سنة تسعين وماية وألف/١٧٧٦م
كان سلطان العصر فيها السلطان عبد الحميد بن أحمد خان العثماني ووالي مصر الوزير محمد باشا عزت الكبير وأمراؤها إبراهيم بك ومراد بك مملوكًا محمد بك أبي الدهب وخشداشينها أيوب بك الصغير ومحمد بك طبل وحسن بك سوق السلاح وذو الفقار بك ولاجين بك ومصطفى بك الصغير بك وعثمان بك الشرقاوي وخليل بك الإبراهيمي، ومن البيوت القديمة حسن بك قصبة رضوان، ورضوان بك بليفيا وإبراهيم بك طنان وعبد الرحمن بك عثمان الجرجاوي وسليمان بك الشابوري، وبقايا اختيارية الوجاقات مثل: أحمد باشجاويش أرنؤد وأحمد جاويش المجنون وإسماعيل أفندي الخلوتي وسليمان البرديسي وحسن أفندي درب الشمسي وعبد الرحمن أغا محرم ومحمد أغا محرم وأغا وأحمد كتخدا المعروف بوزير وأحمد كتخدا الفلاح، وباقي جماعة الفلاح وإبراهيم كتخدا منا وغيرهم والأمر والنهى للأمراء المحمدية المتقدم ذكرهم، وكبيرهم وشيخ البلد إبراهيم بك ولا ينفذ أمر بدون اطلاع قسيمه مراد بك وإسماعيل بك الكبير متنزه، ومنعكف في بيته وقانع بإيراده وبلاده ومنزو عن التداخل فيهم من موت سيدهم وعمر داره التي بالأزبكية وأقام بها.
(وفيها في يوم الخميس سابع شهر صفر) وصل الحج إلى مصر، ودخل الركب وأمير الحاج يوسف بك.
(وفي ليلة الجمعة تاسع صفر) وقع حريق بالأزبكية وذلك في نصف الليل بخطة الساكت احترق فيها عدة بيوت عظام، وكان شيئًا مهولًا ثم إنها عمرت في أقرب وقت، والذي لم يقدر على العمارة باع أرضه فاشتراها القادر وعمرها، فعمر رضوان بك بلفيا دار عظيمة، وكذلك الخواجا السيد عمر غراب والسيد أحمد عبد السلام والحاج محمود محرم، بحيث إنه لم يأت النيل القابل إلا وهي أحسن وأبهج مما كانت عليه.
(وفيها) سقط ربع «بسوق الغورية ومات فيه عدة كثيرة من الناس تحت الردم، ثم إن عبد الرحمن أغا مستحفظان أخذ تلك الأماكن من أربابها شراءً، وأنشأ الحوانيت والربع علوها والوكالة المعروفة الآن بوكالة الزيت، والبوابة التي يسلك منها من السوق.
(وفيها) حضر جماعة من الهنود ومعهم فيل صغير ذهبوا به إلى قصر العينى، وأدخلو بالاسطبل الكبير وهرع الناس للفرجة عليه ووقف الخدم على أبواب القصر يأخذون من المتفرجين دراهم، وكذلك سواسه الهنود جمعوا بسببه دراهم كثيرة وصار الناس يأتون إليه بالكعك وقصب السكر، ويتفرجون على مصه في القصب وتناوله بخرطوم وكان الهنود يخاطبونه بلسانهم، ويفهم كلامهم وإذا أحضروه بين يدي كبير كلموه، فيبرك على يديه، ويشير بالسلام بخرطومه.
(وفيها في شهر رمضان) تعصب مراد بك وتغير خاطره على إبراهيم بك طنان، ونفاه إلى المحلة الكبيرة وفرق بلاده على من أحب ولم يبق له إلا القليل.
