فصل في بيت القازدغلية
ولما مات إبراهيم كتخدا القازغلي ورضوان كتخدا الجلفي بدأ أمر أتباع إبراهيم كتخدا في الظهور، وكان المتعين بالإمارة منهم عثمان بك الجرجاوي وعلي بك الذي عرف بالغزاوي وحسين بك الذي عرف بكشكش، وهؤلاء الثلاثة تقلدوا الصنجقية والإمارة في حياة أستاذهم، والذي تقلد الإمارة منهم بعد موته حسين بك الذي عرف بالصابونجي وعلي بك بلوط قبان علي بك الكبير وخليل بك الكبير، وأما من تأمر منهم بعد قتل حسين بك الصابونجي فهم حسن بك جوجه وإسماعيل بك أبو مدفع، وأما من تأمر بعد ذلك بعناية علي بك بلوط قبان عندما ظهر أمره فهو إسماعيل بك الأخير الذي تزوج ببنت أستاذه وكان خازنداره، وعلي بك السروجي، فلما استقر أمرهم بعد خروج رضوان كتخدا وزوال دولة الجلفية، تعين بالرياسة منهم على أقرانه عثمان بك الجرجاوي، فسار سيرًا عنيفًا من غير تدبر، وناكد زوجة سيده بنت البارودي وصادرها في بعض تعلقاتها، فشكت أمرها إلى كبار الاختيارية فخاطبوه في شأنها، وكلمه حسن كتخدا أبو شنب فرد عليه ردًّا قبيحًا، فتحزبوا عليه ونزعوه من الرياسة وقدموا حسين بك الصابونجي وجعلوه شيخ البلد، ولم يزل حتى حقد عليه خشداشينه وقتلوه.
وخبر موت حسين بك المذكور أنه لما مات إبراهيم كتخدا قلدوا المذكورة إمارة الحج وطلع سنة ١١٦٩ وسنة ١١٧٠، ثم تعين بالرياسة، وصار هو كبير القوم والمشار إليه، وكان كريمًا جوادًا وجيهًا، وكان يميل بطبعه إلى نصف حرام؛ لأن أصله من مماليك الصابونجي، فهرب من بيته وهو صغير وذهب إلى إبراهيم جاويش فاشتراه من الصابونجي ورباه ورقاه، ثم زوجه بزوجة محمد جربجي بن إبراهيم الصابونجي وسكن بيتهم وعمره ووسعه وأنشأ فيه قاعة عظيمة؛ فلذلك اشتهر بالصابونجي، ولما رجع من الحجاز قلد عبد الرحمن أغا أغاوية مستحفظان، وهو عبد الرحمن أغا المشهور في شهر شعبان من السنة المذكورة وهي سنة ١١٧٠، وطلع بالحج في تلك السنة، محمد بك ابن الدالي ورجع في سنة إحدى وسبعين، ثم إن المترجم أخرج خشداشه علي بك الكبير المعروف ببلوط قبان ونفاه إلى بلده النوسات، وأخرج خشداشه أيضًا عثمان بك الجرجاوي منفيًّا إلى أسيوط، وأراد نفي علي بك الغزاوي وأخرجه إلى جهة العادلية، فسعى فيه الإختيارية بواسطة نسبيه علي كتخدا الخربطلي وحسن كتخدا أبي شنب، فألزمه أن يقيم بمنزل صهره علي كتخدا المذكور ببركة الرطلي، ولا يخرج من البيت ولايحتك بأحد من أقرانه، وأرسل إلى خشداشه حسين بك المعروف بكشكش فأحضره من جرجا وكان حاكما بالولاية، فأمره بالإقامة في قصر العيني ولا يدخل إلى المدينة، ثم أرسل إليه يأمره بالسفر إلى جهة البحيرة، وأحضروا إليه المراكب التي يسافر فيها ويريد بذلك تفرق خشداشينه في الجهات، ثم يرسل إليهم ويقتلهم لينفرد بالأمر والرياسة ويستقل بملك مصر، ويظهر دولة نصف حرام وهو غرضه الباطني، وضم إليه جماعة من خشداشينه وتوافقوا معه على مقصده ظاهرًا، وهم حسن كاشف جوجه وقاسم كاشف وخليل كاشف جربجي وعلي أغا المنجي وإسماعيل كاشف أبو مدفع وآخر يسمى حسن كاشف وكانوا من أخصايه وملازميه، فاشتغل معهم حسين بك كشكش واستمالهم سرًّا واتفق معهم على اغتياله فحضروا عنده في يوم الجمعة على جري عادتهم، وركبوا صحبته إلى القافلة فزاروا ضريح الإمام الشافعي، ثم رجع صحبتهم إلى مصر القديمة فنزلوا بقصر الوكيل وباتوا صحبته في أنس وضحك، وفي الصباح حضر إليهم الفطور فأكلوه وشربوا القهوة وخرج المماليك ليأكلوا الفطور مع بعضهم، وبقى هو مع الجماعة وحده وكانوا طلبوا منه إنعاما فكتب إلى كل واحد منهم وصولًا بألف ريال وألف إردب قمح وغلال، ووضعوا الأوراق في جيوبهم ثم سحبوا عليه السلاح وقتلوه وقطعوه قطعًا، ونزلوا من القصر وأغلقوه على المماليك والطايفة من خارج، وركب حسن كاشف جوجه ركوبة حسين بك وكان موعدهم مع حسين بك كشكش عند المجرأة مجرى العيون، فإنه لما أحضروا له مراكب السفر تلكأ في النزول، وكلما أرسل إليه حسين بك يستعجله بالسفر يحتج بسكون الريح أو ينزل بالمراكب ويعدي إلى البر الآخر ويوهم أنه مسافر، ثم يرجع ليلًا ويتعلل بقضاء أشغاله، واستمر على ذلك الحال ثلاثة أيام حتى تمم أغراضه وشغله مع الجماعة ووعدهم بالإمريات، واتفق معهم أنه ينتطرهم عند المجراة وهم يركبون مع حسين بك، ويقتلونه في الطريق إن لم يتمكنوا من قتله بالقصر، فقدر الله أنهم قتلوه وركبوا حتى وصلوا إلى حسين بك كشكش فأخبروه بتمام الأمر، فركب معهم ودخلوا إلى مصر وذهب كَشْكَشْ إلى بيت حسين بك بالداودية وملكه بما فيه وأرسل بإحضار خشداشينه المنفيين، وعندما وصل الخبر إلى علي بك الغزاوي ببركة الرطلي ركب في الحال مع القاتلين، وطلعوا إلى القلعة وأخذوا في طريقهم أكابر الوجاقلية ومنهم حسن كتخدا أبو شنب وهو من أغراض حسين بك المقتول وكان مريضًا بالأكله في فمه وقالوا لبعضهم: إن لم يركب معنا أو أنه اعترض على فعلنا قتلناه، فلما دخلوا إليه وطلبوه نزل إليهم من الحريم، فأخبروه بقتلهم حسين بك فلم يجبهم إلا بقوله: «هو أخوكم وفيكم الخلف والبركة»، فطلبوه للركوب معهم فاعتذر بالمرض فلم يقبلوا عذره، فتطيلس وركب معهم إلى القلعة، وولوا علي بك الكبير البلد عوضًا عن حسين بك المقتول، وكان قتله في شهر صفر سنة إحدى وسبعين، ثم إن مماليكه وضعوا أعضاءه في خرج وحملوه على هجين ودخلوا به إلى المدينة، فأدخلوه إلى بيت الشيخ الشبراوي بالرويعي فغسلوه وكفنوه ودفنوه بالقرافة، وسكن علي بك المذكور بيت حسين بك الصابونجي الذي بالأزبكية، وأحضروا علي بك من النوسات، وعثمان بك الجرجاوي من أسيوط، وقلدوا خليل كاشف صنجقية وإسماعيل أبو مدفع كذلك، وقاسم كاشف قلدوه الزعامة ثم قلدوا بعد أشهر حسن كاشف المعروف بجوجه صنجقية أيضًا، وكان ذلك في ولاية علي باشا ابن الحكيم الثانية، فكان حال حسين بك المقتول مع قاتليه كما قال الشاعر:
ولأبي إسحق التلمساني:
وأما من مات في هذا التاريخ من الأعيان، خلاف حسين بك المذكور، فالشيخ الإمام الفقيه المحدث الأصولي المتكلم الماهر الشاعر الأديب/عبد الله بن محمد بن عامر بن شرف الدين الشبراوي الشافعي، ولد تقريبًا في سنة اثنتين وتسعين وألف، وهو من بيت العلم والجلالة، فجده عامر بن شرف الدين ترجمه الأميني في الخلاصة ووصفه بالحفظ والذكاه، فأول من شملته إجازته سيدي محمد بن عبد الله الخرشي وعمره إذ ذاك نحو ثمان سنوات، وذلك في سنة ألف وماية، وتوفي الشيخ الخرشي المالكي في سابع عشرين الحجة سنة واحد وماية وألف، وتولى بعده مشيخة الأزهر الشيخ محمد النشرتي المالكي، وتوفي في ثامن عشرين الحجة سنة عشرين وماية وألف، ووقع بعد موته فتنة بالجامع الأزهر بسبب المشيخة والتدريس بالآقبغاوية، وافترق المجاورون فرقتين: فرقة تريد الشيخ أحمد النفراوي والأخرى تريد الشيخ عبد الباقي القليني، ولم يكن حاضرًا بمصر فتعصب له جماعة النشرتي وأرسلوا يستعجلونه للحضور، فقبل حضوره تصدر الشيخ أحمد النفراوي وحضر للتدريس بالأقبغاوية، فمنعه القاطنون بها وحضر القليني فانضم إليه جماعة النشرتي وتعصبوا له، فحضر جماعة النفراوي إلى الجامع ليلًا ومعهم بنادق وأسلحة، وضربوا بالبنادق في الجامع وأخرجوا جماعة القليني وكسروا باب الأقبغاوية وأجلسوا النفراوي مكان النشرتي، فاجتمعت جماعة القليني في يومها بعد العصر وكبسوا الجامع وقفلوا أبوابه، وتضاربوا مع جماعة النفراوي فقتلوا منهم نحو العشرة أنفار وانجرح بينهم جرحي كثيرة، وانتهبت الخزاين وتكسرت القناديل، وحضر الوالي فأخرج القتلى وتفرق المجاورون ولم يبق بالجامع أحد، ولم يصل فيه ذلك اليوم، وفي ثاني يوم طلع الشيخ أحمد النفراوي إلى الديوان ومعه حجة الكشف على المقتولين، فلم يلتفت الباشا إلى دعواه لعلمه بتعديه وأمره بلزوم بيته وأمر بنفي الشيخ محمد شنن إلى بلده الجدية، وقبضوا على من كان بصحبته وحبسوهم في العرقانة وكانوا اثني عشر رجلًا. وتطاول حسن أفندي نقيب الأشراف على الشيخ النفراوي والشيخ شنن في الديوان بحضرة الباشا ومن جملة ما قال له: «جماعتك المفاسيد الذين هم عاملون طلبة علم يصعدون على المنارة، ويقولون في محل الأذان: يا آل حرام ويضربون بالرصاص في المسجد!!؟» واستقر القليني في المشيخة والتدريس، ولما مات تقلد بعده الشيخ محمد شنن، وكان النفراوي قد مات، ولما مات الشيخ شنن تقلد المشيخة الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي المالكي.
ولما مات في سنة سبع وثلاثين انتقلت المشيخة إلى الشافعية، فتولاها الشيخ عبد الله الشبراوي المترجم المذكور في حياة كبار العلماء، بعد أن تمكن وحضر الأشياخ كالشيخ خليل بن إبراهيم اللقاني والشهاب الخليفي والشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني والشيخ أحمد النفراوي والشيخ منصور المنوفي والشيخ صالح الحنبلي والشيخ محمد المغربي الصغير والشيخ عيد الترمسي، وسمع الأولية وأوايل الكتب من الشيخ عبد الله بن سالم البصري أيام حجه، ولم يزل يترقى في الأحوال والأطوار ويفيد ويملي ويدرس حتى صار أعظم الأعاظم، ذا جاه ومنزلة عند رجال الدولة والأمراء ونفذت كلمته وقبلت شفاعته، وصار لأهل العلم ما عندهم، وعمر دارًا عظيمة على بركة الأزبكية بالقرب من الرويعي وكذلك ولده سيدي عامر عمر دارًا تجاه أبيه وصرف عليها أموالًا جمة، وكان يقتني الظرايف والتحايف من كل شيء، والكتب المكلفة النفيسة بالخط الحسن، وكان راتب مطبخ ولده سيدي عامر في كل يوم من اللحم الضاني رأسين من الغنم السمان يذبحان في بيته، وكان طلبة العلم في أيام مشيخة الشيخ عبد الله الشبراوي في غاية الأدب والاحترام، ومن آثاره كتاب مفايح الألطاف في مدايح الأشراف، وشرح الصدر في غزوة بدر، ألفها بإشارة علي باشا ابن الحكيم، وذكر في آخرها نبذة من التاريخ وولاة مصر إلى وقت صاحب الإشارة، وله ديوان يحتوي على غزليات وأشعار ومقاطيع مشهور بأيدي الناس وغير ذلك كثير، وأوردت في هذا المجموع كثيرًا من كلامه بحسب المناسبات، توفي في صبيحة يوم الخميس سادس ذي الحجة ختام سنة إحدى وسبعين وماية وألف، وصلى عليه بالأزهر في مشهد حافل عن ثمانين سنة تقريبًا.
ومات الشيخ الإمام الأحق بالتقديم الفقيه المحدث الورع الشيخ/حسن بن علي بن أحمد بن عبد الله الشافعي الأزهري المنطاوي الشهير بالمدابغي، أخذ العلوم عن الشيخ منصور المنوفي وعمر بن عبد السلام التطاوني والشيخ عيد النمرسي والشيخ محمد بن أحمد الوزازي ومحمد بن سعيد التنبكتي وغيرهم، خدم العلم ودرس بالجامع الأزهر وأفتى وألف وأجاد، منها حاشيته على شرح الخطيب على أبي شجاع نافعة للطلبة، وثلاثة شروح على الأجرومية وشرح الصيغة الأحمدية وشرح الدلايل وشرح على حزب البحر، وشرح حزب النووي شرحًا لطيفًا واختصر شرح الحزب الكبير للبناني ورسالة في القراءات العشر وأخرى في فضايل ليلة القدر وأخرى في المولد الشريف، وحاشيته على جمع الجوامع المشهورة، وحاشيته على شرح الأربعين لابن حجر، واختصر سيرة ابن الميت وحاشية التحرير وحاشية علي الأشموني، وشرح قصيدة المقري التي أولها سبحان من قسم الخظوظ وحاشية على الشيخ خالد وغير ذلك، ومن إملائه أو لبعض مشايخه في أقسام الجملة الحالية:
توفي في عشرين شهر صفر سنة سبعين وماية وألف، ورثاه الشيخ عبد الله الإدكاوي يقصيدتين، لإحداهما غينية مطلعها:
وبيت تاريخها:
والثانية نونية مطلعها:
وبيت تاريخها:
ومات العلامة القدوة شمس الدين/محمد بن الطيب بن محمد الشرفي الفاسي، ولد بفاس سنة عشر وماية وألف واستجاز له والده من أبي الأسرار حسن بن علي العجمي من مكة المشرفة وعمره إذ ذاك ثلاث سنوات، فدخل في عموم إجازته وتوفي بالمدينة المنورة سنة سبعين وماية وألف وتاريخه مغلق عن ستين عامًا، رحمه الله تعالى.
