوم في ذهنها. لم تُضطَر أبدًا من قبلُ للحديث قبل الذهاب إلى المدرسة أو العمل. هكذا كانت تتنهَّد في ارتياح عندما يرتدي منامته أخيرًا ويغادر المسكن.
كانت أنابيب المياه، والصرف، وبالتالي مرحاض، قد ثُبتَت فوق منبسطات الدرَج الخلفية، لكن هذا حدث ولا شك منذ سبعين أو ثمانين عامًا. وبالرغم من ذلك كان ثمَّة أناسٌ لم يتعوَّدوا شد سلسلة المرحاض بعد استخدامه، رغم وجود تنبيهٍ بهذا المعنى، كُتب بصورةٍ منمَّقة لكن للأسف بطلاءٍ غير مضيء. كان مثل ذلك الطلاء ضروريًّا حقًّا؛ لأنه لم يكن ثمَّة نور، ولا بُدَّ لك في كل صباح ومساء شتويَّين أن تتلمَّس طريقك في الظلام، فإذا ما نسيتَ أن تحمل معك مصباحك الكهربائي (كما كان يحدث لكارل دائمًا)، كان عليك أن تترك الباب مفتوحًا وتعتمد على نور السُّلم الأوتوماتيكي الذي يضيء لمدة دقيقتَين، وكان هذا يُثير حفيظة آل جرون الذين يعيشون على نفس المنبسط (خلف الباب ذي اللون الأزرق السماوي) ويدفعهم إلى تكتيكاتٍ دفاعية-هجومية، يتولى تنفيذها الصبيةُ الثلاثة ذوو الشعر الأحمر، فيندفعون من مسكنهم مُستنكِرين زاعقين، ويُغلِقون باب المرحاض، بل إنهم ذات مرة أغلقوه بالمفتاح من الخارج، وظل كارل الذي لم يكن يودُّ الإعلان عن الموقف بإحداث ضجيج، ينتظر في الظلام حتى انتابت الآنسة برودر الشكوك وخفَّت لتحريره.
كان يضيق بشكلٍ خاص بلقاءات السُّلم التي تتم في البيجامات وقمصان النوم، وهي لقاءاتٌ يتكرَّر حدوثُها رغم أنه كان يُصغي طويلًا لأية أصوات من أعلى أو أسفل وهو موشك أن يتجمَّد من البرد، ناقلًا ثقل جسده من ساق إلى أخرى، قبل أن يغادر المرحاض. ومع ذلك كان لجارتها السيدة لانجه، وهي أرملة عامل في السكة الحديد ومتقاعدة، سلوكٌ مثالي؛ إذ كانت تبقى في الفراش حتى العاشرة، ولم تكن على أية حال تستخدم المرحاض، وهي ظاهرةٌ لم تستطع الآنسة برودر أيضًا أن تجد لها تفسيرًا (اعترفَت بأنها طالما تساءلَت عن سِر الأمر).
عندما عاد كانت محبوبتُه ما تزال تستأثر بصنبور المياه والمرآة. لم يكن مسموحًا له أن يلمسَها في هذا الموقف، لم يكن بإمكانه أن يُقبِّلها على كتفها العارية أو يتطلع إليها، ولم تكن أيضًا تقبل بقاءه في المطبخ لإعداد الإفطار. وأمام هذه القيود على نشاطه، انصرف إلى إعداد الفراشَين في حجرة المعيشة – النوم – الأكل – العمل. «ماذا تفعل؟» – «أرتِّب الفراش». «لكن لا بُدَّ من تهويته أولًا.» هدَّ في ضيقٍ ما أنجزه، وفتح النافذة في عنف، وتجمَّد. لقد اقتصرَت تمارين الصباح على عددٍ قليل من ثنيات الركبة الحذِرة؛ فلم يكن ثمَّة مكانٌ لقذف الذراعَين إلى أعلى، وأي تلويحٍ بهما كان كافيًا لإحداث كارثة، «بوسعك أن تغتسل الآن.» واختفت في الرَّدْهة. كان جسده يتعطش إلى المياه الباردة منذ لحظة استيقاظه، لكنه الآن كان يرتعش في المطبخ المجرَّد من التدفئة وهو يؤدي طقوس الاغتسال المُتعِبة في فانلته، ولم يكد يبلُغ منتصفها (حتى بطنه) حتى عادت ووقفَت في المدخل مسرورةً برؤيته هكذا. «أنتِ لا تُحبين أن أتطلع إليك. اذهبي إلى الغرفة.» بُغتَت للهجته وانصرفَت (وفي صباح اليوم التالي والأيام اللاحقة كانت تمُر به كأنه غير موجودٍ مما أثار حنقَه). وسرعان ما كانت قد ارتدَت ملابسها وعادت إلى المطبخ قبل أن يجفِّف نفسه. التصقَت بيجامته بظهره المُبتَل. «آسفة، ولكن يجب أن أُعِد القهوة وإلا تأخَّرنا.» يا له من مرعبٍ صوت دَعْك الأسنان بالفرشاة عندما يصل إلى مسامعها! وعاقبها بالصمت حتى عندما جلسا يتناولان الإفطار في مقعدَيهما المعهودَين وقد استقرَّت خلفه على الأريكة، وإلى جواره على الأرض أغطية الفِراشَين وبيجامته ومنامتها، فتناولَت يده: «لا تغضب. غدًا سننظِّم الأمور بطريقةٍ أفضل.»
وكل صباح كانا يبغيان تحقيق هذا التحسُّن، لكنهما لم يتمكنا أبدًا. «إن منظر الفِراشَين دون إعداد يُفسِد شهيتي.» – «لكن لا بُدَّ من تهويتهما.» – «لا أريد أن أضايقك، ولكني أعتقد أن هذا القول من مزاعم العجائز. إن الهدف من التهوية يتحقق أيضًا إذا ما سُوي الفِراش على الفور. كل ما في الأمر أنه يستغرق وقتًا أطول.» – «لكن فكِّر فقط لحظة: أنت تعلم أن الأغطية تمتص العرق أثناء الليل.» – «أنا لا أفرز عرقًا في هذه الدرجة من الحرارة.» – «كل الناس يعرقون بالليل.» – «حسنًا، حسنًا، أنا أعرق بالليل رغم أني أتجمَّد من البرد. لكنكِ بالطبع لا يمكن أن تُصدِّقي أن البلل يمكن أن يتبخر في ظل الرطوبة السائدة بالغرفة.» – «إن الأمر يتعلق أيضًا بروائح الجسد.» – «على أي حال أنا أشعر بالرعب عندما أفكِّر أني عائد إلى منزلٍ منكوش الأَسِرَّة.» – «أنا أرتِّبها دائمًا بمجرد عودتي، وبينما تغتسل أكون قد فعَلْت.» – «أنتِ تنسَين أن عندك اليوم مناوبةً متأخرة.» – «مرة واحدة في الأسبوع فقط.» – «أرجو أن تغفري لي عشقي الشديد للنظام والنظافة.» – «ربما كان ذلك علامةً على افتقاد الطمأنينة الداخلية.» – «ربما كان علامةً على النظافة الداخلية.»
هكذا كان مزاجه المنحرف في الصباح يُعبِّر عن نفسه، بلا انفجارات، ولا صوتٍ مرتفع، دائمًا تحت السيطرة. مرة كان ذلك بشأن نقص الصحاف، ومرةً أخرى بشأن غرامها بوضع الزبد على المائدة في غِلافها، وثالثة بسبب مِطفأة السجائر الممتلئة من الليلة السابقة، وفُتات الخبز المتبقي في المُربى، وطريقتها في إشعال الموقد. حاول كلٌّ منهما أن يُبقي على نبرة الودِّ في صوته، وخاطب كلٌّ منهما الآخر بحبيبي، لكنَّ كلًّا منهما كان يدرك صعوبة ذلك بالنسبة للآخر. كل مساءٍ كانت تقرِّر التزام الصمت، وكل صباح كانت تُدافِع عن نفسها، وتخترع الأسباب لعاداتها وتزداد عنادًا.
«لا تغضبي يا حلوتي، لكن رائحة السجق التي تأكلينه في الصباح تصيبني بالغثيان.» – «هكذا فجأة؟» – «كنتُ أتجنب الحديث عن هذا من قبلُ.» – «كان يُسعِدني أن أكل معك المربى يا حبيبي، كأي ألمانيةٍ صميمية، لكني ببساطة لا أستطيع ذلك؛ فالأشياء الحلوة في الصباح تقلب معدتي.» – «أنا أدرك ما تعنينه تمامًا؛ فهو نفس شعوري بالنسبة لهذه القهوة، هل تُحبينها حقًّا هكذا؟» – «كيف؟» – «بتفلها.» – «بالطبع؛ فالقهوة المصفَّاة من التفل تصبح أقرب إلى الماء.» – «أبدًا، إذا عرفتُ كيف تصنعينها.» – «لكن ذلك يستغرق وقتًا طويلًا.» – «هكذا كنتُ أظن، ولكن هذا غير حقيقي. استمعي لي: بينما …»
أن تلتزم الصمت كان أمرًا صعبًا … فنصائح الرجال بشأن التدبير المنزلي تمثِّل إهانةً لأولئك النسوة اللاتي ليس لديهن مطمحٌ في أن يصبحن ربَّات بيوت (فردُّ فعلهن يمثِّل ردَّ فعل الرجال في حالة الرياضة). لكنها لم تهاجم أبدًا، واكتفت بالدفاع عن نفسها ضد ما هو (كما ظنَّت) بقايا شهوة الرجل للتفوُّق والسيادة (وشعَرَت بالسعادة أن هذه البقايا لا تظهر إلا في التفاهات)، وظلَّت دائمًا الأقوى، لا لأنها كانت تسيطر عليه، وإنما كانت تُسيطِر على نفسها، ولم تقل أو تفعل إلا ما أرادت أن تقولَه وتفعلَه فحَسْب على العكس منه.
هذا حقيقي، ولكن بالنسبة إليه كان أكثر صعوبة.
كانت تُعاني منه وحَسْب، أما هو فكان يعاني منها ومن المحيط الجديد غير المألوف الذي يقبض الصدر؛ فهناك حقيقة يعرفها الجميع، وهي أن الهبوط من مستوى معيشةٍ معيَّن حقَّقه المرء يُعتبر صعبًا للغاية، بل عقوبة (إن المرء ليُضحِّي بالكثير كي يتجنَّب هذا المصير!).
لكن ما يدعو للسخرية هو أن تطالب من لم يعرفوا أبدًا هذا المستوى الأعلى بتفهُّم هذه الحقيقة، مما يدفعهم إلى الضحك، ولهم الحق. وإذا كانت الآنسة برودر لم تضحك، بل حاولَت أن تُبدي تفهُّمها للأمر، فإن هذا لا يُبرهِن إلا على مدى عشقها له.
مثل عشقه لها، دائمًا. لكن بوجهٍ خاص في العمل؛ حيث يستطيع أن يراها ويسمعها وهو بعيدٌ عنها، أو عندما يأتي ذكرها على لسان أحد، أو حتى في الصباح عندما يعذِّبها دون قصد، أو في المساء عندما يعود إلى المنزل مبكرًا، ويشعُر بالضيق بسبب الأَسِرَّة غير المرتَّبة. ثم كان هناك ذلك العنصر (الذي أسمياه ذات مساء عندما استطاعا الحديث عنه في هدوء، بثورة الأعصاب، أو السيكو-دكتاتورية) الذي يتمكَّن منه دون أن يمَس شيئًا من حبه. وهكذا عندما تكون لديها مناوبةٌ متأخرة، يتولى هو إعداد الفِراشَين، ويكتشف الأتربة تحت الأريكة وفوق الصوان، وعلى الأرفُف، والوساخة على قاعدة النافذة، ويشرع في الكَنْس والمَسْح والدَّعْك (وهو ما يمثِّل انتهاكًا لاتفاقية تقسيم العمل بينهما التي كان بمقتضاها مسئولًا عن الموقد والفحم وإناء الفضلات والتسوق) بدلًا من أن يقرأ ويعمل أو يستمتع بالمسكن الفارغ كما كان العزم. ويعمل في حميةٍ مشحونة بالغضب منها لإهمالها، والحنق على نفسه لأنه لا يتحمل الوسخ. وتفيض جوانحه بمشاعر الإشفاق على الذات ممزوجًا بالانتصار للعقاب الذي يُعِده لها؛ فلسوف تتضاءل من الخجل عندما ترى أنه قام بعملها أيضًا، وسيتعيَّن عليها أن تكون شاكرةً للجميل، بل وأن تُبدي السرور، لكن هل سترى ما فعلَه؟ ولأنه لم يكن واثقًا، فقد ترك الستائر معقودة، والمقعد فوق الأريكة، وجردل المياه أمام دولاب الكتب، وقرأ ودخَّن بعض الوقت، وفي السابعة والنصف عندما وصلَت، كان راكعًا على قدمَيه يدعك الأرض. وقفَت في المدخل وخلعَت معطفها ببطء. لو لم ينتَبها الخجل، فلا بُدَّ على الأقل أن يستولي عليها الغضب، وهو ما حدَث (رآه على وجهها، دون أن يتمكن من وصف ما رآه هناك بالتقريب)، لكنها سرعان ما كبحَت جماحه وشرعَت تضحك؛ فقد أدركت مؤامرته. ولم يكن أمامه سوى أن يُشارِكها الضحك، وقد اختفى توتُّره الغاضب، وأمكَنه أن يذكُر لها ما حدث بالضبط معه ومع دكتاتوره، وتحوَّل الأمر إلى أمسية تفيض محبة.
كانت كل أمسياتهما معًا رائعة، ولم يكن اكتفاؤهما بالحب يطول أكثر من ساعاتٍ قليلة؛ إذ سرعان ما يكتشفانه من جديد (ويكتشفان جوانبَ جديدةً منه حتى عندما لا يطلبان ذلك). كان العالم يفيض بالأشياء والأفكار التي لا بُدَّ أن يختلفا ثم يصلا إلى التفاهم بشأنها، وكان ما يحدُث في المكتبة مثار نقاشٍ يستمر ساعات، وكانا دائمًا يكتشفان تفاصيلَ جديدةً في سيرة كلٍّ منهما لم يأتِ ذكرها من قبلُ. الشيء الوحيد السلبي هو أنه لم يتبقَّ لهما وقتٌ للقراءة أو العمل. وكتعويضٍ عن ذلك صار كارل يُنجِز في مكتبه أكثر من ذي قبل، وهكذا تم مشروع مكتبة الحديقة. وعُين ريبلوس مسئولًا عن الإعداد لها، وتقرَّر شهر مايو موعدًا لافتتاحها.
«رأيتكِ اليوم مع هاسلر. هل كنتما تبحثان أمر هذه المكتبة؟» – «كلا. كنا نتكلم عنا.» – «ولم تحكِ لي إلا الآن؟» كانت تكره عادته في الخوض عَبْر بحر من الأمور غير الهامة قبل أن يبلغ شاطئ الأهمية؛ لأن ذلك كان يجعلها في خوفٍ دائم عند كل حديثٍ غير هام من مفاجآت كهذه تأتي على غرَّة. بحث هاسلر قضيتها مع إدارة شئون العاملين، وترى الإدارة أنه لا بُدَّ من ذهاب أحدهما. إذن ليس هناك جديد؟ حسنًا، أجل، إنهم يريدون الحيلولة دون النتائج السلبية التي ستلحق بالمجتمع. الأطفال؟ كلا، المجتمع هنا يعني الحي، والحياة الثقافية في الحي، التي يجب ألا تُضارَّ من جرَّاء فقدان مدير مكتبة مجرِّب وأهل للثقة. إذن هي التي يجب أن تذهب؟ أجل، لكن المجموعة الحزبية ستناقش الأمر أولًا، وسوف يكون هو كارل إرب حاضرًا، لن يغيِّر هذا شيئًا في الأمر؛ لأن الرفيق إرب سيُقِر، عن حق في رأيها، بأن الأمر يستوي بالنسبة للمكتبة: أكانت هي التي تعمل بها أم كراتش. هل هذا حقًّا هو ما كانت تعتقده؟ بالطبع، لكن هذا ليس هو رأيه، وقد قال لهاسلر: كلا، أبدًا. هل يخشى أن يحدُث شيء لحبهما لو اضطُرا إلى الحياة متباعدَين لحين؟ ألا تفهم أنه لا يستطيع ببساطة الحياة دونها، ولا ليومٍ واحد؟ لماذا لا يرحلان سويًّا إلى الريف مثلًا؟ كيف جاءتها هذه الفكرة؟ منه بالطبع لكنه يعرف قَدْر المدينة لديها. «إنني متمسكة بك، وأعتقد أنه من المفيد لنا أن نرحل من هنا، ونترك خلفنا كل شيء.» – «هذا معناه الفرار.» – «سوف يكون بدايةً طيبة.» – «هل تدركين كم سيصير دخلنا؟» – «ولمَ لا، عندما تحصُل على الطلاق.» – «سيكون ذلك تضحية من جانبك، ولستُ أريد ذلك.»
لكن الأمر لن يكون فيه أي تضحية، كم مرةً قالت له ذلك؟ إنها في حاجة إلى القيام بأنواعٍ مختلفة من النشاط التطبيقي قبل أن تضع خطة دراستها موضع التنفيذ، فلِمَ لا تبدأ بمكتبةٍ ريفية؟ لكن ذلك سيكون تضحيةً من جانبها. كلا! أجل! كلا على الإطلاق! أجل، والآن يجب إغلاق النقاش في هذا الموضوع. لقد قرَّ رأيه على ألا يهرب وأن يتمسَّك بموقفه ويكافح، وهو قرارٌ نهائي.
وعندئذٍ قدَّم فيضًا من أيمان الحب والإخلاص المغلَّظة (التي يمكن إغفالها هنا)، وانتابَها القلق ألا يكون حبه قويًّا بما يكفي للصمود في وجه الاختبار.
وبعدها حان دور الملاءات والأغطية، ونفخ المراتب، ورحلة المرحاض وصنبور المطبخ المثلج. الذي شغلَته مدة نصف ساعة لتُعِد زينتَها الليلية بينما وقف هو في النافذة عاجزًا عن القراءة من جرَّاء حنقه على هذا التعطيل. حرَّم على نفسه التفكير في إليزابيث (التي كانت ما تزال بلا تجاعيد، رغم أنها لا تلجأ إلى مستحضرات الغسيل والكريمات المغذِّية)، واتخذ قرارًا بألا يُبدي غضبه، لكنه فعل رغم ذلك. ونتيجةً لهذا جعلَته يتقدمها إلى الصنبور، ثم يلجأ إلى الفِراش فينام بينما تقوم هي بزينتها، وعندما تَلِج الحجرة تُوقظه مما يعني أن يظل عاجزًا عن النوم عدة ساعات في انتظار مُغني الحانة، واستيقاظ السيدة فولف، وبَدْء تشغيل آلات المطبعة، مُفكِّرًا أثناء ذلك في مكتبات القرى المنعزلة، وجهَي طفلَيه النائمَين وموضوعات الإنشاء المدرسية الخاصة ببيتر، بينما يُسجِّل كاتب حسابات عقله الباطن خانتَين جديدتَين؛ رقم ٢ (العناد) ورقم ٣ (غرام بالزينة)، وفي نفس الوقت يتلهَّف على حلول الصباح، على استيقاظها، وأول كلمةٍ منها؛ فعندما تنام لا يملك دفاعًا عن نفسه ضد الصور الشبحية.
أما من دواء؟
أجل، حبةٌ منوِّمة.
١٩
رحلة في يومِ أحدٍ شتوي خالٍ من الجليد، كانت هي للغرابة، التي طلبَتْها. «منذ متى شعَرت بنداء الطبيعة العظمى؟» أليس من حقها شيء من التغيير؟ – «إلى أين؟» كانا قد استقرَّا في السيارة تحت ملاحظة باشكه. «إلى نينهاوزن.» – «كما تود السيدة. أين تقع؟» – «لا أعرف.» كان أطلس الطرق على المقعد الخلفي؛ نيلبن، نيللشوتس نيمت، نينكرسدورف، نينهاوزن ١٨ ج٣، هذا يعني اتباع طريق السيارات الرئيسي. «كلا. أودُّ أن نذهب عَبْر القرى.» – «سمعًا وطاعة يا سيدتي.»
بدَت الشوارع فسيحة بسبب خوائها المألوف في صباح الآحاد. وتثاءبت صالات المحطة الشرقية في ملَل. «بماذا يوحي اسم شترالاو؟» – «مهرجان الصيادين.» – «ضعيف.» – «وأنت؟» – «أخطاء ومغالطات فونتانه.» – «تكسبين.» … وعند بلينتر فالد بارك بدا كأنهما بلغا الريف، لكن كل شيء سرعان ما بدا من جديد؛ مجمعات المساكن الجديدة والمصانع والمجمعات السكنية القديمة والمحطات، والحوانيت وحدائق وأكواخ العطلات، والسقوف السوداء في لون القار، لقد تحلَّلَت المدينة قبل أن تبدأ حدودها بكثير، وتباهى المطار بطوله الذي لا ينتهي. وكانت الحقول العارية مخيبة للآمال، وإلى اليمين انتصبَت مراكز حراسة الحدود، أسلاك شائكة تصدأ في سلام. بماذا توحي «كلاينماخنوف»؟ – «تسيلندورف.» – «غلط.»، تلتوف، شتاندزدورف، بابلسبيرج؛ لا تُوجَد ضاحية بغير مدينة. «بماذا تُوحي بوتسدام؟» – «فريتز العجوز.» – «قديمة. مؤتمر بوتسدام، اثنان لصفر».
