سنة تسع وثمانين وماية وألف/١٧٧٥م
فيها عزم محمد بك ابو الدهب على السفر والتوجه إلى البلاد الشامية بقصد محاربة الظاهر عمر، واستخلاص ما بيده من البلاد، فبرز خيامه إلى العادلية وفرق الأموال والتراحيل على الأمراء والعساكر والمماليك، واستعد لذلك استعدادًا عظيمًا في البحر والبر، وأنزل بالمراكب الذخيرة والجبخانة والمدافع والقنابر والمدفع الكبير المسمى بأبو مايلة، الذي كان سبكه في العام الماضي، وسافر بجموعه وعساكره في أوايل المحرم، وأخذ صحبته مراد بك، وإبراهيم بك طنان، وإسماعيل بك تابع إسماعيل بك الكبير لا غير، ونزل بمصر إبراهيم بك وجعله عوضًا عنه في إمارة مصر، وإسماعيل بك وباقي الأمراء والباشا الذي بالقلعة، وهو مصطفى باشا النابلسي وأرباب العكاكيز والخدم والوجاقلية، ولم يزل في سيره حتى وصل إلى جهة غزة وارتجت البلاد لوروده، ولم يقف أحد في وجهه، وتحصن أهل يافا بها، وكذلك الظاهر عمر تحصن بعكا، فلما وصل إلى يافا حاصرها وضيق على أهلها، وامتنعوا هم أيضًا عليه، وحاربوه من داخل وحاربهم من خارج، ورمى عليهم بالمدافع والمكاحل والقنابر عدة أيام وليالي، فكانوا يصعدون إلى أعلى السور ويسبون المصريين وأميرهم سبًّا قبيحًا، فلم يزالوا بالحرب عليها حتى نقبوا أسوارها، وهجموا عليها من كل ناحية، وملكوها عنوة، ونهبوها وقبضوا على أهلها وربطوهم في الحبال والجنازير، وسبوا النساء والصبيان، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ثم جمعوا الأسرى خارج البلد ودورو فيهم السيف، وقتلوهم عن آخرهم، ولم يميزوا بين الشريف والنصراني واليهودي والعالم والجاهل والعامي والسوقي ولا بين الظالم والمظلوم، وربما عوقب من لا جنى، وبنوا من رءوس القتلى عدة صوامع ووجوهها بارزة تنسف عليها الأتربة والرياح والزوابع، ثم ارتحل عنها طالبًا عكا، فلما بلغ الظاهر عمر ما وقع بيافا، اشتد خوفه وخرج من عكا هاربًا وتركها وحصونها. فوصل إليها محمد بك ودخلها من غير مانع، وأذعنت له باقي البلاد، ودخلوا تحت طاعته وخافوا سطوته، وداخل محمد بك من الغرور والفرح ما لا مزيد عليه وما آل به إلى الموت والهلاك، وأرسل بالبشاير إلى مصر والأمرا بالزينة، فنودي بذلك وزينت مصر وبولاق والقاهرة وخارجها زينة عظيمة، وعمل بها وقدات وشنكات وحرقات وأفراح ثلاثة أيام بلياليها، وذلك في أوايل ربيع الثاني، فعند انقضاء ذلك ورد الخبر بموت محمد بك، واستمر في كل يوم يفشو الخبر، وينمو ويزيد ويتناقل ويتأكد، حتى وردت السعاة بتصحيح ذلك، وشاع في الناس وصاروا يتعجبون ويتلون قوله تعالى: حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. وذلك أنه لما تم له الأمر وملك البلاد المصرية والشامية وأذعن الجميع لطاعته، وقد كان أرسل إسماعيل أغا أخا علي بك الغزاوي إلى إسلامبول يطلب إمرية مصر والشام، وأرسل صحبته أموالًا وهدايا فأجيب إلى ذلك، وأعطوه التقاليد والخلع