سنة ثمان وثمانين وماية وألف/١٧٧٤م
استهلت ووالي مصر خليل باشا محجوز عليه، وليس له في الولاية إلا الاسم والعلامة على الأوراق، والتصرف الكلي للأمير الكبير محمد بك أبو الذهب والأمرا وأعيان الدولة ومماليكه وإشراقاته، والوقت في هدو وسكون وأمن، والأحكام في الجملة مرضية والأسعار رخية وفي الناس بقية، وستائر الحياء عليهم مرخية، شعر:
ذكر من مات في هذه السنة
ومات في هذه السنة الإمام العلامة، والنحرير الفهامة، حامل لواء العلوم على كاهل فضله، ومحرر دقايق المنطوق والمفهوم بتحريره ونقله، من تكحلت بحبره عيون الفتوى، وتشنف المسامع بما عنه يروى، وارتفع من حضيض التقليد إلى ذر الفضايل، وسابق في حلبة العلوم قصب الفواضل، الروض النضير، الذي ليس له في ساير العلوم نظير، وهو في فقه النعمان الجامع الكبير، عمدة الأنام، وفيلسوف الإسلام، سيدي ووالدي بدر الملة والدين أبو التداني/حسن بن برهان الدين إبراهيم بن الشيخ العلامة حسن بن الشيخ نور الدين علي بن الولي الصالح شمس الدين محمد بن الشيخ زين الدين عبد الرحمن الزيلعي الجبرتي العقيلي الحنفي، وبلاد الجبرت هي بلاد الزيلع بأراضي الحبشة تحت حكم الحطي ملك الحبشة، وهم عدة بلاد معروفة تسكنها هذه الطايفة وهم المسلمون بذلك الإقليم ويتمذهبون بمذهب الحنفي والشافعي لا غير، وينسبون إلى سيدنا أسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكان أميرهم في عهد النبي ﷺ النجاشي المشهور الذي آمن به ولم يره، وصلى عليه النبي صلاة الغيبة كما هو مشهور في كتب الأحاديث، وهم قوم يغلب عليهم التقشف والصلاح، ويأتون من بلادهم بقصد الحج والمجاورة في طلب العلم، ويحجون مشاة، ولهم رواق بالمدينة المنورة، ورواق بمكة المشرفة، ورواق بالجامع الأزهر بمصر، وللحافظ المقريزي مؤلف في أخبار بلادهم وتفصيل أحوالهم ونسبهم.
ومنهم القطب الكبير والمعتقد الشهير الشيخ إسماعيل بن سود كين الجبرتي تلميذ الشيخ ابن العربي ويسمى قطب اليمن، والشيخ عبد الله الذي ترجمه الحافظ السيوطي في حسن المحاضرة، وهو الذي كان يعتقده الملك الظاهر برقوق، وأوصى عند موته بأن يدفن تحت قدمه بالصحراء، ومنهم الولي العارف الشيخ علي الجبرتي الذي كان يعتقده السلطان الأشراف قايتباي وارتحل إلى بحيرة إدكو فيما بين رشيد والاسكندرية، وبنى هناك مسجدًا عظيمًا ووقف عليه عدة آماكن وقيعان وأنوال حياكة وبساتين ونخيل كثيرة، وهو موجود إلى الآن عامر بذكر الله والصلاة، وهو تحت نظر الفقير إلا أن غالب أماكنه زحفت عليها الرمال وطمستها وغابت تحتها، وفيه إلى الآن بقية صالحة، وبنى أيضًا مسجدًا شرقي عمارة السلطان قايتباي ودفن به، وقد خرب وانطمس معالمه ولم يبق إلا مدفنه، وحوله حايط متهدم بغير باب ولا سقف، وقبره ظاهر مكشوف يزار وللناس فيه اعتقاد عظيم، ومن كراماته التي أكرمه الله بها أنه يرى على قبره في بعض الليالي المظلمة نور مثل قنديل المستنير، يرى ذلك سكان العمارة وغيرهم وهو أمر مشهور، ومنها أن السفار وقوافل الأعراب ينزلون بأحمالهم حول قبره في الحوطة ويتركونها من غير حارس ليالي وأيامًا آمنين، فلا يتعدى عليها سارق ألبتة، ويعتقدون العطب للجاني في بدنه أو ماله، وهو أمر مشهور أيضًا مقرر في أذهانهم إلى الآن.
ومنهم الإمام الحجة الفقيه الجدلي صاحب التصحيح والترجيح، فخر الدين أبو عمر وعثمان الحنفي الزيلعي شارع الكنز المسمى بتبيين الحقايق شرح كنز الدقايق المدفون بحوطة سيدي عقبة بن عامر الجهني والشيخ الزيلعى الشافعي المدفون بالقرافة الكبرى، وغير هؤلاء كثير ببلادهم وأرض الحجاز ومصر، والقصد بذلك التعريف بالنسبة، قال تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. والنجاشي أول من آمن بالنبي ﷺ من الملوك ولم يره، وأسلم على يد ابن عمه جعفر بن أبي طالب وزوجه أم حبيبه رضي الله عنها وجهزها من عنده وأرسلها للنبي من الحبشة إلى المدينة، ومن أراد الاطلاع على أخبار النجاشي رضي الله عنه مع النبي ﷺ وهداياه إلى النبي وهدايا النبي إليه، وبعض أخبار الحبشة وما ورد فيهم من الآيات والأحاديث والآثار، فلينظر في كتاب الطراز المنقوش في محاسن الحبوش للإمام العلامة علاء الدين بن محمد بن عبد الله البخارى خطيب المدينة المنورة، «رفع شأن الحبشان» للعلامة جلال الدين السيوطي، «وتنوير الغبش في فضايل السودان والحبش» لابن الجوزي، وفي تفسير البغوي أخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما مات النجاشي كنا نحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور، وفي «أزهار العروش» من عرف اسمه من الصحابة من الحبوش ومن عبيده ﷺ.
ومنهم أحد كبار المجاهدين والمهاجرين بلال بن رباح مؤذن رسول الله ﷺ ومولى أبي بكر الصديق، وهو أول من أذن في الإسلام وأول من ثوب أي: قال: الصلاة خير من النوم في الفجر كما في الأوايل للسيوطي، وكان خازن رسول الله ﷺ على بيت المال كما في تهذيب الأسماء واللغات، وكان يبدل الشين بالسين، فقال رسول الله ﷺ في شأنه: «شين بلال سين عندي وعند الله» وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «كان أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا» يعني بلالًا، وروى عنه كثير من الصحابة. ومنهم ابو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأسامة بن زيد وجابر وأبو سعيد الخدري وكعب بن عرفجة والبراء بن عازب وغيرهم وجماعة من التابعين رضي الله عنهم أجمعين. ومنهم شقران بضم الشين المعجمة مولى رسول الله وأما خدمه من الحبشة الأحرار فكثيرون، وكذلك الصحابيات من إمائه وأهل بيته، ومنهم أم أيمن ذات الهجرتين وهي مرضعته وحاضنته، وحليمة السعدية وثويبة وبركة جارية أم حبيبة، وبريرة مولاة عائشة رضي الله عنها، ونبعة جارية أم هانئ بنت أبي طالب، وغفرة وسعيرة، وكذلك عبيد الصحابة، ومنهم مهجع بكسر الميم وفتح الميم مولى عمر بن الخطاب، وهو أول من استشهد ببدر وكان من المهاجرين الأولين، وعده النبي ﷺ من سادات أهل الجنة وقال في شأنه: «يوم قتل سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة». ومنهم أسلم مولى عمر بن الخطاب وأيمن الحبشي المكي والد عبد الواحد بن أيمن، ويسار مولى المغيرة بن شعبة، أخرج الحسن بن محمد الخلال في كرامات الأوليا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «دخلت على النبي ﷺ فقال لي: يا أبا هريرة يدخل عليَّ الساعة من هذا الباب رجل من أجل السبعة الذين يدفع الله عز وجل عن أهل الأرض بهم الأذى. فإذا حبشي قد طلع من ذلك الباب أقرع أجدع على رأسه جرة فيها ماء، فقال رسول الله ﷺ: يا أبا هريرة هو هذا ثم قال: مرحبًا بيسار ثلاث مرات وكان يرش المسجد ويكنسه، ومات في عهده ﷺ». وأما الصحابة الأحرار من الحبوش الأخيار الذين كانوا يخدمون الرسول وأصحابه وأهل بيته، فكثيرون جدًّا لا يمكن استيعابهم في هذا الاطراد ضبطًا وعددًا، وكذلك أبناء الحبشيات من قريش من الصحابة والتابعين وأهل البيت الطاهرين والخلفاء العباسيين، ومن ولد بأرض الحبشة من الصحابة من الحبشيات مثل: صفوان بن أمية بن خلف الجمحي وعمرو بن العاص وغيرهما مثل: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو أول مولود في الإسلام بأرض الحبشة بالاتفاق، وكان يسمى بحر الجود وأخباره في السخاء والكرم مشهورة، والحرث بن حاطب الصحابي ومحمد بن حاطب وعمرو بن أبي سلمة.