دفعَت الرياح بقِطَع الجليد الطافية عَبْر بحيرة شفيلوف، فتكسَّرَت في ضجَّة قرب الشاطئ كأنما دقَّت أجراسٌ حادة تحت الماء وبينما انزلقَت بجعات نهر الهافل التي روَّضَها الشتاء، وما تزال تزهو بالشهرة التي أسبغَها عليها فونتانه. وعند فردر انتصر الشاعر موجشترن على أشجار الفاكهة المنيعة. وبدت براندنبورج من آثار القرون الوسطى والعصر الحديث على حدٍّ سواء، غير بروسية بصورة تدعو للارتياح، لكن السيدة لا تريد التوقف هنا، خوفًا من أن يجد السيد فرصته لإنعاش ذكريات مغامرة الشتاء والحرب؛ ذلك أن قصص الحب غير المكتملة هي أكثرها دوامًا.
«لماذا نينهاوزن بالتحديد؟» – «أليس أمرًا مرعبًا أن يموت المرء دون أن يرى نينهاوزن؟» – «قد ينطبق هذا على باريس أو نيو أورليانز أو بغداد … أما نينهاوزن؟» – «الفرق هو أن عدم الذهاب قبل الآن إلى نينهاوزن هو غلطتي وحدي.»
التمعَت آلات الحقول الجديدة في ألوان الصيف، وناطحَت هوائيات التليفزيون السحاب، وفي الرياح تسطَّحَت المروج السمراء على وجوهها. نينهاوزن؛ المحطة، المنازل، الكنيسة، القصر ذو الحديقة البرية والأشجار التي تلاشَى النهار من خلالها. «ماذا الآن!» – «إلى المنزل.»
أحاط بهما أفق من الحرير الأسود. وشقت أضواؤهما الكاشفة ثغراتٍ يمكن الفِرار من خلالها. «في نينهاوزن خطَرَت لشاميزو أهم قصائده.» – «إنه إذن صديقنا المجرَّد من أنفه، الذي كان موضع اهتمامك.» – «هل تبيع ظلك؟» – «أبدًا.» – «ولو أدَّى ذلك إلى أن تبيع السيارة؟» – «حذارِ! هل رأيتَ الغزال؟ كان يمكن أن نصطدم به.» – «أثناء القيادة يصبح لك وجه آخر، غريب.» – «سمته التركيز.» – «سمته المظهرية والجوع إلى السلطة.» – «أتغارين من آلة؟» – «بقَدْر ما يستغني المرء عن الأشياء الغالية يكون حرًّا.» – «دون السيارة ما كان اليوم بهذه الروعة.» – «لكن الليالي أكثر روعة دون سيارة.» – «أنتِ لا تقبلين آلهةً أخرى غير نفسك، هذا هو الأمر.» النهاية. استغرقَت رحلة العودة ساعتَين. ولم يحدُث قبل الآن أن التزما الصمت لمدةٍ طويلة وهما معًا.
أمرٌ غير مُستغرَب في رحلةٍ ليلية فوق طرقاتٍ سيئة.
٢٠
إن توفُّر الحقائق العامة في صورةٍ شعرية أمرٌ مريح للغاية؛ ذلك أن جمال الشكل يُخفي الفكرة، ويعزِّز موقف المرء، بل ويرُد له اعتباره. ولمَّا كانت الآنسة برودر لا تعرف الشاعر ريلكه إلا بالاسم فقط، وأمكنها أن تمارس الأكاذيب الضرورية بالصمت، يكون إرب وحده هو الذي تذكَّر الأبيات؛ فهو وحده الذي كان في حاجة إلى القصيدة؛ ذات مساء من فبراير على باب المسكن. كانت قد سمعَت وقع أقدامه، فوقفَت تنتظره في المدخل، ثم اتجهَت مباشرةً إلى الموضوع الأساسي كي تتجنَّب تفريعاتِه المألوفة.
«هل كنت هناك؟» – «بالطبع» – «و؟» – «لا بُدَّ من ذهابي ثانية.»
– «هل بدأَت الأمور تتحرك؟» – «كلا، كان هناك زحامٌ شديد لكني تمكَّنتُ من عمل المستحيل، تسجيل ابتدائي.» وكانت تلك كذبة.
لم تكن كذبةً كبيرة. وهو نفسه لم يكَد يفهم ضرورتها، وعلى أية حال فقد أراد أن يذهب مرةً ثانية بعد أيام، ولا بُدَّ من ذلك حتى تُغلَق تلك الفجوة التي ظهَرَت بينهما بسبب الكذبة.
ظل يأمل أن يخفَّ أحد جارَيْه؛ إما الرجل ذو المعطف الجلدي، أو الشقراء ذات المعطف الواقي من المطر، إلى القيام بدَور صديق الطفلة. انتظر بضع ثوانٍ ثم قال تحت ضغط المجموع: «نعم؟» خطَت منه الطفلة مقتربة في انتصار وطلبَت منه أن يلعب. ودَّ لو يرفض لكنه لم يجرؤ، وسألها عما يمكن لعبه في هذا المكان. خفَّت الشقراء إلى نجدته قائلة للطفلة: «غني لنا شيئًا.» أجابت: «غني أنتِ» وهي تحُكُّ ظهرها في حافة المائدة بنزق.
أفقدَها هذا التصرُّف عطف الآخرين، لكنه كسب لها الضحك. وانتهز إرب الفرصة ليترك المسرح، وأخرج مفكِّرته وقلمًا، وتظاهَر بالتركيز. وقَّع اسمه ثلاث مرات واسم الآنسة برودر ثلاث مرات، اسمها الدائم (أي، اسمها الأول) ملحقًا باللقب إرب مما بدا غريبًا. ستكون هناك إذن امرأتان تحملان لقبه؛ السيدة إرب. وكتب: الزواج عند المرأة هو المذبح الذي تُضحِّي فوقه باسم أبيها.
ذلك الشيء موجود حقًّا. ولا بُدَّ من تسميته بشيءٍ ما لاستحالة تحديده بصورةٍ أكثر دقة، لم يكن هو خبث الوجوه، ولا حرجه، ولا طول الانتظار؛ إذ لم يغادر الغرفة خلال ساعةٍ قضاها بها سوى شخصَين، ولا الحديث المرتقب مع المحامي … لكن كل هذه العوامل معًا.
وليس الخوف؟
– الخوف ممَّ؟
– ربما من القرار النهائي.
لم ترَ الآنسة برودر الأمر هكذا. حدَسَت أن هناك كذبةً في الأمر (لأنه على عكس عادته هجَر الموضوع على الفور ولم يعُد إليه أبدًا)، لكنها ظنَّت السبب هو خشية الحرج. كان يحتاج بوضوحٍ إلى بعض الوقت. وسوف تعطيه؛ فمن الوقت كان لديها كفاية، بل أكثر من الكفاية.
٢١
لسوء الحظ أنه من الضروري أن نقدِّم في هذه المرحلة المتقدمة من تقريرنا، حيث تقترب الأمور بوضوح من النهاية السعيدة (؟) أشخاصًا وأماكنَ وأزمنةً جديدة (أو قديمة من وجهةِ نظرٍ أخرى)، نقدِّم: زمان أبيه وطفولته هو، فريدريك فيلهلم إرب وآلت – شرادوف. دافعُنا إلى هذا هو رحلتان قام بهما بطلُنا إلى موطنه الأصلي، أو على الأصح عودتان؛ واحدةٌ في يناير (في طقسٍ مماثل لذلك الموصوف في الفصل ١٢)، وأخرى في مارس (في طقسٍ مماثل لذلك الموصوف في فصل ١٣). كان السبب في الرحلة الأولى هو ضيق المساحة السكنية (كانت الآنسة برودر، مساعدة المكتبة. في حاجة إلى الانفراد بنفسها في نهاية الأسبوع لتُنجِز البحث المطلوب للامتحان)، والرحلة الأخرى كانت لحضور جَنَّاز. كان هدف كارل من الرحلتَين هو أبوه. وعلَّة هذا الفصل هي تسجيل ذكريات كارل.
كلا، ماضي آل إرب؛ فمن الأفضل أن نُلقي جانبًا بمشاهد الذاكرة؛ ففي الرحلة الأولى كانت المشاهد سوداء، وفي الثانية كانت وردية (لأن الذاكرة لا تقوم بعملية التجميل دائمًا إلا في الأوقات الحزينة، أما في الأوقات السعيدة فتحمل مَسْحة من اللون الأسود). ومثل هذه المشاهد لا تفيد في ملاحظة منحنيات التطور، أو بصورةٍ أكثر دقة، في محاولة ذلك؛ فرغم أن الحقائق قد تكون واضحة، إلا أن ما قد يكونُ لها من تأثير أمرٌ محل شك. لحسن حظ البشرية، ولسوء حظ المحتالين ومؤرِّخي السِّيَر الذين يسعدون لو أمكن ترجمة الزغب الأبيض بأنه نذيرٌ بمعطف الطبيب، ورؤية مركز الابن في مركز أبيه، وتحديد معتقدات الشخص عند لقائه.
لكن المرء يمكن أن يحاول دومًا، فدعونا إذن نكوِّن المشهد؛ قرية ألت – شرادوف، مقاطعة فرانكفورت أودر، تعداد السكان ٦١٦ جُلُّهم من المزارعين والفلاحين، ١ صائد سمك، ١ شرطي، ١ مدير نزل، ٤ من مستخدمي الحوانيت، ٦ مدرسين، ١ كنيسة، ١ مدرسة مركزية في القصر (شيدها أحد مساعدي شينكل) نُزُل (تعاونية) ١ قصاب (تعاوني)، مخزن تعاوني للطعام والملابس، مخبز (قطاع خاص) ١ محطة للخط الحديدي (مسافة كيلومترَين)، ١ مدرسة للتمريض (في المدرسة القديمة للقرية)، طريق من الدرجة الثانية بجسر على نهر شبريه (لا تتجاوز حمولته ٣٫٥ طن)، ١ تعاونية زراعية، ١ دار للعطلات تابعة لاتحاد النقابات (كانت تُسمى في السابق «نُزل التناسق الألماني»)، قرية من النوع الدائري (٢ كوخ يعلنان الآثار القديمة؛ أسلوب العمار لدى السلاف الغربيين) ونصب تذكاري مهدَّم. لقد شارك فريدريش فيلهلم إرب نفسه في شق الطريق ذي القضبان المعدنية (الذي يُدعى اليوم «شارع ١٣ أبريل») رغم أنه لم ينتقل إلى القرية إلا عام ١٩٢٤م (قبل عام من مولد كارل)، ولم يتركها منذ ذلك الحين لأكثر من اثنتَي عشرة ساعة.
هذا هو المشهد. لكن ماذا يعني بالنسبة لإرب؟ عندما كان يتحدث عن القربة كان يخلط الكآبة بالكراهية؛ فقد كانت علاقته بالقرية غير مؤكَّدة، موزعَّة ومتناقضة. إن الألفة تتمخَّض (وخاصة عند تأمل الماضي) عن شيءٍ مثل الحب، لكن هذا يصبح دائمًا قيدًا. كانت القرية لديه زكيبةً من الأشياء عديمة الجدوى حملَها معه عندما هرب؛ عقبة، شيئًا يصُب عليه لعناته، لكنه لا يملك القوة على إلقائه بعيدًا. كان هذا هو سبب تراجُعه إلى دائرة المدينة، كما كان سبب عاطفيَّته البالغة خلال سفره إلى القرية؛ فعندما يذكُر أحدٌ إقليمًا من الأقاليم، مارك براندنبورج أو بروسيا، يشعُر كما لو كان يشير إليه، وإذا ما سأله أحدٌ عن موطنه أجاب: منطقة برلين. كان أبوه يردِّد قولًا سائرًا: «إن ألمانيا هذه التي يتكلم عنها الجميع لا يزيد عمرها عن خمسة وسبعين عامًا، أما بروسيا فعمرها قرون.» لم يردِّد إرب أبدًا هذا القول، ولم يُقِرَّه، لكن كثيرًا ما فكَّر به. لكنه بعد الرحلة الأولى قال (للآنسة برودر): «عندما يتقدم المرء في السن يدرك أنه لن يهرب أبدًا من شبابه؛ فهو يلتصق به كصمغ الصنَوبَر.»
ومن رحلته الثانية جلَب تشبيهًا أقوى معه: الشباب علامةٌ يُولَد بها المرء وتكبر مع الأعوام. أما الآنسة برودر (وهي العصرية تمامًا) فرغم معرفتها بالتاريخ بالمعنى العريض وبالتفاصيل، فإنها لم تفهم شيئًا من هذا كله، من طبقات المشاعر والتجارب التي أحيانًا ما يغطي بعضها البعض، دون أن تصل دائمًا إلى السطح، بالنسبة لها كان الأمر سهلًا؛ لقد درسَت التاريخ لكنها لم تَعِشه. كان التاريخ جزءًا من معرفتها، وليس جزءًا من ذات نفسها، وكانت طفولتها مجرَّد بدايةٍ متواضعةٍ لما كانَتْه ولما ستصير إليه. لم تكن تُثيرها قضية السِّيَر الماضية، ولم تكن تعترض عندما يستخلصُ منها الناس نتائجَ أغلبها خاطئ، ومن الناحية الأخرى كان مسلك كارل محلًّا للجدل. وكان أبوه قمينًا بأن يُبديَ ردَّ فعلٍ مختلفًا. كان سيقول ببساطة: أنا بروسي.
لقد روَينا هذا كله كما لو كان حالةً خاصة لكن لا يكاد يختلف عن قصة آخرين في مكانه، أناس ظلوا بمعزل عن التطورات التكنيكية والحضارية والاجتماعية، لم يسمحوا لأي جديدٍ عدا الغسالات والمكاوي الكهربائية وأجهزة الراديو باختراق منازلهم، لا تلعب الآلية والطائرات ومحطات الطاقة الجديدة أي دَور في حياتهم، يغطسون أسفل الأمواج العاصفة للتاريخ العالمي، ويهزُّون أنفسهم مثل الكلاب المستحِمَّة عندما تتجاوزهم الأمواج، ويواصلون العيش في عوالمهم لأنهم يخلعون أخلاقيات العالم الخارجي مع أحذيتهم، ويرتدون الأخلاقيات المنزلية مع أخفافهم، وهي وحدها التي يعتبرونها أصيلة؛ لأنهم تابعوا نمُوها، لكنها تحوَّلَت مع نمُوهم إلى طبيعة (لا تتغير أو تفعل ببطءٍ شديد). لم يكن بوسعهم أن يفهموا، ولا أرادوا، أن ما يبدو لهم غير صادق وغير عادل سيصبح تقليدًا عند أبنائهم. كم يُوجد من هذا النوع حتى الآن! وكم هناك الكثير منهم! كان فريدريش فيلهلم إرب واحدًا منهم، لطيفًا، دمثًا عاجزًا مثل الكثيرين غيره، يتميَّز فقط بالأدب وبالدأب وسعة الاطلاع وبأن لديه اسمًا شاملًا لما يُسمِّيه الآخرون (دون تحديدٍ واضح) بالجد والاجتهاد، وروح النظام، والتقشُّف والتحمُّل، وروح الواجب، والأمانة، والاعتدال. وقد أثبت هذا الموقف (في شكله الأخلاقي) فائدتَه في ظروفٍ متنوعة للغاية. ولهذا لا يدهشنا أن يكون من الصعب تجاهُل النصيحة التي قدَّمها ذو التسعة والسبعين عامًا خلال رحلة يناير.
فبعد راحة منتصف النهار، تمشَّيا على شاطئ النهر حتى الجزء المخصَّص للاستحمام، ثم عادا عَبْر منتزه القلعة. شَرِبا القهوة معًا، وبعثا بالسيدة فيندتسل الصامتة إلى منزلها، وجلسا إلى النافذة التي كانت الرياح خارجها تتمايل بفروع شجرة الكُمَّثْرى.
قال العجوز من أعماق مقعده ذي المسندَين: «إن الأمر سيئ بما فيه الكفاية، لكنه ليس على هذه الدرجة من السوء التي تبدو لك الآن. أنا واثقٌ أنك تفكر الآن بأن أباك فقَد منذ عهدٍ بعيد ما يجعل الرجل رجلًا، وأنه من السهل عليه لهذا أن يكون حكيمًا، لكن هذا هو لب الحكمة؛ التمييز بين الجوهري وغير الجوهري. ما أنت بسبيل هُجرانه جوهري … أطفالك وعملك. الأسرة ليست دائمًا أمرًا سائغًا، لكن ما هو الشيء الذي يتسم بالضرورة ويتميز في ذات الوقت بأنه لطيفٌ ومقبول؟ إن أفدح المسئوليات القائمة هي مسئولية الأب وإذ إنها مطلقة، لا يمكنك أن تستقيل منها. أعرف أن هذا الكلام يبدو «مودة» قديمة، لكني لم أخضع أبدًا ﻟ «المودة»، وإنما للحق. ولو أنكَ في العشرين، ما فتحتُ فمي بكلمة؛ لأن تحذيراتي عندئذٍ ستُضايقك وتُفرق بيننا، ولا تكون لها فائدة. لكنك في الأربعين، والقول الذي يزعم بأن عمر المرء يتفق ومشاعره هو محضُ هُراء؛ فأنت في السن التي بلغتَها، ومن لا يريد الاعتراف بهذه الحقيقة يجعل نفسه موضع السخرية. إن كل إنسان في حاجة لأن يتمرد وينفصل مرةً في حياته، لكنَّ أحدًا لا يتمكن من ذلك مرتَين، وأنت آخرهم، ثم إن انفصالك الأول لم يكن تمرُّدًا بقَدْر ما كان تكيُّفًا؛ ذلك أن ثورتك على كل ما يُسمَّى بالحياة القديمة التي يمثِّلها أبوك لم تَحمِلك إلا إلى طريقٍ أكثر راحة حيث تلتقي الواجبات بالأهواء والنزعات. والاثنتان الآن منفصلتان، لكن بدلًا من أن تنتهز الفرصة أخيرًا لتُثبِت نفسَك وتكسب الاحترام الذاتي الذي سيعطيك إياه ذلك، جرَيتَ خلف أهوائك. أنت لا تُحب أن تسمع كلمة «الواجب»، وتتحدث عن السعادة بنفس الإصرار الذي أتحدث به أنا عن الواجب. لقد فكَّرتُ في مثل هذه الأمور أمدًا أطولَ منك، وأعتقد أنها شيءُ كالحرية، التي لا تحوزها إلا عندما تُنكِرها؛ ذلك أن الإنسان شخصيةٌ ذاتُ سيادة لا يعيش في الطبيعة وإنما في المجتمع، ولا بُدَّ للمجتمع من أن يحدَّ من سيادته الفردية من كافة الجوانب، فإذا ما استطاع أن يقوم بهذا العمل من أعمال العنف على نفسه، نمَت قوَّته بحدودها؛ إنه صاحب السيادة ذلك الذي يحدُّ من السيادة في نفسه. ونفس التناقُض ينطبق على السعادة؛ لا يحوزُها إلا من يُنكِرها.»
عارض السيد إرب الصغير هذه المقولات بالطبع؛ فلم تكن غريبةً عليه فقط، وإنما كان يحكمها إلى حدٍّ بعيد منطق الأسود والأبيض البروسي؛ كانت بها مَسْحةٌ باطنة من نكران الذات الزاهد وموقف «فقير – لكن أمين»، من الخضوع والنهي المُطلَق. ثم متى خضعَت القرارات الخاصة بأمور القلب للحكمة الفلسفية؟ وبالرغم من هذا لم يكن ما قيل عبثًا؛ فقد تبقى منه شيء، ولو على الأقل صورة الرجل ذي الوجه العريض الذي خرج بهيئةٍ لائقة ويدَين نظيفتَين من فترة فيضان المجاري محتميًا بدرع نظرته إلى العالم، والذي كان سعيدًا في موقف الرفض الذي اتخذه (بما في ذلك رفضه للنشاط)، صورة أبيه في المقعد ذي الظهر المرتفع، وهي صورة كان لها تأثيرها طوال أربعين عامًا، حتى في فترات الاحتجاج. نقول فترات، والواقع أنها فترتان، بدتا للأب، بسبب التشابه السيكولوجي بينهما، فترةً واحدة. فترة إرب في الشبيبة الهتلرية وفي منظمة الشباب الشيوعي، وهما الفترتان اللتان (في رأي أبيه) تعاونتا على تزويد الشاب بدافع الفِرار من أبيه. كان انفصاله عن أعلى أقاليم الحب الأبوي (الجليدية) قد بدأ بوفاة أمه، وكان انفصالًا من البرود الأبوي إلى حرارة الحماس، من الواجب المفروض إلى الواجب المختار بحرية، من المحاضرات الدائمة عن المسئولية إلى لامسئولية الجماعة. هكذا رأى أبوه الأمر من مقعده، مستندًا إلى خبرته الخاصة، والآن إذ عاد إرب الشاب في هذا الأحد من يناير تبيَّن له أنه قد جلس بدَوره في المقعد ذي المسندَين أمام النافذة، النافذة التي فصلَت الداخل عن الخارج، وأنه سيواصل الجلوس في هذا المقعد دون الآنسة برودر، التي عَهِد إليها في ذلك المساء بالمسئولية؛ عندما يلتصق شيء كصمغ الشجر، فإن هذا يعني ضرورة كشطه. مهما سبَّب ذلك من ألم.
ثم إنها هي التي ستتحمَّل الألم. في يناير كان ما زال يقول: فيك يلتقي عالماي (الداخلي والخارجي). لكنه في مارس فصلَهما بنفسه الواحد عن الآخر؛ فقد وصلَت برقية من ألت – شرادوف: تعالَ فورًا، بابا مريض جدًّا. فريدا فينتسل الشهيرة باسم شفيرتفيش. واستَعَد للرحلة دون أن يفكِّر في إمكانية مرافقتها له. وعندما سألَتْه عن هذا وقالت إنها لا بُدَّ وأن تشاركه كل شيء، بما في ذلك الأحزان، انزعج كما لو أنها قد طلبَت الكثير. وتركَها تنعَى وجود مناطقَ مغلقة في وجهها.