واليرق والداقم، وأرسل له المراسلات والبشائر بتمام الأمر، فوافاه ذلك يوم دخوله عكا، فامتلأ فرحًا، وحم بدنه في الحال، فأقام محمومًا ثلاثة أيام، ومات ليلة الرابع، ثامن ربيع الثاني، ووافى خبر موته إسماعيل أغا عندما تهيأ، ونزل في المراكب يريد المسير إلى مخدومه، فانتقض الأمر وردت التقاليد وباقي الأشياء ولما تم له أمر يافا وعكا وباقي البلاد والثغور، فرح الأمراء والأجناد الذين بصحبته برجوعهم إلى مصر، وصاروا متشوقين للرحيل والرجوع إلى الأوطان، فاجتمعوا إليه في اليوم الذي نزل به ما نزل في ليلته، فتبين لهم من كلامه عدم العود وأنه يريد تقليدهم المناصب والأحكام بالديار الشامية وبلاد السواحل، وأمرهم بإرسال المكاتبات إلى بيوتهم وعيالهم بالبشارات بما فتح الله عليهم وما سيفتح لهم، ويطمنوهم ويطلبوا احتياجاتهم ولوازمهم المحتاجين إليها من مصر، فعند ذلك اغتموا، وعلموا أنهم لا براح لهم، وأن أمله غير هذا، وذهب كل إلى مخيمه يفكر في أمره، قال الناقل: وأقمنا على ذلك الثلاثة أيام التي تمرض فيها، وأكثرنا لا يعلم بمرضه ولا يدخل إليه إلا بعض خواصه، ولا يذكرون ذلك إلا بقولهم في اليوم الثالث: إنه منحرف المزاج، فلما كان في صبح الليلة التي مات بها، نظرنا إلى صيوانه وقد انهدم ركنه، وأولاد الخزنة في حركة، ثم زاد الحال، وجردوا على بعض السلاح بسبب المال، وظهر أمر موته وارتبك العرضي، وحضر مراد بك فصدهم وكفهم عن بعضهم، وجمع كبراهم وتشاوروا في أمرهم، وأرضى خواطرهم، خوفًا من وقوع الفشل فيهم وتشتتهم في بلاد الغربة وطمع الشاميين وشماتتهم فيهم، واتفق رأيهم على الرحيل، وأخذوا رمة سيدهم صحبتهم لما تحقق عندهم أنهم إن دفنوه هناك في بعض المواضع أخرجه أهل البلاد ونبشوه وأحرقوه، فغسلوه وكفنوه ولفوه في المشمعات ووضعوه في عربة، وارتحلوا به طالبين الديار المصرية، فوصلوا في ستة عشر يومًا، ليلة الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني أواخر النهار، فأرادوا دفنه في القرافة، وحضر الشيخ الصعيدي فأشار بدفنه في مدرسته تجاه الأزهر، فحفروا له قبرًا في الليوان الصغير الشرقي وبنوه ليلًا، ولما أصبح النهار، عملوا مشهدًا، وخرجوا بجنازته من بيته الذي بقوصون، ومشى أمامه المشايخ والعلماء والأمراء وجميع الأحزاب والأوراد وأطفال المكاتب، وأمام نعشه مجامر العنبر والعود سترًا على رائحته ونتنه، حتى وصلوا به إلى مدفنه، وعملوا عنده ختامات وقرايات وصدقات عدة ليال وأيام نحو أربعين يومًا، واستقر أتباعه أمرا مصر وريسهم إبراهيم بك ومراد بك، وباقيهم الذين أمره في حياته، ومات عنهم يوسف بك وأحمد بك الكلارجي ومصطفى بك الكبير وأيوب بك الكبير وذو الفقار بك ومحمد بك الطبال ورضوان بك، والذين تأمروا بعده أيوب بك الدفتردار وسليمان بك الأغا وإبراهيم بك الوالي وأيوب بك الصغير وسليم بك أبو دياب ولاجين بك، وسيأتي ذكر أخبارهم.