وفي الحبوش أخلاق لطيفة وشمايل ظريفة، وفيهم الحذق والفطانة ولطافة الطباع وصفاء القلوب لكونهم من جنس لقمان الحكيم، وهم أجناس منهم السحرتي والأمحري الأمهري، وهم أحسن أجناس الحبوش الموصوفين بالصباحة والملاحة والفصاحة والسماحة والنعومة في الخد والرشاقة في القد، ولله در الشيخ العلامة القاضي عبد البر بن الشحنة الحنفي حيث يقول:
والأمحرية تفوق على السحرتية باللطف والظرف، والسحرتية تفوق على الأمحرية بالشدة والعنف، فبينهما عموم وخصوص مطلق، وقيل: إن النجاشي منهم رضي الله عنه، ويقال: إن بني أرفدة الذين لعبوا بحرابهم بين يدي رسول الله ﷺ وفازوا بخطابه أعني قوله لهم: «دونكم يا بني أرفدة» منهم، ويقرب من هذين النوعين نوعان آخران نوع الدموات وبلين ونوعان آخران وهما قمو وقتر ونوع آخر يسمى أزاره، وقال الشيخ شهاب الدين البزاعي من أبيات:
وقال غيره:
عودة وانعطاف
إن الشيخ عبد الرحمن وهو الجد السابع لجامعه وإليه ينتهي علمنا بالأجداد، هو الذي ارتحل من بلاده ووصل إلينا خبره سلفًا عن خلف، فقدم من طريق البحر إلى جدة وانتقل إلى مكة فجاور بها وحج مرارًا، وذهب أيضًا إلى المدينة المنورة فجاور بها سنتين، ولقي من لقي بالحرمين من الأشياخ وتلقى عنهم، ثم رجع إلى جدة وحضر إلى مصر من طريق القلزم فدخل إلى الجامع الأزهر في أوايل العاشر، وجاور بالرواق ولازم حضور الأشياخ واجتهد في التحصيل وتولى شيخًا على الرواق والتكلم على طايفته وتزوج وولد لهن. فلما مات خلف ولده الشيخ شمس الدين محمد، ونشأ على قدم الصلاح والاشتغال بطلب العلم، وتولى مشيخة الرواق كوالده، وأنجب وأقرأ دروسًا في الفقه والمعقول بالرواق وكان على غاية من الصلاح وملازمة الجماعة والسنن، ولا يبيت عند عياله إلا ليلة أو ليلتين في الجمعة، وغالب لياليه بيبتها بالرواق لأجل الاشتغال بالمطالعة أول الليل على السهارة والتهجد آخره، ومما اتفق له وعد من كراماته أن السراج انطفأ في بعض الليالي الشتوية فأيقظ النقيب ليسرج له سراجًا فقام من نومه منكرهًا وأخذ قنديلًا، وذهب ليسرجه فلما عاد به وقرب من الرواق رأى نورًا فستر ذلك القنديل، ونظر إليه من بعد لينظر من أين أتاه الإسراج فوجده يطالع في الكراس وهو في يده اليسار وسبابة يده اليمنى رافعها وهي تضيء مثل الشمعة المستنيرة، ويطالع في نورها ثم دخل النقيب بالقنديل فاختفى ذلك الضوء، وعلم الشيخ ذلك من النقيب فعاتبه على التجسس وآشار إليه بكتمان سره، ولم يعش الشيخ بعد ذلك إلا قليلًا، وتوفي إلى رحمة الله تعالى وخلف ابنه الشيخ علي فنشأ أيضًا على قدم أسلافه في ملازمة العلم والعمل، وصار له شهرة وثروة وتزوج بزينب بنت الإمام العلامة القاضي عبد الرحيم الجويني، ومات في حياة أخيه سنة تسع وثمانين وألف، وكان لزينب الجوينية أماكن جارية في ملكها وقفتها على ولدي زوجها المذكورين، ولما توفي الشيخ حسن أعقب الجد إبراهيم رضيعًا، فكفلته والدته الحاجة مريم بنت الشيخ العمدة الضابط محمد بن عمر المنزلي الأنصاري، فنشأ أيضًا نشوءًا صالحًا حتى بلغ الحلم فزوجوه بستيتة بنت عبد الوهاب أفندي الدلجي في سنة ثمان وماية وألف، وبنى بها في تلك السنة وحملت بالمترجم وولدته في سنة عشر ومائة وألف، ومات والده وعمره شهر واحد وسن والده إذ ذاك ست عشرة سنة فربته والدته بكفالة جدته أم أبيه المذكورة ووصاية الإمام العلامة الشيخ محمد النشرتي، وقرروه في مشيخة الرواق كأسلافه والمتكلم عنه الوصي المذكور فتربى في حجورهم حتى ترعرع وحفظ القرآن وعمره عشر سنين، واشتغل بحفظ المتون فحفظ الألفية الجوهرية ومتن كنز الدقايق في الفقه ومتن السلم والرحبية، ومنظومة ابن الشحنة في الفرايض وغير ذلك، واتفق له في أثناء ذلك وهو ابن ثلاث عشرة سنة أنه مر مع خادمه بطريق الأزهر، فنظر إلى شيخ مقبل منور الوجه والشيبة، وعليه جلالة ووقار طاعن في السن والناس يزدحمون على تقبيل يده ويتبركون به، فسأل عنه وعرف أنه ابن الشيخ الشرنبلالي، فتقدم إليه ليقبل يده كغيره فنظر إليه الشيخ وتوسمه وقبض على يده وقال: «من يكون هذا الغلام ومن أبوه؟ فعرفوه عنه، فتبسم وقال: عرفته بالشبه، ثم وقف وقال: اسمع يا ولدي أنا قرأت على جدك وهو قرأ على والدي وأحب أن تقرأ عليَّ شيا وأجيزك وتتصل بيننا سلسلة الإسناد وتحلق الأحفاد بالأجداد، فامتثل إشارته ولازم الحضور عنده في كل يوم وقرأ عليه متن نور الإيضاح تأليف والده في العبادا وكتب له الإجازة ونصها: «الحمد لله الذي أنعم على عبده بتوفيقه، وأرشده إلى سواء طريقه، وأذاقه حلاوة التفقه في دينه وتمام تحقيقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنعم بلطايف الإنعام وعظيمه ودقيقه، وأشهد أن سيدنا وسندنا محمد عبده ورسوله الهادي إلى الخير الكامل، والجبر الشامل، فأصبح كل أحد مغمورًا في بحر وجوده، محفوظًا من كيد الشيطان وجنوده وتعويقه، على آله الأطهار، وصحابته الأخيار، وبعد فقد حضر لدي الولد النجيب، الموفق اللبيب، الفطن الماهر، الذكي الباهر، سليل العلما الأعلام، ونتيجة الفضلا العظام، نور الدين حسن بن برهان الدين ابراهيم بن العلامة مفتي المسلمين وإمام المحققين، الشيخ حسن الجبرتي الحنفي رحم الله أسلافه وبارك فيه، وقرأ على متن نور الإيضاح من أوله إلى آخره تأليف والدي المندرج إلى رحمة الله تعالى سيدي وسندي الإمام العلامة الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي، وأجزته أن يروي ذلك عني وجميع ما يجوز لي روايته إجازة عامة كما أجازني به وبفقه أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه كما تلقى ذلك هو عن الشيخ علي المقدسي شارح نظم الكنز عن العلامة الشلبي شارح الكنز عن القاضي عبد البر بن الشحنة عن المحقق الكمال بن الهمام عن سراج الدين قارئ الهداية عن علاء الدين السيرامي عن السيد جلال الدين شارح الهداية، عن علاء الدين بن عبد العزيز البخاري، عن حافظ الدين صاحب الكنز، عن شمس الأئمة الكردي، عن برهان الدين صاحب الهداية، عن فخر الإسلام البزدوي، عن شمس الأئمة السرخسي، عن شمس الأئمة الحلواني، عن القاضي ابن علي النسفي، عن الإمام محمد بن الفضل البخاري، عن عبد الله السندموني.
عن الأمير عبد الله بن أبيه حفص البخارى عن أبيه المذكور، عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني، عن الإمام أبي يوسف عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه، عن الإمام حماد بن سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن الإمام علقمة، عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ، عن أمين الوحي جبريل عليه السلام، عن الله عز وجل، وأوصى الولد الأعز بالتقوى ومراقبة الله في السر والنجوى، والله تعالى يوفقه وينفع به وبعلومه ويهدينا وأياه لما كان عليه السلف الصالح في أساس الدين ورسومه. قال ذلك الفقير إلى الله تعالى حسن بن حسن الشرنبلالي الحنفي في ثالث ربيع الأول من سنة ثلاث وعشرين وماية وألف، وتوفي الشيخ في آخر تلك السنة وقد جاوز التسعين، واشتغل المترجم واجتهد في طلب العلوم، وحضر أشياخ العصر وتفقه على الإمام العلامة السيد علي السيواسي الضرير، وحضر عليه شرح الكنز للعيني والدر المختار وكتاب الأشباه والنظاير لابن نجيم وشرح المنار لابن فرشته وشرح التحرير للكمال بن الهمام وشرح جمع الجوامع ومختصر السعد، وعلى العلامة الشيخ أحمد التونسي المعروف بالدقدوسي الحنفي شرح الكنز للعلامة الزيلعي والدرر لملا خسرو، والسيد على السراجية في الفرائض وشرح منظومة بن الشحنة في الفرايض والشنشوري على الرحيبة والتلخيص ومتن الحكم وشرح التحفة، وعلى الشيخ علي العقدي الحنفي ملامسكين على الكنز ومتن الهداية والسراجية والمنار والنزة في علم الغبار والقلصادي ومنظومة ابن الهايم وعلى الفقيه محمد بن عبد العزيز الزيادي الحنفي ملتقى الأبحر وفتح القدير، والحكم لابن عطاء الله والقدوري وعقود الجمان في المعاني والبيان وإيساغوجي، وعلى الشيخ الفقيه المحدث الشهاب أحمد بن مصطفى الاسكندري الشهير بالصباغ شرح الكبرى وأم البراهين وشرح العقايد والمواقف وشرح المقاصد للسعد والكشاف والبيضاوي والشمايل والصحيحين رواية ودراية والأربعين النووية والمشارق، والقطب على الشمسية، والمواهب اللدنية وشرح النخبة، وعلى الشيخ منصور المنوفي شرح ابن عقيل على الألفية والشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والتوضيح، وشرح تصريف العزى وشرح التلمسانية والخبيصي على التهذيب، وشيخ الإسلام على الخزرجية، وعلى الشيخ عيد النمرسي شرح الورقات والسمرقندية وآداب البحث والعضدية والعصام على السمرقندية، وعلم