(وفيها) شرع الأمير إسماعيل بك في عمل مهم لزواج ابنته وهي من زوجته هانم بنت سيدهم إبراهيم كتخدا، الذي كان تزوجها في سنة أربع وسبعين بالمهم المذكور في حوادث تلك السنة، وكان ذلك المهم في أوايل شهر ذي الحجة وكان قبل هذا المهم حصل بينه وبين مراد بك منازعة ومخاصمة؛ وسببها أن مراد بك أراد أن يأخذ من إسماعيل بك السرو ورأس الخليج فوقع بينهما مشاححة ومخاصمة كاد يتولد منها فتنة، فسعى في الصلح بينهما إبراهيم بك فاصطلحا على غل، وشرع في إثر ذلك إسماعيل بك في عمل الفرح فاجتمعوا يوم العقد في وليمة عظيمة، ووقف مراد بك وفرق المحارم والمناديل على الحاضرين وهو يطوف بنفسه على أقدامه، وعمل المهم كثيرة ونزل محمد باشا عزت باستدعا إلى بيت إسماعيل بك، وعندما وصل إلى حارة قوصون نزل الأمراء بأسرهم مشاة على أقدامهم لملاقاته، فمشوا جميعًا أمامه على أقدامهم وبأيديهم المباخر والقماقم، ولم يزالوا كذلك حتى طلع إلى المجلس ووقفوا في خدمته مثل المماليك حتى انقضت أيام الولايم زفوا العروس إلى زوجها إبراهيم أغا، الذي صنجقه إسماعيل بك وهو خازنداره ومملوكه يسمونه قشطة، وكانت هذه الزفة من المواكب الجليلة ومشى فيها الفيل وعليه خلعة جوخ أحمر فكان ذلك من النوادر.
ذكر من مات في هذه السنة
ومات في هذه السنة الفقيه المتفنن العلامة الشيخ/أحمد بن محمد بن محمد السجاعي الشافعي الأزهري، ولد بالسجاعية قرب المحلة، وقدم الأزهر صغيرًا فحضر دروس الشيخ العزيزي والشيخ محمد السجيني والشيخ عبده الديوي والسيد علي الضرير، فتمهر ودرس وأفتى وألف وكان ملازمًا على زيارة قبور الأوليا ويحيي الليالي بقراءة القرآن مع صلاح وديانة وولاية وجذب، وله مع الله حال غريب وهو والد الشيخ الأوحد أحمد الآتي ذكره في تاريخ موته، توفي المترجم رحمه الله تعالى في عصر يوم الأربعاء ثامن عشري ذي القعدة.
ومات الشيخ الإمام الفقيه العلامة الشيخ/عطية بن عطية الأجهوري الشافعي البرهاني الضرير، ولد بأجهور الورد إحدى قرى مصر وقدم مصر فحضر دروس الشيخ العشماوي والشيخ مصطفى العزيزي، وتفقه عليهما وعلى غيرهما وأتقن في الأصول وسع الحديث ومهر في الآلات وأنجب ودرس المنهج والتحرير مرارًا، وكذا جمع الجوامع بمسجد الشيخ مطهر وله في أسباب النزول مؤلف حسن في بابه جامع جام لما تشتت من أبوابه وحاشية على الجلالين مفيدة، وكذلك حاشية على شرح الزرقاني على البيقونية في مصطلح الحديث وغير ذلك، وقد حضر عليه غالب علما مصر الموجودين، واعترفوا بفضله وأنجبوا ببركته وكان يتأتى في تقريره ويكرر الإلقا مرارًا مراعاة للمستعملين الذين يكتبون ما يقوله، ولما بنى المرحوم عبد الرحمن كتخدا هذا الجامع المعروف الآن بالشيخ مطهر الذي كان أصله مدرسة للحنفية، وكانت تعرف بالسيوفيين بنى للمترجم بيتًا بدهليزها وسكن فيه بعياله وأولاده توفي في أواخر رمضان.
ومات الشيخ الفاضل النجيب/أحمد بن محمد بن العجمي الشافعي كان شابًّا فهيمًا دراكًا ذا حفظ جيد، حضر على علما العصر، وحصل المعقول والمنقول وأدرك جانبًا من العلوم والمعارف ودرس وأملى ولو عاش لانتظم في سلك أعاظم العلما، ولكن اخترمته المنية في يوم الإثنين حادي عشر جمادى الآخرة.
الشيخ الصالح الورع الناسك/أحمد بن نور الدين المقدسي الحنفي إمام جامع قجماس، وخطيبه بالدرب الأحمر، وهو أخو الشيخ حسن المقدسي مفتي السادة الحنفية شارك أخاه الشيخ حسنًا المذكور في شيوخه واشتغل بالعلم، وكان شيخًا وقورًا بهي الشكل مقبلًا على شأنه منجمعًا عن الناس، توفي ليلة الإثنين سادس عشر ربيع الأول.