ذكر من مات في هذه السنة
(مات) الإمام الهمام، شيخ مشايخ الإسلام، عالم العلما الأعلام، إمام المحققين وعمدة المدققين، الشيخ/علي بن أحمد بن مكرم الله الصعيدي العدوي المالكي، ولد ببني عدى كما أخبر عن نفسه سنة اثنتي عشرة وماية وألف، ويقال له أيضًا: المنسفيسي؛ لأن أصوله منها، وقدم إلى مصر وحضر دروس المشايخ كالشيخ عبد الوهاب الملوي والشيخ شلبي البرلسي والشيخ سالم النفراوي والشيخ عبد الله المغربي والسيد محمد السلموني ثلاثتهم عن الخرشي وأقرانه وكسيدي محمد الصغير والشيخ إبراهيم الفيومي، وقال: وبشرني بالعلم حين قبلت يده وأنا صغير ومحمد بن زكري والشيخ محمد السجيني والشيخ إبراهيم شعيب المالكي والشيخ أحمد الملوي والشيخ أحمد الديربي والشيخ عيد النمرسي والشيخ مصطفى العزيزي والشيخ محمد العشماوي والشيخ محمد بن يوسف والشيخ أحمد الإسقاطي والبقري والعماوي والسيد علي السيواسي والمدابغي والدفري والبليدي والحفني وآخرين، وبآخرة تلقن الطريقة الأحمدية عن الشيخ علي بن محمد الشناوي، ودرس بالأزهر وغيره وقد بارك الله في أصحابه طبقة بعد طبقة كما هو مشاهد، وكان يحكي عن نفسه أنه طالما كان يبيت بالجوع في مبدأ اشتغاله بالعلم، وكان لا يقدر على ثمن الورق، ومع ذلك إن وجد شيًّا تصدق به، وقد تكررت له بشارات حسنة منامًا ويقظة إذا حكى شيًّا من ذلك قال: هكذا كان الامام مالك يخبر أصحابه بالرويا ويقول: «الرويا تسر ولا تضر» منها ما وقع لشيخنا العارف سيدي محمود الكردي قال: «رأيت النبي ﷺ في المنام يقول: علي الصعيدي خليفتي فلما انتبهت وخطر ببالي الشيخ قلت: علي الصعيدي غيره كثير، فنمت، فرأيته ثانيًا يقول: علي الصعيدي هذا ويشير للشيخ». ورأى بعض الصلحاء النبي ﷺ في المنام في محراب الأزهر والطلبة تعرض عليه تقاييد الأشياخ، فلما رأى ما قيد عن الشيخ، صار يقول بذل وانكسار: يا علي ويكررها، ورأى الشيخ نفسه النبي في المنام فقال له: «أجزني» قال: «أجزتك» وأمثال ذلك كثير ورأى غير واحد من الصلحا النبي ﷺ يأمره بالحضور عليه، وآخر رأى مالكًا والشافعي في مجلس تدريسه، وشهد له بالمعرفة والصلاح أكثر من النصف من أهل عصره، وقال العلامة الشيخ محمد الأمير: «ولقد سمعت شيخنا العفيفي رضي الله عنه في مرض موته يقول: «الشيخ ناج والذي يحضره ناج» أو كلامًا هذا معناه. وله مؤلفات دالة على فضله، منها حاشية على ابن تركي وأخرى على الزرقاني على العزيه وأخرى على شرح أبي الحسن على الرسالة في مجلدين ضخمين، وأخرى على الخرشي وأخرى على شرح الرزقاني على المختصر، وأخرى على الهدهدي على الصغرى وحاشيتان على عبد السلام على الجوهرة كبرى وصغرى، وأخرى على الأخضري على السلم، وأخرى على ابن عبد الحق على بسملة شيخ الإسلام وأخرى على شرح شيخ الإسلام على ألفية المصطلح للعراقي وغير ذلك، وكان قبل ظهوره لم تكن المالكية تعرف الحواشي على شروح كتبهم الفقية، فهو أول من خدم تلك الكتب بها، وله شرح على خطبة كتاب إمداد الفتاح على نور الإيضاح في مذهب الحنفية للشيخ الشرنبلالي، وكان رحمه الله شديد الشكيمة في الدين يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وإقامة الشريعة، ويحب الاجتهاد في طلب العلم ويكره سفاسف الأمور وينهى