الجبر والمقابلة والعروض وأعمال المناسخات والكسورات والأعداد الصم والغربال والمساحة والحساب، وعلى الشيخ شلبي البرلسي تلخيص المفتاح والمطول والتجريد، وعلى الشيخ محمد السجيني الضرير المكودي على الألفية والفاكهي وشرح الشذور وملاجامي، وشرح مختصر ابن الحاجب والمطول، وعلى الشيخ أحمد العماوي شرح الجوهرة لعبد السلام والسكتاني على الصغرى وشرح مختصر السنوسي والكافي ونوادر الأصول والجامع الصغير وشرح المقاصد، وعلى الشيخ حسن المدابغي الأشموني على الألفية وشرح المراح وقواعد الإعراب والمغني، وعلى الشيخ الملوي شرحه على السلم وشرح معراج الغيطي، وأوضح المسالك وأوايل الكتب الستة والمسلسلات والمسندات. وحضر أيضًا دروس الشيخ عبد الرءوف البشبيشي وأبو العز العجمي وغيرهما، وجد في التحصيل حتى فاق أهل عصره وباحث وناضل ودرس بالرواق في الفقه والمعقول وبالسنانية ببولاق، وكان لجدته أم أبيه مكان مشرف على النيل بربع الخرنوب عندما كان النيل ملاصقًا لسدته فسكنها مدة فكان يغدو إلى الجامع، ثم يعود إلى بولاق، وله حاصل بربع الخرنوب يجلس فيه حصة، ثم يعود إلى السنانية فيملي هنا درسًا ثم احترق ذلك المنزل بما فيه، وتلفت فيه أشياء كثيرة من المتاع والصيني القديم فانتقلت إلى مصر، وكانوا يذهبون إلى مكان لها بمصر العتيقة في أيام النيل بقصد النزاهة، وهي التي أعانته على تحصيل العلوم حتى إنه كان يقول: «ما عرفت المصرف واحتياجات المنزل والعيال إلا بعد موتها»، ومع اشتغاله بالعلم كان يعاني التجارة والبيع والشراء والمشاركة والمضاربة والمقايضة، وكانت جدته ذا غنى وثروة ولها أملاك وعقارات ووقفت عليه أماكن منها الوكالة بالصنادقية والحوانيت بجوارها وبالغورية ومرجوش، ومنزل بجوار المدرسة الأقبغاوية، ورتبت في وقفها عدة خيرات ومكتب لإقراء أيتام المسلمين بالحانوت المواجه للوكالة المذكورة وربعة تقرأ في كل يوم وختمات في ليالى المواسم وقصعتين ثريد في كل ليلة من ليالي رمضان وثلاث جواميس تفرق على الفقهاء والأيتام والفقراء في عيد الأضحية، وتزوج بجدته المذكورة بعد موت جده الأمير علي أغا باش اختيار متفرقة المعروف بالطوري، وتزوج المترجم بابنته وله حكم قلاع الطور والسويس والمويلح وكانت إذ ذاك عامرة وبها المرابطون، ويصرف عليهم العلوفا والاحتياجات، ولما مات علي أغا المذكور سنة سبع وثلاثين تقلد ذلك بعده المترجم مدة مع كونه في عداد العلماء، وربى معتوقيه عثمان وعليًّا ولم يزالا في كنفه حتى ماتا بعد مدة طويلة وأرسل خادمًا له يسمى سليمان الحصافي جربجيًّا على قلعة المويلح، فقتلوه هناك فتكدر لذلك وترك هذا الأمر وأعرض عنه، وأقبل على شأنه من الاشتغال، وماتت زوجته بنت الأمير علي أغا المذكور في حياة أبيها فتزوج ببنت رمضان جلبي بن يوسف المعروف بالخشاب تابع كور محمد وهم بيت مجد وثروة ببولاق ولهم أملاك وعقارات ووأوقاف. ومن ذلك وكالة وربع وحوانيت تجاه جامع الزردكاش وبيت كبير بساحل النيل وآخر تجاه جامع مرزة جربجي، وهو سكن رمضان جلبي المذكور وكان إنسانًا حسنًا رقيق الحاشية وفيه فضيلة وسليقة جيدة، ومن نظمه في إعارة الكتب قوله:
ومات رمضان جلبي المذكور سنة تسع وثلاثين وماية وألف، واستمرت ابنته في عصمة المترجم حتى ماتت في المحرم سنة اثنتين وثمانين وماية وألف وعمرها ستون سنة، وكان من الصالحات الخيرات المصونات، وحجت صحبته في سنة إحدى وخمسين، وكانت به بارة وله مطيعة، ومن جملة برها له وطاعتها أنها كانت تشتري له من السراري الحسان من مالها وتنظمهن بالحلي والملابس، وتقدمهن إليه وتعتقد حصول الأجر والثواب لها بذلك، وكان يتزوج عليها كثيرًا من الحرائر ويشتري الجواري فلا تتأثر من ذلك ولا يحصل عندها ما يحصل في النساء من الغيرة، ومن الوقايع الغريبة أنه لما حج المترجم في سنة ست وخمسين، واجتمع به الشيخ عمر الحلبي بمكة، أوصاه بأن يشتري له جارية بيضاء تكون بكرًا دون البلوغ وصفتها كذا وكذا، فلما عاد من الحج طلب اليسرجية الجواري لينتفي منهن المطلوب فلم يزل حتى وقع على الغرض فاشتراها، وأدخلها عند زوجته المذكورة حتى يرسلها مع من أوصاه بإرسالها صحبته، فلما حضر وقت السفر أخرها بذلك لتعمل لهم ما يجب من الزوادة ونحو ذلك، فقالت: إنى أحببت هذه الوصيفة حبًّا شديدًا ولا أقدر على فراقها، وليس لي أولاد وقد جعلتها مثل ابنتي والجارية بكت أيضًا وقالت: لا أفارق سيدتي ولا أذهب من عندها أبدًا، فقال: وكيف يكون العمل؟ قالت: ادفع ثمنها من عندي واشتر أنت غيرها ففعل. ثم إنها اعتقتها وعقدت له عليها وجهزتها وفرشت لها مكانًا على حدتها، وبنى بها في سنة خمس وستين وكانت لا تقدر على فراقها ساعة مع كونها صارت ضرتها وولدت له أولادًا، فلما كان في سنة اثنتين وثمانين المذكورة مرضت الجارية، فمرضت لمرضها وثقل عليها المرض فقامت الجارية في ضحوة النهار فنظرت إلى مولاتها، وكانت في حالة غطوسها فبكت وقالت: «إلهي وسيدي إن كنت قدرت بموت سيدتي اجعل يومي قبل يومها، ثم رقدت وزاد بها الحال وماتت تلك الليلة فأضجعوها بجانبها، فاستيقظت مولاتها آخر الليل وجستها بيدها وصارت تقول: زليخا زليخا فقالوا لها: إنها نائمة فقالت: إن قلبي يحدثني أنها ماتت ورأيت في منامي ما يدل على ذلك فقالوا لها: حياتك الباقية، فلما تحققت ذلك قامت وجلست وهي تقول: لا حياة لي بعدها وصارت تبكي وتنتحب حتى طلع النهار وشرعوا في تشهيلها وتجهيزها، وغسلوها بين يديها وشالوا جنازتها ورجعت إلى فراشها، ودخلت في سكرات الموت وماتت آخر النهار وخرجوا بجنازتها أيضًا في اليوم الثاني، وهذا من أعجب ما شاهدته ورأيته ووعيته، وكان سني إذ ذاك أربع عشرة سنة. واشتغل المترجم في أيام اشتغاله بتجويد الخط فكتب على عبد الله أفندي الأنيس وحسن أفندي الضيائي طريقة الثلث والنسخ حتى أحكم ذلك، وأجازه الكتبة وأذنوه أن يكتب الإذن على اصطلاحهم ثم جود في التعليق على أحمد أفندي الهندي النقاش لفصوص الخواتم حتى أحكم ذلك، وغلب على خطه طريقته ومشى عليها، وكتب الديواني والقرمة وحفظ الشاهدي واللسان الفارسي والتركي، حتى إن كثيرًا من الأعاجم والأتراك يعتقدون أن أصله من بلادهم لفصاحته في التكلم بلسانهم ولغتهم، وفي سنة أربع وأربعين اشتغل بالرياضات، فقرأ على الشيخ محمد النجاحي رقايق الحقايق للبسط المارديني والمجيب والمقنطر ونتيجة اللاذقي والرضوانية والدر لابن المجدي ومنحرفات السبط، وإلى هنا انتهت معرفة الشيخ النجاحي وعند ذلك انفتح له الباب، وانكشف عنه الحجاب، وعرف السمت والارتفاع والتقاسيم والأرباع والميل الثاني والأول والأصل الحقيقي والمعدل، وخالط أرباب المعارف، وكل من كان من بحر الفن غارف، وحل الرموز، وفتح الكنوز، واستخرج نتايج الدر اليتيم، والتعديل والتقويم، وحقق أشكال الوسايط في المنحرقات والبسايط والزيج والمحلولات وحركات التداوير والنطاقات والتسهيل والتقريب والحل والتركيب والسهام والظلال ودقائق الأعمال، وانتهت إليه الرياسة في الصناعة، وأذعنت له أهل المعرفة بالطاعة، وسلم له عطارد وجمشيد الراصد وناظره المشتري وشهد له الطوسي والأبهري، وتبوأ من ذلك العلم مكانًا عليًّا وزاحم بمنكبه العيوق والثريا، وقد القدوة العلامة والحكيم الفهامة الشيخ حسام الدين الهندي. وكان متضلعًا من العلوم الرياضية والمعارف الحكمية والفلسفية، فنزل بمسجد في مصر القديمة واجتمع عليه بعض الطلبة مثل: الشيخ الوسيمي والشيخ أحمد الدمنهوري وتلقوا عنه أشياء في الهيئة، فبلغ خبره المترجم فذهب إليه للأخذ عنه، فاغتبط به الشيخ وأحبه، وأقبل بكليته عليه فلم يزل به حتى نقله إلى داره وأفرد له مكانًا، وأكرم نزله وقام بأوده وطالع عليه الجغميني وقاضي زاده والتبصرة والتذكرة وهداية الحكمة لأثير الدين الأبهري وما عليها من المواد والشروح مثل السيد والميبدي قراءة بحث وتحقيق، وأشكال التأسيس في الهندسة وتحرير إقليدس والمتوسطات والمبادي والغايات والأكر، وعلم الإرتماطيقي والجغرافيا وعلم المساحة وغير ذلك، ثم أراد أن يلقنه علم الصنعة الإلهية وكان من الواصلين فيها، فغالطه عن ذلك وأبت نفسه الاشتغال بسوى العلوم المهذبة للنفس، وكان يحكى عنه أمورًا وعبارات وإشارات تشعر بأنه كان من الكمَّل الواصلين في كل شيء، ولم يزل عنده حتى عزم على الرحلة وسافر إلى بلاده. وقد إلى مصر الإمام العلامة الشيخ محمد الغلاني الكشناوي وسكن بدرب الأتراك، فاجتمع عليه المترجم، وتلقى عنه علم الأوفاق وقرأ عليه شرح منظومة الجزنائية للقوصوني والدر والترياق والمرجانية في خصوص المخمس الخالي الوسط، والأصول والضوابط والوفق المئيني وعلم التكسير للحروف وغير ذلك، وسافر الشيخ إلى الحج وجاور هناك، فلما رجع أنزله عنده وصحبته زوجته وجواره وعبيده، وكمل عنده غالب مؤلفاته، ولم يزل حتى مات كما تقدم ذكر ذلك في ترجمته، ولقي المترجم في حجاته الشيخ النخلي وعبد الله بن سالم البصري وعمر بن أحمد بن عقيل المكي والشيخ محمد حياة السندي الكوراني وأبو الحسن السندي والسيد محمد السقاف وغيرهم، وتلقى عنهم وأجازوه وتلقوا هم عنه أيضًا عنه، ولقنه أبو الحسن السندي طريق السادة النقشبندية والأسماء الإدريسية. وهذه صورة إجازة الشيخ عمر بن أحمد بن عقيل ومن خطه نقل: «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى خصوصًا أفضل أنبيائه وعترته الطاهرين، وصحابته أجمعين وبعد، فإن مما تطابقت عليه النصوص وتوافقت عليه ألسنة العموم والخصوص، أن الباحث عن السنة الغراء لا تباع هدى سيد الأنبياء، الموجب لمحبة ذي الآلاء والنعماء، هو الفائز بالقدح المعلى، والمرفوع إلى المقام الأعلى. ومن المعلوم أنه لم يبق في زماننا ما يتداول منها إلا التعلل برسوم الإسناد، بعد انتقال أهل المنزل والناد، فذو الهمة هو الذي يثابر على تحصيل أعلاه، وينافس في فهم متنه ويفحص عن معناه، ويناقش في رجاله الذين عليهم مغناه، ألا وهو الشيخ الأجل الراقي بعزمه المتين من العلم والعمل إلى أعلى محل سيدنا وأستاذنا الشيخ حسن بن المرحوم إبراهيم بن الشيخ حسن الجبرتي، أمده الله بالمدد الإلهي فطلب من هذا الفقير أن أجيزه. فلما لم أجد بدًّا من الامتثال، قلت سايلًا التوفيق في القول والفعال: أجزت مولانا الشيخ حسن المذكور المنوه بذكره أعلى السطور، أجزل الله تعالى له الأجور ما يجوز لي وعنى روايته من مقروء ومسموع، وأصول وفروع، بشرطه المعتبر من تقوى الله والصيانة وضبط الألفاظ وسير الرجال والديانة، حسبما أجازني بذلك شيوخ أكابر عدة، هم في الشدائد عدة؛ ومنهم بل ومن أجلهم سيدي وجدي لأمي بعد أن قرأت عليه جانبًا كبيرًا من كتب الحديث وغيره قراءة تحقيق وتدقيق، وغيره من الشيوخ أهل التوفيق، وقد سمع مولانا الشيخ حسن مني أوايل البخارى ومسلم وأبي داود والنسائي والتزمذي وابن ماجه والموطأ، فليرو عني المجاز المذكور متى شاء مما اتصلت بي روايته متى أراد رفع سند أو كتاب لمن هو من أهل الدراية، وهو دام أنسه وزكا قدسه في غنية عن ذلك، ولكن جرت العادة بأخذ الأكابر عن الأصاغر تكثيرًا لسوادنا، فهي سند سيد الأوايل والأواخر، وكذلك أجزت له بالصلاة المشهورة النفع بهذه الصيغة: اللهم صل على سيدنا محمد وآله كما لا نهاية لكمالك وعد كماله بنصب عدو جره، جسبما أجازني بها مولانا الشيخ طاهر بن الملا ابراهيم الكوراني عن شيخه الشيخ حسن المنوفي مفتي الحنفية بالمدينة سابقًا عن شيخه مولانا الشيخ علي الشبراملسي عن بعض أجلاء شيوخه، وأمره أن يصلي بها بين المغرب والعشاء بلا عدد معين وبالمواظبة عليها يظهر نتايج فتحها خصوصًا لمبتغي هذا العلم المجد في طلبه من ذويه نفعه الله تعالى بالعلم وجعله من أهليه. وقد أجزت الشيخ المذكور ضاعف الله تعالى له الأجور، بالأسماء الأربعينية الإدريسية السهروردية بقراءتها وإقرائها لخل صادق إن وجد، كما أجازني بذلك جملة من الشيوخ، وقد اتصل سندي بها أيضًا عن مولانا وسيدنا الأمجد مولانا الشيخ أحمد بن محمد النخلي أنزل عليه شآبيب الرحمة والغفران الواحد العلي، وهو يرويها عن الشيخ حجازي الديربي عن الشيخ شهاب الدين أحمد بن علي الخامي الشناوي، وأجازه شيخه أيضًا بشرحها للشيخ عثمان النحراوي، قال الشيخ عثمان: أجازني بالأسماء الإدريسية العظام الشيخ كمال الدين السوداني، وهو يرويها عن شيخه أبي المواهب أحمد الشناوي عن السيد صبغة الله أحمد عن السيد وجيه الدين العلوي عن الحاج حميد الشهير بالشيخ محمد الغوث عن الحاج حصور، عن أبي الفتح هدية الله سيرمست عن الشيخ قاضن السناري عن الشيخ ركن الدين أبي الفتح عن الشيخ صدر الدين أبي الفضل عن الشيخ السهرودي، عن سيدي وجيه الدين المعروف بعمويه، عن الشيخ أحمد أسود الدينوري عن الشيخ ممشاد الدينوري عن الشيخ أبي القاسم الجنيد البغدادي عن خاله سري السقطي عن الشيخ معروف الكرخي، عن الشيخ داود الطائي عن الشيخ حبيب العجمي عن سيد التابعين حسن البصري، عن إمام المشارق والمغارب سيدنا علي بن أبي طالب عن سيدنا ومولانا سيد الخلق حبيب الحق عبده ورسوله وحبيبه، وصفيه وخليله النبي الرسول الحاوي لجميع الكمالات الأصلية والفرعية، الجامع لكل الصفات السنية والمراتب العلية، المبعوث لكل الخلق، المتخصص بالقرب من العالم الحق، سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم، محمد ﷺ، قال ذلك بفمه وكتبه، تعلمه أسير ذنبه عمر بن أحمد بن عقيل السقاف باعلوي، وحفيد مولانا الشيخ عبد الله بن سالم البصري عفا الله تعالى عنهم أجمعين، سايلًا من الشيخ المذكور أن لا ينساني وأصولي ومشايخي في الدين وجميع أقاربي من صالح الدعوات في خلواته، وجلوات وحركاته وسكناته، وأوصي بما أوصي به نفسي وساير المسلمين من ملازمة التقوى وكمال الاستعداد، وأتباع سبيل الهدى والرشاد، وأسأل الله تعالى الكريم المنان أن يوفقني وإياه والمسلمين لصالح القول والعمل، ويجنبنا الخطأ والزلل. ويجعلنا من العلماء العاملين والهداة الراشدين، وأن يميتنا على سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته أجمعين، في كل وقت وحين. وللمترجم أشياخ غير هولاء كثيرون اجتمع بهم، وتلقى عنهم وشاركهم وشاركوه، مثل علي أفندي الداغستاني، والشيخ عبد ربه سليمان بن أحمد القشتالي الفاسي، والشيخ عبد اللطيف الشامي، والجمال يوسف الكلارجي، والشيخ رمضان الخوانكي، والشيخ محمد النشيلي، والشيخ عمر الحلبي، والشيخ حسين عبد الشكور المكي، والشيخ إبراهيم الزمزمي، وحسن أفندي قطة مسكين، وأحمد أفندي الكرتلي، والأستاذ عبد الخالق بن وفا، وكان خصيصًا به، وأجازه بالأحزاب، وهو الذي كناه بأبي التداني، وولده السيد عبد الرحمن، والسيد عبد الله العيدروسي، والشيخ علي بندق الشناوي الأحمدي، وكثير من المشايخ الأزهرية مثل: السيد محمد البنوفري، والشيخ عمر الإسقاطي، والشيخ أحمد الجوهري، والشيخ أحمد الدلجي بن خال المترجم، والشيخ أحمد الراشدي، والشيخ ابراهيم الحلبي صاحب حاشية الدر، والسيد سعودي محشَّى ملا مسكين، وغيرهم من الأكابر والأخيار، وأهل الأسرار والأنوار، حتى كمل في المعارف والفنون، ورمقته بالإجلال العيون، وعلا شأنه على علماء الزمان، وتميز بين الأقران، وأذعنت له أهل الأذواق، وشاع ذكره في الآفاق، ووفد عليه الطلاب البلدانية، والواردون من النواحي الأفاقية، وأتوا إليه من كل فج يسعون لميقاته، ولزموا الطواف بكعبة فضله والوقوف بعرفاته، فمنهم من ينفر بعد إتمام نسكه وبلوغ أمينته، ومنهم من يواظب على الاعتكاف بساحته، وكان رحمه الله عذب المورد للطالبين، طلق المحيا للواردين، يكرم كل من أن حماه ويبلغ الراجي مناه، والمعتفي جدواه، والرغب أقصى مرماه، مع البشاشة والطلاقة وسعة الصدر والريافة وعدم رؤية المنة على المجتدي، ومسامحة الجاهل والمعتدي، مع حسن الأخلاق والصفات، التي سجدت لها الخناصر كأنها أيات سجدات:
وكانت ذاته جامعة للفضايل والفواضل، منزهة عن النقائص والرذايل، وقورًا محتشمًا مهيبًا في الأعين معظمًا في النفوس محبوبًا للقلوب، ولا يعادي أحدًا ولا يخاصم على الدنيا؛ فلذلك لا تجد من يكرهه ولا من ينقم عليه في شيء من الأشياء، وأما مكارم الأخلاق والحلم والصفح والتواضع والقناعة وشرف النفس، وكظم الغيط والانبساط إلى الجليل والحقير كل ذلك سجيت وطبعه من غير تكلف لذلك، ولا يرى لنفسه مقامًا أصلًا، ولا يعرف التصنع في الأمور، ولا دعوى علم ولا معرفة ولا مشيخة على التلاميذ والطلبة، ولا يرضى التعاظم ولا تقبيل اليد، وله منزلة عظيمة في قلوب الأكابر والأمرا والوزرا والأعيان، ويسعون إليه ويذهب إليهم لبعض المقتضيات والشفاعات، ويرسل إليهم فلا يردون شفاعته ولا يتوانون في حاجة يتكلم فيها، وله عندهم محبة ومنزلة في قلوبهم وزيادة عن نظراته من الأشياخ لمعرفته بلسانهم ولغتهم واصطلاحهم، ورغبتهم فيما يعلمونه فيه من المزايا والأسرار والمعارف المختص بها دون غيره، وخصوصًا أكابر العثمانيين والوزرا وأهل العلوم والفضلا منهم، مثل علي باشا ابن الحكيم وراغب باشا وأحمد باشا الكور وغيرهم، ويأتون إليه أحيانًا في التبديل، وأكرموه وهادوه، وكل ذلك مع العفة والعزة وعدم التطلع لشي من أسباب الدنيا بوظيفة أو مرتب أو فايظ أو نحو ذلك، وكان بينه وبين الأمير عثمان بك ذي الفقار صحبة ومحبة، وحج في أيام إمارته على الحج مرافقًا له مرات من ماله وصلب حاله، ولم يصله منه سوى ما كان