وجد المقعد ذا المَسندَين فارغًا. وفروع شجرة الكمثرى مغطاة بالجليد. وكان الطبيب قد انصرف في منتصف النهار ليعود في الصباح التالي؛ فلم يكن لديه أمل في نجاة القلب الضعيف من الالتهاب الرئوي. رقد المُحْتَضَر في مخدَع النوم. وفي قاعة الدرس السابقة الملاصقة كانت مدرِّسة الحضانة تغنِّي بصوتٍ ثاقب عن طائر الوقواق الذي حط على الغصن سيمسالا بيمبام. كان الأطفال يغنُّون أيضًا بالتأكيد، لكن لم يكن بالوسع سماعهم. رقَد العجوز في صورةٍ مستقيمة، ساكنًا، على ظهره. وجعلَته وجنتاه الغائرتان يبدو ضيق الوجه غريبه. تنفَّس في سطحية وسرعة. «أرسل السيدة فينتسل إلى منزلها؛ فلم تنَم طوال ليلتَين.» – «لماذا لا تذهب إلى مستشفى؟» – «أريد أن أموت حيث عشت.» – «لا تكن أحمق، لا أحد يموت من الرئة هذه الأيام.» رفع العجوز يدَه ثم تركها تسقط ثانيةً كأنما يقول: لا تُحاوِل رفع روحي المعنوية، ثم تكلَّم عن بوليصة التأمين على الحياة؛ كانت في دُرج مكتبه الأيمن. نظر كارل إلى اليد العظمية وتساءل عما إذا كان يجب أن يتناولها أو على الأقل يربِّت عليها، لم يعهَدا قط مظاهر الحنان فيما بينهما، وستبدو هذه اللمسة الآن تقبلًا للموت. وعندما أغلق المريض عينَيه ثانية، غادر الغرفة وبعث بالسيدة فينتسل الباكية إلى منزلها، وجلس إلى النافذة وشرب القهوة، وكرِه نفسه؛ لأنه تمنى أن ينتهي كل شيء في اليوم التالي، حتى يستطيع العودة إلى العمل يوم الإثنين.
حاول أن يكون آسفًا، لكنه عندما نجح في ذلك لم يكن الأسف من أجل أبيه وإنما من أجل نفسه، الأسف لنفسه على أنه التقى بالموت هكذا بصورةٍ مباشرة وعاجزة. فكَّر أن أباه يموت بطريقةٍ قديمة كما عاش؛ فلم يعُد أحدٌ اليوم يثقل على أقاربه هكذا. إن المرء يُولد ويموت في المستشفى في ظل المطهِّرات، بعيدًا عن الطريق، دون أن يزعجه أحد أو يزعج أحدًا. من يستطيع اليوم تحمُّل صرخات امرأة تلد أو قعقعة الموت؟ إنهم من تدرَّبوا على ذلك فقط، الذي هو عملهم، ويتقاضَون أجرًا عليه. إن المرء يعيش كأن الموت لا وجود له، ويبتعد عنه مخادعًا نفسه. جبن؟ كلما بلغَت وسائل القتل مستوًى أعلى من الكمال، ازداد الإصرار على قمع فكرة الموت. وفكَّر: هل يتغير شيء بموت أبي؟ وأجاب على السؤال بنفسه: كلا. رغم أنه كان يعرف أن هذا غير حقيقي؛ فعندما ينتهي فعل الموت ستكتسب صورة الرجل في المقعد ذي المسندَين نفوذًا أكبر من ذي قبل عليه. ستصبح أقوى من كل ما علمه أو خبره حتى الآن، وفيما بعدُ سيأخذ مكانه في المقعد ذي المسندَين، وبعد عشرين أو ثلاثين سنةً سيرقد هو الآخر كما رقد أبوه. ومن الذي سيجلس عندئذٍ إلى جوار فراشه زاعمًا أنَّ أحدًا لا يموت بذات الرئة؟
لم يعُد يحتمل الوحدة، فنهض فجأة، وأصغى مرةً أخرى لتنفُّس المريض المسرع، ثم هُرِع من المنزل إلى الطريق مارًّا بالكنيسة حتى المنزل حيث سأل عن التليفون، وطلب الاتصال ببرلين. كان التليفون مجاورًا للنافذة، ومنها كان بإمكانه تأمُّل الشبريه. بدا الماء بين الشاطئَين الجليديَّين داكنَ الرمادية، أقربَ إلى السواد، وقد جعله الثلج المتراكم قرب الشاطئَين يبدو أشبه بجدول. وكان في شبابه أوسعَ من نهر المسيسبي. وفي طريق العودة زار منزل القس. ثم جلس إلى النافذة يرقُب هبوط الليل، حتى جاءت السيدة فينتسل لتُعِد العشاء. كانت الدموع تنهال فوق وجنتَيها المتورِّمتَين. ولأول مرة تسأل كارل عما إذا كانت حقًّا طوال السنوات الخمس والعشرين الماضية مجرَّد مدبِّرة منزل لأبيه. وصل القس وبقي عشر دقائق مع المريض، ثم جلس ليحتسي كوبًا من الشاي. كان شابًّا واشتكى من عقابٍ حل به ينفيه إلى هذه البقعة النائية. في الثامنة قاد كارل سيارته إلى فورستنفالده. غادر الكثيرون قطار الضواحي لكنه لمحَها على الفور. تصافَحا ومضَيا إلى السيارة. «هل طلب حقًّا أن يراني؟» – «كلا.» – «أتريد أن تكذب عليه؟» – «أريد أن أُرضِيَه.»
مضت مباشرةً إلى غرفته وأخذَت يده العظمية ورفعَتها إلى خدها. فتح عينَيه وابتسم وسأل عن الأطفال. ذكرَت له إليزابيث بعض التفاصيل وهي تتحسَّس جبهته ولم تتخلَّ عن يده حتى نام مرةً أخرى. عندئذٍ فقط نزعَت لفاعة رأسها، وخلعَت معطفها، وأرسلَت السيدة فينتسل إلى منزلها، ثم غسلَت الأطباق. رقد كارل متكومًا على الأريكة القصيرة فقد صار بوسعه أن ينام الآن، وجلسَت إليزابيث إلى فِراش المريض. وبعد الحادية عشرة جعلَت تربِّت على يده. وفي الثانية عشرة إلا عشر دقائق رأت أنه ازداد تنفُّس العجوز سرعةً وسطحية. ونظر إليها مرتَين لكنه لم يقل شيئًا. لم يعُد يتنفس، فأيقظَت كارل: «بابا مات.» كان وجه العجوز صغيرًا كوجوه الأطفال. وذهب كارل إلى بتشين وأحضر الطبيب الذي ظل معهم نحو ساعة، حدَّث إليزابيث خلالها عن غرائب الأب وأمراض الابن في الطفولة. ثم نامت إليزابيث فوق الأريكة. وجلس كارل في المقعد ذي المسندَين يرقُب بزوغ الفجر. وفي العاشرة وصل أهل القرية. نادَوْه باسمه الأول، لكنه لم يتذكَّر إلا أسماء القليلين منهم. وبعد الظهر أقلَّ إليزابيث إلى المحطة. «هل بوسع الأطفال تدبير أمورهم وحدهم؟» – «لا بُدَّ وأن يفعلوا، وفي أوقاتٍ أخرى أيضًا.» – «هل الأمور على ما يُرام مع رئيسك؟» – «بالطبع.» – «هل يعرف الأطفال الحقيقة؟» – «كلا، ليس بعدُ.» – «هل يسألان عليَّ كثيرًا؟» – «ليس كثيرًا. متى تنوي أخذ حاجياتك؟ أريد أن أعطي بيتر الغرفة وأحب أن أحتفظ ببعض الكتب.» – «بوسعك أن تأخذيها كلها في الوقت الحالي.» – «لكني أحب أن أعرف ما سيخُصني.» – «أهناك داعٍ للعجلة؟» – «أفضِّل ذلك. وماذا عن الطلاق؟» – «إنه أكثر صعوبةً مما ظننت.» – «ماذا؟» – «إليزابيث، أود أن أشكرك. لستُ أعرف ما كنتُ فاعلًا بدونك.» – «ما هو الأكثر صعوبةً مما توقَّعت؟» – «كل شيء.» – «وماذا يعني هذا؟» – «نفسي.» – «هذا شأنك. وداعًا». أراد أن يقول شيئًا آخر، أن يحدِّثها عن مشاعره ويشرح لها صعوبة موقفه، لكنه لم يجرؤ على التفوه بكلمةٍ أخرى. كيف حدث هذا؟ لم يحدث أبدًا أن وجد صعوبةً في الحديث معها. «وداعًا.» صَعِدَت إلى القطار بالحركات التي ألِفَها سنوات. وانتظر حتى تحرَّك القطار لكنها لم تنظر من النافذة.
فكَّر فقط في برقيته إلى الآنسة برودر يوم الإثنين. تفقَّد الكتب والرسائل والصور والأوراق، وحرق الكثير منها، وحزم الباقي، وأرسل بالطرود إلى إليزابيث. أما الأثاث فقد أعطاه للسيدة فينتسل بما في ذلك المقعد ذو المسندَين. وفي يوم الأربعاء بعد الجَنَّاز والغَداء جلس في المقعد لآخر مرة وتطلَّع من النافذة. كان ذوبان الجليد قد بدأ. ومن جديد كانت مدرِّسة الحضانة في الغرفة الملاصقة تغني سيمسالا بيمبام. وتساقطَت المياه من السقف على حافة النافذة. شعَر بالنضج البالغ، وبقدرته على الحياة بمفرده. وفكَّر أن المرء يظل طفلًا حتى يموت والداه. كانت المكتبة والجناح ب الآن قصيَّين للغاية. وكان خائفًا ممَّا ينتظره، وتمنَّى لو استطاع البقاء في ألت – شرادوف. (سرعان ما سيبزُغ زهر الصفصاف أصفر اللون، وينشر النحل طنينه المنتظم على النهر). وقد تلاشى هذا الشعور عندما صار في سيارته.
وحل محلَّه شعورٌ آخر بالارتياح؛ فبذهاب سلطة أبيه المهددة صار بوسعه أن يكون أكثر تماسكًا واتساقًا.
٢٢
«في أعقاب الجليد يأتي فصل الربيع،
وسرعان ما تبدأ انفجارات المواسير.»
هذا هو أحد الأبيات التي نظمَها منذ بضع سنواتٍ خلت «سباك» ذو ميولٍ شاعرية. وكان لها تأثيرٌ غير هيِّن على الفتاة الصغيرة المدعوَّة بالعصفورة، التي شعَرَت أن إيقاع الأبيات يبيِّن خضوع الأعطال المتكرِّرة في المواسير والمراحيض لشيء كالقانون. ومن شأن المعرفة بأن هناك نظامًا ما أو قاعدةً ما أن تجلب الطمأنينة؛ فمنذ حفظَت هذا البيت، صار بإمكانها أن تتحمَّل بنفس الاطِّراد ألاعيب شبكة المياه القديمة؛ ففي الصباح الذي يبصق فيه الصنبور هواءً مصحوبًا بصوت غرغرة، بدلًا من المياه، في الحوض البني الأسود الذي كان أبيضَ ذات يوم، تلتقط على الفور، ودون كلمة أو انفعال، جردلًا من البلاستيك ومفاتيح السندرة، وتصعد إلى السيدة فولف، التي تتلقَّى مياهها من ماسورةٍ رئيسيةٍ أخرى، فإذا استقبلها هناك صوت الغرغرة، كان معنى ذلك أن المنزل كله جاف. وفي هذه الحالة يتعيَّن عليها أن تذهب في الجو المتجمِّد إلى منزلٍ مجاور، وإذا كان الجو أقلَّ برودةً ذهبَت إلى مضخة المقبرة أو مضخة شارع كراوزنيك. لكن هذا كان نادر الحدوث، كل بضع سنواتٍ فقط، أما القاعدة العامة فكانت وقوع العطل في جناحٍ واحد فقط. وفي هذه الحالة يقتصد المرء في نظافته ويشرب من البيرة أكثر ممَّا يشرب من الشاي، بينما ينتظر السباك الذي سيجلب الخلاص، ويُحاوِل تعديل نظامه الهضمي، بحيث تتساقط نتائجه الخارجية في مواعيد العمل؛ ذلك أن استخدام المرحاض الجماعي في الطابق الأرضي لم يكن يتطلَّب نصف جردل من المياه الثمينة وحَسْب، وإنما أيضًا أعصابًا أنفية متينة.
لكن نظام الصرف القديم كان يقدِّم ما هو أسوأ؛ فقد كان من شأن انسداد ماسورة الصرف في القبو، الذي يعني فرض الحظر على استخدام كلٍّ من الحوض والمرحاض، أن يتجاهله المهملون والأشرار، مما يؤدي إلى فيضاناتٍ لن نصِفَها هنا مثلما نعزف عن وصف اللعنات التي تتدفَّق على الطوابق العليا من الطوابق السفلي في مثل تلك الأيام. لكن عطل الربيع الدوري كان قد انتهى في اليوم الذي نَصِف أحداثه الآن، ولم نذكر نتائج العُطل إلا لكي يفهم من يعيشون في مساكنَ جديدة وفي فيلَّات الضواحي في الريف، المتعة التي زارت بها الآنسة برودر هذا المساء ذلك المكان المظلم بالطابق الثاني الذي عادت المياه تجري به؛ ولهذا السبب، لم تسمع خطوات كارل الخفيفة على الدرَج، وبذلك أبقَته في انتظارها أمام السكن (الذي لم يحصُل بعدُ على مفتاحه). وبعد دقائق وجدَتْه واقفًا هناك، منحرف المزاج، دون أن تفهم السبب.
كانت قد اكتشفَت منذ بدآ يعيشان سويةً أن نقطة ضعفه العظمى هي تمتُّعه بالكثير من نقاط الضعف الصغيرة، وكان موطن ضعفها العظيم هو عجزها الدائم عن تحديد موطن ضعفه الراهن؛ فعندما يكون منحرف المزاج يستحيل الحديث عن السبب؛ ولهذا تخلت في شيءٍ من الصعوبة عن صراحتها وطريقتها المباشرة في الحديث. لم تعُد تسأل: ماذا هنالك؟ ماذا حدث؟ ماذا أغضبك؟ ما هو خطئي؟ وبدلًا من ذلك كانت تُحاوِل تجنُّب المواجهة، رغم الشعور المزعج الذي يتملَّكها (عن حق) بأنها تستسلم لقوة عصبيته، وتسمح لنفسها بأن تتحوَّل إلى حالٍ من التبعية الغريبة على طبيعتها. ومع ذلك، حاولَت هذه الطريقة مرارًا وتكرارًا، ضد تقديرها السليم ودون نجاحٍ كبير، حتى قالت ذات مرة في غضب إن الوسيلة الوحيدة للمحافظة على مزاجه رائقًا، هي أن تختفي من أمامه.
وهكذا وقف كارل أمام الباب المغلَق وكان غاضبًا بالطبع؛ لأن المساء كان زاخرًا بالأحداث، بل وحاسمًا، وكان يتوقَّع أن يجدها تنتظره في لهفة.
لكنها كانت على العكس جالسةً في المرحاض! هذا هو بالضبط الشكل المضحك الذي اتخذَته أفكاره، لم تعانقه. بل لم تتناول يده، ولم تُغرِقه بسيلٍ من الأسئلة، إنما جعلَت تُثرثِر ببساطة عن المواسير التي تم إصلاحها مئات المرات، وعن السبَّاك النكدي.
أرادت أولًا أن تغسل يدَيها، وبصعوبة نجحَت في كبح جماح أسئلتها؛ لأنها كانت تعرف أنه لا يُحب هذه الأسئلة، ويصفُها بأنها غيرُ مبدئية ومُحِطَّة إذا ما أثارت الارتباك في هيكل بنائه المُشاد في عناية. وما أثار غضبه هو بالدقة ما فعلَته كي تتجنَّب الشجار معه. لم تفهم وما كان بوسعها أن تفهم ذلك، ولو فهمَته ما اختلف الأمر؛ لأنه كان سيجد حينئذٍ أسبابًا أخرى لمزاجه المنحرف؛ فالأسباب يمكن إيجادها دائمًا. أما معرفة الأسباب أو إزالتها فكان فوق إمكانياتها. كانت هذه الأسباب مرتبطةً بمناقشةٍ عن مستقبل كلَيهما في المكتبة، وللأسف لا بُدَّ من حذف تفاصيل هذه المناقشة هنا؛ لأن المستوى الأعلى الذي جرت عنده هذه المناقشات كان أعلى من إمكانيات الكاتب؛ فالأسرار تم كتمانها جيدًا، والذين تعهَّدوا بالصمت بالَغوا في التزامهم به. ونتيجةً لهذا فإن ما هو عامٌّ يظل هنا شديد الخصوصية، بينما تصبح الأمور الخاصة مشاعة. حتى إرب، الشخص المعني، كان مستعدًّا للحديث عن القرارات وليس عن الطريقة التي اتُّخذَت بها (ونتيجةً لهذا لا بُدَّ من إحالة القرار إلى الأوصاف الكثيرة لهذه العملية في الروايات).
ومن الطبيعي أنه يمكن اختراع التفاصيل؛ الحجرة المشحونة دخانًا، الجو المتوتر، الوجوه الشاحبة أو المضطربة انفعالًا، من يدخِّن بصورةٍ متصلة، ومن يأكل تفاحة، والشباب الجريء الذي يتقدم بالقول الصواب في النهاية، والعجوز الذي يتحدث عن ماضيه بدلًا من أن يتحدث في الموضوع المُثار، وتاجر الاقتباسات والاستشهادات، والمُدافع عن حقوق المرأة، والشخص الخجول الذي كان يتلوَّى من الأسى، والداعر الذي يريد كل التفاصيل، وربما نضيف شخصًا ضعيف السمع. ثم نأتي على ذكر التكتُّلات المختلفة؛ المتعصِّبين الذين يعتبرون الواجبات الزوجية شكلًا من أشكال الواجبات المدنية، ويودون لو يجعلون طلاق الأعضاء القياديِّين في الحزب في صعوبة الطلاق عند أهالي صقلية، والمتحرِّرين الذين يشجِّعون التفاعل المتبادل للمجتمع الاشتراكي في الفِراش كما في أي مكانٍ آخر، والمتردِّدين الذين يُبقون على كل الممرات مفتوحةً بلو، ولكن كي ينضَموا في النهاية إلى الفريق الأقوى.
كما يمكن اختراع التصريحات التي أدلى بها المشتركون في المناقشة؛ «الحقيقة أن هناك طريقًا واحدًا أمامنا نحن الشيوعيين: يجب أن يعود إلى أسرته.» – «والآن دعونا نتحدث بأمانة عن الأمر: إننا، نحن النساء، هنَّ اللاتي يتعرَّضن للخداع دائمًا. وعندما يُقال إنه ليس بيننا ملائكة، أكتفي بأن أقول إن هذا يُبرِز قرحة لا بُدَّ من فتحها.» – «وما الذي يتعرَّض للخطر؟ السياسة بالطبع، وفي حالتنا هذه السياسة التي تشنُّها الكتب، وبعبارةٍ أخرى الفعالية الأفضل لعمل المكتبة، التي لا يمكن ضمانُها إلا بالاحتفاظ بمديرها المُجرِّب والثقة في وظيفته.» – «إنني أرى أن كافة الحُجج المثارة سليمة، وأنا أتمسك بالرأي الهرطقي الذي يزعم أن السؤال الحاسم هو: أي قرار سنتخذ؟ هذا هو السؤال الحاسم. أليس الأمر كذلك؟» وهلُم جرًّا. لكن ما الفائدة؟ ربما أعطى هذا شيئًا من التلوين الأدبي، ومن المحتمل أن يثير ابتسامة، لكنه لن يقرِّبنا أكثر من الواقع الذي يُعالِج فيه أشخاصٌ جادُّون للغاية، بموضوعية وفطنة قَدْر الإمكان، تسويةَ نزاعٍ تختلط فيه كلٌّ من المصالح الخاصة والعامة بصورةٍ غريبة، وهي حقيقةٌ تجلَّت (رغم كافة السمات الغريبة التي أحاطت بطريقة قولها) في الكلمات التي بلغتنا معرفة وثيقة بها: في (أولًا) كلمة ريبلوس الطويلة، التي تكفي فِقرة منها وفي (ثانيًا) بيان كارل القصير المترفِّع و(ثالثًا) في مساهمة هاسلر بالمناقشة التي كان لها دورٌ حاسم في (رابعًا) القرار.
ثانيًا، إعلان ارب: «أجل هذا حقيقي. إنني أعيش مع الآنسة برودر، وسوف أحصُل على الطلاق. أما أننا نحن الاثنَين يجب ألا نواصل العمل في مكتبةٍ واحدة فهذا ما أقبله، لكني لا أستطيع الموافقة على استبدال الآنسة برودر بالسيد كراتش. إن هذا سيكون سهلًا، لكنه خاطئ. لقد وعدناها بهذه الوظيفة ويجب أن نفي بوعدنا، وإذا كانت هناك مسئوليةٌ ما فإنها لا يمكن أن تمَسَّ أحدًا غيري؛ ولهذا السبب سأذهب أنا. هذا هو كل ما أريد قوله.»
ويبدو أن كلمة هاسلر كانت مُقنِعة؛ فهذا ما يتضح من رابعًا، القرار: «في نفس الوقت الذي تُضَم فيه الآنسة برودر إلى هيئة العاملين بالمكتبة، يُعاد شغل منصب المدير. وسيُقدَّم العون إلى الرفيق إرب في العثور على منصبٍ آخرَ ملائم.»