عن شرب الدخان، ويمنع من شربه بحضرته وبحضرة أهل العلم تعظيمًا لهم، وإذا دخل إلى منزل من منازل الأمرا ورأى من يشرب الدخان شنع عليه وكسر آلته، ولو كانت في يد كبير الأمرا، وشاع عنه بذلك وعرف في جميع الخاص والعام وتركوه بحضرته، فكانوا عندما يرونه مقبلًا من بعيد نبه بعضهم بعضًا ورفعوا شبكاتهم وأقصابهم وأخفوها عنه، وإن رأى شيًّا منها أنكر عليهم ووبخهم وعنفهم وزجرهم، حتى إن علي بك في أيام إمارته كان إذا دخل عليه في حاجة أو شفاعة، أخبروه قبل وصوله إلى مجلسه فيرفع الشبك من يده ويخفوه من وجهه وذلك مع عتوه وتجبره وتكبره، واتفق أنه دخل عليه في بعض الأوقات، فتلقاه على عادته وقبل يده وجلس فسكت الأمير مفكرًا في أمر من الأمور، فظن الشيخ إعراضه عنه فأخذته الحدة، وقال مخاطبًا له باللغة الصعيدية: «يا مين يا مين يا من هو غضبك ورضاك على حد سواء، بل غضبك خير من رضاك»، وكرر ذلك وقام قايمًا وهو يأخذ بخاطره ويقول: «أنا لم أغضب من شيء»، ويستعطفه فلم يجبه ولم يجلس ثانيًا وخرج ذاهبًا، ثم سأل علي بك عن القضية التي أتى بسببها فأخبروه فأمر بقضاها، واستمر الشيخ منقطعًا عن الدخول إليه مدة حتى ركب في ليلة من ليالي رمضان مع الشيخ الوالد في حاجة عند بعض الأمرا ومرا ببيت علي بك فقال له: «ادخل بنا نسلم عليه»، فقال: «يا شيخنا أنا لا أدخل». فقال: «لا بد من دخولك معي فلم تسعه مخالفته وانسر بذلك علي بك تلك الليلة سرورًا كثيرًا.
ولما مات علي بك واستقل محمد بك أبو الدهب بإمارة مصر كان يجل من شأنه ويحبه ولا يرد شفاعته في شي أبدًا، وكل من تعسر عليه قضا حاجة ذهب إلى الشيخ وأنهى إليه قصته فيكتبها مع غيرها في قايمة حتى تمتلى الورقة، ثم يذهب إلى الأمير بعد يومين أو ثلاثة، فعندما يستقر في الجلوس يخرج القايمة من جيبه، ويقص ما فيها من القصص والدعاوي واحدة بعد واحدة، ويأمر بقضاء كل منها والأمير لا يخالفه ولا ينقبض خاطره في شيء من ذلك، وفي أثناء ذلك يقول له: لا تضجر ولا تأسف على شي يفوتك بغير حق في الدنيا، فإن الدنيا فانية وكلنا نموت ويوم القيامة يسألنا الرب عن تأخرنا عن نصحك، وها نحن قد نصحناك وخرجنا من العهدة. وإذا تلكأ في شي صرخ عليه وقال له: «اتق النار وعذاب جهنم»، ثم يمسك بيده ويقول له: «أنا خايف على هذه اليد الكويسة من النار» وأمثال ذلك، ولما بنى الأمير المذكور مدرسته كان المترجم هو المتعين في التدريس بها داخل القبة على الكرسي، وابتدأ بها البخاري وحضره كبار المدرسين فيها وغيرهم ولم يترك درسه بالأزهر ولا بالبرديكية، وكان يقرأ قبل ذلك بمسجد الغريب عند باب البرقية في وظيفة جعلها له الأمير عبد الرحمن كتخدا، وكذلك وظيفة بعد الجمعة بجامع مرزه، ببولاق وكان على قدم السلف في الاشتغال والقناعة، وشرف النفس وعدم التصنع والتقوي ولا يركب إلا الحمار ويواسي أهله وأقاربه ويرسل إلى فقراهم ببلده الصلات والأكسية والبز والطرح للنساء والعصايب والمداسات وغير ذلك، ولم يزل مواظبًا على الإقراء والإفادة حتى تمرض بخراج في ظهره أيامًا قليلة، وتوفي في عاشر رجب من السنة، وصُلي عليه بالأزهر بمشهد عظيم ودفن بالبستان بالقرافة الكبرى رحمه الله، ولم يخلف بعده مثله ولم أعثر على شي من مراثيه.