ومات الفقيه الفاضل الشيخ/إبرهيم بن خليل الصيحاني الغزي الحنفي، ولد بغزة وبها نشأ وقرأ بعض المتون على فضلا بلده وورد الجامع الأزهر فحضر الدروس، ولازم المرحوم الوالد حسنًا الجبرتي وتلقى عنه الفقه وبعض العلوم الغربية، ثم عاد إلى غزة وتولى الافتا بالمذاهب، وكان يرسل إلى الوالد في كل سنة جانبًا من اللوز المر في غلق مقدار عشرين رطلًا، فنخرج دهنه ونرفعه في الزجاج لنفع الناس في الدهن ومعالجات بعض الأمراض والجروحات، ولم يزل على ذلك حتى ارتحل إلى دمشق، وتولى أمانة الفتوى بعده الشيخ عبد الشافي، فسار أحسن سير وتوفي بها في هذه السنة في عشر التسعين رحمه الله.
ومات الفقيه الفاضل الصالح الشيخ/علي بن محمد بن نصر بن هيكل بن جامع الشنويهي، تفقه على جماعة من فضلاء العصر، وكان يحضر درس الحديث في كل جمعة على السيد البليدي، ودرس بالأزهر وانتفع به الطلبة وكان مشهورًا بمعرفة الفروع الفقهية، وكان درسه حافلًا جدًّا وله حظ في كثرة الطلبة، وكان الأشياخ يتضايقون من حلقة درسه فيطردونه من المقصورة فيخرج إلى الصحن، فتملأ حلقة درسه صحن الجامع، وفي بعض الأحيان ينتقل إلى مدرسة السنانية بجماعته، وكان يخطب بجامع الأشرفية بالوراقين، وخطبته لطيفة مختصرة، وقرأ المنهج مرارًا، وكان شديد الشكيمة على نهج السلف الأول لا يعرف التصنع، وكان يخبر عن نفسه أنه كان كثير الرؤيا للنبي ﷺ، وأنه لما تنزل مدرسًا في المحمدية من جملة الجماعة انقطع عنه ذلك، وكان يبكي ويتأسف لذلك. توفي في ثامن عشر شعبان وأملى نسبه على الدكة إلى سيدنا علي رضي الله عنه.
ومات الأمير الكبير الشهير/عثمان بك الفقاري بإسلامبول في هذه السنة، وكان مدة غربته ببرصا وإسلامبول نيفًا وأربعًا وثلاثين سنة، وقد تقدم ذكره وذكر مبدأ أمره وظهوره وسبب خروجه من مصر ما يغني عن إعادة بعضه وهو أمر مشهور، وإلى الآن بين الناس مذكور، حتى إنهم جعلوا سنة خروجه تاريخًا يؤرخون به وفياتهم ومواليدهم، فيقولون: ولد فلان سنة خروج عثمان بك، ومات فلان بعد خروج عثمان بك بسنة أو شهر مثلًا.
ومات الأمير عبد الرحمن كتخدا وهو ابن حسن جاويش القازدغلي أستاذ سليمان جاويش أستاذ إبراهيم كتخدا مولى جميع الأمرا المصريين الموجودين الآن. وخبره ومبدأ إقبال الدنيا عليه أنه لما مات عثمان كتخدا القازدغلي، واستولى سليمان جاويش الجوخدار على موجوده، ولم يعط المترجم الذي هو ابن سيد أستاذه شيًّا، ولم يجد من ينصفه في إيصال حق من طايفة باب الينكجرية حسدًا منهم وميلًا لأهوايهم وأغراضهم، فحنق منهم وخرج من بابهم وانتقل إلى وجاق العزب، وحلف أنه لا يرجع إلى وجاق الينكجرية ما دام سليمان جاويش الجوخدار حيًّا، وبر في قسمه، فإنه لما مات سليمان جاويش ببركة الحاج سنة اثنتين وخمسين وماية وألف، كما تقدم بادر سليمان كتخدا الجاويشية زوج أم عبد الرحمن كتخدا واستأذن عثمان بك في تقليد عبد الرحمن جاويش؛ لأنه وراثه ومولاه، وأحضروه ليلًا وقلدوه ذلك، وأحضر الكاتب والدفاتر وتسلم مفاتيح الخشخانات والتركة بأجمعها، وكان شيئًا يحل عن الوصف، وكذلك تقاسيط البلاد، ولم تطمح نفس عثمان بك لشي من ذلك، وأخذ المترجم غرضه من باب العزب ورجع إلى باب الينكجرية، ونما أمره من حينئذ وحج صحبة عثمان بك في سنة خمس وخمسين، وأقام هناك إلى سنة إحدى وسنتين، فحضر مع الحجاج وتولى كتخدا الوقت ستين، وشرع في بناء