يرسله إليه على سبيل الهدية، وكان منزل سكنه الذي بالصنادقية ضيقًا من أسفل وكثير الدرج، فعالج ابراهيم كتخدا على أن يشتري له أو يبني له دارًا واسعة فلم يقبل، وكذلك عبد الرحمن كتخدا وكان له ثلاثة مساكس أحدها هذا المنزل بالقرب من الأزهر، وآخر بالإبزارية بشاطئ النيل ومنزل زوجته القديمة تجاه جامع مرزة، وفي كل منزل زوجة وسرار وخدم، فكان ينتقل فيها مع أصحابه وتلامذته، وكان يقتني المماليك والعبيد والجواري البيض والحبوش والسود، ومات له من الأولاد نيف وأربعون ولدًا ذكورًا وإناثًا كلهم دون البلوغ، ولم يعش له من الأولاد سوى الحقير، وكان يرى الاشتغال بغير العلم من العبثيات، وإذا أتاه طالب فرح به وأقبل عليه ورغبه واكرمه، وخصوصًا إذا كان غريبًا وربما دعاه للمجاورة عنده، وصار من جملة عياله. ومنهم من أقام عشرين عامًا قيامًا ونيامًا لا يتكلف إلى شيء من أمر معاشه حتى غسل ثيابه من غير ملل ولا ضجر، وأنجب عليه كثير من علماء وقته المحققين طبقة بعد طبقة مثل: الشيخ أحمد الراشدي، والشيخ إبراهيم الحلبي، والشيخ مصطفى أبي الاتقان الخياط، والسيد قاسم التونسي، والشيخ العلامة أحمد العروسي، والشيخ إبراهيم الصيحاني المغربي، والطبقة الأخيرة التي أدركناها مثل الشيخ أبي الحسن القلعي، والشيخ عبد الرحمن البناني. وأما الملازمون له فهم الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي، والشيخ محمد الصبان، والشيخ محمد عرفة الدسوقي، والشيخ محمد الأمير، والشيخ محمد الشافعي الجناحي المالكي، والشيخ مصطفى الريس البولاقي، والشيخ محمد الشوبري، والشيخ عبد الرحمن العريشي، والشيخ محمد الفرماوي. وهؤلاء كانوا المختصين به الملازمين عنده ليلًا ونهارًا، وخصوصًا الشيخ محمد النفراوي، والصبان ومحمود أفندي النيشي والفرماوي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد عرفه، فإنهم كانوا بمنزلة أولاده وخصوصًا الأولين، فإنهما كانا لا يفارقانه إلا وقت إقراء دروسهما، وكان يباسط أخصاءه منهم ويمازحهم ويروحهم بالمناسبات والأدبيات والنوادر والأبيات الشعرية والمواليات والمجونيات والحكايات اللطيفة والنكات الظريفة، وينتقلون صحبته في منازل بولاق ومواطن النزهة فيقطعون الأوقات ويشغلونها حصة في مدارسة العلم وأخرى في مطارحات المسايل، وأخرى للمفاكهة والمباسطة والنوادر الأدبية، ومن الملازمين على الترداد عليه والأخذ عنه الشيخ محمد الجوهري والشيخ سالم القيرواني ومحمد أفندي مفتي الجزاير والسيد محمد الدمرداش وولداه السيد عثمان والسيد محمد. وممن تلقى عنه شيخ الشيوخ الشيخ علي العدوي، تلقى شرح الزيلعي على الكنز في الفقه الحنفي وكثيرًا من المسائل الحكمية، ولما قرأ كتاب المواقف فكان يناقشه في بعض المسائل محققو الطلبة فيتوقف في تصويرها لهم، فيقوم من حلقته ويقول لهم: اصبروا مكانكم حتى أذهب إلى من هو أعرف مني بذلك وأعود إليكم، ويأتي إلى المترجم فيصورها له بأسهل عبارة، ويقوم في الحال فيرجع إلى درسه ويحققها لهم.
وهذا من أعظم الديانة والإنصاف، وقد تكرر منه ذلك غير مرة، وكان يقول عنه: لم نر ولم نسمع من توغل في علم الحكمة والفلسفة وزاد إيمانه إلا هو، رحم الله الجميع أولئك أبائي فجئني بمثلهم.
وممن تلقى عنه من أشياخ العصر العلامة الشيخ محمد المصيلحي، والعلامة الشيخ حسن الجداوي، والشيخ محمد المسودي والشيخ أحمد بن يونس والشيخ محمد الهلباوي، والشيخ أحمد السجاعي، لازمه كثيرًا وأخذ عنه في الهيئة والفلكيات والهداية وألف في ذلك متونًا وشروحًا وحواشي، وأما من تلقى عنه من الآفاقيين وأهالي بلاد الروم والشام وداغستان والمغاربة والحجازيين فلا يحصون، وأجل الحجازيين الشيخ إبراهيم الزمزمي، وأما ما اجتمع عنده وما اقتناه من الكتب في ساير العلوم فكثير جدًّا قلما اجتمع ما يقاربها في الكثرة عند غيره من العلماء أو غيرهم، وكان سموحًا بإعارتها وتغييرها للطلبة وذلك كان السبب في إتلاف أكثرها وتخريمها وضياعها، حتى إنه كان أعد محلًّا في المنزل ووضع فيه نسخًا من الكتب المستعملة التي يتداول علماء الأزهر قراءتها للطلبة مثل: الأشموني وابن عقيل، والشيخ خالد وشروحه، والأزهرية وشروحها، والشذور، وكذلك من كتب التوحيد مثل شروح الجوهرة والهدهدي وشروح السنوسية والكبرى والصغيرى، وكتب المنطق والاستعارات والمعاني والبيان، وكذلك كتب الحديث والتفسير والفقه في المذاهب وغير ذلك، فكانوا يأتون إلى ذلك المكان، ويأخذون ويغيرون وينقلون من غير استئذان، فمنهم من يأخذ الكتاب ولا يرده ومنهم من يهمل التغييرة فتضيع الكراريس، ومنهم من يسافر ويتركها عند غيره، ومنهم من يهمل آخر الكتاب، ويتفق أن الاثنين والثلاثة يشتركون في الكتاب الواحد والنسخة الواحدة، ولا بد من حصول التلف من أحدهم، ولا بد من حصول الضياع والتلف في كل سنة وخصوصًا في أواخر الكتب عندما تفتر هممهم، وأكثر الناس منحرفو الطباع، معوجو الأوضاع، واقتنى أيضًا كتبًا نفيسة خلاف المتداولة، وأرسل إليه السلطان مصطفى نسخًا من خزائنه، وكذلك أكابر الدولة بالروم ومصر وباشة تونس والجزاير، واجتمع لديه من كتب الأعاجم مثل الكلستان وديوان حافظ وشاه نامه، وتواريخ العجم وكليلية ودمنة ويوسف وزليخا وغير ذلك، وبها من التشاويه الزخارف والتصاوير البديعة الصنعة الغريبة الشكل، وكذلك الآلات الفلكية من الكرا النحاس التي كان اعتنى بوضعها حسن أفندي الروزنامجى بيد رضوان أفندي الفلكي كما تقدم في ترجمتهما، ولما مات حسن أفندي المذكور اشترى جميعها من تركته، وكذلك غيرها من الالات الارتفاعية والميالات وحلق الأرصاد والإسطرلابات والأرباع والعدد الهندسية، وأدوات غالب الصناع مثل: النجارين والخراطين والحدادين والسمكرية والمجلدين والنقاشين والصواغ والات الرسم والتقاسيم، ويجتمع به كل متقن وعارف في صناعته مثل: حسن أفندي الساعاتي وكان ساكنًا عنده، وعابدين أفندي الساعاتي وعلي أفندي رضوان وكان من أرباب المعارف في كل شيء ومحمد أفندي الاسكندراني والشيخ محمد الأقفالي، وابراهيم السكاكيني والشيخ محمد الزبداني وكان فريدًا في صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المياة والأدهان، وغير هؤلاء ممن رأيت ومن لم أرَ، وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقروا عليه علم الهندسة وذلك سنة تسع وخمسين، وأهدوا له من صنايعهم والاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت، وأخرجوه من القول إلى الفعل واستخرجوا به الصنايع البديعة مثل طواحين الهواء وجر الأثقال واستنباط المياة وغير ذلك، وفى أيام اشتغاله بالرسم رسم ما لا يحصى من المزاول على الرخامات والبلاط الكدان، ونصبها في أماكن كثيرة ومساجد شهيرة مثل: الأزهر والأشرفية وقوصون ومشهد الإمام الشافعي والسادات، وفي الآثار منها ثلاثة واحدة بأعلى القصر وأخرى على البوابة وأخرى عظيمة بسطح الجامع، بقي منها قطعة وكسر باقيها فراشوا الأمراء الذين كانوا ينزلون هناك للنزهة؛ ليمسحوا بها صواني الأطعمة الصفر، وكذلك بوردان بالتماس مصطفى أغا الورداني وكذلك بحوش مدفن الرزازين بالتماس رضوان جربجي الرزاز رحمه الله، ونقش عيها تاريخًا منظومًا ينوه فيه بذكر رضوان المذكور وهو هذا:
وغير ذلك بمنازله وغيرها حتى إن الخدم تعلموا ذلك، فصاروا يقطعون البلاط المناشير ويمسحونه بالمماسح الحديد والمبارد، ويهندسون اعتداله بالمساطر والقياسات بالبياكير، بل ويرسمونه أيضًا. وأما ما كان على الرخامات فيباشر صناعته وحفره صناع الرخام بالأزمير بعد التعليم على مواضع الرسم ومقادير أبعاد المدارات والظلال، وما عليها من الكتابة والتعاريف، ولما تمهر الآخذون عنه والملازمون عنده ترك الاشتغال بذلك، وأحال الطلاب عليهم فإذا كان الطالب من أبناء العرب تقيد بتلميذه الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي، وإن كان من الأعاجم والأتراك تقيد بمحمود أفندي النيشي، واشتغل هو بمدارسة الفقه وإقرائه ومراجعة الفتاوي والتحري في الفروع الفقهية والمسايل الخلافية، وانكب عليه الناس يستفتونه في وقايعهم ودعاويهم، وتقرر في أذهانهم تحريه الحق والنصوص حتى إن القضاة لا يثقون إلا بفتواه دون غيره، وتقيد للمراجعة عنده الشيخ عبد الرحمن العريشي فانفتحت قريحته وراج أمره وترشح بعد للإفتاء، وكان المترجم لا يعتني بالتأليف إلا في بعض التحقيقات المهمة، منها «نزهة العينين في زكاة المعدنين» و«رفع الإشكال بظهور العشر في العشر في غالب الأشكال» و«الأقوال المعربة عن أحوال الأشربة»، و«كشف اللثام عن وجوه مخدرات النصف الأول من ذو الأرحام» و«الوشي المجمل في النسب المحمل»، و«القول