(ومات) الإمام العلامة الفقيه الصالح الشيخ/أحمد بن عيسى بن أحمد بن عيسى بن محمد الزبيري البراوي الشافعي، ولد بمصر وبها نشأ وحفظ القرآن والمتون وتفقه على والده وغيره، وحضر المعقول وتمهر وأنجب ودرس في حياة والده، وبعد وفاته تصدر للتدريس في محله وحضره طلبة أبيه واتسعت حلقة درسه مثل أبيه، واشتهر ذكره وانتظم في عداد العلماء وكان نعم الرجل شهامة وصرامة، وفيه صداقة وحب للإخوان، توفي بطندتا ليلة الأربعا ثالث عشر ربيع الأول فجأة، إذ كان ذهب للزيارة المعتادة وجيء به إلى مصر فغسل في بيته وكفن، وصُلي عليه بالجامع الأزهر ودفن بتربة والده بالمجاورين.
(ومات) الإمام الفاضل المسن الشيخ/أحمد بن رجب بن محمد البقري الشافعي المقري، حضر دروس كل من الشيخ المدابغي والحفني، ولازم الأول كثيرًا فسمع منه البخاري بطريفيه، والسيرة الشامية كلها، وكتب بخطه الكثير من الكتب الكبار وكان سريع الفهم وافر العلم كثير التلاوة للقرآن مواظبًا على قيام الليل سفرًا وحضرًا، ويحفظ أورادًا كثيرة وأحزابًا، ويجيز بها وكان يحفظ غالب السيرة ويسردها من حفظه، ونعم الرجل كان متانة ومهابة. توفي وهو متوجه إلى الحج في منزلة النخل آخر يوم من شوال من السنة ودفن هناك.
(ومات) عالم المدينة وريسها الشيخ/محمد بن عبد الكريم السمان، ولد بالمدينة ونشأ في حجر والده، واشتغل يسيرًا بالعلم وأرسله والده إلى مصر في سنة أربع وسبعين وماية وألف لمقتضى، فتلقته تلامذه أبيه بالإكرام وعقد حلقة الذكر بالمشهد الحسيني وأقبلت عليه الناس، ثم توجه إلى المدينة، ولما توفي والده أقم شيخًا في محله، ولم يزل على طريقته حتى مات في رابع الحجة من السنة عن ثمانين سنة.
(ومات) العلامة المعمر الصالح الشيخ/أحمد الخليلي الشامي أحد المدرسين بالأزهر، تلقى عن أشياخ عصره ودرس وأفاد وكان به انتفاع للطلبة تام عام، وألف إعراب الآجرومية وغيره وتوفي في عاشر صفر من السنة.