ومات الشيخ/داود بن سليمان بن أحمد بن محمد بن عمر بن عامر بن خضر الشرنوبي البرهاني المالكي الخربتاوي، ولد سنة ثمانين وألف وحضر على كبار أهل العصر كالشيخ محمد الزرقاني والخرشي وطبقتهما، وعاش حتى ألحق الأحفاد بالأجداد، وكان شيخًا معمرًا مسندًا له عناية بالحديث، توفي في جمادى الثانية سنة سبعين وماية وألف.
ومات الشيخ القطب العارف الواصل الشيخ/محمد بن علي الجزائي القاسمية الشهير بكشك، ورد مصر صغيرًا وبها نشأ وحج وأخذ الطريقة عن سيدي أحمد السوسي تلميذ سيدي قاسم، وجعله خليفة القاسمية بمصر، فلوحظ بالأنوار والأسرار، ثم دخل المغرب ليزور شيخه فوجده قد مات قبل وصوله بثلاثة أيام، وأخبره تلامذة الشيخ أن الشيخ أخبر بوصول المترجم، وأودع له أمانة فأخذها ورجع إلى مصر وجلس للإرشاد وأخذ العهود، ويقال: إنه تولى القطبانية، توفي سنة سبعين وماية وألف.
ومات الشيخ الفقيه الفاضل العلامة/محمد بن أحمد الحنفي الأزهري الشهير بالصايم، تفقه على سيدي علي العقدي والشيخ سليمان المنصوري والسيد محمد أبي السعود وغيرهم، وبرع في معرفة فروع المذهب، ودرس بالأزهر وبمشهد الحنفي ومسجد محرم في أنواع الفنون، ولازم الشيخ العفيفي كثيرًا ثم اجتمع بالشيخ أحمد العريان وتجرد للذكر والسلوك وترك علايق الدينا وليس زي الفقراء، ثم باع ما ملكت يداه وتوجه إلى السويس فركب في سفينة فانكسرت فخرج مجردًا بساتر العورة، ومال إلى بعض خباء الأعراب فأكرمته امرأة منهم وجلس عندها مدة يخدمها، ثم وصل إلى الينبع على هيئة رثة وأوى إلى جامعها، واتفق له أنه صعد ليلة من الليالي على المنارة وسبح على طريقة المصريين، فسمعه الوزير إذ كان منزله قريبًا من هناك، فلما أصبح طلبه وسأله فلم يظهر حاله سوى أنه من الفقراء، فأنعم عليه ببعض ملابس وأمره أن يحضر إلى داره كل يوم للطعام، ومضت على ذلك برهة إلى أن اتفق موت بعض مشايخ العربان وتشاجر أولاده بسبب قسمة التركة فأتوا إلى الينبع يستفتون، فلم يكن هناك من يفك المشكل، فرأى الوزير أن يكتب السؤال ويرسله مع الهجان بأجرة معينة إلى مكة يستفتي العلماء، فاستقل الهجان الأجرة ونكص عن السفر ووقع التشاجر في دفع الزيادة للهجان، وامتنع أكثرهم ووقعوا في الحيرة، فلما رأى المترجم ذلك طلب الدواة والقلم وذهب إلى خلوة له بالمسجد فكتب الجواب مفصلًا بنصوص المذهب وختم عليها وناوله للوزير، فلما قرأه تعجب وقال له: «لم تخف نفسك وأنت من علماء الإسلام والمسلمين؟» فاعتذر بأنه لو قال كذلك لم يصدقه أحد لرثاثة حاله، فحينئذ أكرمه الوزير وأجله ورفع منزلته وعين له من المال والكسوة، وصار يقرأ دروس الفقه والحديث هناك حتى اشتهر أمره وأقبلت عليه الدينا، فلما امتلأ كيسه، وانجلى بؤسه، وقرب ورود الركب المصري، رأى الوزير تفلته من يده فقيد عليه ثم لما لم يجد بدًّا عاهده على أنه يحج ويعود إليه، فوصل مع الركب إلى مكة وأكرم وعاد إلى مصر، ولم يزل على حالة مستقيمة حتى توفي عن فالج جلس فيه شهورًا في سنة سبعين وماية وألف وهو منسوب إلى سفط الصايم إحدى قرى مصر من أعمال الفشن بالصعيد الأدنى، ولم يخلف في فضايله مثله، رحمه الله.
ومات الإمام الأديب الماهر المتفنن أعجوبة الزمان علي بن تاج الدين محمد بن عبد المحسن بن محمد بن سالم القلعي الحنفي المكي، ولد بمكة وتربى في حجر أبيه في غاية العز والسيادة والسعادة، وقرأ عليه وعلى غيره من فضلاء مكة، وأخذ عن الواردين إليها، ومال إلى فن الأدب وغاص في بحره فاستخرج منه الآلئ والجواهر، وطارح الأدبا في المحاضر فبان فضله وبهر برهانه، ورحل إلى الشام في سنة اثنتين وأربعين وماية وألف واجتمع بالشيخ عبد الغني النابلسي فأخذ عنه، وتوجه إلى الروم وعاد إلى مكة وقدم إلى مصر سنة ستين، ثم غاب عنها نحو عشر سنين، ثم ورد عليها وحينئذ كمل شرحه على بديعيته وعلى بديعيتين لشيخه الشيخ عبد الغني وغيره ممن تقدم وهي عشر بديعيات، وشرحه على بديعيته ثلاث مجلدات قرظ عليه غالب فضلاء مصر كالشبراوي والإدكاوي والمرحومي، ومن أهل الحجاز الشيخ إبراهيم المنوفي، وهذا تقريظ الشبراوي نقلته من ديوانه:
وكان للمترجم بالوزير المرحوم علي باشا ابن الحكيم التئام زايد؛ لكونه له قوة يدٍ ومعرفة في علم الرمل، وكان في أول اجتماعه به في الروم أخبره بأمور فوقعت كما ذكر، فازداد عنده مهابة وقبولًا، ولما تولى المذكور ثاني توليته وهي سنة سبعين، قدم إليه من مكة من طريق البحر، فأغدق عليه ما لا يوصف، ونزل في منزل بالقرب من جامع أزبك بخط الصليبة، وصار يركب في موكب حافل تقليدًا للوزير، ورتب في بيته كتخدا وخازندارًا والمصرف والحاجب على عادة الأمراء، وكان فيه الكرم المفرط والحياء والمروة وسعة الصدر في إجازة الوافدين مالًا وشعرًا، ومدحه شعراء عصره بمدايح جليلة، منهم الشيخ عبد الله الإدكاوي له فيه عدة قصايد وجوزي بجوايز سنية، ولما عزل مخدومه توجه معه إلى الروم، فلما ولي الختام ثانيًا زاد المترجم عنده أبهة حتى صار في سدة السلطنة أحد الأعيان المشار إليهم، واتخذ دارًا واسعة فيها أربعون قصرًا ووضع في كل قصر جارية بلوازمها، ولما عزل الوزير ونفي إلى إحدى مدن الروم سلب المترجم جميع ما كان بيده، ونفي إلى سكندرية فمكث هناك حتى مات في سنة اثنتين وسبعين وماية وألف شهيدًا غريبًا، ولم يخلف بعده مثله، وله ديوان شعر ورسايل منها «تكميل الفضل بعلم الرمل»، «ومتن البديعية»، سماه «الفرج في مدح عالي الدرج»، اقترح فيها بأنواع منها وسع الاطلاع والتطريز والرث والاعتراف والعود والتعجيب والترهيب والتعريض، وأمثلة ذلك كله موضحة في شرحه على البديعية، ومن مقاطيعه وفيه التذييل.