الصايب في الحكم على الغايب»، و«بلوغ الآمال في كيفية الاستقبال» و«الجداول البهية برياض الخزرجية»، في علم العروض و«إصلاح الأسفار عن وجوه بعض مخدرات الدر المختار»، و«مأخذ الضبط، في اعتراض الشرط على الشرط» و«النسمات الفيحية على الرسالة الفتحية» و«العجاله على أعدل آلة» و«حقايق الدقايق على دقايق الحقايق» و«أخصر المختصرات على ربع المقنطرات» و«الثمرات المجنية من أبواب الفتحية» و«المفصحة فيما يتعلق بالأسطحة»، «الدر الثمين في علم الموازين»، وحاشية على «شرح قاضي زاده على الجغميني» لم تكمل وحاشية «الدر المختار» لم تكمل و«مناسك الحج»، وغير ذلك حواش وتقييدات على العصام والحفيد والمطول والمواقف والهداية في الحكمة والبرزنجي على قاضي زاده، وأمثلة وبراهين هندسية شتى، وما له من الرسومات المخترعة، والآلات النافعة المبتدعة. ومنها الآلة المربعة لمعرفة الجهات، والسمت والانحرافات، بأسهل مأخذ وأقرب طريق، والدايرة التاريخية وبركار الدرجة، واتفق أنه في سنة ثنتين وسبعين وقع الخلل في الموازين والقبابين، وجهل أمر وضعها ورسمها، وبعد تحديدها وريحها ومشيلها واستخراج مامينها، وظهر فيها الخطأ واختلفت مقادير الموزونات وترتب على ذلك ضياع الحقوق وتلاف الأموال، وفسد على الصناع تقليدهم الذي درجوا عليه، فعند ذلك تحركت همة المترجم لتصحيح ذلك وأحضر الصناع لذلك من الحدادين والسباكين وحرر المثاقيل والصنج الكبار والصغار والقرسطونات، ورسمها بطريق الاستخراج على أصل العلم العملي والوضع الهندسي، وصرف على ذلك أموالًا من عنده ابتغاءً لوجه الله، ثم أحضر كبار القبانية والوزانين مثل الشيخ علي خليل والسيد منصور والشيخ علي حسن والشيخ حسن ربيع وغيرهم وبين لهم ما هم عليه من الخطأ، وعرفهم طريق الصواب في ذلك، وأطلعهم على سر الوضع والصنعة ومكنونها، وأحضروا العدد وأصلحوا منها ما يمكن إصلاحه، وأبطلوا ما تقادم وضعه وفسدت لقمه ومراكزه، وقيدوا بصناعة ذلك الأسطى مراد الحداد ومحمد بن عثمان حتى تحررت الموازين، وانضبط أمرها وانصلح شأنها وسرت في الناس العدالة الشرعية المأمورين بإقامتها، واستمر العمل في ذلك أشهرًا، وهذا هو السبب الحامل له على تصنيف الكتاب المذكور، وهذا هو ثمرة العلم ونتيجة المعرفة والحكمة المشار إليها بقوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.
وأما النظم فنروي عنه القليل في بعض فوايد وضوابط، منها في معاني الإعراب اللغوي قوله:
(وله في نظم ساعات النهار):
(وله في ساعات الليل):
(وله فيما لا يسوغ الشرب بعده):
(وله في الدم الطاهر):
(وله في وضع الكتب فوق بعضها):
(وله في ألقاب البناء والإعراب):
(وله في لفظ شفة على ما في المصباح):
(وله في ياء المخاطبة على مذهب الأخفش):
(وله في تفصيل الثياب):
وله في العقود التي تتعين فيها النقود كما في الفصول العمادية:
(وله فيما يصح مع الإكراه):
(وله في أصول المطعومات):
ورأيت بخطه عند هذه الأبيات ما نصه: قال في شرح المواقف حدوث الطعوم على هذا الوجه المخصوص، مما لم يقم عليه برهان ولا أمارة عند غلبة الظن؛ ولذا قيل: مباحث الطعوم دعاوي خالية عن الدلايل. وكتب بهامشها أيضًا نقلًا عن مجموعة الحفيد: الفرق بين العفص والقبض أن القابض يقبض ظاهر اللسان والعافص يقبض ظاهره وباطنه، والتفاهة المعدومة مثل ما في الخبز واللحم وقد يقال: التف لما لا طعم له أصلًا كالحديد وهذا هو المشهور. انتهى (وله):
وله في نظم أصول الحلال:
والأصل فيه أنه اجتمع الإمام الطرطوشي والإمام ابن السيد البطليوسي رحمهما الله تعالى، وتذاكرا في الحلال هل بقي منه شيء؟ فقال البطليوسى: أصول الحلال عشرة وسع الله تعالى بها على عباده: تجارة بصدق وإجارة بنصح، وهدية من أخ صالح، وميراث من أصل طيب، وإحياء الموات وما أنبتته أرض غير مملوكة، وخمس الغنايم إذا قسمت بعدل وصيد البر، وصيد البحر، والسؤال عند مسيس الحاجة، فقال الإمام الطرطوشي: يجب على كل مسلم تقييد هذه الأصول؛ ليكون على أهبة من الحلال الذي هو أهم المهمات والله تعالى الموفق للصواب.
(فايدة) رأيت بخط المترجم قال: رأيت بخط الشيخ عثمان النجدي قال: رأيت بخط الشيخ أحمد العجمي ما صورته، وإن من شيء إلا يسبح بحمده إلا الحمار والكلب كما في الدر المنثور عن أبي الشيخ عن ابن عباس، وفيه أيضًا عن عمرو بن عنبسة ما تستقل الشمس، فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح بحمده إلا ما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم، والأغبياء جمع غبي وهو القليل الفطنة، وفي فتاوي الجلال السيوطي رحمه الله:
فزاد عليها المترجم ما تقدم ذكره، وألحقها بها في هذا البيت فقال:
وله في عد من يدخل الجنة من الحيوان:
وهذا ما حصلته وعثرت عليه من نظمه، وأما ما قيل فيه من المدائح فلم أعثر بشئ من ذلك مع كثرت إلا بقصيدة من نظم تلميذه العلامة الشيخ شمس الدين محمد الصبان وجدتا مثبتة بديوانه، وسبب ذلك أنه كان رحمه الله لا يرى لنفسه مقامًا، وإذا أتاه إنسان بأبيات أو قصيدة قبلها، وأجاز قايلها ثم أحرقها والقصيدة هي هذه:
وقال فيه أيضًا تهنئة له بمولد الحسنين سنة أربع وسبعين:
وللعلامة الشيخ سالم القيرواني:
ذكرها في ديباجة حاشيت التي كتبها على لقط الجواهر، وقد كان قرأ عليه طرفًا من العلوم الحكمية. وهذا ما عثرت عليه، وللشيخ قاسم والشيخ محمد شبانة وغيرهما فيه مدايح كثيرة وتواريخ أعوام ومواسم لم أعثر على شيء منها، ولما وصل إلى مصر الشيخ إبراهيم بن أبي البركات العباسي البغدادي الشهير بابن السويدي في سنة خمس وسبعين وماية وألف، وكان إمامًا فاضلًا فصيحًا مفوهًا ينظم الشعر بالإملاء ارتجالًا في أي قافية من أي بحر من غير تكلف، فأنزله المترجم وأكرمه، واغتبط به وصار يتنقل صحبته مع الجماعة بمنازل بولاق والمتنزهات، واتفق أنه تمرض أيام فأقام بمنزل بولاق المشرف على النيل، فقيد به من يعوله ويخدمه ويعلل مزاجه، فكان كلما اختلى بنفسه وحبت عليه النسمات الشمالية والنفحات البحرية أخذ القلم ببنانه، ونقش على أخشابه وحيطانه، فكتب نحو العشرين قصيدة على قواف عديدة كلها مدايح في المذكور، والرياض والزهور، والكوثر والسلسبيل، وجريان النيل، وتركت بحالها، وذهب كغيرها، وفي سنة تسع وسبعين توفي ولده أخي لأبي أبو الفلاح علي، وقد بلغ من العمر اثنتي عشر سنة، فحزن عليه وانقبض خاطره وانحرف مزاجه، وتوالت عليه النوازل، وأوجاع المفاصل، وترك الذهاب إلى بولاق وغيرها، ونقل العيال من هناك، ولازم البيت الذي بالصنادقية واقتصر عليه وفتر عن الحركة إلا في النادر، وصار يملي الدروس بالمنزل، ويكتب على الفتاوي ويراجع المسايل الشرعية والقضايا الحكيمة، مع الديانة والتحري والمراجعة والاستباط والقياس الصحيح ومراعاة الأصول والقواعد، ومطارحات التحقيقات والفوايد، وتلقي الوافدين وإكرام الواردين وإطعام الطعام، وتبليغ القاصد المرام، ومراعاة الأقارب والأجانب، مع البشاشة ولين الجانب، وسعة الصدر وحسن الأخلاق، مع الخلان والأصحاب والرفاق، ويخدم بنفسه جلاسه. ولا يمل معهم إيناسه، ولا يبخل بالموجود، ولا يتكلف المفقود، ولا يتضع في أحواله، ولا يتمشدق في أقواله، ويلاحظ السنة في أفعاله، ومن أخلاقه أنه كان يجلس بآخر المجلس على أي هيئة كان بعمامة وبدونها، ويلبس أي شيء كان، ويتحزم ولو بكنار الجوخ أو قطعة خرقة أو شال كشميري أو محزم، ولا ينام على فراش ممهد، بل ينام كيفما اتفق، وكان أكثر نومه وهو جالس، وله مع الله جانب كبير، كثير الذكر، دايم المراقبة والفكر، ينام أول الليل ويقوم آخره فيصلي ما تيسر من النوافل والوتر، ثم يشتغل بالذكر. حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح ويجلس كذلك إلى طلوع الشمس، فيضطجع قليلًا أو ينام وهو جالس مستندًا، وهذا دآبه على الدوام، ويحاذر الرياء ما أمكن، وكان يصوم رجب وشعبان ورمضان، ولا يقول: إنى صايم، وربما ذهب إلى بعض الأعيان أو دعى إلى وليمة فيأتون إليه بالقهوة والشربات فلا يرد ذلك، بل يأخذها ويوهم الشرب، وكذلك الأكل ويضايع ذلك بالمؤانسة والمباسطة مع صاحب المكان والجالسين، وكان مع مسايرته للناس وبشاشته ومخاطبته لهم على قدر عقولهم عظيم الهيبة في نفوسهم وقورًا محتشمًا ذا جلال وجمال. وسمعت مرة شيخنا سيدي الشيخ محمود الكردي يقول: أنا عندما كنت أراه داخلًا في دهليز الجامع يداخلني منه هيبة عظيمة، وأدخل إلى رواقنا وأنظر إليه من داخل، وأسأل المجاورين عنه فيقولون لي: «هذا الشيخ الجبرتي»، فأتعجب لما يداخلني من هيبته دون غيره من الأشياخ، فلما تكرر على ذلك أخبرت الأستاذ الحفني، فتبسم وقال لي: «نعم إنه صاحب أسرار».