وهكذا حقَّق كارل نصرًا مزدوجًا، على نفسه وعلى رفاقه، لكن هذا بالطبع لم يكن مدعاةً للرقص من الفرح.
وإذا شئنا الدقة، فإنه صُدم؛ فرغم أن نُبل مشاعره كان أكثر من مجرَّد تظاهر، كان الأمل يُراوِده خفيةً في أن تُرفض تضحيتُه.
كان حزينًا لاضطراره إلى التخلي عن المكتبة التي عمل بها طيلة سنواتٍ عديدة.
وهناك بالطبع الراتب؛ فما حدث كان في واقع الأمر عقوبةً أسميناها كذلك أم لم نفعل. وهذا ما لن يدركه أولئك الذين ظلوا طيلة حياتهم من فئة الرواتب البسيطة، مثل الآنسة برودر، التي لم ترتقِ أبدًا إلى مستوى امتلاكِ دفترِ توفير، والتي تختلط أساسًا بمن يبدو في عيونهم ما قد يحصُل عليه من بيع سيارته المستعملة رقمًا فلكيًّا. وقد كان سلوكُها هذا المساء مطابقًا لهذا كله؛ أي فطنًا؛ فقد بدأت تقوم بعمليات الجمع. راتبها الصغير المزمع + راتبه الصغير الصغير المزمع سيكونان سويًّا أكثر من راتبه الحالي + منحتها الدراسية الحالية. إذن ما هو المُفزِع في الأمر؟ بعد فترةٍ من الصمت مفعَمةٍ بالمشاعر أوضح لها أن راتبها الصغير المزمع + راتبه الكبير المستديم، هما أكبر من ذلك بكثير، لكن المأساة الأساسية في ردِّ فعلها. لم تفهم، وقالت له ذلك؛ لأنهما خلال أيام لم يكن لهما من حديث إلا هذا الاجتماع، تدبَّرا خلاله كل كلمةٍ سيقولها، وكانت لديها خططٌ مختلفة تمامًا، لكنها أخيرًا اضطُرت للموافقة على خططه هو، رغم أنها حاولَت إقناعه بأنه لا يضحِّي من أجلها، وأكَّدَت له مِرارًا وتَكرارًا أن الشيء الوحيد الهام هو أن تبقى معه، سواء في برلين أو أي مكانٍ آخر (والأفضل مكانٌ آخر) وأعرب هو عن خوفه من شيءٍ واحد، ألا يُقبل اقتراحُه، وها هو الآن قد قُبل، فما بالُه؟ لا شيء، كل شيء على ما يُرام، فيما عدا رد فعلها المحبط، فقد وصل يرتعش من الانفعال بعد المعركة الكبرى، وإذا بها تتحدث عن المواسير والسبَّاك. لكنها تعرف أنه لا يُحب أن تُوجِّه إليه أسئلة وهي قد أثنت على شجاعته، فماذا بوسعها أن تفعل غير ذلك؟ يجب أن تُبيِّن له أن الأمر يعنيها أيضًا، تفعل شيئًا، تُبدي ذلك بصورةٍ ما، وليس «هذه اللامبالاة»، هذا البرود. لكنه ليس برودًا، وإنما تحفُّظ جَهدَت في افتعاله لأنه يبغيه دائمًا. لكن ليس في موقفٍ كهذا؛ فها هو العمل الذي قضى فيه حياته ينهار مرةً واحدة وصار يُواجه فراغًا. إذن فهي فجأةً لا تمثِّل شيئًا بالنسبة له؟ هُراء! كيف تفهم إذن كلماته؟ بالطبع ليس بوسعها أن تفهَمه، ربما لأنه وحده الذي أُصيب بضربة القدَر وهي للغرابة تُبدي تفهُّمًا أكثر للآخرين، مثل ذلك الكاتب الأبله أبراهارد باومجيرتنر. «كارل، أرجوك، كفى قبل أن تدمِّر كل شيء.» – «يا للجحيم! هديل هذا الحمام الغبي سيُصيبني بالجنون، وهذه الجدران التي في بياض الطباشير، وضيق المكان.»
لكن المتوازيات التاريخية جميعًا خاطئة، وخاصة التراجيدي منها. لقد ضاعف هيلوازه وأبلارد، إيزولده وترستان، جولييت وروميو، بتأثير المعارضة، من عواطفهم بسهولة، وبلَغوا بها مستوى العظمة، بينما كانت هناك بسالةٌ ضئيلة في الطلاق، والمناقشات وصعوبات الإسكان وتغيير العمل (رغم فهم المرء للضرورة)، يا له من تافهٍ هذا الانهيار البطيء، هذه النغمات الناقصة، والصدمات غير المُدرَكة حسيًّا التي لا بُدَّ وأن تنمو أحيانًا إلى صدعٍ عريض! من المحتمل أن يكون الكفاح ضد هذا كله أكثرَ صعوبة، لكنه يجب أن يكون ممكنًا أيضًا. لكن الآنسة برودر، هذه السيدة الشابَّة الرابطة الجأش، كانت خائفة، خائفة جدًّا، وهو خوفٌ ضاعَف منه أنه لم يعُد من الممكن أن يكون موضوعًا لحديثهما.
أقنع إرب نفسه بأنه ضحى من أجلها، وطالب بالشكر، ورفض ببساطة أن يعترف بأنها كانت دائمًا تُعارِض هذه التضحية لا من أجله، وإنما خوفًا على ديمومة حبهما، الذي رأته مهدَّدًا بعدم تكافؤ الأعباء. لم يكن من المعدن الذي يُصنع منه الأبطال والشهداء، وهو ما جعلها تعشقه أكثر (فمن المؤكد أن عددَ النساء اللاتي يرغبن في أن يكون إلى جانبهن بطلٌ أكثرُ في الكتب منه في الحياة الحقيقية) رغم أنه يمثل تحديًا في الوقت نفسه؛ فلا بُدَّ من حمايته من المبالغة في تقدير نفسه، وهو ما دعاها إلى أن تقترح الانتقال سويًّا إلى الريف. لكن هذا من شأنه أن يثير دورةً جديدة من الجدل: إلى الريف؟ أجل، لن يعارض ذلك أحد. إذن فهي تودُّ أن تُضحِّي بنفسها؟ كلا. أجل. كلا. أجل. بالتأكيد لا!
وهي في الحقيقة لن تكون تضحية ولم تكن كذلك منذ زمنٍ طويل. كانت تفكِّر فقط في حبهما مدركةً أنه لن يتحمل الجناح ب طويلًا، وأن فرصتها الوحيدة هي أن تبدأ من جديد في مكانٍ آخر، في بيئةٍ جديدة، بين ناسٍ جُدُد، وفي ظل ظروفٍ واحدة بالنسبة لكلَيهما. ألم تَحِنَّ أبدًا، حقيقة، للربيع في الريف؟ هل آمنَت حقيقةً ذات مرة بأنها ستَذْوي إذا ما غادرَت برلين؟ ماذا تمثِّل برلين لها الآن؟ بل ماذا تمثِّل له؟ قد تكون الحُجة الهادئة لسلوكه أنه يستطيع البقاء في برلين عند نقله، أما هي فلا. إذن ما الذي يجعله متمسكًا بالبقاء هنا؟ من الواضح أن المكتبة ليست هي السبب ولا الجناح ب، فماذا إذن؟
وبعبارةٍ أخرى: بدلًا من الإعجاب بشجاعته وانتصاره على ذاته، ارتابت به. وحدث هذا في اللحظة التي أبرَز فيها قوَّته؛ فقد أبرز العظمة، التي ترى عصرنا خِلوًا منها.
لقد فجَّرَت فيه المعارضةُ البسيطة من جانب المجتمع القوةَ لإبداء إيماءةٍ باسلة. لكن هل سيستمر الأمر دون تلك المعارضة، في حياة كل يوم؟ كان خوفها هو الخوف من الشك. وما كانت تستطيع احتمال هذا الشك ما لم تكن قادرةً على تحويله إلى نشاط. وبينما كان هو يُحاوِل تجنُّب كل قرارٍ كانت تندفع نحوه. كانت تعرف أن السعي وراء السعادة مرتبط دائمًا بالمخاطرة، ولم تكن تخشى هذه المخاطرة؛ لأنها أرادت شيئًا غير عادي حتى ولو لم يكن مرتبطًا بالبطولة، ومرتبطًا فقط بالحياة اليومية.
إذا كان حقًّا أن العظمة تنشأ من المعارضة فإن مجتمعنا لن يكون تربةً صالحة لقصص الغرام العظيمة.
ربما. لكن هذا ينطبق على المجتمع.
وليس في صالح كارل.
كما هو واضح.
٢٣
لم يبتسم كارل عندما استيقظ، رغم أنه تذكَّر في هذه اللحظة أنها بدايةُ نهايةِ أسبوعٍ حرة وحيدة. كان يتوق إليها دائمًا كما يتوق الطفل إلى الكريسماس. والآن وقد جاءت، فإنها امتدَّت أمامه مثل عُطلةٍ مطيرة في غرفةٍ باردة بأحد الفنادق … فارغة، مقفرة، لا نهائية. الكل يعرفون هذا الشعور؛ في البداية أملٌ عظيم في أيام من التبطُّل، بساعاتٍ خاصةٍ بك وحدك، ثم يأتي ضياع الوهم العظيم، فلا تستطيع البقاء دون عمل؛ إذ لا بُدَّ منه كي تكون نفسك تمامًا، وعندئذٍ تستبدل راحة يوم السبت بنشاط يوم الأحد. استاد كرة القدم، المرقص، الرحلات، أكواخ العُطلات. الهوايات. وهو اكتشافٌ يتوصل إليه المرء لا مرةً واحدة، وإنما مئات المرات. تبدَّى هذا بوضوح في حالة كارل؛ فخلال الأيام التي قضتها حبيبته في أداء امتحاناتها بمدينة لايبزيج، أمَل أن يرتقي جبلًا من النقاهة، وبدلًا من ذلك نراه في دقيقته الحرة الأولى قد سقط في أعماق الكآبة.
ولم يساعده الصنبور الشاغر في التغلُّب على الأمر، ولا الفِراش الذي يمكن ترتيبه فورًا، ولا القهوة المصفَّاة والتدخين الهادئ لسيجارة الصباح، ولا ضجَّة الأطفال المنطلقين إلى المدرسة في سعادة (وضجَّة أيضًا) أكثر من المعتاد. على العكس، كان هؤلاء الأطفال المجهولون بالضبط هم الذين دفَعوه إلى أن يُقرِّر زيارة أطفاله هو.
كان هذا مجرَّد عذر، كما أدرك بسهولة؛ فلم يكن يفكِّر فيهم خلال الرحلة، وإنما أجلس الآنسة برودر إلى جواره، ومضى يحدِّثها عن المعالم الخاصة في الطريق الجبلي (الذي قُطع الآن فجأة) لحياته العملية القصيرة؛ مدرسة الكُتبِيِّين السابقة (وهي هامةٌ أيضًا لأنها المكان الذي وجَّه فيه أولى نظرات الإعجاب إلى إليزابيث)، محطة يانوفيتز بريكه شتراسه (حيث وضع قدمَيه لأول مرةٍ على تربة برلين)، فروخت شتراسه (التي ساعد بالجاروف في إزالة ما كان بها من أنقاض)، أو برباومبريكه (نقطة البداية لرحلات النشاط الحزبي الدعائي إلى برلين الغربية)، روميلسبورج (حجرته المفروشة الأولى، ويا له من أثاث!)، أوبرشونفايده (البحث عن أَسِرَّة لضيوف مهرجان الشباب)، منتزه الروَّاد (فيضان الدموع عند وفاة ستالين). كيوبنيك (المخيمات) فريدريشهافن (أول وظيفة في مكتبة). وفي الطريق المفتوح حملَته الشاحنة من جديد إلى الريف وإلى جواره إليزابيث في الرداء القادم من برلين الغربية، وبدأَت من جديدٍ جولات الدراجات برفقة إليزابيث؛ إليزابيث، إليزابيث. الآن ليست شيئًا محرمًا، كانت جزءًا من حياته، جزءًا كبيرًا، مثل الطفلَين اللذَين وُلدا كلاهما في نفس المستشفى بكيوبنيك. وكان بيتر قد بلغ ساعتَين من عمره عندما وصل المستشفى برفقة مانتك، الذي ظنوه الأب خطأً، فلم يأخذ أحدٌ كارل على محمل الجِد.
ربما كان الأطفال إذن هم السبب.
عرضا فقط، فما زال يخاطب الآنسة برودر حتى عندما بدأ يقود سيارته ببطء في الضاحية الواقعة على نهر شبريه وهو فخور بأن يبدي معرفته بمن يعيش هناك ومن يعيش هنا، وباسم هذا النوع من الجص، وبأن تلك الشجرة الصفراء الجرسية الأزهار تُدعى فرسيتية، وبالطريقة التي يمكن بها مضاعفة غزارة نباتات السياج، وصعوبة الحصول على أبصال الزعفران، وأن إليزابيث لم تكن تعبأ في الحديقة بغير الزهور، وهو لا يعبأ بغير الفواكه، وأن إليزابيث قالت … إليزابيث، إليزابيث.
وإذا بها غير موجودة. لم يكن ثمَّة أحدٌ بالمنزل؛ فالسبت ليس عطلة للأطفال، لكنه كان ما يزال يحتفظ بالمفاتيح، واحد لبوابة الحديقة وآخر للمنزل. كانت أحواض الحديقة الأمامية معزوقة، والممرات مقلوبة، والزنبق يرتفع خمسة سنتيمترات، وبضع من زهور اللبن الثلجية ما تزال تتفتَّح، والبنفسج على طول الجدار، وبراعم نبات الرايق بازغة، والسوسن أيضًا، والفوشية والحدقية والشوكية. وفي الصالة كانت معاطف الأطفال الشتوية ما تزال معلَّقة، أيقظَت مشاعرَ مماثلةً لتلك التي تُوقظها مخلَّفات الموتى — قليل من الحزن ومزيد من الكراهية للأشياء التي تتمتع بديمومةٍ أكثر من الحياة الإنسانية. لكن هذا كله جاء وانقضى في لحظةٍ واحدة، وإذا به يندفع جريًا إلى غرفته في الطابق الأعلى. كانت هذه الطريقة في صعود الدرَج ما تزال مألوفة، رغم أنه لم يمارسها من مدة؛ واحدة اثنتان ثلاث أربع خمس ست سبع ثماني تسع درجاتٍ صغيرة ذات صرير، شديدة الانحدار، الدرابزين الضيق، رائحة الخشب، الظلام، مقبض الباب البارد (صغير مثل مقبض السكين)، ثم الضوء المفاجئ في الغرفة، والصدمة التي انتابته من جرَّاء الفوضى الضاربة؛ أغلفة الحلوى ومكعَّبات اللعب على الأرض، السرير غير المرتَّب، المكتب الذي انتشَرَت فوقه الكُتب والمذكرات والنفايات، وأرفف الكُتب التي غطاها الغُبار، والكُتب نفسها غير مرتَّبة. افتقد مجلَّدَين من مجلَّدات دائرة المعارف ورآهما على المائدة مفتوحَين؛ الأعضاء الجنسية عند المرأة، مراحل الحمل. هل بلغ بيتر هذه المرحلة أخيرًا؟ ألم يبدأ عطشه (كارل) لدوائر المعارف في سنٍّ متأخرة؟ إذن فبيتر ليس مهتمًّا بعودة أبيه، هل يرغب أحدٌ في عودته؟ ربما كانوا يحسدونه على المنظر الذي يطالعه من هذه النافذة، عَبْر النهر المتلألئ، فوق أشجار التفاح ببراعمها المستديرة البارزة، فوق وردية زهر الخوخ … لم يكن ثمَّة أثَر للبرفسور. هل هو مريض، ميت؟ أو أن الوقت متأخر؟ كانت الشمس قد صارت فوق الغابة، لم تعُد ساعة الصائد، وإنما الآن ساعة المكتب. وعندما فتح النافذة سقطَت الأشعة الدافئة على يدَيه وقمة رأسه. الصباح بالمنزل أمام مكتبه؛ الشمس، هواء الغابة، رائحة المياه الجارية، نعيب الصنادل النهرية. ثم يأتي صوتٌ من أسفل: الغداء جاهز.
صوت من؟
الآنسة برودر بالطبع، لكنها في حُلم اليقظة هذا تحمل الكثير من طباع إليزابيث؛ التحفظ، انعدام الطموح، القدرة على التكيُّف أو بصراحةٍ أكثر الاستعداد للخدمة. كان إرب في أحلامه من شعراء الحياة الريفية الكبار. رتَّب المكتب ونفَض الغبار عن سطحه الزجاجي، ثم جلس بلا حَراك وقد سقطَت أشعة الشمس على يدَيه ورأسه، وجعل يُراقب غرابًا يتأرجح فوق غصن شجرة صنَوبر. فكَّر في محاسن التبطُّل وعدم الحركة والخمول، وفي موضوع الكسل كحالةٍ أخلاقية، وتشكَّلَت تأملاته، وقد تحرَّرَت من الطبيعة المتناثرة للمنولوج الداخلي وتفريعاته، في لغة، وتحوَّلَت إلى صيغة يمكن تلخيصها في هذه الفكرة الضخمة؛ من لا يلمس شيئًا لا يوسِّخ نفسه، ومن لا يتحرك أبدًا لا يضايق أحدًا.
لم يفكِّر كارل هكذا، إنما فكَّر بالأمثلة، فكَّر في نفسه، وحماس شبابه وحركته الدائمة بدفع موتور المُثُل العليا والطموح التي أضفت مبالغةً شديدةً على كل مبالغةٍ عقائدية، فكَّر في أبيه وقبل كل شيء في أيزنهارت، زميل التلمذة في مدرسة البساتين، الذي نام في عمقٍ خلال اختبار العمال المهَرة في المنزل الأخضر (الذي عَلَته شعاراتٌ نازية قُدَّت من حروف في حجم الإنسان: «نحن نزرع الطماطم من أجل جنودنا»).
وبعد ذلك نام طوال خدمته العسكرية بما في ذلك معركة آخن، وهكذا (الأمر الذي ميَّزه عن كافة الذين كانوا حريصين بجنون على تأدية واجبهم وعلى الوطن) اجتاز عهد الإرهاب محتفظًا ببكارته. فكَّر كارل أنه ربما يكون من الصواب القول بأن المُجدِّين المتفانين والمثاليين هم الذين كانوا في غمار ذلك العهد رعب العالم، بينما كان الكُسالى حُماة الإنسانية. ألم يكن المجتهدون في ذلك العهد هم زيت آلة الموت، والمتبلدون حبَّات الرمال التي ما كان بوسعها أن تُوقِف الآلة، ومع ذلك اعترضَت حركتها، وأبطأَت منها؟
هكذا عكف إرب على بناءٍ نظري يهدف إلى حماية وجود المقعد ذي المسندَين أمام النافذة، الذي كان يتوق إليه، شيَّد منزلًا من الأفكار من صناديق البرتقال دون أساس، يُعوِزه التناسُب، وتتسرَّب إليه المياه. بالإضافة إلى أنه لم يكتمل؛ إذ سرعان ما هجَره. ترك مبناه المصطنع في حالته نصف المنتهية منذ كان أولًا على قَدْر من المهارة يكفي لأن يدرك أنه لا يناسب، على أكثر تقدير، سوى عصرٍ مضى (كانت فيه البلادة من الفضائل)، وثانيًا لأنه رأى في الحديقة، حديقته، عجوزَين (الرجل في قُبَّعة النوتية والمرأة في منديل رأس)، يشرعان في اقتلاع النجيلة، نجيلته التي كرَّسَتها اثنتا عشرة سنة من الرعاية. جذب مصراعَي النافذة بالطبع وصاح، صرخ، هتف، مناشدًا، متسائلًا، لاعنًا، دون نجاح (عدا أن الغربان غادَرَت الشجرة وطارت إلى الغابة). اندفع يهبط الدرَج ويعبُر حجرة المعيشة (التي يعرفها القارئ بصفتها حجرة الكريسماس) إلى التراس ثم الحديقة، حتى وقف أمام وجهَي المجرمَين (الممتلئَين بالتجاعيد، ذوي الوجنتَين الخمراوَين). لم يُؤخَذا كما يحدث للمجرمين عادةً بل عاملاه كما لو كان هو المجرم، فسألاه بغضبٍ عن كيفية وجوده والباب الذي دخل منه (كانا يعتقدان أن هناك بابًا واحدًا وأنه مغلَق) وما يفعله هنا. كانا يتكلمان في آنٍ واحد بينما يسأل كلٌّ منهما عن شيءٍ مختلف، ولما كان إرب يعتقد أنه هو الأجدر بتوجيه الأسئلة فقد فعل، وكانت النتيجة أن ثلاثتهم أخذوا يتكلمون في وقتٍ واحد، وارتفعَت أصواتهم، واختلطَت، حتى استسلم العجوزان، وتبيَّن أن كلَيهما ضعيف السمع، وربما كان الرجل بدرجةٍ أقل من المرأة؛ فعندما فهم أخيرًا (أو أساء فهم) شيئًا من صيحات إرب، ردَّده زاعقًا في أذنَيها عَبْر بوقٍ بدين: «يقول إنه الزوج.» – «زوج ماذا؟» – «زوج السيدة إرب.» – «الذي هجرها؟» – «أجل.» – «إذن فقد عاد إليها؟» – «إنه يقول لا.» – «إذن هو ليس السيد إرب؟» – «أجل إنه هو.» – «إذن فقد عاد إلى زوجته؟» – «إنه يقول إنه هنا في زيارة.» – «عمن يبحث؟ إن السيدة إرب ليست هنا.» – «إنه … هنا … في زيارة.» – «لكن السيدة إرب ليست هنا. إن لديها موعدًا وستتأخر في العودة، أما الأطفال فسيأتون عند الظهر.» – «إنه ليس بزائر، إنه السيد إرب.» – «إذن فالأمر كذلك، طاب يومك أيها السيد إرب … ماذا يقول؟» – «إنه يسأل لماذا نقتلع العشب.» – «يا إله الرحمن، من يمكن أن يقوم لنا بذلك؟ لقد مات أطفالنا وليس هناك من يُعنى بعجوزَين مثلنا.» – «إنه يريد أن يعرف السبب.» – «بسبب الدجاج بالطبع.» – «إنه يريد أن يعرف أي دجاج.» – «كلها بالطبع … هل تظن أني سأقدِّم ذرة للرود أيلاند وحدها وأضحك على الليجورن بالبطاطس؟» – «قال: إذن فأنتِ تريدين أن تزرعي ذرةً هنا. وقلتُ له: نعم. وسأل عن وجه حقنا في ذلك.» – «أيعني البذور؟ لقد حصلنا عليها بأمانةٍ تامة، وعلى أية حال فإن الأمر لا يعنيك … أفهِمْت؟»
فهم إرب ذلك، وبعد دقائقَ أخرى من الصياح أدرك لماذا ستُزرع الذرة في حديقته. لقد اتفقَت إليزابيث مع العجوزَين على العناية بالحديقة مقابل أن يزرعا ما يشاءان عدا استثناءَين؛ أن تبقى الزهور في مقدمة المنزل، وأن يكون هناك شريطٌ غير مزروع على طول النهر ليلعب فوقه الأطفال. ظهر تأثير الجناح ب على إرب؛ فقد كان يسُبُّ ويلَعن عندما ابتعد عنهما لكن بصوتٍ خافت لا يبلغ مسامع الآذان العجوزة. شعَر بأنه ضحيةٌ للغَدْر والخداع والاحتيال. لقد عمد إلى تأخير الطلاق حتى يجنِّب إليزابيث ألَم النهاية الحاسمة، وها هي تُعرِب عن عرفانها بهذه الطريقة! كان العمل الذي استغرق منه حياتَه يجري الآن تدميره في جانبٍ جديد بدا له من قبلُ منيعًا. في أيٍّ كان في الناحية كلها تُوجد مثل هذه القطعة الكبيرة الكاملة من العشب؟ كم من الساعات والأيام والأسابيع كرَّس في الاثنتَي عشرة سنة الماضية من أجل تشذيبها؟ وكم من مئات اللترات من المياه رشَّها عليها، وكم من مئات الأحمال من السماد نشَرَها فوقها! لقد أَلِف رُكَّاب القوارب البخارية المارَّة أن يشيروا إلى النجيلة، وكان غيرهم يكفُّون عن التجديف كي تمضي قواربهم من أمامها في بطء. وكان بيتر وكاتارينا يشرحان موقع منزلهما للآخرين بالإشارة إلى نجيلته الجميلة، والآن سيتم شغل المكان بالذرة ونباتات العلف والحمص. كرَّر «الحمص» عدة مرات؛ إذ بدا له هذا النبات مُعبِّرًا عن مدى الانهيار الذي وصلَت إليه الأمور؛ الحمص مكان النجيلة الإنجليزية.