وله فيه الجناس المعنوي المضمر:
وله فيه الجناس اللفظي:
وله فيه الجناس المطلق والتام المستوفي:
وله وفيه الجناس المفروق:
(وله في مدح أستاذه الشيخ عبد الغني وفيه المدح بما يشبه الذم)
(وقال) الشيخ عبد الله الإدكاوي في مجموعته المسماة (بضاعة الأريب من شعر الغريب) ما نصه: «ولما كان عام ثمان وخمسين وماية وألف، قدم علينا محروسة القاهرة، ذات المزايا الباهرة، المولى الفاضل الكامل، الأديب الألمعي، والأريب اللوذعي، نور الدين علي بن تاج الدين الحنفي المكي القلعي، عالم مكة ومفتيها كان تغمده الله بالرحمة والرضوان، وأظهر من بدايعه الغريبة، وروايعه المطرية العجيبة، بديعته الغراء، وفريدته العذراء، المسماة الأنواع العجيبة الاختراع، وابتدع أنواعًا لم يسبقه إليها سابق، ولا لحقه فيها لاحق، منها نوع سماه وسع الاطلاع، بديع الأوضاع، وقدر الله باجتماعي على ذلك الفاضل، وأسمعني من بديع ألفاظه وألفاظ بديعه، ما غدا القلب به والهًا واهل، وشنف سمعي من نوع وسع الاطلاع بقصايد هي للعقول مصايد، تطفلت حينئذ على فصاحته الناصعة، وعزمت على السباحة في تلك اللجة الواسعة، فمدحته بهذه القصيدة:
إلى آخرها، وهي طويلة، قال: فحين قدمتها إليه، وتشرفت بلم يديه، أجاز وتطول، ومدح وطول، وأوقفني مما اقترحه على نوع ثان سماه (العود يعجز لب الفاضل عن البدء فيه والعود) ورأيته نظم منه بيتين أطرب من الثاني والثالث، وقال في عبارة «لأعز عندي من عززهما بثالث»، فعملت له من هذا النوع قصيدة مدحته بها وهي:
ثم أورد أبياتًا في العود كما تقدم ذكره في ترجمته ثم قال:
فالعلم والحلم والإفضال والحسب الصميم فيه مع العلياء والهمم، ثم قال:
فلما وقف على هذه بعد الأولى قال: «أنت بالتقريظ على بديعتي من كل أحد أولى» فقلت له: «لست أهلًا لذلك»، فقال: «بل أنت أقوى من كل أحد في سلوك هذه المسالك»، فلما رأيت وابل إلحاحه، أوردت هاطل نجاحه، فافتتحت قايلًا:
إلى أن قال:
ثم تمم نثر التقريظ بما هو مذكور في مجموعته، لم أكتبه خوفًا من الملل، ثم قال: «فلما أمعن النظر فيما رقمته، وتأمل ما قلته، قال: «هذا من مثلك لا يكفي، ولا يطفئ الغليل ولا يشفي، بل لا بد من تقريظ آخر على نوع وسع الاطلاع من جنسه الأنيق» فقلت: «اعفني من الخوض في هذا البحر العميق» فقال: «لا بد من القول، واستعن بذي الطول»، فمددت القلم، واستعنت باري النسم، وقلت: يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، أبدعت نظام هذا العالم وعلم هذا النظام، إلى آخره، وفيه قصيدة عينية أولها:
وهي طويلة وفي آخرها التقريظ:
وختمه بعد الدعاء بقصيدة لامية مطرزة، وبعدها جواب عن اعتراض ناقشته فيه بعض المعاصرين، وقد نظم الجواب والنقل والدليل في سبعة عشر بيتًا.
ومات على بن جبريل المتطبب شيخ دار الشفاء بالمارستان المنصوري رئيس الرؤسا، والماهر الذي طود فضله رسا، أتقن في فن الطب وشارك في غيره من الفنون.
(ومن كلامه يمدح مجلس السادات) وكان السيد عبد الرحمن العيدروس حاضرًا فيه:
وكان أحد جلسا الأمير رضوان كتخدا الجلفي ونديمه وأنيسه وحكيمه وعند ليب دوحته وهزار روضته، وكان أحد من منحت له يمين ذلك الأمير بالألوف، حتى أصبح بنعمته في جنات دانية القطوف، فمن بعض هباته الواصلة إليه، وصلاته الحاصلة لديه، أن وهب له بيتًا على بركة الأزبكية، رؤيته تسر النفوس الزكية، وصفه عجيب، ورونقه بديع غريب، زجاجي النواحي والأرجا، من حيث التفت رائيه رأى منظرًا بهجًا، وقد مدحه أحبابه منهم الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي، ومنهم الشيخ عبد الله الإدكاوي بما هو مذكور في (الفوايح الجنانية في المدايح الرضوانية)، ومن شعر المترجم في ممدوحه المشار إليه:
وقد شطر هذه القصيدة الشيخ عبد الله الإكاوي بما هو مذكور في ديوانه (وله أيضًا) تشطير أبيات صفوان بن إدريس، ويخلص منه إلى مخدومه وهى:
وقال يمدحه بهذه الأبيات الثلاثة، التي معاني سحرها في ذوي العقول نفاثة وهي:
وقد شطرها جملة من أدباء العصر كما هو مذكور في تراجمهم، وقال مهنئًا بشفائه ومؤرخًا:
وله في هذا المعنى مؤرخًا.
ولما تغيرت دولة مخدومه وتغير وجه الزمان، عاد روض أنسه ذابل الأفنان، ذا أحزان وأشجان، لم يطب له المكان، ودخل اسم عزه في خبر كان، وتوفي في نحو هذا التاريخ.
ومات العمدة الأجل النبيه الفصيح المفوه الشيخ/يوسف بن عبد الوهاب الدلجي وهو أخو الشيخ محمد الدلجي، كلاهما ابنا خال المرحوم الوالد، وكان إنسانا حسنًا ذا ثروة وحسن عشرة وكان من جملة جلساء الأمير عثمان بك ذي الفقار، ولديه فضيلة ومناسبات، ويحفظ كثيرًا من النوادر والشواهد، وكان منزله المشرف على النيل ببولاق مأوى اللطفاء والظرفاء ويقتني السراري والجواري، توفي سنة إحدى وسبعين وماية وألف. عن ولديه حسين وقاسم وابنة اسمها فاطمة موجودة في الأحياء إلى الآن.
ومات الشيخ النبيه الصالح/علي بن خضر بن أحمد العمروسي المالكي، أخذ عن السيد محمد السلموني والشهاب النفراوي والشيخ محمد الزرقاني، ودرس بالجامع الأزهر وانتفع به الطلبة، واختصر المختصر الخليلي في نحو الربع ثم شرحه، وكان إنسانًا حسنًا منجمعًا عن الناس مقبلًا على شأنه، توفي سنة ثلاث وسبعين وماية وألف.
ومات الأستاذ المبجل ذو المناقب/الحميدة، السيد شمس الدين/محمد أبو الإشراق بن وفا وهو ابن أخي الشيخ عبد الخالق، ولما توفي عمه في سنة إحدى وستين وماية وألف خلفه في المشيخة والتكلم، وكان ذا أبهة ووقار محتشمًا سليم الصدر كريم النفس بشوشًا، توفي سادس جمادى الأولى سنة أحدى وسبعين وماية وألف، وصُلي عليه بالأزهر وحمل إلى الزاوية فدفن عند عمه، وقام بعده في الخلافة الأستاذ مجد الدين محمد أبو هادي بن وفا رضي الله عنهم أجمعين.