(ومات) الأمير الكبير/محمد بك أبو الدهب تابع علي بك الشهير، اشتراه أستاذه في سنة خمس وسبعين فأقام مع أولاد الخزنة أيامًا قليلة، وكان إذ ذلك إسماعيل بك خازندار فلما أمر إسماعيل بك قلده الخازندارية مكانه، وطلع مع مخدومه إلى الحج ورجع أوايل سنة ثمان وسبعين، وتأمر في تلك السنة وتقلد الصنجقية وعرف بأبي الدهب، وسبب تلقبه بذلك أنه لما لبس الخلعة بالقلعة صار يفرق البقاشيش ذهبًا، وفي حال ركوبه ومروره جعل ينثر الدهب على الفقرا والجعيدية حتى دخل إلى منزله فعرف بذلك؛ لأنه لم يتقدم نظيره لغيره ممن تقلد الإمريات، واشتهر عنه هذا اللقب وشاع وسمع عن نفسه شهرته بذلك، فكان لا يضع في جيبه إلا الدهب ولا يعطى إلا الدهب، ويقول: «أنا أبو الذهب فلا أمسك إلا الدهب»، وعظم شأنه في زمن قليل ونوه مخدومه بذكره وعينه في المهمات الكبيرة والوقايع الشهيرة، وكان سعيد الحركات مؤيد العزمات لم يعهد عليه الخذلان في مصاف قط، وقد تقدمت أخباره ووقايعه في أيام أستاذه علي بك وبعده واستكثر من شرا المماليك والعبيد حتى اجتمع عنده في الزمن القليل ما لا يتفق لغيره في الزمن الكثير، وتقلدوا المناصب والإمريات، فلما تمهدت البلاد بسعده المقرون ببأس أستاذه ثم خالف عليه وضم المشردين وغمرهم بالإحسان، واستمال بواقي أركان الدولة واستلين الجميع جانبه وجنحوا إليه وأحبوه وأعانوه، وتعصبوا له وقاتلوا بين يديه حتى أزاحوا علي بك وخرج هاربًا من مصر إلى الشام، واستقر المترجم بمصر وساس الأمور وقلد المناصب وجبى الأموال والغلال، وراسل الدولة العثمانية واظهر لهم الطاعة وقلد مملوكه إبراهيم بك إمارة الحج تلك السنة، وصرف العلايف وعوايد العربان وأرسل الغلال للحرمين والصرر وتحرك علي بك للرجوع إلى مصر، وجيش الجيوش فلم يهتم المترجم لذلك وكاد له كيدًا بأن جمع القرانصه، والذين يظن فيهم النفاق وأسر إليهم أن يراسلوا علي بيك، ويستعجلوه في الحضور وينمقوا مساوي للمترجم ومنفرات ويعدوه بالمخامرة معه والقيام بنصرته متى حضر، وأرسلوها إليه بالشريطة السرية فراج عليه ذلك واعتقد صحته، وأرسل إليهم بالجوابات وأعادوا له الرسالة كذلك باطلاع مخدومهم وإشارته، فعند ذلك قوى عزم علي بك على الحضور وأقبل بجنوده إلى جهة الديار المصرية، فخرج إليه المترجم ولاقاه بالصالحية وأحضره أسيرًا كما تقدم، ومات بعد أيام قليلة وانقضى أمره وارتاح المترجم من قبله، وجمع باقي الأمراء المطرودين والمشردين وأكرمهم واستخدمهم وواساهم واستوزرهم، وقلدهم المناصب ورد إليهم بلادهم وعوايدهم واستعبدهم بالإحسان والعطايا، واستبدلهم العز بعد الذل والهوان، وراحة الأوطان بعد الغربة والتشريد والهجاج في البلدان، فثبتت دولته وارتاحت النواحي من الشرور والتجاريد وهابته العربان وقطاع الطريق وأولاد الحرام، وأمنت السبل وسلكت الطرق بالقوافل والبضايع ووصلت المجلوبات من الجهات القبلية والبحرية بالتجارات والمبيعات، وحضر إلى مصر خليل باشا وطلع إلى القلعة على العادة القديمة، وحضر للمترجم من الدولة المرسومات والخطابات، ووصل إليه سيف وخلعة فلبس ذلك في الديوان، ونزل في أبهة عظيمة شأنه وانفرد بإمارة مصر واستقام