حرص على ألا يتطلع خلفه من التراس، وأغلق الباب، وتأمل جنبات غرفة المعيشة حيث كان كل شيء على عادته، عدا أنه غير مرتَّب. لم تكن النوافذ قد نُظفَت وكان الغبار منتشرًا فوق الخوان، كما فقدَت الزهور المتدلية أوراقها، واستقر كأسا فودكا على المائدة، بينما كانت الزجاجة على الأرض غير فارغة تمامًا. صَب لنفسه كأسًا وبينما كان يُعيد الكأس إلى مكانها لحظ أعقاب السيجار في المطفأة، وصاح صوت بداخله: خيانة، خيانة؛ لأن إليزابيث لا تُدخِّن السيجار.
وقف أمام المرآة في الصالة، وتأمل نفسه. أيتآمرون جميعًا ضده لأن سنَّه يزداد وضوحًا عليه؟ كانت بطنه تكتسب استدارةً وجبهته تزداد علوًّا، والبُقع الصلعاء اتساعًا، والتجاعيد المحيطة بعينَيه عمقًا، وأسنانه صفراوية، ولثتُه تقلصًا، لم يكن يُطيق الخمر، وخاصةً في الصباح، وهيأ له الكأس الذي احتساه مناظرَ مرعبة؛ إليزابيث وقد دفعها اليأس إلى الشراب، تجُرُّ الرجال إلى المنزل من الطريق، تقيم الحفلات العربيدة، وتصرخ وتئن حتى تُوقِظ الأطفال. اندفع إلى غرفة نومها. هنا أيضًا كان الفراش غير مرتَّب وقميص نومها ملقًى فوق المقعد، ولم يرَ شيئًا آخر يبعث على الشك، لكن فيلمه المرعب استمر؛ الآثمان في الحمَّام، وفي الفِراش، والطفلان يقفان في الباب جاحظَي العينَين.
ثم سمع ضجة من الشارع، واستولى عليه الخوف أن يلتقي بأفراد أسرته، اندفَع إلى الغرفة فأعاد الفوضى إلى مكتبه، وفتح مجلدَي دائرة المعارف وأغلق النافذة؛ عاد إليه إحساسه بالأمان عندما صار في سيارته، وانطلق بها في بطءٍ نحو المدرسة، ثم عاد إلى المنزل، ومرةً أخرى انطلق إلى المدرسة. أوقف السيارة خلف المدرسة، متخفيًا بأشجار الطريق، ودخَّن، وانتظر، وهو يُدير وجهه بعيدًا عندما يمُر به أحد، وراقَب الصبية يلعبون الكرة الطائرة والفتياتِ في ملابس الرياضة القصيرة يؤدون تمارينها. جعلَت مدرِّستهم تتطلع إليه بين الفَينة والأخرى: أهو عجوزٌ داعر اجتذبه منظر النهود المهتزة؟
أمرَّ حقًّا وقتٌ طويل قبل أن يُحرِّره جرس المدرسة هو الآخر؟ تبيَّن كاتارينا على الفور في سيل الأطفال. كانت تسابق ثلاث فتياتٍ أخريات من الباب إلى الشارع، وفازت عليهن، لكنها لم تلبث أن تخلَّت عن إسراعها ووقفَت تتبادل الإشارات والضحكات مع الآخرين، ثم سارت أخيرًا وقد عقدَت ذراعُها بذراع فتاةٍ ذات شعرٍ أسود مجعَّد. استدار وتبعَهما ببطء إلى أن تطلَّعَت الفتاة ذات الشعر المجعد خلفها، فضاعف سرعته ومرَق بجوارهما، متجاوزًا حد السرعة، ثم اتجه إلى الطريق الرئيسي. أراد أن يذهب إلى مكانٍ ما، أي مكانٍ خلاف المنزل. ضاعف السرعة، لكن هذا لم يسعفه. أراد أن يأكل شيئًا، لكنه لم يجرؤ على التحوُّل عن الطريق العام؛ فقد كانت كل الأماكن الواقعة على اليمين أو اليسار مفعمة بالذكريات وقد نال منها كفايته. هكذا ظل فوق الأوتوستراد، وقاد سيارته في شبه دائرة حول برلين، ثم تناول طعامه أخيرًا في مكانٍ ما ناحية الغرب. كان منحرف المزاج (بسبب تكلفة البترول الذي استهلكه) عندما عاد إلى المدينة في المساء، وعلى الطريق الدائري عند هاكشر ماركت استولى عليه ثانيةً الخوفُ من انعدام الراحة في غرفة الآنسة برودر فظل في الطريق، وانطلق إلى منزل هاسلر. هناك كان بوسعه أن يسمع هاسلر، عَبْر الجدران الرفيعة للمسكن الجديد، يتحدَّث إلى شخصٍ ما، ولم يشأ أن يتطفَّل عليهما فعاد أدراجه. كانت المدينة تضُم أكثر من مليون شخصٍ ليس بينهم شخصٌ واحد يستطيع زيارته دون حرج في نهاية الأسبوع، فلم يجرؤ على الذهاب إلى مانتك؛ لأنه إما أن يكون في السينما أو المسرح، أو يكون قد لزم المنزل لسببٍ هام — ضيف أو عمل أو التليفزيون.
بل إنه فكَّر في ذلك الشرطي المجهول الاسم في مركز الشرطة. كان بوسعه أن يروي له دون حرجٍ ما يشعُر به من تعاسة، تعاسةٍ بالغة؛ لأنه اكتشف ليس فقط أنه لم يألف بعدُ غرفة الفِناء الخلفي وإنما لأنه لن يألفها أبدًا. وليس فقط أنه يشعر فيها بالتعاسة مع العصفورة وإنما أيضًا بدونها، وليس فقط أنه تخلى أخيرًا عن حريته، وإنما أيضًا لأنه لم يعرف ما يصنع بها عندما حصل على إجازةٍ قصيرة من عبوديته الاختيارية، وأنه كثيرٌ للغاية أن يطالب باحترام إرادة وحكم الآخرين، وأنه (فوق كل شيء) لا يستطيع البقاء بمفرده.
لكن لم يكن وحيدًا ذلك المساء؛ ذلك أن أنيتا (وقد حلَّت مكان أبيها المألوف، الذي كان في السينما) كانت ماثلةً فوق قاعدة النافذة. خاطبَته، وأجاب (لأنه كان وحيدًا للغاية) وردَّت على إجابته. وطوال حديث عن الطقس كان وجهها الغريب فوقه (لأنه كان يتحدث إليها من الطريق) ثم صار تحته (لأنه دخل وجلس إلى جوارها أمام المائدة وكان أطول منها). ثم شرب الفودكا (التي رفضها من العجوز باشكه في أول زيارة له للمنزل). مرةً ثانية وثالثة. ثم تمدَّدَت على الأريكة (لأن الجينز الأزرق الذي ترتديه لا يمكن إبرازه للعيان هو ومحتوياته أسفل مائدة الطعام الثقيلة). ثم فكَّر: الشيء الرئيسي ألا يكون المرء وحيدًا، عندما كنتُ مع إليزابيث كانت تسمح لي. أنت لا تحصُل من الحرية إلا على القَدْر الذي تأخذه. كانت ودودةً للغاية، لكن البلوفر كان سميكًا أكثر مما يجب بالنسبة للجو، لهذا اضطُرَّت للوقوف كي تتمكَّن من جذبه إلى أعلى وخلعه من رأسها، وقد نجحَت في هذا لأن رأسها كان كبيرًا ورقبتها رفيعة، مما أجبرها على أن تقف أمامه بعض الوقت بذراعَين مرفوعتَين ووجهٍ مغطًّى، عارضةً بلوزتها الشفافة الممتلئة جيدًا، حتى اقترب منها (لأنه لا يستطيع احتمال الوحدة) بنوايا خيرية وجذب السوستة عند رقبتها. وكي تُعبِّر عن شكرها (سواء أرادت ذلك أم لم تُرِده، ولم يكن هو بعدُ راغبًا)، سقطَت على رقبته الزهرة السمراء المجرَّدة من الشوك، ناعمةً بدفء الجنوب وجادَّة، جادَّة للغاية كأنما تواجه مهمةً جادَّة، وغريبة في ظلمتها، لكنها ما عادت منفِّرة. ثم انفتحَت أزرار بلوزتها، وتحتها كان هناك ظلام أيضًا، لكن الغرفة لم تكن كذلك، الأمر الذي تطلَّب الذهاب إلى النافذة لحجب الضوء بالستارة، وأثناء ذلك تطلع إرب من النافذة ورأى فضلًا عن الأشياء المعتادة (الحانة، السيارة، الأطفال اللاعبين) رجلًا يبحث عن رقم منزل. هذا الرجل (دون أن يعرف) كان سببًا في أن يرفع إرب يده عن الوردة، ويعيد النظام إلى شعره ورباط رقبته وسترته، ويتحول إلى الباب، ويعبُر الفِناء، ثم يصعد ثماني مراتٍ عشر درجات (أي أربعة طوابق) ليفتح ويغلق الباب، ويأخذ كتابًا من الرف، ويضعه مفتوحًا على المائدة، ثم يسقط لاهثًا فوق مقعد وينتظر.
ينتظر الرجل الذي كان يبحث عن رقم المنزل.
المَلاك المخلِّص.
التحوُّل المفاجئ في الأحداث.
فرد مانتك، الرسول الملكي.
لكن وصوله تأخر بعض الشيء لأنه لم يكتشف غايته على الفور؛ فقد بدأ بحثه المنهجي في الجناح الأمامي. تاركًا بذلك لكارل الوقت الكافي كي يساوره القلق بشأن الزيارة، ويفكِّر في مغامرته الناقصة التي لام نفسه بشأنها لكن ليس كثيرًا؛ لأنه اكتشف على الفور نظرية تقول: إن الرجل أكثر عجزًا أمام إغراء المرأة من المرأة أمام إغراء الرجل، منذ كانت النساء اللاتي يرفضن عروض الرجال يُعتبرن فضيلاتٍ ومستقيمات بينما الرجال الذين يرفضون العروض يُهينون المرأة ويُعطُون انطباعًا بالضعف والجبن والشذوذ. ما يجلب الاحترام للمرأة يجعل الرجل في مظهرٍ مضحك؛ ولهذا … لكن الجرس دق، ومثَّل إرب المفاجأة بدقة مداريًا قلقه واضطرابه، ولم يسمح لنفسه أن يفقد أعصابه ويتفوه بشيء عن العذاب الذي عرَّضه له مانتك لأنه لم يضع بوقًا على شفتَيه، ولم يدُق على طبل، ولم يبسُط لفافة الرِّق المبجَّلة؛ لأنه كان لا مهمًّا ولا عاجلًا، وتلافى مظهر من يحمل أنباء التحول المفاجئ في الأحداث، والواقع أن مسلكه كان عاديًّا؛ إذ أدلى أولًا بملاحظة عن المنزل (هذا فظيع، يجب أن تنتقل من هنا، هل قُمتِ بشيء في هذا السبيل؟) ثم عن الغرفة واللوحة المُذهبة الإطار، ثم استفسر عن الآنسة برودر، وأبلغ تحيات زوجته ولم يرفض كأسًا من الخمر، وأصغى دون نفاد صبر إلى قصصٍ طويلة من إرب عن المنزل وسكانه. وأخيرًا دنا من موضوعه، فأفرغ في بطء ولذة حقائب سرجه العديدة التي حُشرَت بالأفكار والأنباء، بما فيها آراؤه الخاصة، التي نمت ديالكيتكيًّا ولم تنضَج إلا أخيرًا، عن زواج إرب وغرام إرب، وعمل إرب من موقع السلطة ونشاطه المتجدد. باستطراد علَّق وحلَّل وأسَّس وجرد، وهنا فقط جذب حقيبة الرسول الملكي المختومة بالشمع، ففَض الختم، وكشف للشخص المعني عن القرار الكهنوتي؛ منذ كانت الأحداث الأخيرة قد أبرزَت بما لا يدع مجالًا للشك أن إرب قد تورَّط في علاقةٍ غراميةٍ سخيفة بسبب الطيش والفجور والشبع والافتقاد إلى النظام والانحلال وانعدام المسئولية، ومطاردة الجونلات، والشغف بالمغامرة أو المغازلة، ولما كان تطوُّر القضية قد كشف عن قوة الشخصية والثبات والجدية، ولما كان إرب قد تغلب على الرضى البرجوازي الصغير عن النفس وعلى التراخي والاستسلام، واستعاد روحه وشجاعته السابقتَين، لكافة هذه الأسباب سقط اقتراح مانتك فوق أرضٍ خصبة في الوزارة المعنية. وتقرَّر الاستعانة بتجربة إرب في مستوًى مركزي، وهو يسأله الآن بصورةٍ رسمية عما إذا كان مستعدًّا لتولي منصب في الوزارة.
في برلين؟
أجل، في برلين ودون أي تخفيض في راتبه السابق.
مما يعني أن كافة النزاعات المتراكمة قد وصلَت من وجهة نظر الدولة إلى حل، مما يثبت أن الحب العظيم ليس ممكنًا في مجتمع يهدف إلى العناية بالقيم الإنسانية.
لكن منذ كان كارل غير مهتم بالحب العظيم وإنما بالقضايا اليومية كان ردُّ فعله غريبًا. لم يقبل الاقتراح ببساطة، وإنما انطلق يتكلم حول الموضوع.
لم يبدُ سعيدًا بصورةٍ خاصة بزوال العقبات الخارجية. هل لأن قراراته ستفقد الآن أي مظهر من مظاهر البطولة؟ لكنه كان قادرًا على رفض الاقتراح (كما فعل الكثيرون قبله). تحدث حول الموضوع، هذا حق، لكن المرء عندما يحذف الثرثرة من إجابته التي استمرَّت نصف ساعة، لا يبقى غير: أجل، أجل، أجل، أجل، أجل.
٢٤
كيف وصل عقب السيجار إلى منفضة إليزابيث؟ لو كان إرب بدلًا من إطلاق العنان لمشاعره قد تتبَّع دليل سيجارٍ لحصلنا أخيرًا على شيء من التوتر، وهو ما لم يتمكَّن كاتب هذا التقرير من خلقه ببحوثه.
فقد استفسر إرب من إليزابيث عن الأمر وأخبرَتْه: هذا هو كل ما في الأمر.
هاسلر؟
بالطبع.
قصة حب؟
كلا، كلا، بالتأكيد لا، أمرٌ غير محتمل. يصعُب افتراضه. على أي حال ليس هناك من دليل. وردًّا على سؤال عن هذا الموضوع عزف هاسلر عن الاقتباس من الكتاب المقدس، وأجاب باقتضابٍ غير مألوف: «ليس الأمر متعلقًا بي.» وهي إجابةٌ تسمح بالشك في بعض الأمور، لكنها تترك الكثير مفتوحًا، كما أنه لا يجب استقراء الكثير منها أيضًا، منذ كان واضحًا أن هاسلر يرغب في أن تتوقف الأسئلة. على أية حال فإن هذه الاتجاهات بالنسبة لإليزابيث (في نفسها وفيما يتعلق به) لم تكن ملحوظة. لقد دعَته. وجاء، ودخَّن السيجار، وشرب الفودكا، ووجَّه أسئلة، وتحدَّث في عبارات من الكتاب المقدس، ووعَد بأن يقدِّم مساعدته، ودعا إليزابيث لزيارته في يوم السبت. ولو لم يتراجع إرب أمام مسكن هاسلر وقد ثبَّطَت من عزمه الأصواتُ التي سمعها من وراء الباب لكان قد فاجأهما سويًّا — بالإضافة إلى شخصٍ ثالث، سبقَت الإشارة إليه في هذا التقرير باسمِ الدكتور بروخ، ولن يُوصف بالتفصيل (بسبب دوره كشخصيةٍ مساعدة من الدرجة الثالثة).
قصة حب؟
كلا، قصتان. لا بين إليزابيث وبروخ وإنما واحدة بين بروخ وبروخ. وأخرى بين إليزابيث وميدانٍ مرتبط بالفن المعاصر.
استغل هاسلر الصلات التي أنشأها في حفل العام الجديد بمنزل مانتك لتمكين إليزابيث من هجرة ميدان المكتبات. كان يعرف أن كبار العاملين في ذلك الميدان سيغضبون منه لكنه لم يعبأ؛ فقد كان دائمًا يفعل (بقدر الإمكان) ما يبدو له صوابًا. أتاح لإليزابيث أن تشرح أسبابها كاملةً وتقبَّلها، ثم رفع مسماع التليفون على الفور: «طاب مساؤك. هاسلر يتكلم، آمل ألا أكون قد أيقظتك من النوم … هذا صحيح، الأمر يتعلق بمعهدك: آمل أن يكون في ازدهار … أوه! جميل … ومشاكل العاملين؟ … أمرٌ محزن، لكن ربما كان في وسعي أن أقدِّم بعض العون. ألا تحتاج إلى أمين مكتبة؟ كلا … ستظل تنتظر ذلك حتى ما لا نهاية، لا يُوجد مؤرخ للفن يفهم شيئًا في المكتبات … أجل، لا أمل على الإطلاق. هناك حلٌّ واحد فحَسْب: أن تُدرِّب رجالك بنفسك. عندي شخص لذلك … أجل متأكد تمامًا من ذلك كما أنا متأكد من سماع «آمين» في الكنيسة … الأفضل غدًا … حسنًا، إلى الغد … أرأيت؟» وكانت كلمته الأخيرة موجَّهة لإليزابيث التي اضطَرب نومها في تلك الليلة، كانت تبحث عن إجابة لسؤالَين قادمَين: لماذا تريدين التخلي عن عملك القديم؟ لماذا تريدين الالتحاق بمعهدنا؟
وقد جاء هذان السؤالان وإن كان ذلك قد تم في صورةٍ مختلفة، بعد ظهر يوم السبت في شقة العازب الجديدة، التي جلس بها هاسلر يدخِّن، تاركًا إليزابيث تتكلم وتؤكد، وتشرح، وهو ما لم يكن أمرًا سهلًا في مواجهة رجل تَعبِث أصابعه دون توقُّف بخاتمِ زواجٍ واسع، ويتطلَّع فوق رأسها من النافذة إلى السموات الزرقاء الخالية؛ حيث تهيم عيناه أمامًا وخَلْفًا دون هدف، وتنفرج شفتاه مرارًا لتجتذب نفَسًا بصوتٍ مسموع هو بمثابة نقطة الانطلاق في إجابةٍ من كلمات. وجاءت هذه الإجابة (التي تأجَّلَت عدة مرات) أخيرًا، ولكن بعد أن انتهت إليزابيث وانتظرَت أن تسمع كلمات الموافقة أو الرفض أو عدم الفهم، لكن مثل هذه الكلمات لم تأتِ، بحيث إنها لا تعلم حتى اليوم ما إذا كان السيد بروخ قد استمع أصلًا إلى الخطاب الذي أنشأَته خلال الليل، وما إذا كان قد تتبَّعه حتى النهاية لو كان قد استمع إليه. وما إذا كان قد فهمه لو كان قد تتبَّعه؛ لأنها لا تجيد التعبير، وكانت تشعُر بما يجب قولُه أكثر مما تعرفه.