ومات الإمام العلامة الفريد الفقيه الفرضي الحيسوبي الشيخ/حسين المحلي الشافعي، كان وحيد دهره وفريد عصره فقهًا وأصولًا ومعقولًا، جيد الاستحضار والحفظ للفروع الفقهيه، وأما علم الحساب الهوائي والغباري والفرائض وشباك ابن الهانم والجبر والمقابلة والمساحة وحل الأعداد فكان بحرًا لا تشبهه البحار. ولا يدرك له قرار، وله في ذلك عدة تآليف ومنها شرح السخاوية وشرح النزهة والقلصاوي، وكان يكتب تآليفه بخطه ويبيعها لمن يرغب فيها، ويأخذ من الطاليبن أجرة على تعليمهم، فإذا جاء من يريد التعلم وطلب أن يقرأ عليه الكتاب الفلاني تعزز عليه وتمنع ويساومه على ذلك بعد جهد عظيم، ويقول: «أنا لا أبذل العلم رخيصًا»، وكان له حانوت بجوار باب الأزهر يتكسب فيه ببيع المناكيب لمعرفة الأوقات والكتب وتسفيرها، وألف كتابًا حافلًا في الفروع الفقهية على مذهب الإمام الشافعي، وهو كتاب ضخم في مجلدين معتبر مشهور معتمد الأقوال في الإفتاء، وله غير ذلك كثير، وبالجملة فكان طودًا راسخًا تلقى عنه كثير من أشياخ العصر، ومنهم شيخنا الشيخ محمد الشافعي الجناجي المالكي وغيره. توفي سنة سبعين وماية وألف، رحمه الله.
ومات الشيخ الإمام المعمر القطب أحد مشايخ الطريق صاحب الكرامات الظاهرة، والأنوار الساطعة الباهرة/عبد الوهاب بن عبد السلام بن أحمد بن حجازي بن عبد القادر بن أبي العباس بن عبد القادر بن أبي العباس بن شعيب بن محمد بن القطب سيدي عمر المرزوقي العفيفي المالكي البرهاني، يتصل نسبه إلى القطب الكبير سيدي مرزوق الكفافي المشهور، ولد المترجم بمنية عفيف إحد قرى مصر ونشأ بها على صلاح وعفة، ولما ترعرع قدم إلى مصر فحضر على الشيخ المالكية في عصره الشيخ سالم النفراوي أيامًا في مختصر الشيخ خليل، وأقبل على العبادة وقطن بالقاعة بالقرب من الأزهر بجوار مدرسة السنانية وحج فلقي بمكة الشيخ إدريس اليماني، فأجازه وعاد إلى مصر، وحضر دروس الحديث على الإمام المحدث الشيخ أحمد بن مصطفى الإسكندري الشهير بالصباغ ولازمه كثيرًا حتى عرف به، وأجازه مولاي أحمد التهامي حين ورد إلى مصر بطريقة الأقطاب والأحزاب الشاذلية والسيد مصطفى البكري بالخلوتية، ولما توفي شيخه الصباغ لازم السيد محمد البليدي في دروسه، من ذلك تفسير البيضاوي بتمامه. وروى عنه جملة من أفاضل عصره كالشيخ محمد الصبان والسيد محمد مرتضى والشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي، وسمعوا عليه صحيح مسلم بالأشرفية، وكان كثير الزيارة لمشاهد الأولياء متواضعًا لا يرى لنفسه مقامًا متحرزًا في مأكله وملبسه لا يأكل إلا ما يأتي إليه من زرعه من بلده من العيش اليابس مع الدقة، وكانت الأمرا تأتي لزيارته ويشمئز منهم ويفر منهم في بعض الأحيان وكل من دخل عنده يقدم له ما تيسر من الزاد من خبزه الذي كان يأكل منه، وانتفع به المريدون وكثروا في البلاد وأنجبوا، ولم يزل يترقى في مدارج الوصول إلى الحق حتى تعلل أيامًا بمنزله الذي بقصر الشوك، وتوفي في ثاني عشر صفر سنة اثنتين وسبعين وماية وألف، ودفن بجوار سيدي عبد الله المنوفي، ونزل سيل عظيم وذلك في سنة ثمان وسبعين وماية وألف فهدم القبور وعامت الأموات فانهدم قبره، وامتلأ بالماء فاجتمع أولاده ومريدوه وبنوا له قبرًا في العلوة على يمين تربة الشيخ المنوفي، ونقلوه إليه قريبًا من عمارة السلطان قايتباي، وبنوا على قبره قبة معقودة وعملوا له مقصورة ومقامًا من داخلها وعليه عمامة كبيرة وصيروه مزارًا عظيمًا يقصد للزيارة ويختلط به الرجال والنساء، ثم أنشأوا بجانبه قصرًا عاليًا عمره محمد كتخدا أباظة، وسوروا له رحبة متسعة مثل الحوش لموقف الدواب من الخيل والحمير دثروا بها قبورًا كثيرة بها كثير من أكابر الأولياء والعلماء والمحدثين وغيرهم من المسلمين والمسلمات، ثم إنهم ابتدعوا له موسمًا وعيدًا في كل سنة يدعون إليه الناس من البلاد القبلية والبحرية، فينصبون خيامًا كثيرة وصواوين ومطابخ وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحي الأرياف وأرباب الملاهي والملاعيب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة فيملئون الصحراء والبستان، فيطئون القبور ويوقدون عليها النيران، ويصبون عليها القاذورات ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون، ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلًا ونهارًا، ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر ويجتمع لذلك أيضًا الفقهاء والعلماء وينصبون لهم خيامًا أيضًا، ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار بل ويعتقدون أن ذلك قربة وعبادة، ولم لم يكن كذلك لأنكره العلماء فضلًا عن كونهم يفعلوه، فالله يتولى هدانا أجمعين.
ومات الشيخ الأجل المعظم سيدي/محمد بكري بن أحمد بن عبد المنعم بن محمد بن أبي السرور محمد بن القطب أبي المكارم محمد أبيض الوجه بن أبي الحسن محمد بن الجلال عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عوض بن محمد بن عبد الخالق بن عبد المنعم بن يحيى بن الحسن بن موسى بن يحيى بن يعقوب بن نجم بن عيسى بن شعبان بن عيسى بن داود بن محمد بن نوح بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان يقال له: سيدي أبو بكر البكري شيخ السجادة بمصر وكان نقش خاتمه:
ولاه أبوه الخلافة في حياته لما تفرس فيه النجابة مع وجود إخوته الذين هم أعمامه، وهم أبو الدهب وعبد الخالق ومحمد بن عبد المنعم فسار في المشيخة أحسن سير، وكان شيخًا مهيبًا ذا كلمة نافذة وحشمة زائدة تسعى إليه الوزرا والأعيان والأمرا، وكان الشيخ عبد الله الشبراوي يأتيه في كل يوم قبل الشروق يجلس معه مقدار ساعة زمانية، ثم يركب ويذهب إلى الأزهر، ولما مات خلف ولده الشيخ سيد أحمد، وكان المترجم متزوجًا بنت الشيخ الحنفي فأولدها سيدي خليلًا وهو الموجود الآن، تركه صغيرًا فتربى في كفالة ابن عمه السيد محمد أفندي ابن علي أفندي الذي انحصرت فيه المشيخة بعد وفاة ابن عمه الشيخ سيد أحمد مضافة إلى نقابة السادة الأشراف كما يأتى ذكر ذلك إن شاء الله، وكانت وفاة المترجم في أواخر شهر صفر سنة إحدى وسبعين وماية وألف.
ومات أيضًا في هذه السنة السلطان عثمان خان العثماني، وولى السلطان مصطفى بن أحمد خان، وعزل علي باشا ابن الحكيم وحضر إلى مصر محمد سعيد باشا في أواخر رجب سنة إحدى وسبعين وماية وألف، واستمر في ولاية مصر إلى سنة ثلاث وسبعين وماية وألف، وفي تلك السنة أعني سنة إحدى وسبعين وماية وألف نزل مطر كثير سالت منه السيول.