أمره، وأهمل أمر أتباع أستاذه علي بك وأقام أكثرهم بمصر بطالًا، وحضر إلى مصر مصطفى باشا النابلسي من أولاد العظم والتجأ إليه فأكرم نزله، ورتب له الرواتب وكاتب الدولة وصالح عليه وطلب له ولاية مصر، فأجيب إلى ذلك ووصلت إليه التقاليد والداقم في ربيع الثاني سنة ثمان وثمانين ووجه خليل باشا إلى الولاية جدة، وسافر من القلزم في جمادى الثانية وتوفي هناك، وفي أواخر سنة سبعة وثمانين شرع في بناء مدرسته التي تجاه الجامع الأزهر، وكان محلها رباع متخربة فاشتراها من أربابها وهدمها، وأمر ببناها على هذه الصفة وهي على أرنيك جامع السنانية الكاين بشط النيل ببولاق فرتب لنقل الأتربة وحمل الجير والرماد والطين عدد كبير من قطارات البغال، وكذلك الجمال لشيل الأحجار العظيمة كل حجر واحد على جمل، وطحنوا لها الجبس الحلواني المصيص ورموا أساسها في أوايل شهر الحجة ختام السنة المذكورة، ولما تم عقد قبتها العظيمة وما حولها من القباب المعقودة على اللواوين ويبضوها، ونقشوا داخل القبة بالألوان والأصباغ وعمل لها شبابيك عظيمة كلها من النحاس الأصفر المصنوع، وعمل بظاهرها فسحة مفروشة بالرخام المرمر وبوسطها حنفية، وحولها مساكن لمتصوفة الأتراك وبداخلها عدة كراسي راحة وكذلك بدورها العلوي وبأسفل من ذلك ميضا عظية تمتلي بالماء من نوفرة بوسطها تصب في صحن كبير من الرخام المصنوع نقلوه إليها من بعض الأماكن القديمة، ويفيض منه فيملا الميضا، وحول الميضأة عدة كراسي راحة وأنشأ ساقية لذلك فحفروها، وخرج ماؤها في غاية الملوحة، وأنشأ أسفل ذلك صهريجًا عظيمًا يملا في كل سنة من ماء النيل وحوضًا عظيمًا لسقي الدواب، وعمل بأعلى الميضأة ثلاثة أماكن برسم جلوس المفتين الثلاثة هم: الحنفي والشافعي والمالكي يجلسون بها حصة من النهار لإفادة الناس بعد إملاء الدروس، وقرر فيها الشيخ أحمد الدردرير مفتي المالكية والشيخ عبد الرحمن العريشي مفتي الحنفية والشيخ حسن الكفراوي مفتي الشافعية، ولما تم البناء فرشت جميعها بالحصر، ومن فوقها الأبسطة الرومي من داخل وخارج حتى فرجات الشبابيك ومساكن الطباق، ولما استقر جلوس المفتين المذكورين بالثلاثة أماكن التي أعدت لهم أضرت بهم الرائحة الصاعدة إليهم من المراحيض التي من أسفل، وأعلموا الأمير بذلك فأمر بإبطالها وبنوا خلافها بعيدًا عنها، وتقرر في خطابتها الشيخ أحمد الراشدي وغالب المدرسين بالأزهر مثل الشيخ علي الصعيدي مدرس البخاري والشيخ أحمد الدردير والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد الرحمن العريشي والشيخ حسن الكفراوي والشيخ أحمد يونس والشيخ أحمد السمنودي وللشيخ علي الشنويهي والشيخ عبد الله اللبان والشيخ محمد الحفناوي والشيخ محمد الطحلاوي والشيخ حسن الجداوي والشيخ أبي الحسن القلعي والشيخ البيلي والشيخ محمد الحريري والشيخ منصور المنصوري والشيخ أحمد جاد الله والشيخ محمد المصيلحي ودرسًا ليحيى أفندي شيخ الأتراك، وتقرر السيد عباس إمامًا راتبًا بها وفي وظيفة التوقيت الشيخ محمد الصبان، وجعل بها خزانة كتب عظيمة وجعل خازنها محمد أفندي حافظ، وينوب عنه الشيخ محمد الشافعي الجناجي ورتب للمدرسين