وما أرادت أن تقوله هو: لقد عادت إلى مهنتها يُراوِدها الأمل مرةً أخرى في أن تصبح شخصًا مكتملًا من خلال عملها، أن يتحول نصف الكرة إلى دائرةٍ كاملة ويصبح القمر التابع نجمًا قائمًا بذاته، وقد كان هذا أمرًا أصعب مما توقَّعَت، لقد قبلَتها الأسرة العظيمة للكُتبِيِّين لا بصفتها الزميلة إليزابيث إرب، وإنما بصفتها زوجة الزميل كارل إرب، الزوجة المهجورة، التي يجب التعاطف معها والشفقة بها وتشجيعها أو (في القليل النادر وخفيةً فقط) السخرية منها. لم تكن تلومُ غير نفسها (وهذا بسبب حساسيتها)؛ إذ إن هذه هي الحقائق ولا يمكن محوُها، وخاصة من قِبل حَسَنِي النية والمتودِّدين، الذين يعاملون الحقائق كأنها لم تُوجد، وبذلك يُبرِزون وجودها بوضوحٍ أكثر؛ فلو ذكَر أحدٌ في حضرتها اسم إرب أو مكتبته؛ فإنه نادرًا ما يفعل ذلك دون ارتباك، وإذا ما فعَل لا تتمكَّن من إخفاء ارتباكها. كانت تقضي أغلب وقتها في محاولة الابتعاد عن إرب، وبسبب ذلك بالتحديد أصبحَت أكثر ارتباطًا به. وهي تريد أن تُثبِت لنفسها وللآخرين بالعمل الجيد أنها ليست تلك الزوجة السابقة حبيسة المنزل التي اضطُرَّت الآن إلى أن تكسب عيشها بنفسها من جديد. لكن كل ما أثبتَتْه هو أن كل جهد من جهودها كان محاولة لتقليده، كل دفعة كانت محاولةً لبلوغ مستوى كيفيته؛ فما كانت تسعى وراءه عثَر عليه هو من زمنٍ بعيد، وما تعلَّمَته كان هو يعرفه من قِدَم. لم يُخالجها أبدًا ذلك الشعور الذي عرفَته عندما كانت حاملًا، والذي أملَت في أن تُحسَّه ثانية؛ الشعور بأن: هذا شيء لا يمكن لأحدٍ غيري أن يفعله. لهذه الأسباب كانت ترغب في مغادرة المكتبة. مفهوم.
مفهوم للسيد بروخ؟ لقد جعل يعبث بخاتمه. كان ذلك طلسمًا سحريًّا لا يحقِّق أمنية صاحبه إلا بعد دعكه ثلاثمائة مرة؟ وماذا كان يتمنى؟ أن تُتاح له فرصة الكلام؟ كان قد أفرغ رئتَيه من الهواء لكنها أرادت أولًا أن ترُد على السؤال الثاني: لماذا الفن؟ أيريد بروخ حقًّا أن يعرف؟ أيريدها أن تكون صادقة؟ ألا يتوقع الجميع تلك العبارة الشهيرة من طالبي الوظائف؟ منذ طفولتي المبكرة تمنَّيتُ دائمًا أن أتخذ لنفسي مهنة كذا. ألا يتوقَّع الجميع من طالب الوظيفة بعض الأكاذيب كي يؤكِّد جدية مطلبه؟ لكن حتى لو لم يحدِّق بروخ إلى السماء (آملًا ربما في أن يؤدي هذا إلى أن يتحول اصفرار عينَيه القبيح، الممتزج بالرمادي، إلى زرقة) وتطلَّع إليها بدلًا من ذلك بتعبيرٍ متوسل: أرجوك أن تُسهِّلي الأمر عليَّ بشيء من الغش — حتى لو فعل ما أمكنها ذلك؛ فهي لا تستطيع التخلي عن الصدق؛ سواء لديها الفن المعاصر أو تاريخ النظرية الاقتصادية، أو سيكولوجيا الهندسة أو المجاري أو علم الجريمة؛ فما هي بحاجة إليه هو ميدانٌ خاص؛ أي ميدان (عدا البساتين والأدب وإدارة المكتبات). إن معرفتها طفيفة بالميدان المقترَح، هذا حق، لكنها ستتعلم أسرع من أي شخصٍ آخر، ستقرأ وتدرس، تقبل كل ما هو ضروري، تستعين بمن يأخذ بساعدها في أمور المنزل وقد تخلَّصَت بالفعل من الحديقة، وربما تُوجد دراساتٌ مسائية أو بالمراسلة، ستنتهز كل فرصة. أجل هذه هي قضيتها. وهذا هو كل ما عندها.
انتظرت. كفَّ خاتم بروخ عن الدوران، وكفَّت عيناه (اللتان ما زالتا في صفارهما الرمادي) عن الحركة. وظهر تنفُّسه العميق حاملًا سيلًا من الكلمات لا علاقة لها بها وإنما بنفسه، تحدث وتحدث؛ عن نفسه، عن معهده، عن نفسه، عن العمارة المعاصرة، عن نفسه، عن النحت المعاصر، عن نفسه، عن التصوير المعاصر، عن نفسه، عن الجامعة، عن نفسه، عن الاشتراكية، عن نفسه، ثم من جديد عن نفسه وعن المعماريين والنحَّاتين والمصوِّرين الذين ما كانوا سيُحقِّقون شيئًا لولا مساعدته، وعن الاشتراكية التي ما كانت ستُوجد لولاه، وعن معهده وأهميته التي ما كان سيحظى بها لولاه. وإذ ينتهي من هذا كله يتملك المرء شعورٌ غامض بأنه لا بُدَّ وأن يكون مهمًّا حقيقة، ويعرف بالدقة أنه مغرور مثل، أجل، مثل ماذا؟ ليس بالإمكان إجراء مقارنة في بساطة؛ فأقوى تشبيه تقدِّمه هو أن تقول إنه مغرور مثل الطاووس، وهو ما لا ينطبق في حالتنا؛ لأن الطاووس غبي ومغرور بجماله، وهذا البروخ لم يكن. لم يكن جميلًا. ولم يكن مغرورًا بجماله (المتخيَّل) وكان غباؤه قاصرًا على ذلك الركن الذي يزدهر فيه غروره، وهو غرور كان مصدرًا للضيق والاستمتاع، لكنه لا يؤذي طالما لا تحاول إقامة اتصالٍ إنساني به، وهذا على أية حال كان أمرًا مستحيلًا.
لم يخطُر هذا لأحد، بما في ذلك إليزابيث، التي لم تكن تبحث عن شخص وإنما عن موضوع، والتي لم تكن تنتظر صداقته وإنما ردًّا. كانت صامتة (وهو أمرٌ سهل لديها) نافدة الصبر (وهو أمرٌ غريب عليها) وأخيرًا ثائرة عندما شرع بروخ، وما زال يتحدث عن مآثره العظيمة، في الذهاب، لكنها لم تدَعْه يذهب. اعترضَت إليزابيث (الهادئة، الوادعة. الصبورة) طريقَه بتعبيرٍ يقول: على جثَّتي فقط. طالبَت بإجابة عن الفرصة المتاحة لها. تجاوزَها ببصره محدِّقًا من جديد إلى النافذة، وقفَزَت عيناه كما في السابق، رغم أنه كان هناك عدد من النجوم يكفي كي تلتصق به نظراته، لكن خاتمه لم يَدُرْ حول إصبعه، ولم يأخذ غير نفسٍ واحد عميق استخدَمه على الفور: «إنني أحتاج إلى مؤرخ فنون، فإذا كنتِ تعتقدين أن بوسعك أن تصبحي واحدة في فترةٍ معقولة، فقدِّمي طلبًا. يمكنك أن تبدئي العمل في أول الشهر، رغم أن هذا خارج على المألوف، لكني … أنا … أنا … أنا … أنا …» وهذا يمكن حذفه.
جلس هاسلر يدخِّن السيجار دون أن يتدخل إلا مرةً واحدة بعد سيجاره الثاني. كانت ملحوظته فيما يبدو تفسيريةً موجهة لبروخ، لكنها لم تتفق مع ما كانت إليزابيث تحاول قوله وزيَّفَته في الواقع. هل اعتقد أن بروخ سيفهم الأمر على حقيقته، وأن تفسيرًا زائفًا مفهومًا أفضل من تفسيرٍ سليم غير مفهوم؟ هل ظن أنه يعرف الحقيقة أفضل من إليزابيث؟ أو أنه فقط أراد (لأسبابٍ أنانية) أن يختبر ردَّ فعلها؟ قال: «إنها تريد أن تُرِيَ زوجها ما تستطيع عمله.» لم تُبدِ إليزابيث ما يُشْتَمُّ منه موافقتها.
لكنها لم تُعارِضه.
٢٥
سيكون أمرًا طيبًا وسيؤدي إلى تحسين هذا الفصل كثيرًا (بتقصيره) لو تذكَّر القارئ بالتفصيل والأمانة فترات القلق والعرق والفرح السابقة على الامتحانات وأثناءها وعند اجتيازها بنجاح. عندئذٍ يكفينا أن نقرِّر: أن الآنسة برودر شعَرَت بالمثل. كانت من أفضل طالبات فصلها، وكانت فكرة الرسوب أو الحصول على نتيجةٍ ضعيفة مستحيلةً تمامًا استحالةَ الاصطدام بقوس قُزَح، ومع ذلك تبدَّى لها قبل الامتحان بفترةٍ وجيزة (أثناء رحلة إلى لايبزيج) أن كل معلوماتها قد اختفت في صمت كما يفعل قوس قُزَح. كانت الليلة السابقة على الامتحان عندها، شأن الجميع، ليلةً قطبية (التي نعرف جميعًا أنها تستمر ستة شهور) أصبح فيها كل حُلم كابوسًا وكل سؤال يمكن توقُّعه قضية حياة أو موت. وكالعادة ضمتَّ لجنة الممتحنين نماذجَ يمكن أن تثير الضحك (فيما بعدُ)؛ الخريج الشاب الذي يساعد الجميع «خاصة الجميلات»، العجوز بوجهه الوقور المتجه إلى أعلى ليدرُس فيما يبدو لوحةً خيالية في السقف، السيدة المتقدمة في السن التي يصبح صوتها مغتصبًا عندما تواجه الجمال والزينة، قاصف الرعود، العم الطيب الذي يحب المزاح، مخلِّصة الأرواح، وفوق كل شيء الرئيسة الرفيعة التي تحاول أن تبدو شابة (دون رأس كان ما زال بوسعها أن تكون مس لايبزيج، وبرأس كانت برهانًا لانتصار الطبيعة على الإرادة ومساحيق التجميل). كل شيء في الواقع (عدا شيءٍ واحدٍ صغير) كان مألوفًا، بما في ذلك ما بعد الامتحان من بهجة، التي كانت عظيمة وقصيرة، رغم أن المَعْنيين بالأمر تبادلوا العون بأوصافٍ فعَّالة واحتفالاتٍ صاخبة من أجل إطالة الفرح والحيلولة دون انصرامه بسرعة.
لم يكن بوسع أحد أن يظل محايدًا إزاء الطالبة أو المتدربة أو الزميلة برودر؛ فقد كان مسلكها يتحدى الناس أن يتبنَّوا وجهةَ نظرٍ محددةً بشأنها. وكان هذا أيضًا ينطبق على أعضاء لجنة الامتحان، الذين تعيَّن عليهم أن يكبحوا جماح أهوائهم الشخصية في حالتها بحزمٍ أكثر من حالات الطلبة الآخرين. وفيما عدا دارس السقف بسبب وفاته، ما زالوا جميعًا قادرين على تذكُّرها اليوم؛ مدرِّسة مادة سيكولوجية القارئ؛ لأنها كانت عاكفةً لتَوِّها على مذكِّرة الآنسة برودر عن سيكولوجية المكتبات، والمؤرخة بسبب تمكُّن الآنسة برودر غير العادي من التاريخ، وخبير إدارة المكتبات بسبب بروفيل وجهها الأخَّاذ. واعتقَد أحدُهم أنها تقرأ أكثر مما يلزم للتفكير المستقيم، وانتقد آخرُ استخدامها للمساحيق، وظن ثالثٌ أنها أكثر ضعفًا مما تبدو، ورابع أنها باردة وخطرة مثل الأنهار الجليدية. اتفقوا فحسب على إعطائها أعلى الدرجات والتقديرات، والغريب أن خبيرة وسائل إعداد الملفات (وليس السيكولوجي) هي التي اكتشفَت وذكَرَت أسباب الأحكام الزائفة التي يتوصل إليها البعض بشأن الآنسة برودر؛ فقد كانت ذات كبرياء من الخارج ومن الداخل، فضايقَت أولئك الذين تقتصر كبرياؤهم، بدافع اللباقة أو التكتيك أو الجبن، على الداخل. لو صح هذا، ما عاد ردُّ الفعل المشابه لزملائها الطلبة مبعَث دهشة؛ الإعجاب أو الرفض، وبالإشاعات التي شنها كراتش وغذَّاها بملاحظاتٍ من قبيل: «إنها لا تخرج مع أحدٍ أقلَّ من مدير مكتبة»، «سيمُر وقتٌ طويل قبل أن نسمع أجراس الزواج»، «كان الأمر كله صفقة؛ قدم هو الوظيفة وأعدَّت هي الفراش».
والشيء الصغير الذي أشرنا إليه كان معروفًا في حفل النجاح؛ فلا بُدَّ أن أحد الحاضرين أو المساعدين قد تكلم. وكونها لم تُبدِ شبهة من انفعالات اليوم لم يُدهِش أحدًا، فقد ألِفُوا جميعًا تماسُكها ورباطة جأشها، وغموضها. لم تستطع كلٌّ من «أجنس» و«أديلهايد» اللتَين كانت وثيقة الصلة بهما طوال سنوات الدراسة أن يلحظا انفعالًا ما، وإنما لمسا ما هو أقرب إلى تغيُّرٍ عام في طبيعتها، وصفاه فيما بعدُ بأنه شيءٌ من اللين أصاب جمودها؛ فهي لم تحدِّثهما عن الكتب والمشاكل وإنما عن الانطباعات والمشاعر، بل وعن الطبيعة؛ إذ وصفَت لهما يومًا شتويًّا بلا جليد، وبحيرةً يحُط فوق سطحها البجع وما يلبث أن يطير. وفي حفل النجاح وبعد ساعات من الرقص والشراب جلسَت فجأة، لدهشة الجميع، إلى كراتش وتحدَّثَت معه وقتًا طويلًا، ثم سمحَت له في الفجر أن يصحبها في عودتها (أي إلى فندقها). لم يَسترِق أحدٌ السمع لكن الجميع آمنوا بأنه آخر ضحاياها (لأن كل شاب في المجموعة حاول أن يقطف هذه الزهرة ففُوجئ بالأشواك). وفي الساعات القليلة الآخرة، عندما أضاءت شمس الصباح الوجوه الشاحبة وسط أبخرة النبيذ، وكانوا يحاولون بالحديث أن يُخْفوا إدراكهم بأن الحفل لم يكن بذي معنًى توصلوا إلى اتفاق؛ إنها ليست المرأة المناسبة لكراتش؛ فقد كان عبقريًّا (حتى الآن هو الوحيد الذي يدرك ذلك) ويحتاج إلى امرأة تتميز بقَدْرٍ من المساواة مماثلٍ لما تتصف به المرأة السويسرية، امرأة تعبده في سكون، تجيد الطهي ولا تمتاز بذكاءٍ أكثر مما هو ضروري للعرض أمام الآخرين. أما السؤال عما إذا كانت آلام الحب هي خميرة نشاطه التخريبي فسيبقى بلا إجابة؛ فليس من السهل الاتصال به الآن؛ لأنه يدرُس الإخراج المسرحي في موسكو، ولا يرُد على الخطابات، رغم التأكيد له بأن اسمه الحقيقي (كراتش ليس إلا اسمًا مستعارًا) لن يُستخدم. ولعله لا يرغب في أن تحجُب بضعُ سحاباتٍ طفيفة شمسَ شهرته الصاعدة. ثم إنه لا يتميز بتفردٍ خاص في اختياره للأساليب عندما انتهز آخر فرصة أُتيحَت له بتجنُّب الذَّهاب إلى منطقة أنجرمونده، فكشف للممتحنين المُحرَجين عن مؤامرة الفراش المزعومة بين إرب وبرودر دون نجاح.
فقد ساعدَت نتائجه العادية في الامتحان اللجنة على تنحية اتهاماته واعتبارها بلا أساس.
وما هو ذلك الشيء الصغير الذي سبقَت الإشارة إليه؟ لم يكن صغيرًا بالطبع وإلا ما احتفظنا به حتى نهاية الفصل. إن هذه العبارة لم تُستخدَم إلا لأن الآنسة برودر استخدَمتها عندما تلقَّت التهاني بعد الامتحان: «أجل، وهناك شيءٌ صغير.» قالت بينما رئيسة اللجنة تهزُّ يدَيها في حماس الشباب، ثم لخصت لنفسها الأفكار والمبادئ والأحلام والمخاوف التي دارت برأسها أيامًا وأسابيع، وملاحظاتها الهادئة ومحاولاتها العالية لإيضاح الأمور في الجناح ب، ونقاشها المتخيل الذي لم يجرِ أبدًا في شارع كارل ماركس أليه، والذي كان سيبدأ بسؤال مباشر إلى اللامانتك: «ماذا ستفعلين لو …؟» والذي كان سيخلُص عقب تفريعات في أشياءَ دوائر لا بُدَّ من تحقيق استدارتها، وضبابٍ لا بُدَّ من تبديده، وقوةٍ لا بُدَّ من تجربتها، إلى الحقيقة الثابتة (غير القاطعة عامة، وإن كانت تصلُح بالتأكيد للآنسة برودر): «أسوأ شيءٍ عمله هو عمل لا شيء.»
ظهرَت نتيجة هذا التلخيص في ثلاث عبارات وسبع عشرة كلمة: «أودُّ أن أطلب منك مبادلة وظيفة كراتش بوظيفتي. أنت تعلمين أنه موافق. لستُ أريد البقاء في برلين.»
وباستثناء وجهها هي، ووجه قاصف الرعود، اتسمَت كل الوجوه بطابعٍ مأساوي. أخرجَت مخلِّصة الأرواح منديلها بعناية. أما قاصف الرعود الذي لم يكن حاضرًا بالكلية، ولا كُتبِيًّا، ولا كان موجودًا أثناء امتحان كراتش، ونتيجةً لذلك لم يكن في الصورة؛ فقد طالب بإيضاح، ولم يقنَع برد الآنسة برودر المقتضَب («ليس الأمر موضع مناقشة.»)، لكنه ركن إلى الصمت عندما لاحظ صمت الآخرين، ضغطَت الرئيسة على يد الآنسة برودر بقوة أكثر وسألَت: «هل فكَّرتِ في الأمر جيدًا؟» وعندما أطرقَت الآنسة برودر برأسها، قالت: «موافقة.»
٢٦
الذين تعوَّدوا القراءة في خطٍّ قطري (أي هكذا: البداية – الوسط – النهاية)، الكُتبِيُّون، وأخصائيو المخطوطات، وخبراء الوثائق، وباعة الكتب، وموظفو الأجهزة الثقافية، ومحرِّرو عروض الكتب التي تتألف من فِقرةٍ واحدة، وغيرهم ممن يُضطَرون إلى شق طريقهم يوميًّا في غمار القصيدة الأدبية، سيُكافَئون على أنهم بدءوا بقراءة النهاية هنا (وليس في الصفحات الثلاث الأخيرة). وهذه الجائزة ستأخذ شكل دليلٍ يساعدهم على فهم الفصل السادس والعشرين من هذا التقرير عن الحب والنساء والأخلاق وأمناء المكتبات وقواعد السلوك المعاصرة والمجتمع وبرلين (لمصلحة المبيعات نقول أيضًا «رواية» حول ما سبق ذكره). هذا الدليل هو: أهم شيءٍ ما ليس موجودًا – أية إشارة لفرد مانتك، الفارس الرسول الذي (كما لا يعلم القارئ المتعجل) ولج الفصل الثالث والعشرين ليُقدِّم إلى إرب في وحدته حلًّا كان من شأنه أن يجعل الحل الضعيف الذي قدَّمَته الآنسة برودر (في الفصل الخامس والعشرين) بلا ضرورة. وبهذا يكون السؤال المثير للتوتر هو عن ردِّ فعلها أمام جعجعة الأبواق التي أعلن بها إرب الأنباء، وكيف ومتى نفخ إرب بوقه. ليس فور عودتها، هذا واضح؛ لأن هذا لو حدث لكان ضد طبيعته التي كانت أميَل إلى تقديم مجموعةٍ من الخواطر عن الزهور.