وكان صفته مربوع القامة ضخم الكراديس أبيض اللون، عظيم اللحية منور الشيبة واسع العينين غزير شعر الحاجبين وجيه الطلعة، يهابه كل من يراه، ويود أنه لا يصرف نظره عن جميل محياه، ولم يزل على طريقته المفيدة، وأفعاله الحميدة، إلى أن آذنت شمسه بالزوال، وغرب بعدما طلع من مشرق الإقبال، وتعلل اثني عشر يومًا بالهيضة الصفراوية الالتهاب الكبدي، فكان كلما تناول شيئًا قذفته معدته عندما يريد الاضطجاع إلى أن اقتصر على المشروبا فقط، وهو مع ذلك لا يصلي إلا من قيام ولم يغب عن حواسه، وكان ذكره في هذه المدة يقرأ الصمدية مرة، ثم يصلي على النبي ﷺ بالصيغة السنوسية كذلك، ثم الاسم العشرين من الأسماء الإدريسية وهو (يا رحيم كل صريخ ومكروب وغياثه ومعاذه)، هكذا كان دأبه ليلًا ونهارًا حتى توفي يوم الثلاثاء فبيل الزوال غزة شهر صفر من السنة، وجهز في صبح يوم الأربعاء وصُلي عليه بالأزهر بمشهد حافل جدًّا، ودفن عند أسلافه بتربة الصحراء بجوار الشمس البابلي والخطيب الشربيي، ومات له من العمر سبع وسبعون سنة، ورثاه تلميذه العلامة الشيخ محمد الصبان بهذه الأبيا، وأنشدت وقت حضور الجنازة:
(وللشيخ أحمد الخامي):
(ولغيره أيضًا):
وقوله: نعته (غوادي السحب) البيت وما بعده، وذلك أن يوم وفاته غيمت السماء وأرعدت وأمطرت مطرًا خفيفًا، وكان الوقت صيفًا فأشار إلى ذلك في الأبيات (ورثاه أيضًا الخامي بهذه القصيدة):
ومات الإمام العلامة الفقيه المعمر الشيخ/أحمد بن محمد محمد الحماقي الحنفي، كان أبوه من كبار علماء الشافعية فتحنف هذا بإذن الإمام الشافعي رضي الله عنه لرؤيا رآها، وكان يخبر بها من لفظه، وتلقى عن أئمة عصره كالشيخ أحمد الدسوقي والشيخ علي العقدي، ومحمد عبد العزيز الزيادي، والشيخ أحمد البنوفري، والشيخ سليمان المنصوري وغيرهم، وتصدر للإقراء والتدريس بالجامع الأزهر مدة سنتين، ثم تولى مشيخة إفتاء الحنفية بعد موت الشيخ حسن المقدسي، وفي ذلك يقول الشيخ عبد الله الإدكاوي:
وكان إنسانًا حسنًا دمث الأخلاق حسن العشرة صافي الطوية عارفًا بفروع المذهب، لين الجانب لا يتحاشى الجلوس في الأسواق والقهاوي، وكان إخوانه من أهل العلم ينقمون عليه في ذلك فلا يبالي باعتراضهم، ولم يزل حتى توفي في سحر ليلة الجمعة خامس عشرين صفر من السنة رحمه الله.
ومات الإمام الفقي العلامة المحدث الفرضي الأصولي الورع الزاهد الصالح الشيخ أحمد بن محمد بن محمد بن شاهين الراشدي الشافعي الأزهري، ولد بالراشدية وهي قرية بالغربية سنة ثمان عشرة وماية وألف، وبها نشأ وحفظ القرآن وجوده، وقدم الأزهر فتفقه على الشيخ مصطفى العزيزي، والشيخ مصطفى العشماوي، وأخذ الحساب والفرايض على الشيخ محمد الغمري، وسمع الكتب الستة على الشيه عيد النمرسي بطرفيها وبعضها على الشيخ عبد الوهاب الطندتاوي، وسيدي محمد الصغير، وله شيوخ كثيرون، ورافق الشيخ الوالد وعاشره مدة طويلة وتلقى عنه وهو أحد أصحابه من الطبقة الأولى، ولم يزل محافظًا على وده وتردده ومؤانسته ويتذكر الأزمان السالفة والأيام الماضية، وله شيوخ كثيرون، وكان من جملة محفوظاته البهجة الوردية، وقد انفرد في عصره بذلك واعتنى بالكتب الستة كتابةً ومقابلةً وتصحيحًا، وكان حسن التلاوة للقرآن، حلو الأداء مع معرفته بأصول الموسيقى؛ ولذلك ناطت به رغبة الأمرا، فصلى إمامًا بالأمير محمد بك ابن إسماعيل بك، مع كمال العفة والوقار والإنجماع عن الناس حتى إن كثيرًا منهم يود أن يسمع منه حزبًا من القرآن فلا يمكنه ذلك، ثم أقلع عن ذلك وأقبل على إفادة الناس فأقرأ المنهج مرارًا وابن حجر على المنهاج مرارًا، وكان يتقنه ويحل مشكلاته بكمال التؤدة والسكينة، فاستمر مدة يقرأ دروسه بمدرسة السنانية قرب الأزهر، ثم انتقل إلى زاوية قرب المشهد الحسيني، وكان تقريره مثل سلاسل الذهب في حسن السبك، ولما بنى المرحوم يوسف جربجي الهياتم المسجد قرب منزله بخط أبي محمود الحنفي رتب فيه خطيبًا وإمامًا، وأعاد دروس الحديث فيه، فمما قرأ فيه صحيح مسلم وسنن أبي داود، هذا مع صيامة الدهر وقيامه الليل من مدة طويلة، ويقوم الليل بالقرآن، وفيه جذبة إلى الله تعالى، وقد انتفع به كثير من الأعلام، ولما بنى المرحوم محمد بك أبو الدهب المدرسة تجاه الجامع الأزهر في هذه السنة راوده أن يكون خطيبًا بها، فامتنع فألح عليه وأرسل له صرة فيها دنانير لها صورة، فأبى أن يقبل ذلك ورده فألح عليه، فلما أكثر عليه خطب بها أول جمعة وألبسه فروة سمور، واعطاه صرة فيها دنانير فقبلها كرها ورجع إلى منزله محمومًا، يقال فيما بلغني أنه طلب من الله أن لا يخطب بعد ذلك، فانقطع في منزله مريضًا إلى أن توفي ليلة الثلاثاء ثاني شوال من السنة، وجهز ثانى يوم وصُلي عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودفن بالقرافة الصغرى تجاه قبة أبي جعفر الطحاوي، ولم يخلف بعده في جميع الفضايل مثله، وكان صفته نحيف البدن منور الوجه والشيبة ناتئ الجبهة، ولا يلبس زي الفقهاء ولا العمامة الكبيرة بل يلبس قاووقًا لطيفًا فتلي، ويركب بغلة وعليها سلخ شاة أزرق، وأخذ كتبه الأمير محمد بك ووقفها في كتبخانته التي جعلها بمدرسته، وكان لها جرم كلها صحيحة مخدومة وسرق غالبها.
ومات الشيخ الصالح/سعد بن محمد بن عبد الله الشنواني، حصل في حياته شيًّا كثيرًا من العلوم، ومال إلى فن الأدب فمهر فيه، وتنزل قاضيًا في محكمة باب الشعرية بمصر، وكان إنسانًا حسنًا بينه وبين الفضلا مخاطبات ومحاولات، وشعره حسن مقبول، وله قصايد ومدايح في الأوليا وغيرهم أحسن فيها، ولم أعثر على شيء منها، وجدد له شيخنا السيد مرتضى نسبة إلى الشيخ شهاب الدين العراقي دفين شنوان، توفي يوم السبت خامس جمادى الثانية من السنة وقد جاوز السبعين رحمه الله.
ومات العلامة الفقيه لصالح الدين الشيخ/علي بن حسن المالكي الأزهري، وقرأ على الشيخ العدوي وبه تخرج وحضر غيره من الأشياخ ومهر في الفقه والمعقول، وألقى دروسًا بالأزهر ونفع الطلبة، وكان ملازمًا على قراية الكتب النافعة للمبتدين مثل أبي الحسن وابن تركي والعشماوية في الفقه، وفي النحو الشيخ خالد والأزهرية والشذور، وحلقة درسه عظيمة جدًّا، وكان لسانه أبدًا متحركًا بذكر الله، توفي ليلة الخميس منتصف ربيع الأول من السنة ودفن بالمجاورين.