الكبار في كل يوم ماية وخمسين نصفًا فضة، ومن دونهم خمسون نصفًا وكذلك للطلبة منهم من له عشرة أنصاف في كل يوم، ومنهم من له أكثر وأقل وبقدر عدد الدراهم أرادب من البر في كل سنة، ولما انتهى أمرها وصُلي بها الجمعة في شهر شعبان سنة ثمان وثمانين، فحضر الأمير المذكور واجتمع المشايخ والطلبة وأرباب الوظايف وصلوا بها الجمعة، وبعد انقضاء الصلاة جلس الشيخ الصعيدي على الكرسي، وأملى حديث: (من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة)، فلما انقضى لك أحضرت الخلع والفراوي، فألبس الشيخ الصعيدي والشيخ الراشدي الخطيب والمفتين الثلاثة فراوي سمور، وباقي المدرسين فراوي نافا بيضًا، وأنعم في ذلك اليوم على الخدمة والمؤذنين وفرق عليهم الدهب والبقاشيش، وتنافس الفقها والأشياخ والطلبة تحاسدوا وتفاتنوا. ووقف على ذلك أمانة قويسنا وغيرها والحوانيت، التي أسفل المدرسة ولم يصرف إلا سنة واحدة، فإن المترجم سافر في أوايل سنة تسع وثمانين إلى البلاد الشامية كما تقدم، ومات هناك ورجعوا برمته وتأمر أتباعه وتقاسموا البلاد فيما بينهم ومن جملتها أمانة قويسنا الموقوفة، فبرد أمر المدرسة وعوضوا عن ذلك الوكالة التي أنشأها علي بك ببولاق لمصرف أجر الخدمة، وعليق الأنوار بعدما أضعفوا المعاليم ونقصوها، وزعوا عليهم ذلك الإيراد القليل، ولم يزل الحال يتناقص ويضعف حتى بطل منها غالب الوظايف والخدم إلى أن بطل التوقيت والأذان، بل والصلاة على أكثر الأوقات وأخلق فرشها وبسطها، وعتقت وبليت وسرق بعضها وأغلق أحد أبوابها المواجه للقبوة الموصل للمشهد الحسيني، بل أغلقت جميعًا شهورًا مع كون الأمراء أصحاب الحل والعقد أتباع الواقف ومماليكه. لكن لما فقدت منهم القابلية واستولى عليهم الطمع والتفاخر والتنافس والتغاضي خوف الفشل وتفرق الكلمة، مع الانحراف عن الأوضاع ظهر الخلل في كل شيء حتى في الأمور الموجبة لنظام دولتهم، وإقامة ناموسهم كما يتضح ذلك فيما بعد، وبالجملة فإن المترجم كان آخر من أدركنا من الأمراء المصرين شهامة وصرامة وسعدًا وحزمًا وحكمًا وسماحة وحلمًا، وكان قريبًا للخير يحب العلما والصلحا ويميل بطبعه ويعتقد فيهم ويعظمهم وينصت لكلامهم ويعطيهم العطايا الجزيلة ويكره المخالفين للدين، ولم يشتهر عنه شيء من الموبقات والمحرمات ولا ما يشينه في دينه أو يخل بمروته، بهي الطلعة جميل الصورة أبيض اللون معتدل القامة والبدن مسترسل اللحية، مهاب الشكل وقورًا محتشمًا قليل الكلام والالتفات ليس بمهدار ولا خوار ولا عجول، مبجلًا في ركوبه وجلوسه، يباشر الأحكام بنفسه، ولولا ما فعله آخر أيامه من الإسراف في قتل أهل يافا بإشارة وزاره لكانت حسناته أكثر من سيئاته، ولم يتفق لأمير مثله في كثرة المماليك، وظهور شأنهم في المدة اليسيرة وعظم أمرهم بعده، وانحرفت طباعهم عن قبول العدالة ومالوا إلى طرق الجهالة، واشتروا المماليك فنشوا على طرايقهم وزادوا عن سوابقهم، وألفوا المظالم وظنوها مغانم، وتمادوا على الجور وتلاحقوا في البغي على الفور، إلى أن حصل ما حصل، ونزل، وسيتلى عليك من ذلك أنباء وأخبار، وما حل بالإقليم بسببهم من الخراب والدمار، والله تعالى أعلم.