المساجد وعمل الخيرات وإبطال المنكرات، وأبطل خمامير حارة اليهود، فأول عماراته بعد رجوعه: السبيل والكتاب الذي يعلوه بين القصرين وجاء في غاية الظرف وأحسن المباني، وأنشأ جامع المغاربة وعمل عند بابه سبيلًا وكتابًا وميضأة تفتح بطول النهار، وأنشأ تجاه باب الفتوح مسجدًا ظريفًا بمنارة وصهريج وكتاب ومدفن السيدة السطوحية، وأنشأ بالقرب من تربة الأزبكية سقاية وحوضًا لسقي الدواب ويعلوه كتاب، وفي الحطابة كذلك، وعند جامع الدشطوطي كذلك، وأنشأ وزاد في مقصورة الجامع الأزهر مقدار النصف طولًا وعرضًا، يشتمل على خمسين عامودًا من الرخام تحمل مثلها من البوانك المقوصرة المرتفعة المتسعة من الحجر المنحوت، وسقف أعلاها بالخشب النقي، وبنى به محرابًا جديدًا ومنبرًا، وأنشأ له بابًا عظيمًا جهة حارة كتامة وبنى بأعلاه مكتبًا بقناطر معقودة على أعمدة من الرخام لتعليم الأيتام من أطفال المسلمين القرآن، وبداخله رحبة متسعة وصهريج عظيم وسقاية لشرب العطاش المارين، وعمل لنفسه مدفنًا بتلك الرحبة وعليه قبة معقودة وتركيبة من رخام بديعة الصنعة، وبها أيضًا رواق مخصوص بمجاوري الصعايدة المنقطعين لطلب العلم يسلك إليه من تلك الرحبة بدرج يصعد منه إلى الرواق، وبه مرافق ومنافع ومطبخ ومخادع وخزاين كتب، وبنى بجانب ذلك الباب منارة، وأنشأ بابًا آخر جهة مطبخ الجامع وعليه منارة أيضًا. وبنى المدرسة الطيبرسية وأنشأها إنشاءً جديدًا، وجعلها مع مدرسة الآقبغاوية المقابلة لها من داخل الباب الكبير الذي أنشأه خارجهما جهة القبو الموصل للمشهد الحسيني وخان لجراكسة، وهو عبارة عن بابين عظيمين كل باب بمصراعين وعلى يمينهما منارة، وفوقه مكتب أيضًا وبداخله على يمين السالك بظاهر الطيبرسية ميضأة، وأنشأ لها ساقية لخصوص إجراء الماء إليها، وبداخل باب الميضأة يصعد منه للمنارة ورواق البغداديين والهنود، فجاء هذا الباب وما بداخله من الطبيرسية والآقبغاوية والأروقة من أحسن المباني في العظم والوجاهة والفخامة، وأرخ بعضهم ذلك بهذه الأبيات الركيكة.
وجدد رواقًا للمكاويين والتكروريين، وبنى المشهد الحسيني على هذه الصفة وعمل به صهريجًا وحنفية بفسحة ولواوين في غاية الحسن ورتب له تراتيب، وزاد في مرتبات الأزهر والأخباز، ورتب لمطبخه في خصوص أيام رمضان في كل يوم خمسة أرادب أرز أبيض وقنطار سمن ورأس جاموس وغير ذلك من التراتيب والزيت والوقود للمطبخ، وأنشي عند باب البرقية المعروف بالغريب جامعًا وصهريجًا وحوضًا وسقايةً ومكتبًا ورتب فيه تدريسًا، وكذلك جهة الأزبكية بالقرب من كوم الشيخ سلامة جامع ومكتب وحوض وميضأة وساقية ومنارة. وعمر المسجد بجوار ضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه في مكان المدرسة الصلاحية. وعمل عند باب القبة الصهريج والمقصورة الكبيرة التي بها ضريح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فيما بين المسجد ودهليز القبة، وفرش طريق القبة بالرخام الملون يسلك إليه بدهليز طويل متسع، وعليه بوابة كبيرة من داخل الدهليز البراني وعلى الدهليز البراني من كلتا الجهتين بوابتين. وعمر أيضًا المشهد النفيسي ومسجده وبنى الصهريج على هذه الهيئة الموجودة، وجعل لزيارة النساء طريقًا بخلاف طريق الرجال. وبنى أيضًا مشهد السيدة زينب بقناطر السباع، ومشهد السيدة سكينة بخط الخليفة، والمشهد المعروف بالسيدة عائشة بالقرب من باب القرافة والسيدة فاطمة والسيدة رقية، والجامع والرباط بحارة عابدين، وكذلك مشهد أبي السعود الجارحي على الصفة التي هو عليها الآن ومسجد شرف الدين الكردي بالحسينية. والمسجد بخط الموسكي وبُني للشيخ الحفني دار بجوار ذلك المسجد وينفذ إليه من داخل. وعمر المدرسة السيوفية المعروفة بالشيخ مطهر بخط باب الزهزمة وبنى لوالدته بها مدفنًا. وأنشأ خارج باب القرافة حوضًا وسقاية وصهريجًا. وجدد المارستان المنصوري، وهدم أعلى القبة الكبيرة المنصورية والقبة التي كانت بأعلى الفسحة من خارج، ولم يعد عمارتها بل سقف قبة المدفن فقط وترك الأخرى مكشوفة، ورتب له خيرات وأخبازًا زيادة على البقايا القديمة، ولما عزم على ترميمه وعمارته أراد أن يحتاط بجهات وقفه، فلم يجد له كتاب وقف ولا دفتر، وكانت كتب أوقافه ودفاتره في داخل خزانة الكتب، فاحترقت بما فيها من كتب العلم والمصاحف ونسخ الوقفيات والدفاتر، ووقفه يشتمل على وقف الملك المنصور قلاوون الكبير الأصلي ووقف ولده الملك الناصر محمد ووقف ابن الناصر أبو الفدا إسماعيل، بل وغيرذلك من مرتبات الملوك من أولادهم، ثم إنه وجد دفترًا من دفاتر الشطب المستجدة عند بعض المباشرين، وذلك بعد الفحص والتفتيش فاستدل به على بعض الجهات المحتكرة. وللمترجم عماير كثيرة وقناطر، وجسور في بلاد الحجاز حين كان مجاورًا هناك. وبنى القناطر بطندتا في الطريق الموصلة إلى محلة مرحوم والقنطرة الجديدة الموصلة إلى حارة عابدين من ناحية الخلوتي على الخليج وقنطرة بناحية الموسكي، ورتب للعميان الفقرا الأكسية الصوف المسماة بالزعابيط، فيفرق عليهم جملة كثيرة من ذلك عند دخول الشتاء في كل سنة، فيأتون إلى داره أفواجًا في أيام معلومة ويعودون مسرورين بتلك الكساوي، وكذلك المؤذنون يفرق عليهم جملة من الإحرامات الطولونية يرتدون بها وقت التسبيح في ليالي الشتاء، وكذلك يفرق الحبر المحلاوي والبز الصعيدي والملايات والأخفاف والبوابيج القيصرلي على النساء الفقيرات والأرامل، ويخرج عند بيته في ليالي رمضان وقت الإفطار عدة من القصاع الكبار المملوءة بالثريد المسقي بمرق اللحم والسمن للفقراء المجتمعين، ويفرق عليهم النقيب هبر اللحم النضيج، فيعطى لكل فقير جعله وحصته في يده، وعندما يفرغون من الأكل، يعطي لكل واحد منهم رغيفين ونصفي فضة برسم سحوره إلى غير ذلك. ومن عمايره القصر الكبير المعروف به بشاطئ النيل فيما بين بولاق ومصر القديمة، وكان قصرًا عظيمًا من الأبنية الملوكية، وقد هدم في سنة خمس ومايتين بيد الشيخ على بن حسن مباشر الوقف، وبيعت أنقاضه وأخشابه، ومات المذكور بعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر. ومن عمايره أيضًا دار سكنه بحارة عابدين وكان من الدور العظيمة المحكمة الوضع والإتقان لا يماثلها دار بمصر في حسنها زخرفة مجالسها، وما بها من النقوش والرخام والقيشاني والذهب المموه واللزورد وأنواع الأصباغ وبديع الصنعة والتأنق والبهجة، وغرس بها بستانًا بديعًا بداخله قاعة متسعة مربعة الأركان بوسطها فسقية مفروشة بالرخام البديع الصنعة، وأركانها مركبة على أعمدة من الرخام، وغير ذلك من العمارات حتى اشتهر ذكره بذلك، وسمى بصاحب الخيرات والعماير في مصر والشام والروم، وعدة المساجد التي أنشأها وجددها وأقيمت فيها الخطبة والجمعة والجماعة ثمانية عشر مسجدًا، وذلك خلاف الزوايا والأسبلة