ومات الشيخ الإمام المحدث البارع الزاهد الصوفي محمد بن أحمد بن سالم أبو عبد الله السفاريني النابلسي الحنبلي، ولد كما وجد بخطه سنة أربع عشرة وماية وألف تقريبًا بسفارين، وقرأ القرآن في سنة إحدى وثلاثين في نابلس، واشتغل بالعلم قليلًا وارتحل إلى دمشق سنة ثلاث وثلاثين، ومكث بها قدر خمس سنوات فقرأ بها على الشيخ عبد القادر التغلبي دليل الطالب للشيخ مرعي الحنبلي من أوله إلى آخره قراءة تحقيق، والإقناع للشيخ موسى الحجازي، وحضره في الجامع الصغير للسيوطي بين العشاءين وغيره مما كان يقرأ عليه في ساير أنواع العلوم، وذاكره في عدة مباحث من شرحه على الدليل، فمنها ما رجع عنها ومنا ما لم يرجع لوجود الأصول التي نقل منها، وكان يكرمه ويقدمه على غيره، وأجازه بما في ضمن ثبته الذي خرجه له الشيخ محمد بن عبد الرحمن الغزي في سنة خمس وثلاثين، وعلى الشيخ عبد الغني النابلسي الأربعين النووية وثلاثيات البخاري والإمام أحمد، وحضر دروسه في تفسير القاضي وتفسيره الذي صنفه في علم التصوف، وأجازه عمومًا بساير ما يجوز له وبمصنفاته كلها، وكتب له إجازه مطولة وذكر فيها مصنفاته، وعلى الشيخ عبد الرحمن المجلد ثلاثيات البخاري، وحضر دروسه العامة وأجازه، وعلى الشيخ عبد السلام بن محمد الكاملي بعض كتب الحديث وشيًّا من رسايل إخوان الصفا، وعلى ملا الياس الكوراني كتب المعقول وعلى الشيخ إسماعيل بن محمد العجلواني الصحيح بطرفيه مع مراجعة شروحه الموجودة في كل رجب وشعبان ورمضان كل سنة مدة إقامته بدمشق، وثلاثيات البخارى وبعض ثلاثيات أحمد وشيا من الجامع الصغير مع مراجعة شرحه للمناوي والعلقمي وشيئًا من الجامع الكبير وبعضًا من كتاب الإحياء مع مراجعة تخريج أحاديثه للزين العراقي، والأندلسية في العروض مع مطالعة بعض شروحها وبعضًا من شرح شذور الذهب، وشرح رسالة الوضع مع حاشيته التي ألفها وحاشية ملا الياس، وأجازه بكل ذلك وبما يجوز له روايته، وعلى الشيخ أحمد بن على المنيني شرح جمع الجوامع للمحلي، وشرح الكافية لملا جامي، وشرح القطر للفاكهي وحضر دروسه للصحيح وشرحه على منظومة الخصايص الصغرى للسيوطي، وقد أجازه بكل ذلك مطولة كتبها بخطه، وعلى الشيخ محمد بن عبد الرحمن الغزي بعضًا من شرح ألفية العراقي لزكريا وأول سنن أبي داود. وعلى قريبه الشيخ أحمد الغزي غالب الصحيح بالجامع الأموي بحضرة جملة من كبار شيوخ المذاهب الأربعة، وعلى الشيخ مصطفى بن سوار أول صحيح مسلم، وعلى حامد أفندي مفتي الشام المسلسل بالأولية وثلاثيات البخاري وبعض ثلاثيات أحمد، وحج سنة ثمان وأربعين فسمع بالمدينة على الشيخ محمد حياة المسلسل بالأولية وأوايل الكتب الستة، وتفقه على شيخ المذهب مصطفى بن عبد الحق اللبدي، وطه بن أحد اللبدي، ومصطفى بن يوسف الكرمي، وعبد الرحيم الكرمي، والشيخ معمر السيد هاشم الحنبلي، والشيخ محمد السلفيني وغيرهم، ومن شيوخه الشيخ محمد الخليلي سمع عليه أشياء، والشيخ عبد الله البصروي سمع عليه ثلاثيات أحمد مع المقابلة بالأصل المصحح، والشيخ محمد الدقاق أدركه بالمدينة وقرأ عليه أشياء، واجتمع بالسيد مصطفى البكري، فلازمه وقرأ عليه مصنفاته وأجازه بماله وكتب له بذلك، وله شيوخ أخر غير من ذكرت وله مؤلفات منها شرح عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني في مجلدين، وشرح ثلاثيات أحمد في مجلد ضخم، وشرح نونية الصرصري الحنبلي سماه معارج الأنوار في سيرة النبي المختار، وبحر الوفا في سيرة النبي المصطفى، وغذا الألباب في شرح منظومة الآداب والبحور الزاخرة في علوم الآخرة، وشرح الدرة المضية في اعتقاد الفرقة الأثرية ولوايح الأنوار السنية في شرح منظومة أبي بكر بن أبي داود الحائية، ومما وجدته من نظمه ونقلته من خطه:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
(والأضل فيه قول من سبق):
وله أيضًا:
وكان المترجم شيخًا ذا شبية منورة مهيبًا جميل الشكل ناصرًا للسنة، قامعًا للبدعة قوالًا بالحق مقبلًا على شانه مداومًا على قيام الليل في المسجد ملازمًا على نشر علوم الحديث، محبًّا في أهله ولا زال يملي ويفيد ويجيز من سنة ثمان وأربعين إلى أن توفي يوم الإثنين ثامن شوال من هذه السنة بنابلس، وجهز وصُلي عليه بالجامع الكبير، ودفن بالمقبرة الزاركنية وكثر الأسف عليه ولم يخلف بعده مثله، رحمه الله رحمة واسعة.
ومات العمدة المبجل الفاضل الشيخ/أحمد بن محمد بن عبد السلام الشرفي، المغربي الأصل، المصري المولد، وكن والده شيخًا على رواق المغاربة بالجامع الأزهر، ومن شيوخ الشيخ أحمد الدمنهوري، وولده هذا.
إن له معرفة بعلم الميقات ومشاركة حسنة وفيه صداقة ود وحسن عشرة مع الإخوان ومكارم أخلاق، ويدعو الناس والعلماء في المولد النبوي إلى بيته بالأزبكية، ويقدم لهم الموايد والحلوى وشراب السكر، وكان لديه فوايد ومآثر حسنة، توفي سابع عشر ربيع الأول من السنة، وقد جاوز السبعين رحمه الله.
ومات العمدة الفاضل الشيخ زين الدين/قاسم العبادي الحنفي، تفقه على الشيخ سليمان المنصوري والشيخ أحمد بن عمر الإسقاطي إلى أن صار يقرأ درسًا في المذهب، ولم يزل ملازمًا شانه حتى توفي ثالث عشر الحجة من السنة، وقد ناهز الثمانين رحمه الله.
ومات العمدة الشيخ/عبد الله الموقت قوصون وكان يعرف بالطويل، وكان إنسانًا صالحًا ناسكًا ورعًا، توفي فجأة في الحمام ثاني عشر الحجة عن سبع وثمانين سنة.
ومات العمدة الفاضل الأديب الماهر الشيخ/علي بن أحمد بن عبد الرحمن بن عامر العطشي الفيومي، وهو أخو أحمد العطشي وكان له مذاكرة حسنة وحشر على الشيخ الحفني وغيره، وكان نعم الرجل توفي في جمادى الآخرة.
ومات السيج الشريف المعمر/محمد بن حسن محمد الحسني الوفائي باش جاويش السادة الأشراف، أخذ عن الشيخ المعمر يوسف الطولوني، وكان يحكى عنه حكايا مستحسنة وغرايب، وكان متقيدًا بالسيد محمد أبي هادي الوفائي في أيام نقابته على الأشراف ولديه فضيلة وفوايد، توفي في هذه السنة عن نحو ثمانين سنة.
ومات الشيخ الصالح/سليمان بن داود بن سليمان بن أحمد الخربتاوي، وكان من أهل المروة والدين، توفي ثامن عشرين المحرم من السنة في سن الثمانين.
ومات الجناب المكرم الأمير/أحمد أغا البارودي وهو من مماليك ابراهيم كتخدا القازدغلي، وتزوج بابنته التي من بيت البارودي، وسكن معها في بيتهم المشهور خارج باب سعادة والخرق، وولد له منها أولاد ذكور وإناث ومنهم صاحبنا ابراهيم جلبي وعلي مصطفى وهو أستاذ محمد أغا الآتي ذكره، تقلد المترجم في أيام علي بك مناصب جليلة مثل أغاوية المتفرقة وكتخدا الجاويشية، وكان إنسانًا حسنًا صافي الباطن لا يميل طبعه لسوى فعل الخير، ويحب أهل العلم وممارستهم، وكان له ميل عظيم واعتقاد حسن في المرحوم الشيخ الوالد ويزوره في كل جمعة مع غاية الأدب والامتثال، ومما شاهدته من كمال أدبه وشدة اعتقاده وحبه أنه صادفه مرة بالطريق وهو إذ ذاك كتخدا الجاويشية، وهو راكب في أبهته وأتباعه، والشيخ راكب على بغلته، فعندما رآه ترجل ونزل عن جواده وقبل يده، فأنكر عليه فعله واستعظمه واستحى منه، والتمس منه أن يقيد به بعض الطلبة ليقريه شيًّا من الفقه والدين، فقيد به الشيخ عبد الرحمن العريشي، فكان يذهب إليه ويطالع له القدوري وغيره، وكان يكرمه ويواسيه ولم يزل على حسن حالته حتى توفي في سابع جمادى الأول من السنة، وكان له في منزله خلوة ينفرد فيها بنفسه، ويخلع ثياب الأبهة ويلبس كساء صوف أحمر على بدن، ويأخذ بيده سبحة كبيرة يذكر ربه عليها.
ومات الأمير الصالح/خليل أغا مملوك عثمان بك الكبير تابع ذي الفقار وهو أستاذ الأمير علي خليل، توفي ببلد له بالفيوم، وجيء به ميتًا في عشية نهار السبت حادي عشرين جمادى الثانية من السنة فغسل وكفن ودفن بالقرافة، وكان إنسانًا دينًا خيرًا محبًّا للعلماء والصلحاء.
ومات الأمير إسماعيل أفندي تابع المرحوم الشريف محمد أغا كاتب البيورلدي وكان إنسانًا خيرًا صالحًا، توفي يوم الأحد ثاني عشرين جمادى الثانية.
ومات السيد المعمر الشريف عبد اللطيف أفندي نقيب الأشراف بالقدس وابن نقبائها عن تسعين سنة تقريبًا، وتولى بعده أكبر أولاده السيد عبد الله أفندي رحمه الله.
ومات الأمير المبجل/محمد أفندي جاوجان ميسو، وكان حافظًا لكتاب الله موفقًا، وفيه فضيلة وفصاحة يحب العلماء والأشراف ويحسن إليهم، توفي ليلة الإثنين عشرين ربيع الأول، وصُلي عليه بالأزهر ودفن بالمجاورين.
ومات الأمير/مصطفى بك الصيداوي تابع الأمير علي بك القازدغلي كان سبب موته أنه خرج إلى الخلاء جهة قصر العيني وركض جواده فسقط عنه ومات لوقته، وحمل إلى منزله بدرب الحجر، وجهز وكفن ودفن بالقرافة وذلك في منتصف ربيع الأول من السنة.
ومات الأمير/علي أغا أبو قورة من جماعة الوكيل سادس عشر ربيع الأول سنة تاريخه.
ومات الأمير/محمد أفندي الزاملي كاتب قلم الغربية، وكان صاحب بشاشة وتودد وحسن أخلاق، توفي رابع عشرين صفر من السنة، وخلف ولده حسن أفندي قلفة الغربية الآتي ذكره في سنة اثنتين ومايتين وألف.
ومات الخواجا المكرم الحاج/محمد عرفات الغزاوي التاجر، وهو والد عبد الله ومصطفى، توفي يوم الثلاثاء ثامن صفر من السنة، والله تعالى أعلم.