خشخاش أحمر، حقل من الخشخاش الأحمر، مربع من الحمرة الساطعة المتوهجة، تتموج فوق الخضرة الشابة لنبات الشوفان ذي السيقان القصيرة. لا بُدَّ أننا في بداية شهر يونيو. صباحٌ صيفي معتدل البرودة يسبق نهارًا حارًّا. أحد الرجال في العربة يرفع عينَيه عن الملف الذي يعمل به ويقول: انظروا، خشخاش. ويُغمغِم الثاني شيئًا عن الأعشاب الضارة، وسرعان ما يكون القطار قد مَر. ويرفع كارل أيضًا رأسه إلى أعلى فيرى الحقل، والبلسان اليانعة إلى جوار الممَر، والغابة على مبعدة، ولا تتلاشى الحمرة من ناظرَيه؛ فقد أثارت فيه شيئًا، لو عبَّر عنه بالكلمات لا المشاعر، لقال: لولا هذه الحمرة ما كنتُ قادرًا أبدًا على التحرُّر من سنوات الروتين. وأجبره ذلك على إنزال حقيبته من الرف، ومغادرة القطار في جوتز أو فوستر فيتز أو جروس-كرويتز، أو أيًّا كان اسمها. والعودة سيرًا على الأقدام في الطريق، الحارَة، الممَر، بالشمس في وجهه والبهجة الغامرة في قلبه؛ لأنه ما زال قادرًا على أن يفعل شيئًا كهذا؛ التغيُّب عن مؤتمر كي يكون قادرًا على العودة إلى الخشخاش، الذي سيذوي عند الغروب.
لكنه وسط حرارة النهار، لم يكن جالسًا أسفل شجيرات البلسان، إنما أمام قطعة من اللحم، يناقش نظام استعارة الكتب دون بطاقات، وهو موضوع المؤتمر الذي وصله في الميعاد. وكان النسيان مآل الخشخاش الأحمر سنواتٍ عدة حتى هذه الدقيقة في الجناح ب، حيث كان جالسًا في مقعده المألوف، وأمامه محبوبته مرةً أخرى، خلف مائدة كالحاجز، بعد عشرة أيام من الامتحانات. كانت قد عادت من لايبزيج ووضعَت حقيبتها على الأرض، ثم قالت ببساطة إنها ستذهب للعمل في أنجرمونده.
«يا إلهي لا بُدَّ من إلغاء هذا القرار فورًا. وإن التضحية التي تُزمِعينها للحيلولة بيني وبين القيام بها، لم تعُد لها ضرورة؛ لأن فرد أحدث تغييرًا مفاجئًا في الموقف …» هذا هو ما كان يجب أن يقوله (ليَكون عند حسن ظن المؤلِّف والقارئ). ومن ناحيةٍ أخرى، كانت الآنسة برودر تأمل في أن تسمع شيئًا عن أحلامه الدفينة، عن فتح أراضٍ جديدة في وجه الثقافة، عن الحرث في الأرض المراحة، عن السياسة الثقافية الثورية حقًّا، أو حتى مجرد هذه الكلمات: «سآتي معك» أو «سنذهب سويًّا» – «لنذهب إلى أنجرمونده»، أو شيء مثل هذا. لكن ما قاله هو: «لماذا فعلتِ هذا؟» وبدا صوتُه غريبًا، كما لو كان مقترضًا من شخصٍ آخرَ صادق يطالب الآخرين بالصدق، مقترضًا من شخصٍ أقوى، لديه القوة والشجاعة على تحمُّل الإجابات، وقبول العقاب، والرد على الاتهامات، والإصغاء إلى الحقيقة وقبولها، أو إنكارها، ومواجهة رواية برودر برواية إرب.
«لماذا فعلتِ هذا؟» لم يكن حقًّا الرجل الذي يستطيع توجيه سؤال كهذا، وخاصةً في هذه اللحظة. كان يجب أن يظل صامتا، متألمًا، مهانًا أو متعاليًا، كان يجب أن يبحث عن سجائره ويقدِّم إليها، أو كان يجب أن يلجأ إلى العواطف، فيُقبِّلها بدلًا من أن يتحدث إليها، أو كان يستطيع أن يبكي أو يطلق سيلًا من الشتائم، أو أن يقفز ويخرج من أجل قليل من الوقت ينظِّم فيه أفكاره ومشاعره، وربما يكتب رسالة في ليلته الأَرِقة، وفي كل الحالات يحوِّل الزمن إلى حليف. وقد أدرك هذا عندما وجَّه السؤال.
وكان يعرف أيضًا المسئول عن ذلك؛ هي. لقد أفزعَته، وفاجأَته، هو غير المرتاب الصادق، المخدوع. اتخذَت قرارًا دون معونته، دون أن تسأله، دون نصحه، دون إبلاغه، ثم عندما انتهى كل شيء لم تُعِدُّه للأنباء الفاجعة، لم تُحذِّره منها. ولَجَت الغرفة فقط وانفجَرَت بالأنباء (تمامًا كما خطَّطَت، حتى لا يجعلها منظره، إيماءاته، وكلماته، تندم وتغيِّر رأيها)، مستثيرةً بذلك سؤاله، السؤال الذي كان يطلب الحقيقة في الظاهر، وكان في الواقع كذبة؛ وهذا أيضًا أخذَه عليها، ولولا تعسُّفها وانفرادُها بالتصرف لاضطُر أن يكون صادقًا، وكان من شأنه أن يقول لها في وجهها عند نقطةٍ معينة: لا أستطيع الاستمرار هكذا! لكنها الآن، قد مكَّنَته في ختلٍ من أن يكذب، وكان عاجزًا عن المقاومة؛ فلا بُدَّ من استغلال هذه الفرصة، رغم أنه جفل منها (قبل ذلك)، ولهذا السبب ازدرى نفسه (بعد ذلك)؛ فمن الطبيعي أن روحَين كانا يتعايشان في صدره هو الآخر، روحَين تقاتَلا دون أن يُعقد الفوز لأحدهما، وكان الروح الثاني، روح الحب والفعل ما زال يقظًا، يفرز الألم والتناقض الصادق عندما تُقرِّر محبوبته (آملة في أن تسمع إنكارًا) أن حبه لم يكن قويًّا بما يكفي ليدفعه إلى القفز فوق الأسيجة والأسوار التي تُحيط بالفردوس (كانت هذه هي اللحظة التي تذكَّر فيها الخشخاش الأحمر). وكان تناقُضه قويًّا لدرجة أنه نسي اشمئزازه من نفسه مرةً ثانية وتساءل: ما هي الحقيقة في حالة كهذه؟ من الذي يقرِّر، من يحدِّد المعايير، من يقيس؟ يجب ألا تكون هناك غير حقيقةٍ واحدة، لكن هناك في الحق أكثر من واحدة. هناك حقيقةٌ مؤداها أن حبه كان قصيرَ النفَس للغاية، وأخرى تتمثل في تذكُّره للخشخاش (رمز واهٍ للضعف)، وثالثة تؤكِّد أنه ما زال يُحبها (في تفكيره لم يُحب من قبلُ أبدًا هكذا)، ورابعة هي سرورُه مرةً أخرى؛ لأنه تلافى ضرورة اتخاذه قرار، وخامسة أنه لا يستطيع تصوُّر عصفورته في يد شخصٍ غريب، وسادسة لعلها أكبر الحقائق أو أكثرها صدقًا، وهي أنه ربما كان من الجبن بحيث لا يستطيع الحديث بأمانة عن نفسه؛ لأن السؤال الثاني الذي حدَّد مجرى الحديث، لم يُمْلِه عليه حبه الوجيز الهائل، ولا غَيرته القادمة، وإنما جُبنه. استغل دون خجلٍ ميزة الشخص العاجز عن اتخاذ قرار، ولم يفكِّر في غير مكانته، وسأل «أيعني هذا أنكِ تريدين إنهاء الأمر كله؟»
هذه العبارة المبتذلة ترينا كيف أنه لم يكن مستعدًّا؛ فكافة الكلمات الأخرى التي خطَرَت له كانت متوسلة أو عاطفية، وهي كلماتٌ ما كان يمكن استخدامها في مواجهة وجهها البارد المصمِّم.
تمكَّن حقًّا من تبيُّن البرودة في وجهها، وتوجيه اللوم إليها على ذلك («يا للتجهُّم الذي تنظرين به إليَّ!») لأنه لم يعُد مسيطرًا على ملامحه أو كلماته الغَضْبى، وكان في حاجةٍ إلى عذر (أو حُجة) وجده أولًا في برودها ثم في دموعها؛ ذلك (سواء صدَّقتم أو لم تفعلوا) أن عينَي السيدة الشابة الرصينة اللتَين طالما أثارتا الإعجاب البالغ، صارتا مصدرًا لقطراتٍ دافئة مالحة بلَّلَت (لا خلال الساعة الأولى أو الثانية وإنما خلال المساء أو الليل) منديلَها؛ لأن الإحباط الذي شعَرَت به لم يكن محتملًا؛ فإيضاح الأمور بينها وبين كارل بعيد المنال، وها هي قد اتخذَت عبثًا قرارها بمغادرة برلين؛ فهو ليس قادرًا على الذهاب معها، ولا على الاعتراف بأن قرارها هو السبيل الوحيد لإنقاذ حبهما طالما أنه لا يستطيع احتمال الجناح ب أو فقدان وظيفته. كم كانت واثقةً من النجاح. كانت تظن أنها قد أزالت بهذه الخطوة كل ما يسمِّم حبهما فقد تبيَّن أن الطريق الذي اتخذاه سويًّا صعبٌ للغاية عليه. ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه كان لا بُدَّ من طريقٍ جديد. وقد وقعَت هذه المهمة على عاتقها وحدها، أن تُضحِّي لأنها أقوى الاثنَين وبذلك تجعلُه بقدوتها قادرًا على الانفصال بصورةٍ جذرية عن الماضي والإقدام على بدايةٍ جديدة، أو إعطائها (إذا استحال هذا) «لا» صادقة وواضحة. حتى هذا أفضل من التحلل البطيء المهين لحبٍّ عظيم.
هذا ما جال بخاطرها. لكن ما بدَر منه كان اعتذاراتٍ متعجلة، شبه اعترافاتٍ سُحبَت على الفور، تعهُّداتٍ كانت تودُّ لو صدَّقَتها لكنها كانت عاجزة عن ذلك، إيضاحاتٍ بدت معقولة، اتهاماتٍ لنفسه جعلَتها تضعف، مطالباتٍ بالصبر والوقت، ومخاتلاتٍ متكرِّرة.
«ألا يمكنكِ أن تذكُري لي بوضوحٍ ما تنوينه؟» – «كل شيءٍ من أجل ألا أفقدك!» لكنه لم يكن قادرًا حتى على أن يغفر لها الحياة في الجناح الخلفي وضياع وظيفته الممتازة. أليس هذا سببًا كافيًا للفيضان المالح؟ والآن وقد تكشَّف أخيرًا حُلم العودة إلى القرية عن حديثٍ فارغ، توقَّعَت الألَم من جانبها ومن جانبه، لكنها لاحظت الآن ما يشعُر به دائمًا من سعادة عندما يحمِّلها مسئولية الخسائر التي تقبَّلها هو عن طواعية. حتى هذا لم يعُد ممكنًا الآن. بذلَت جهدًا كي توضِّح الأمور، لكنه لم يرحِّب بذلك حتى لا يفقد الستار الذي يغطِّي ضرورة اتخاذ القرار؛ فأي قرارٍ قد يعني الافتراق، والافتراق مؤلم، وهو يخشى الألم. كان جبانًا. الطفل الذي يتحمل آلام الأسنان عدة أسابيع خوفًا من الألم بضع ثوانٍ عند الطبيب. لو أمكن شل الأعصاب المَعْنية، فربما جعلَه هذا أكثر استعدادًا لاتخاذ القرارات. سألَته: «أأنتَ متأكِّد أن الأمر قاصر فقط على خطر الانتقال من برلين وظروف المعيشة الصعبة؟» لكنه لم يسمح لنفسه أن يدفع إلى التفوُّه بكلمةٍ فاصلة. ثم إنه لم يكن بقائل غير كلمة لا، وقد قالها لنفسه عشر مرات لكنه لم يجرؤ على ترديدها بصوتٍ مرتفع، بل إنه كان يعرف بعض الحُجَج المهدِّئة، مصدرها الأدب. مهدئات لن تُحرجه هو كما أنها لن تؤذيها؛ ليس هناك من حب يدوم إلى الأبد، إن تخيُّل الحب أسهل بكثيرٍ من الممارسة الواقعية له (وهو شأن كل واقع، مثل واقعِ ما بعد الثورة)، الفراق يعني أن تظل المحبوبة شابةً إلى الأبد، المرء يُحب دائمًا صورةً من صور الأحلام ويخشى اليقظة، وهلُم جرًّا. لكنه لم يَفُه بشيءٍ من ذلك بصوتٍ عالٍ. أجاب: «أجل، هذا فقط.» واكتشف فجأة (كي يتجنَّب أسئلةً جديدة من هذا النوع) أن المبنى القديم بأفنيته الضيقة وسلالمه المظلمة تعلوه مساحةٌ كبيرة من المكان والضوء، حيث يمكن البناء دون ترخيصٍ وعمالٍ وموادِّ بناء؛ حيث يمكن الحياة دون تصاريح، في منازل أحلامٍ تضُم كل وسائل الراحة، في منزلٍ نظيف جميل يخُص المرء كلية (دون أن يلطِّخه الواقع). وتحدَّث عند ذلك؛ عن المكتبة المركزية في القلعة القديمة (التي بناها شينكل)، عن القرى المزدهرة حولها، حيث سيصبح رئيس التعاونية وعُمَد القرى من دعاة الأدب تحت تأثيرها، عن دراساتها السوسيولوجية ومقالاتها في المجلات والصحف المتخصصة، عن نهايات الأسبوع، التي سيقضيانها سوية (من أبريل إلى أكتوبر في قريتها، ومن نوفمبر إلى مارس في مدينته) عن حُجرتها في القلعة التي تُطِل على الخندق، عن رحلات القارب إلى الأنجر (إذا كان ثمة نهر بهذا الاسم)، تمنَّت بشدة لو أمكنَها الاقتناع بأن كل شيءٍ بات واضحًا، وخاصةً عندما استقرت يداه على عنقها، وشفتاه على بشرتها، هناك حيث لا تلمسها الشمس أبدًا. «أتظن أن بقاءنا معًا يستحق كل هذا العناء؟» – «سيظل كذلك، دائمًا، دائمًا، دائمًا.» لم يكن يؤمن بكل ما يقوله، ولم يقُل كل شيء؛ فهو مثلًا لم يَفُه بكلمة عن مانتك، مَلاك الخلاص، أو عن رسالته المُفرِحة. شكَرَها على أنها أتاحت له استعادة وظيفته (التي لم يعُد في حاجة إليها) وسمَح لها بالذهاب إلى منفاها المختار.
بقلبٍ دامٍ.
قلبٍ دامٍ سقط منه حجر.
٢٧
قبل أن يتوقف المحرك تمامًا، فتح باشكه النافذة، وأزال ما علق بلحيته النابتة من بيضة إفطار، وصار على الفَور مستعدًّا لإعطاء المعلومات (الجناح ب، الطابق الرابع) وجمعها (من تريد بالضبط؟)، ثم ترتيب موقعه المفضَّل في سلام وهدوء؛ الكاب على رأسه وقدَح القهوة على قاعدة النافذة ووسادة تحت مرفقَيه، وابتسامة على شفتَيه؛ فها نحن قد انتصرنا!
إن الستار يمكن أن يرتفع الآن. والجمهور كثير؛ المرأة التي تدير الحانة المواجهة، السيدة جيورنج بالشبكة المليئة بالشطائر، الأطفال الثلاثة بحقائبهم المدرسية. ومن أحد الأفنية المجاورة جاءت الموسيقى الافتتاحية يقدمها أرغن يدوي: «لا بالوما»، «نسيم برلين». وقَّعت أظافر أصابع باشكه النغمة على قاعدة النافذة المغلَقة، وظهَرَت السيدة فولف بالمصباح التقليدي وجردل، فغمغَمَت بتحيةٍ مبهَمة واختفت. قلَب الأطفال الجردل ثم أسرعوا هاربين. وعلى أرض الشارع استقرت الفُرش ومسحوق التنظيف ودهان الأحذية. وأخيرًا ظهَرَت إحدى الشخصيات الأساسية. كان إرب وسائق السيارة يحملان الحقيبة المزدوجة المقبضَين التي عاد بها فيلهلم برودر، منذ عشرات الأعوام «إلى الرايخ» من قريته الشرقية، كانت ابنته الآن تترك أحد أثلاث نفس المدينة عائدةً إلى الشرق؛ ذلك أن «أنجرمونده» تقع في الشرق، أو على الأقل في الشمال، في بولندة عمليًّا أو على بحر البلطيق تقريبًا، لم يكن باشكه يعلم بالتحديد ولم يكن يعبأ مثقالَ ذرة بالأمر طالما أنها سترحل، ولن تضايقه بعد الآن وتخيفه بوجهها الصقيعي الذي لم يُذِبْه الوداع أو شمس الصباح. ظهَرَت تحمل حقيبةً وحافظةً دبلوماسية، حَيَّته بإطراقةٍ دون كلمة، واختفت من جديدٍ لتحمل مقعَدها، ومصباح المكتب، ومكنسة وإناء الغسيل. وظهَرَت السيدة فولف بأرفف الكتب، وتبعها إرب والسائق بالمائدة و… الفراش. بدءوا يشحنون الأثاث، على نغمات الأغنية ذات الجِدَّة الدائمة «ما زال شبريه يجري مخترقًا برلين» معزوفة على الأرغن اليدوي. صاحَب باشكه الموسيقى. وجد النغمة صحيحة وملائمة للموقف، ملطِّفة وصادقة.
فالنهر المتغنَّى به انساب دائمًا في نفس المجرى، مثلما أطل هو باشكه دائمًا من نفس النافذة، أما البرودريون فهم يأتون ويذهبون، ويلقى الفسق والادِّعاء مصيرهما العادل؛ النفي من جنة المدينة الكبيرة، الوداع ثم العزال، الذي تم بصورةٍ تدعو للرثاء، مجرد عربةٍ صغيرة، لم تكد حتى تمتلئ، ونصفُ ما حملَته أقفاصٌ من الكتب، وليس أثاثًا كما هو شأن الناس المحترَمين. ثم أين هي القطعة الوحيدة القيمة منه، الصورة ذات الإطار الذهبي، تلك اللوحة الزيتية الأصيلة؟ لقد استفسر عنها السائق أيضًا، دون أن ينزع السيجار من ركن فمه: «أتأخذ هذا الشيء أيضًا؟» بدا على الرجل، الذي لم يقدِّم نفسه، لكنه كان غالبًا الزوج السابق، الارتباكُ وهزَّ كتفَه، كان يعرف فقط أن أثاث المطبخ والمرتبة الهوائية والصندوق الذي يحتوي على البيجامة وخُفَّيْه وأدوات الحلاقة، هي الأشياء التي ستبقى بالمسكن، ومعها هو أيضًا. بدا للسائق أن في الأمر مأساة، لكنه في الوقت نفسه لم يكن متأثرًا بما يجري أمامه، وعلى أية حال فهو سيعرف كل شيء عن الأمر فيما بعدُ؛ فعندما ينفرد به الناس في قمرة القيادة سرعان ما ينطلقون في الحديث حتى يتغلَّبوا على انفعالاتهم، وكل ما يحتاجه الأمر هو سؤالٌ واحد من النوع السابر فيعرف القصة كلها. لقد نقل الكثير من الزيجات الميتة، التي تختلف كلٌّ منها عن الأخرى. وكان دائمًا يشعر بالأسى للنساء وحدهن ولو كن هن المخطئات (وهو ما كان أمرًا نادرًا)، كان يكفي أنهن يبكين بينما يبدو الرجال بوجوهٍ صارمة، وبالطبع كن نساءً بشعورٍ جميلة أو عيونٍ وشفاهٍ جميلة مثل هذه، رغم أنها لم تكن تبكي، وبدَت أكثر تماسُكًا من الرجل. كان الرجل يدخِّن بصورةٍ متواصلة، ويبدو (رغم مظاهر الترهل في بطنه) أشبه بنموذجٍ مرعب على ملصقٍ يدعو للامتناع عن التدخين. لماذا لا يذهب إلى الريف؟ إن الهواء النقي سيفيده ويفيدها هي أيضًا، لكنها لم تكن ترمي إلى ذلك كما يتضح من كَوم الكتب. كم منها هناك؟ ألف؟ ألفان؟ ثلاثة؟ متى تظن أنها ستقرؤها جميعًا؟ أكثر من واحد في الأسبوع أمرٌ ممكنٌ بالكاد، وهذا يعني ٥٢ كتابًا في السنة، ٥٢٠ في عشر سنوات، ٣٠٠٠ في ستين عامًا، ومعنى هذا أنها لن تتمكَّن من قراءتها جميعًا. يجدُر بها أن تتركها خلفها مع الرجل – المدخنة وتأخذ اللوحة بدلًا منها. «هل ستأخذون هذا الشيء أيضًا؟ أم لا؟» – «أجل، ماذا سنفعل بها يا عصفورة؟» كانت مناداتها بالعصفورة أمرًا مستحيلًا استحالةَ مناداتها بالأسد أو الفيل، لكنها أجابت على النداء: «أودُّ الاحتفاظ بها، لكن لن آخذها معي.» – «ربما يمكن للسيدة فولف أن تُعنى بها.» أجل، لمَ لا، ماذا حدث، لماذا تبدو العصفورة مصدومة؟ شَعَر السائق أن وجوده غير مرغوب، وأنه من الأفضل أن ينتظر تحت في العربة؛ فالأمور هنا لا تبدو واضحةً تمامًا. «هل من شيءٍ آخر أيتها السيدة الشابة؟» – «كلا، شكرًا، بوسعنا أن نمضي على الفَور.» وهذا الفَور كان فيه بالطبع مبالغة؛ فقد تناول السائق شطائره، وقرأ صحيفةً من بدايتها إلى نهايتها، بل دفَعه الضجَر إلى قراءة افتتاحيتها التي كانت بعنوان: «بوسعنا أن نحقِّق أي شيء إذا ما توفَّرَت الإرادة!»