والسقايات والمكاتب والأحواض والقناطر والمربوط للنساء الفقيرات والمنقطعات، وكان له في هندسة الأبنية وحسن وضع العماير ملكة يقتدر بها على ما يرومه من الوضع من غير مباشرة ولا مشاهدة، ولو لم يكن له من المآثر إلا ما أنشأه بالجامع الأزهر من الزيادة التي تقصر عنها همم الملوك لكفاه ذلك، وأيضًا المشهد الحسيني ومسجده والزينبي والنفيسي، وضم لوقفه ثلاث قرى من بلاد الأرز بناحية رشيد وهي تفينة وديبي وحصة كتامة، وجعل إيرادها وما يتحصل من غلة أرزها لمصارف الخيرات وطعام الفقراء والمنقطعين، وزاد في طعام المجاورين بالأزهر، ومطبخهم الهريسة في يومي الإثنين والخميس، وقد تعطل غالب ذلك في هذا التاريخ الذي نحن فيه لغاية سنة عشرين مايتين وألف؛ بسبب استيلاء الخراب وتوالي المحن وتعطل الأسباب. ولم يزل هذا شأنه إلى أن استفحل أمر علي بك وأخرجه منفيًّا إلى الحجاز، وذلك في أوايل شهر القعدة سنة ثمان وسبعين وماية وألف، فأقام بالحجاز اثنتي عشرة سنة، فلما سافر يوسف بك أميرًا بالحاج في السنة الماضية صمم على إحضاره صحبته إلى مصر، فأحضره في تختروان، وذلك في سابع شهر صفر سنة تسعين وماية وألف، وقد استولى عليه العي والهرم وكرب الغربة، فدخل إلى بيته مريضًا فأقام أحد عشر يومًا ومات، فغسلوه وكفنوه وخرجوا بجنازته في مشهد حافل حضره العلما والأمرا والتجار ومؤذنو المساجد وأولاد المكاتب التي أنشاها، ورتب لهم فيها الكساوي والمعاليم في كل سنة، وصلوا عليه بالأزهر ودفن بمدفنه الذي أعده لنفسه بالأزهر عند الباب القبلي، ولم يخلف بعده مثله، رحمه الله، من مساويه قبول الرشا والتحيل على مصادرة بعض الأغنيا في أموالهم، واقتدى به في ذلك غيره، حتى صارت سنة مقررة وطريقة مسلوكة ليست منكرة، وكذلك وكذلك المصالحة على تركات الأغنياد التي لها وارث ومن سيئاته العظيمة التي طار شررها وتضاعف ضررها وعم الإقليم خرابها، وتعدى إلى جميع الدنيا هبابها، معاضدته لعلي بك ليقوى به على أرباب الرياسة، فلم يزل يلقى بينهم الفتن ويغري بعضهم على بعض، ويسلط عليهم علي بك المذكور، حتى أضعف شوكات الأقويا وأكد العداوة بين الأصفيا، واشتد ساعد علي بك. فعند ذلك التفت إليه وكلب بنابه عليه وأخرجه من مصر وأبعده عن وطنه، فلم يجد عند ذلك من يدافع عنه، وأقام هذه المدة في مكة غريبًا وحيدًا، وأخرج أيضًا في اليوم الذي أخرجه فيه نيفًا وعشرين أميرًا من الاختيارية كما تقدم، فعند ذلك خلا لعلي بك وخشداشينه الجو فباضوا وأفرخوا، وامتد شرهم إلى الآن الذي نحن فيه كما سيتلى عليك بعضه، فهو الذي كان السبب بتقدير الله تعالى في ظهور أمرهم، فلو لم يكن له من المساوي إلا هذه لكفاه، ولما رجع من الحجاز متمرضًا ذهب إليه إبراهيم بك ومراد بك وباقي خشداشينهم ليعودوه، ولم يكن رأهم قبل ذلك، فكان من وصيته لهم: كونوا مع بعضكم واضبطوا أمركم ولا تدخلوا الأعادي بينكم، وهذا بدل عن قوله: أوصيكم بتقوى الله تعالى وتجنبوا الظلم وافعلوا الخير، فإن الدنيا زايلة وانظروا حالي ومآلي أو نحو ذلك، هكذا أخبرني من كان حاضرًا في ذلك الوقت، وكان سليط اللسان ويتصنع الحماقة، فغفر الله لنا وله، رأيته مرة وأنا إذ ذاك في سن التمييز قبل أن ينفي إلى الحجاز وهو ماش في جنازة مربوع القامة أبيض اللون مسترسل اللحية، ويغلب عليها البياض مترفهًا في ملبسه معجبًا بنفسه يشار إليه بالبنان.