ومات أفضل النبلاء وأنبل الفضلاء، بلبل دوحة الفصاحة وغريدها، من انحازت له بدايعها طريفها وتليدها، الماجد الأكرم/مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي، وهو أحد الإخوة الأربعة وهم: عمر ومحمد وعثمان والمترجم أولاد المرحوم أحمد بن محمد بن أحمد بن صلاح الدين اللقيمى الدمياطي الشافعي سبط العنبوسي وكلهم شعراء بلغاء. ومن محاسن كلامه وبديع نظامه مدامته الأرجوانية في المقامة الرضوانية التي مدح بها الأمير رضوان كتخدا عزبان الجلفي، وهو مقامة بديعة بل روضة مريعة، وقد قال في وصفها وبديع رصفها شعرًا:
وابتدأها بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم، حمدًا لمن أنهج مناهج مباهج الإسعاد، وسلك بنا سبل معارج الإرشاد، والصلاة والسلام على صفوته من العباد، سيدنا ومولانا محمد ملجأ الخلايق يوم المعاد، القايل وقوله الحق يهدي إلى طريق الرشاد: «اطلبوا الحوايج عند حسان الوجوه»، فيا نعم ما أنعم به وأفاد، وعلى آله وأصحابه السادة الأمجاد، والتابعين لهم والسالكين مسالك السداد، ما لبى الكريم دعوة الوفود والقصاد، وأتحفهم ببلوغ المنى وحصول المراد.
(وبعد) فقد حكى البديع بشير بن سعيد، قال: حدثني الربيع بن رشيد، قال: هاجت لي دواعي الأشواق العذرية، وعاجت بي لواعج الأتواق الفكرية، إلى ورود حمى مصر المعزية البديعة، ذات المشاهد الحسنة والمعاهد الرفيعة، لأشرح بمتن حديثها الحسن صدري، وأروح بحواشي نيلها الجاري روحي وسري، وأقتبس نور مصباح الطرف من ظرفائها، وأقتطف نور أدواح الظرف من لطفائها، وأستجلي عرايس بدايع معاني العلوم، على منصات الفكر محلاة بالمنثور والمنظوم، وأستمد من حماتها السادة أسرار العناية، وأسترشد بسراتها القادة أنوار الهداية، وأمتع الطرف بغرر دولتها العلية، وأشنف السمع بدرر سيرتها السنية، فنشرُ عرف علاها قد عطر الآفاق ولواء وصف حلاها في الخافقين خفاق، فامتطيت طرف العزم، مسرجًا بالحزم، وبغيت بعد السكون على الحركة مع الجزم، واتخذت حادي الجوى في السير دليلي، وباعث الهوى سميري في مسرحي مقيلي، وواصلت السرى بالغدو والرواح، وهجرت الكرى في العشي والصباح، فأسعفتني مع الرعاية فاتحة الألطاف، وأسعدتني مع الوفاية خاتمة المطاف، بوصولي إلى حماها الزاهي المحروس، والحلول برباها الزاكي المأنوس، فلما أذنت لي حماتها بالدخول من بابها، وأزهرت عن وجهها الأزهر برفع نقابها، فإذا هي مدينة جمعت متفرقات المحاسن، ذات رياض بهجة وماء غير آسن، غرة المدن بل عروسة البلدان، عليها تعقد الخناصر فما صنعاء وما عبادان، لقد حلت من الحسن بمكان مكين، وتحلت بحلي الزينة بأحسن تزيين، غياضها تروح الأرواح القدسية وتسر النفوس، ورياضها تنفح الأرواح المكية ولا عطر بعد عروس، تنادي أفياء ظلها الظليل، هلموا إلى طيب مقال وحسن مقيل، تتيه على غيرها من الأمصار مائسة الأعطاف، بما تحويه من عيشها الهني وثمارها الدانية القطاف، شعر:
فجعلت أطوف بخلال المسالك والشوارع، وأرمق أفلاك القصور التي هي للبدور مطالع، وتأملت في زيج لامع سيرها القويم، وقومت طالع عزها بأحسن تقويم، فأنتج أن كوكب سعدها مشرق، وناظر مجدها له السيادة تشرق، فهي بعزة أمرائها وقوة عساكرها قاهرة لأضدادها، ظافرة على مناظرها، قد حفظت بهم الثغور والقرى والضياع، وأمنت السراة في مسالكها فلا خوف ولا ضياع، فهم الكماة في الحروب فوق متون الضوامر، وهم الكفاة للضروب في الهيجاء وبدور العساكر، أنفوا الخضوع للأعداء فعزت منهم النفوس، وألفوا الولوع بعوالي الأسلحة فاتخذوها وشاحًا والدروع لبوس، فكم خفقت لهم في الغزوات رايات نصر وفتح، وتليت في وصفهم بمجامع العزمات آيات ثناء ومدح، شعر:
(ولما) حللت بواديها المشرق الباهر، ونزلت بناديها المورق الزاهر، استوطنت في أعاليها شرفًا، وتبوأت من مغانيها غرفًا، وبسطت لي من الأنس والسرور نمارق، ونصبت عليَّ من الإيناس والحبور سرادق، ووافتني الأحبة الأذكياء إخوان الصفاء، وصافتني الأعزة الأتقياء أخدان الوفاء، مجمع أفراحنا رياض الأدب واللطايف، ومربع أرواحنا غياض الطلب والمعارف، نحتسي كؤوس الهنا بحانات التهاني، ونجتلي عرايس المنى بنغمات المثالث والمثاني، كوكب المسرة بأفق الإسعاد مزهر، وقمر المبرة بمطلع الإسعاف مبدر، فبينما نحن على هذه الحالة التي وصفت، ومشاريع مواردنا الحالية راقت وصفت، إذ نظر الدهر إلى نظرة عابث، ورماني من كنانته بأعظم حادث، نضبت به حياض معاشي، وذبلت منه رياض انتعاشي، حرمت منه مفروض حقي الواجب، وصار حظي المنع وليس ثم حاجب، فقُيِّدت عن التصرف في وقفي المطلق، وأصبح باب الوصول إليه دوني مغلق، فتكدرت عند ذلك صافيات المشارب، وتنكرت بعد تعريفها واضحات المآرب، وحرمت ما بين دائرتي الاشتباه والاختلاف، واعتراني مع العلل جميع أنواع الزحاف، وعز التوسل للتوصل بحسن الخلاص، والقضاء ينادي ولات حين مناص، مفرد:
فبينما أنا حاير في فيافي الافتكار، تايه في متاهة الحيرة الشاسعة القفاز، إذ هتف بي هاتف من سما الانتباه، أزال ما بقلبي من واردات الوهم والاشتباه، وقال: أيها السابح في لجج أحزانه، السايح بفجاج قلقه وأشجانه، إلى كم تحيد عن طرق معالم التدبير، ولا تجيد الهمة في طلب المغيث ولا النصير، أين أنت من المنجد عزيز الجار، أين أنت من المسعد حامي الذمار؟ حرم الأمن والالتجا، وكعبة القصد وركن اليمن والنجا، وطيبة الوفد قدس المنتمي، ونزهة المستملح وطور سينا المحتمي وبغية المستمنح مدينة الآمال، ومدين المآرب وعرينة الإقبال، وصنعاء المطالب ذي المجد السامي مقامه على الفرقد، ومن كوكب عزه بمطلع السعد يتوقد. شعر:
فقلت: «من هذا الأمير الحايز لهذه الأوصاف؟ فزدني من حديثك يا سعد عنه بلسان الإنصاف»، فقال: «هو في الكرم أسمح من حاتم، ومنتهى من تنسب إليه مآثر المكارم، ففضل عطاياه أنسى هبات الفضل وجعفر، ومن ساواهما به، فعن كمال وصفه قصر، وفي الشجاعة أقدم من عنترة المشهور، وأثبت من قسورة الأسد الهصور، وأذكى من إياس في نباهته، وأبلغ من المأمون في فصاحته، وله في حسن التدبير كمال انتظام وجمال انتساق، وهو في حلبة السبق يوم الرهان حايز قصب السباق، ولله در الشاعر اللبيب في الوصف الجلي، حيث أشار إلى بديع هذا الوصف العلي:
(فقلت): أقسم بمن خصه بهذه الأوصاف السنية. وتوجه بتاج المواهب اللدنية، وبمن أسمى قدره الأسمى على كيوان، لا تكون هذه المزايا المعدودة، والسجايا المحمودة، إلا لأمير الندى وفريد الأوان، حضرة الكتخدا رضوان، فقال: لله درك من عارف بوصفه السني، وغارف من مشرع نعته الحالي ومورده الهني، وها أنا أتحفك بمعمي في اسمه العزيز، فاستخرجه بضوء نار مصباح قلبك وميزه بأحسن تمييز، وهو:
(فقلت): أحسنت في لطف الإشارة، وأجدت في ظرف العبارة، ولقد أسمعني في وصف جنابه الكريم، مادحه المولى اللبيب الجارى على أسلوب الحكيم، أبياتًا مخترعة لنفسه دقيقة المعاني، رقيقة الألفاظ حالية بديعة المباني، فشطرتها أحسن تشطير، وها أنا ببعضها مشير، وهي:
ثم أطلقت في الحال عنان المسير، ممتثلًا أمر المشير وبالله التيسير، ويممت الحمى مترجيًا حصول النجاح، يخفق بطريق الاجتماع راية الأفراح، فعندما وصلت لناديه الرحب البهيج، وروض واديه الخصب الأريج، ولاح ضياه بوارق أنوار رحابه، وقفت متيمنًا مستبشرًا بفتح بابه، فقلت جدير بهذا الباب الأسعد، أن يسطر عليه بمداد اللجين والعسجد.