«ألن تقيم هنا؟» كان الوداع المرتقَب قد ملأ أيامها الأخيرة بالألم والسعادة؛ فمن جديدٍ صار حبهما ساطعًا نابضًا بالحيوية؛ تألُّق سموات المساء كان بشيرًا بالفجر، وذهبية الخريف كانت الومض الواهن للربيع. والآن شعَرَت فجأة باقتراب الظلام والبرودة. «أرجوك، كن صادقًا.» عجزَت عيناه عن مواجهتها، تحوَّلَتا عنها، وتطلَّعتا إلى الكاتدرائية في لوحة الزيت، والنهر، وأعمدة المتحف، ونقوش المدخل، كأنما ستُعطيه ردًّا لن يتعين عليه سوى أن يقرأه بصوتٍ مرتفع. كان ينتظر هذا السؤال وقد فكَّر في إجاباتٍ كثيرة عليه، اختار إحداها ثم عدل عنها، واستقرَّ على أخرى، ثم ثالثة، وأخيرًا احتفظ بها جميعًا حتى يُتاح له أن يختار منها الإجابة الملائمة لكل موقف. لكنه الآن لم يكن يملك واحدة، فظل صامتًا. بحث دون أن يجد، فأوقف البحث عن الإجابات المُعدَّة حتى يفكِّر في أخرى جديدة، ولم يسَعْه أن يفكِّر إلا في ضرورة التفكير وفي الألم الذي يسبِّبه صمتُه لها، وأخيرًا قال: «لا أعلم.» هي كذبة، ليست أكبر مما لو كان قد قال: أجل، سأبقى هنا. لكنها كذبةٌ على أية حال؛ لأنه كان يعرف بالدقة ما هو فاعل.
وفي هذه اللحظة أدركَت هي أنها كانت تعرف الحقيقة، لكنها كانت تخشاها، كانت قد قالت لنفسها إنه سيواصل الحياة هنا، وإنه سيكون قادرًا على تحمُّلها حتى يتم الطلاق ويجد غرفةً مستقلة. واختلقَت أوهامًا تعينها على الاستمتاع بالأيام الأخيرة، ولم تتمكن من الاستمتاع بها إلا لأنها حدَسَت أنها آخرُ أيامهما معًا. والآن صارت هذه الأيام في الماضي. حل الليل، البرد، الشتاء. تناولَت سُترتها دونما ألم، وقد خدَّرَتها الحقيقة، ومضت حتى المطبخ، حيث استوقفَها، وجذَبها إليه، ووجد كلمات، وعباراتٍ وأجوبة، وإيضاحات؛ لا يستطيع البقاء هنا لأن كل شيء يذكِّره بها، لأنه سيموت من الشوق إليها، لأنه لا يطيق المنزل إلا عندما تكون إلى جواره، الفناء والناس، الحوض، المِلَاط المتقشر، هديل الحمام، ضجيج التليفزيون في الغرفة المجاورة، حديث السيدة فولف، صحراء القرميد، ولأنه من السخف أن يبتاع أثاثًا لهذه الغرفة، ولأنه ببساطة لا يستطيع أن يستقبل بها زوَّارًا، و… و… و… كان بوسعها أن تشعُر بتلاشِي الخدر ومقدم الألم لكنها لم تبكِ. لم تسأل: أتريد العودة إلى أسرتك؟ حاولَت أن تستوعب موقفها الجديد، أن تهيِّئ ترياقًا، أن تكتسب بشرةً سميكة، أن تُبدي تماسُكًا وترفُّعًا، أن تظل منتصبةَ القامة، أن تتغلَّب على الشلل، أن تختار أهدافًا جديدة، أن تذهب. لكن أصابعه على رقبتها كانت فعَّالة، كالعهد بها، وأجبرَتْها أن تبذل محاولةً أخيرة: «تعالَ معي! اترك كل شيء وتعالَ معي!» ضغط رأسه في كتفها (كي لا تراه؟) لآخر مرة هذا الشعر، وبشرتها! يستحيل أن يكون هذا حقيقيًّا. لكنه لم يجد حتى الشجاعة ليقول: لا أستطيع أو لن أفعل، تحدَّث عن مسئوليته المهنية وأنها من خلاله ستكون قادرةً على العودة إلى برلين في أي وقت. عند ذلك لاذت بالفِرار.
كانت السيدة فولف قد حملَت كوبًا من القهوة للسائق في عربته، وجلسَت إلى جواره، تشرح له مسائل الحب والزواج: «الجميع يعرفون أن السماء السابعة تتحوَّل منذ بدء الحياة المشتركة إلى السادسة أو الثانية، أو إلى مسكنٍ عادي تمامًا من حجرةٍ واحدة، لكنَّ أحدًا لا يريد الاعتراف بذلك؛ لأن كلًّا منهم يظن نفسه استثناءً، وأشياء من هذا القبيل، وعندما تتخذ الأمور مسارًا مماثلًا لما يحدُث مع الآخرين، يتحول أحد الاثنَين إلى خرقة والثاني إلى شيطان، ويبدأ النقار، أتعرف لماذا؟ حتى يتعانقا من جديد وينشجا. أجل أنا خنزيرٌ حقيقي، وأنا بلهاء، ويصبح كل شيء على ما يُرام حتى المرة التالية، كل هذا لأن الناس لا تستطيع احتمال السلام والهدوء (اللذَين يجيئان في أعقاب معاناة الحب الأول)، رغم أن هذا هو أفضل ما في الزواج، لكن تبيَّن أن ذلك يحتاج إلى بعض الوقت وإلى وقتٍ طويل جدًّا أحيانًا، خاصةً بالنسبة للرجال الذين هربوا من الزواج الأول، ويعقدون المقارنات دائمًا، لكن من استقرَّت أنفه على كتفه لا يغادر الغابة أبدًا سالمًا، وعندئذٍ تكون لدينا نتائجُ مماثلة لما نراه هنا، وربما كان هذا أفضل؛ فمهما دعكتَ الجواد بالفرشاة فلن يتحول أبدًا إلى حمار.»
وعندئذٍ تركَته لأن العصفورة كانت قد ظهَرَت عند الباب الأمامي، وكان لا بُدَّ من عناقها وتقبيلها وإهدائها شعارًا من شعارات السفر: «السماء تعطيك أشعة الشمس، والقوة أيضًا على الحياة بدونها.» أما باشكه فلم يخطر له شيءٌ أفضل من: «أطيب تمنياتي!» ثم لوَّحوا جميعًا؛ السيدة فولف، السيدة جيورنج، السيد باشكه، والسيد إرب، وما إن بلغا طريق شونهاوزر أليه حتى وجَّه إليها السائق سؤاله السابر، لكن أمله خاب.
كانت الآنسة برودر استثناءً من الأخريات؛ ذلك أنها لم تذكُر له شيئًا.
وفي نفس اليوم نقلَت مدينة القيصر في جو القيصر بإطارها الذهبي (عَبْر السندرة) إلى المسكن الأمامي، وهي اليوم معلَّقة في حجرة المعيشة، ويمكن مشاهدتُها هناك؛ الجناح، الطابق الرابع، إلى اليمين. ويسُر السيدة فولف أن تستقبل أي زائر يودُّ الاستماع، بل إن من يستطيعون إبداء الاهتمام بالحمام، قادرون على انتزاع بضع كلمات من زوجها. أما رؤية كتاب مندلزون النادر فتتطلب رحلة بقطارٍ بطيء تستغرق عدة ساعات.
٢٨
النهاية الملائمة لقصتنا ستكون هكذا: عندما يقع اختيار حمار بوريدان أخيرًا على أحد كومَي التبن لا يجد له أثَرًا. ومعنى هذا: كارل إرب يغادر الجناح ب. إنه يزور باشكه في المساء لشطب اسمه من قائمة المقيمين، ويحتسي معه كأسًا من الخمر، ويترك تحياته الحارَّة لأنيتا. وفي الصباح تحوَّلَت السيدة فولف إلى سمكة، خرساء وباردة. وتعيَّن عليه أن يساعدها في إزاحة الخوان من أمام الباب، دون أن يتلقى منها كلمةَ شكرٍ واحدة. ووقفَت إلى جواره كحارس السجن بينما يحزم أشياءه؛ ملف مخطوطات، المرتبة الهوائية، أدوات الغسيل والحلاقة، مَلاءة سرير، ملابس، بطاقة الهوية، أدوية، وسادة، بطانية. ويكون باشكه في محله المختار بالنافذة عندما يمضي كارل إلى سيارته حاملًا صندوقَين. رحلة انتهت مبكرًا. فرار مجهض. وصل متأخرًا إلى مكتبه؛ حيث كان خليفته في انتظاره مع هاسلر كي يتسلم منه منصبه. ومَرَّ اليوم بسرعة مشحونًا بالعمل. وفي المساء رافقَه هاسلر حتى السيارة، ورأى الصندوقَين فسأله عما إذا كان ذاهبًا في رحلة. على العكس، قال إرب، لكنه اضطُر إلى ذكر الأمر بوضوحٍ أكثر قبل أن يفهم هاسلر، أفاض في التفاصيل، وأصبح الآن قادرًا على إبراز الحُجج، حُجج قوية، حُجج أخلاقية، تتردَّد بها كثيرًا كلمات الأسرة والواجب والأطفال والمسئولية، وتخلَّلها مرةً ذكرُ مفهوم المركز الفريد الذي يشغله الأب، ووجه فرادته استحالة إلغائه (وهي فكرة نعرفها من ألت – شرادوف). أدرك هاسلر ما حدث فأعطى رأيه الذي (إذا ما جرَّدناه من زخارفه بسبب الإيجاز الضروري في فصلٍ ختامي) يمكن تلخيصه في هذه العبارة: هناك صيغة للقانون الأخلاقي تضيع فيها المبادئ الأخلاقية. ويتمنى لإرب كل ما هو سيئ ولإليزابيث كل ما هو حسن؛ أي القوة على المقاومة، ثم غادر المشهد وهذا الكتاب، وساقه الصناعية تُحْدِث صريرها المعهود.
يقود إرب سيارته عَبْر المدينة، التي تبدو في هذا الوقت عاصمةً حقيقية، حية، تشغي بحركة المرور، أكثر من أي وقتٍ آخر، ويمُر مرتَين أسفل جسرَين للخط الحديدي، ثم يمضي فوق طريقٍ سريع، ويعبُر غابات، ويمُر بمحطات مياه، وشاطئ الاستحمام، والمدرسة. يتوقف أمام بوابة حديقة تحمل اسمه، أمام منزل تجلس في غرفة معيشته (ذات التراس ومشهد النهر) امرأةٌ وطفلان يتناولون عَشاءهم. يفاجئهم الطرقُ المفاجئ، وسرعانَ ما يقف أمامهم رجلٌ يحمل صندوقَين. يضع الصندوقَين ويبتسم في حرج. لا يرُد أحدٌ الابتسامة، لا المرأة ولا الطفلان، فتختفي سريعًا. تُجيب المرأة على تحيته، لكنها تنظر إلى الرجل بشيء من الغربة والنفور يُشعِرانه بأنه بائعٌ متجول، شحَّاذ، صاحب التماسٍ مزعج، بائع يعرض شيئًا لا ترغبه، ويريد إقناعها بشرائه؛ هذا الشيء هو نفسه؛ لهذا يسمح للابتسامة أن تموت. ولا يقول في سعادة: حسنًا، ها أنا ذا يا أطفال. بدلًا من ذلك يُبدي وجهًا آخر، تائبًا، متعبًا، متألمًا، يُصبح ذلك الرجل الذي وقع في براثن اللصوص عندما ذهب إلى أريحا وله الحق في أن يجد سامريًّا طيبًا، لكن المرأة لا تنتوي أن تكون هذا السامري. تبدَّى ذلك بوضوحٍ عندما تقدِّم إليه يدها، في بطءٍ وعلى مضَض، ثم تسحبُها على الفور عندما يُحاول الاحتفاظ بها أطولَ مما هو ضروري لتحيةٍ عابرة. لا تقدِّم إليه المرأة مقعدًا، وهو لا يجرؤ على الجلوس من تلقاء نفسه، ويقف بين صندوقَيه، يتكلم في مسكنة، وخنوع، وخجل، وخضوع، واستسلام. يتوقف، ثم يتكلم من جديد، ويبدأ من البداية ويغيِّر لهجته، ويتوسل، يضرب الأرض بقدَمه، يغضب، تسيل دموعه، يتذرَّع بالكبرياء، لكن الإجابة الوحيدة التي يتلقاها هي: كلا، كلا. يحمل صندوقَيه ويمضي إلى سيارته، ويقودها عائدًا إلى المدينة، إلى آل مانتك، فلا يجدهم. لا يجرؤ على الذهاب إلى هاسلر، الفنادق جميعًا غاصَّة، بالإضافة إلى أن أهل برلين ممنوعون من النزول بفنادقها. وعند الغسَق يغادر المدينة مرةً أخرى، ويجلس في أحد مطاعم الضواحي حتى تُرفع المقاعد فوق الموائد. يقود سيارته مرةً أخرى فيَمُر بمحطة المياه، ويتجه إلى البحيرة. الجو مظلم وبارد وممطر. يُخْرِج وسادته وبطانيته من الصندوق ويُحاول النوم في المقعد الخلفي. المطر يسوط النوافذ.
هذه هي النهاية الملائمة. لكن الواقع نادرًا ما يقدِّم نهاياتٍ روائيةً جاهزة. ولما كان الواجب أن يُعنى التقرير بالوضوح لا بالشكل الخارجي، فإن النهاية الحقيقية أقلُّ ملاءمةً لسوء الحظ، وأقل وضوحًا، وأقل إنصافًا. لقد ذكر ريبلوس، جامع المعارف غير المنتج: «لا بُدَّ وأن تكون التفاصيلُ حقيقية ولو لإبراز أن إرب لا يمكن أن يرتقي إلى مرتبة شارل الخامس، الذي لقَّب جوهان سليدان، مؤرِّخ بلاطه، لأسبابٍ معيَّنة بكاذب البلاط.» ولهذا السبب نقدِّم هنا النهاية الحقيقية الصادقة الفعلية (التي كان يمكن أن تكون بدايةً للكتاب؛ رجل يعود إلى أسرته، ويقول جيرانه وأصدقاؤه وزملاؤه ورفاقه: حمدًا لله، أخيرًا. ويعتبرون ذلك انتصارًا للمبادئ الأخلاقية. إن الراوية يتساءل كما يسأل قراؤه: أكان الأمر حقًّا هكذا؟).
لقد كانت النهاية الحقيقية مطابقة تمامًا للنهاية المخترَعة حتى اللحظة التي ولَج فيها إرب غرفة المعيشة، ووضع صندوقَيه، ووجَّه إليهم التحية بابتسامة مُحرَجة. كلا، لم تبلُغ الأمور هذا المدى؛ لأن كاتارينا كانت قد تعلَّقَت به وأحكمَت ساعدَيها حول رقبته، حتى أصابه احتباسُ الهواء بحمرة الوجه ذاتها التي أصابَتْها من الفرح. لم تكن بعدُ قادرةً على النطق بشيء، وكل ما كان بوسعه أن يقوله هو: أجل، أجل، أجل. كما لو أنها قد سألَته عما إذا كان يعتزم البقاء، وهو سؤال لم توجِّهه إليه إلا فيما بعدُ، عقب أن مَرَّ وقتٌ طويل على سؤالٍ آخر ردَّدَته ثلاث مرات عما أحضره لها من هدايا. ولم تظهَر على وجه بيتر الشاحب عاطفةٌ ما، فظل يتطلَّع بعينَين نصف منفرجتَين إلى الشمس الغاربة حتى انتهى استقبال أخته العاصف، فاقترب من أبيه، وأعطاه القبلة الإجبارية، وأراد أن يعرف ما إذا كان يتعيَّن عليه الآن أن يعود إلى غرفته الأصلية. وخلال هذا كله كانت إليزابيث تجلس إلى المائدة متصلِّبة صارمة، في انتظار تحيةٍ رقيقة، تُعوِزها اللباقة، ستُضطَر إلى صدها رغم وجود الطفلَين، وأخيرًا قالت، عندما اقتصر كارل على مصافحتها: «ألا تريد أن تأكل شيئًا؟» ولم تَزِد لوقتٍ طويل، منذ كان كارل يتحدث مع الطفلَين أو بالأحرى يدفعهما إلى الحديث بابتداع الأسئلة لهما، الكثير من الأسئلة، خوفًا من أن يوجِّها إليه بعضًا منها. وفيما بعدُ جلس طويلًا إلى جوار فِراش كلٍّ منهما ووعَد (وقد لانت عريكته) بتحقيقِ ما يريدانه؛ لكاتارينا زيارة بالسيارة لبلدة لم ترَها من قبلُ، ولبيتر تحويل المخزن العلوي إلى غرفةٍ خاصة به، ولكلَيهما الرحلة اليومية بالسيارة إلى المدرسة.
لم يكن ثمَّة أثَرٌ لإليزابيث في غرفة المعيشة. قالت: «ادخل.» بلهجةٍ أوضحَت أن طرقه الباب قبل دخول غرفتها أمرٌ بديهي. كانت تجلس إلى المكتب. سألها: «لديك مكتب؟»، وبعد بُرهة: «هل يروقُ لك عملك الجديد؟» – «أجل.» – «يسُرني أن أسمع ذلك، لكني آمُل أن تعلمي أن هذا ليس ضروريًّا.» – «بل ضروري.» – «أعني بالنسبة للنقود؛ فالطفلان يحتاجان إلى كل وقتك.»
بدا لها الصمت أفضل إجابة. لكنه، الذي لا يعرف بعدُ إليزابيث الجديدة، اعتبر ذلك استغراقًا في التفكير، وشعَر أن الوقت قد حان كي يشرح لها كل شيءٍ بأمانةٍ تامة، دون أعذار، ودون إعفاءٍ لأحدٍ من اللوم.
والواقع أنه لم يُعفِ أحدًا (فيما عداه)، لقد أدرك فجأة كل شيء على وجه الدقة، ورهنَ يده نظريةٌ تتيح له تجنُّب استخدام ضمير المتكلم المفرد، ورواية كل شيء من خلال الحديث عن «المرء»، لم يُغفِل بالتأكيد عمق تجربته الغرامية، بل أكَّده، ورفعها إلى قممٍ روحيةٍ غامضة (صار فيها الشخصية الرئيسية في ملحمته، البطل، شبيه الله) لأن عمق مشاعره الذي لا يُقاس بمقاييس الحياة اليومية، هو بالضبط الذي حال دون ازدهارها في حياة كل يوم، كانت السلسلة الذهبية أثقلَ من أن تحتمل أكثر من ذلك، وصار العُش الذي نسجَه بنفسه، أكثر ضيقًا، أكثر تقييدًا، يمنع كل حركة، والحياة مع حبٍّ كهذا ليست ممكنةً إلا إذا كانت من أجل هذا الحب وحده، ومن يسَعُه ذلك؟ يضع المرء الفِخاخ للآخرين وإذا به يقَع فيها، حتى لم يعُد أمام المرء في النهاية غير مخرجٍ واحد؛ الهروب العنيف، وقد قام بذلك، ورغم جراح المرء النازفة فإنه يعرف أنه قام بما هو صواب، ثم إن المرء من كِبَر السن بحيث يدرك الدور الشافي للزمن. «صدِّقيني: سرعان ما أعود إلى سالف عهدي.» – «تمامًا.» لم يفهم ما عنَته إليزابيث بهذا الرد، الذي لم يوضَّح له في ذلك الحين.
لكن ثمَّة وفرة من الوقت لهذا بعد نهاية كتابنا، الذي لن يطيل أكثر من ذلك لا ليصف ساعتَين، ساعتَين من ذات مساء (غير بارد ورطب بل دافئ ورائق) على نهر شبريه، عندما أخلد الطفلان إلى النوم، وعكفَت إليزابيث على دَرْس تاريخ الفن (وهي لا تني ترفع عينَيها عن الكتاب إلى الجدار) ثم رقدَت في فراشها يَقِظةً تفكِّر في بهجة الطفلَين، بينما كان كارل (لأول مرة منذ نهاية الحرب) قد أعَدَّ فراشه (أريكة حجرة المعيشة)، ووقف في الشرفة ببيجامته، محدِّقًا إلى القمر، مصغيًا لبعض مجدِّفي القوارب المتأخرين في العودة يغُّنون كي يحتفظوا بشجاعتهم في الظلام (دون أنوار). ثم تفقَّد الذرة والحِمَّص مكان النجيلة السابقة، وتسلَّل أخيرًا إلى المنزل وطرق باب إليزابيث: «ماذا هناك؟» جذب المقبض إلى أسفل، لكن الباب كان مغلقًا بالمفتاح. «أردتُ فحَسْب أن أسألك عن موعد خروجك في الصباح.» – «قبلك. طابت ليلتُك.» قالت ذلك بصوتٍ مرتفع، ثم أضافت بصوتٍ خافت لنفسها: لولا الطفلان لعرفتُ ماذا أفعل، الطفلان فقط هما السبب الحقيقي. وعندئذٍ انقضَت الساعتان، ولا بُدَّ من نهاية في مكانٍ ما دام الأبطال لا يموتون (ولا يبدو هناك احتمال لذلك مع أبطالنا هؤلاء).
لعلها فكَّرَت أيضًا: يا للفظاعة! أن يكون هنا غريبٌ في المنزل. أو: لماذا لا يملك المرء أن يتغيَّر؟ هل أستطيع؟
ربما. لكن من يفهم إليزابيث؟