ولما صدقت قضايا الوصول، وقامت براهين الإذن بالداخل، سرحت الناظر في مناهج بدايع مغانيه، وشرحت الخاطر بمباهج صنيع معانيه، فرأيته منزلًا محكم البناء رفيع العماد، محفوفا بالممالك متحوفًا بأبدع الخدم والأجناد، فما صغد سمرقند وما شعب بوان، وما الخورنق والسدير وذات العماد والإيوان، معاهده مشاهد جمال زاهية مشرقة، ومشاهده معاهد كمال باهية مونقة.
قد زينت سماؤه مصابيح نجوم من النقوش العسجدية، وكسيت أرضه بديباج مرقوم من الفرش الجوهرية، أحاطت به الرياض كالمناطق بالخصور، وزهت مناظرها الباهرة بالمنظوم والمنثور، أينع بها النرجس الغض والورد الجني، وأزهر الشقيق القاني والسوسن السني، يتبسم فيها النسيم فرحًا لبكاء الغمام الهتَّان، ويتنفس بالبنفسج ترحًا لضحك ثغور الأقحوان، تنفح كمايمها بعرف الكبا والطيب، وتصدح حمائمها بوصف الربا والحبيب، فأغصانها بلطيف الصبا تتثنى، والعندليب كما قال الشاعر بالإنشاد يتغنى:
قد ابتهجت به قاعة أنس عالية القباب، حالية بوشي النقوش المديحة والتبر المذاب، مشيدة البنيان على أرفع وضع غريب، جيدة الإتقان بأبدع صنع عجيب.
فالظبا تسرح آنسة بربع مرابعه، والمها تمرح مائسة بسوح مراتعه، والغزلان آمنة في سريه والآرام، والغزالة ترمقهم بعين الغيرة من تحت سجف الغمام، تشير إلى عيون ابن الجهم جفونها، وتثير حرب البسوس مع السلم عيونها، يخجل أعطاف الأغصان ميل قدودها، ويفصح شقايق النعمان صبغة خدودها، وتنسى بالخفر أخبار عزة وسعاد، وتنشئ بالحور للمنساك صبوة وسهاد، كما قلت:
وحين لمحت ما سرني وأبهجني، ولحظت ما أبهني وهيجني، قضيت مما شاهدته العين طربًا، وكاد القلب أن يتخذ سبيله في بحر الهوى عجبًا، لكني غضضت طرف ناظري حياءً وأدبًا، وأمسكت طرف خاطري رهبًا ورعبًا، وتقدَّمت إلى صدر ذلك المجلس الرفيع، الحاوي لكل بديع حسن وحسن بديع، فرأيت إيوانًا زاهي النقوش تحار العقول في وصفه، وشممت أرجًا يروِّح النفوس بعرفه، فأذكرني روضات الربيع الزهية، ونفخ كمايم أزهارها المسكية، فقلت:
وشاهدت شمس الإسعاف مشرقة بأفق ذلك الإيوان، وقد كسيت أرجاؤه بحلل الرضا والرضوان، وفي صدره الصدر الأمير المنصور المؤيد، صاحب المجد السامي والسعد النامي والعز المؤيد، أدام الله بهجة مصر المعزية بدوام حضرته، ووالى تجديد أفراحها ببقاء غرة نضرته، وجدير بمن يحظى بمشاهدة جنابه المجيد، أن يترنم بما توجته وهو قول الشاعر المجيد:
ورأيت بمجلسه جملة من خاصته، سمراء مسايرته، وندماء مسامرته، ما بين أنيس أريب، ورئيس لبيب، وعليم أديب، ونديم رقيق، وكاتب نسيق، فالأنيس الأريب يهدي الأنس بحديثه المستطاب، جليس نجيب بيدي غرايب التحف مع اللطف والآداب، له من المعارف أكمل زينة وأجمل حُلا، وفي التقدم عند أعيان الأمراء حائز رتب العلا، والرئيس اللبيب حاذق لطيف المزاج، خبير بأنواع الطبايع وأجناس العلاج، قد جبلت طباعه السليمة على قانون الوفاء، وجلبت ألفاظه لقلب من يخاطبه بهجة الشفاء، والأديب العليم فصيح الإنشاء والإبداع، محلى المعانى باستخدام التورية والإيداع، لا يجارى في ميدان البراعة، ولا يبارى إذا مد في مضمار البلاغة يراعة، والنديم الحاذق رقيق المعاني والأوصاف، يتوج هامات المجالس بجواهر درر الإخاف، معروف بنهاية النباهة وحلاوة المنادمة، له في رتبة الآداب مقاسمة ومساهمة، والكاتب الصاق ياقوتي الخط، حسن الإتقان في معرفة الشكل والضبط، بصير بإصلاح أرباب الأقلام، وكم رفعت له بين أهل النهى أعلام، فكل فريد غدا نزهة الظرفاء بطيب المسامرة، وتحفة مجامع اللطفاء بحسن المحاضرة، فقلت لعمرى: هذا مجلس الخلفاء، وروض آداب البلغاء والنظراء والحنفاء، وبالجملة فأوصاف رونقه لا تحد، وأصناف تأنقه لا تحصى ولا تعد، فهو فوق ما حدِّثت عنه الركبان، وليس الخبر في الحقيقة كالعيان، فقلت:
وعند مواجهتي ذلك الجناب العالي، ومشاهدتي سنا أنوار وجهه المتلالي، اعتراني وارد هيبة وجلال، وصرت مندهشًا بين جمال وكمال شعر:
ثم أدركني وارد الطمأنينة، وتلا على قلبي آية السكينة، وقال: خفض عليك ودع خجل الدهشة، واصرف عنك بالاستئناس وجل الوحشة، فإن سيد هذا الحمى والمقام، وإن كان ممن يحذر سطوته الضرغام، وتهابه أبطال الأقبال والملوك الصيد، وتود لو كنت له من جملة العبيد، فهو ممن خطت معاني لطفه بنان الكتاب، ونطق بمباني ظرفه لسان الآداب، متبسم الثغر طلق المحيا، يتلقى بالبشر من أم جنابه وحيا، فتقدمت مع الأدب والتعظيم، وحييته بتحية تليق بمقامه الكريم، فتهلل وقال: مرحبًا أهلًا وسهلًا، صادفت ملجأً حصينًا وروضًا خصيبًا فحبيت أمنًا وظلًّا، فقدمت إليه قصيدة تترجم عن قصتي، وتشعر بثبوت براهين حجتي، وهي:
فنظر إليها بعين متأمل لبيب، وجال فيها بجودة فكره المتوقد المصيب، ثم رمقني مع البشاشة بطرفه، ولاحظني بعين لطفه وعطفه، وقال: «أبشر بنجح القصد والإسعاد، فتظفر إن شاء الله تعالى بحصول المراد»، فدعوت له بدوام العز والسعد، ونجاح التدبير المنتج ببلوغ القصد، وانصرفت حامدًا عاقبة أمرى، مادحًا علاه بلسان ثنائي وشكري، طيب القلب مستبشرًا بوعده الجميل، لعلمي أن وعد الكريم واجب التحصيل فقلت:
وقد أحبب أن أذكره بالحديث الحسن، الحاث على اصطناع المعروف وتقليد المنن، روينا بالسند العالى الإسناد، الخالي عن العلل والانتقاد، أن رسول الله لما عرض عليه سبي هوازن كان ممن عرض عليه بنت حاتم الطائي، فقالت: «يا رسول الله أنا بنت من كان يحمل الكل، ويكسب المعدوم ويعين على نوايب الزمان، أنا بنت حاتم الطائي»، فقال رسول الله: «لو كان أبوك مسلمًا لترحمنا عليه»، فمنَّ عليها ﷺ ورد لها ما لها وقال: «أكرموا عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر» فقالت: «يا رسول الله وصويحباتي؟» فقال: «وصويحباتك، كريمة بنت كريم»، فقالت: «يا رسول الله أتأذن لي أن أدعو لك بدعوات؟»، فأذن لها وقال لأصحابه: «أنصتوا وعوا» فقالت: «أوقع الله برك مواقعه ولا زالت عن ذي نعمة نعمة إلا كنت سببًا في ردها» الحديث … وحسبك هذا في اصطناع المعروف، وإعانة المنتمي وإغاثة الملهوف (ولما انتهى) حديث الربيع بن رشيد قال له صاحب البديع بشير بن سعيد: «بشراك بشراك قد ظفرت بالنجح، فأطلق عنان يراعك في ميدان المدح»، فقال الربيع: أحسنت بإرشادك، إليَّ فلك الفضل والمنة عليَّ، لكنني أعترف بقصور باعي، وأتحقق تقصير لسان يراعي، عن استيفاء أوصاف محاسنه العلية، وشيم مكارمه الجليلة وأخلاقه السنية، شعر:
على أنني أنشد ما جادت به قريحة الفكر الكليل، وإن لم أكن أهلًا لهذا المقام الجليل (فقلت):
وقصارى الأمر أن مادحه مقصر ولو أطرى، فالاعتراف بالعجز عن إدراك ذلك أحق وأحرى، كيف وقد خلق أهلًا للمعالي وكفؤ للعلا، واختص بإبداع أوصاف حميدة تنشر وتذكر بين الملا، شعر:
ولما أنهى القلم بعض حق خدمته، وبيض بمداده وجه صحيفته، وقف في مقام الأدب والخضوع والاعتراف، وطلب الإذن من مولاه بالرجوع والانصراف، داعيًا له بتوالي النعم المحمودة العواقب، وثبت الهمم الجليلة الذكر والمناقب، لا زال ملحوظًا بعين عناية حماية مولاه، محفوظًا بوقاية كفاية فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ، ما أبدع منشئ في النثر والنظام، وزها التاريح بأحسن ختام.
وقال ينتجز وعده أدام الله سعده:
وقال يمدحه ويهنئه بعيد الفطر:
(وقال) يمدحه بهذه المزدوجة الفريدة، المزرية ببديعها كل قصيدة، وكتب عليها قوله:
وقال يمدحه بهذه القصيدة:
وقال مشطرًا هذين البيتين:
وقال يمدحه وفيها بيتان مضمنان:
وقال يمدحه:
حكى أبو النجاح بشر بن حبيب، قال: حدثني ابن الصلاح نصر الطبيب، عن أبي الطيب الطيبي الماهر الأريب، حديثًا بقانون الشفاء محرر ومسطور: إن مما أنتجته قضايا البراهين، وشهدت التجربة به عن يقين، وقضت بصحته أحكام القوانين، في علاج الأمزجة اللطيفة وشرح الصدور، حمية الخاطر عن شواهد المكدرات، وتحلية الروح بأطايب المنعشات، وترويح النفس بعجايب المطربات، في اغتباق الأصايل واعتناق البكور وتسريح العيون وإطلاق النواظر في حدايق الربا والريضا النواضر، واستجلاء عرايس أدواحها الزواهر، واستنشاق شذى معطرات الزهور والإصغاء لنغمات ساجعات الحمايم، والاسترواح لنفحات ذاكيات النسايم، والاستنشاق لنسمات يانعات الكمايم، بالمغاني الزاهية على شاطئ النهور ومفاكهة الأحبا الأدبا الظرفا، ومنادمة الألبا النجبا اللطفا، ومحادثة الفصحا البلغا الحنفا، على سرر التهاني وبسط الزهور، واستماع ألحان المثاني ورنات الأوتار مع مطرب يشدو ببدايع الأشعار، ومجامر الند نافحة بعرفها المعطار، بمجلس الأنس ونادي الهنا والحبور، فإذا توفر هذا التدبير نجح العلاج، وتراجعت القوى ودام الابتهاج، واعتدلت الطبايع وصح المزاج، ورقمت بشاير الشفا برق منشور، فأقسم يمينًا صدقًا أبو النجاح، أن هذا هو في الحقيقة منعش الأرواح، وطارد الهموم وجالب الأفراح، وتقوى الأبدان الإنسانية سقنقور فوصفه لمولى عز قدرًا وسما، ووضعه على ألطف قانون وسما، فصح مزاجه اللطيف بعدما كان صدر الزمان بشكايته مصدور، وزال عن الدهر الترح والعنا، ولبس ملابس الأمن والمنى، وسكن روعه بوفود البشر والهنا، وأصبح بصحة الرضوان مستبشرًا ومسرورًا وتلا آيات الشفا بألواح التهاني، وروى أحاديث الصفا بمسند الأماني، ونشر ألوية الدعا مفتتحًا بالسبع المثاني، لجناب سيد عليه لواء السعد منشور، سيد لا يحاط بأوصاف قدره، عين المجد وغرة أعيان مصره، ودرة التاج وواسطة العقد بعصره، المتحلي ببدايع مدحه المنظوم والمنشور لا زالت ثغور المسرة بواديه بواسم، ورياض المبرة بناديه العاطر بواسم، ولياليه وأيامه الزاهرة أعياد ومواسم، تختال تيهًا وفخرًا على سالفات الدهور، قد أظلك سيدي هذا العام الجديد مبشرًا بتوارد وافر النعم والعيش الرغيد، فلك البشرى بهذا الفأل الحسن الحميد، إذ يؤرخ بحصول الشفاء به عام السرور.
(وختمها بقوله):
وقال في سفينة أنشأها ذلك الأمير:
وقال والمعنى يظهر في الأبيات:
(وقال) يصف قصرًا نمقه بالنقوش الزهية وهو المعروف بالحلي، وذلك لقدوم الصدر الكبير وزير مصر أحمد باشا:
بشرى لنا بالتهاني بشرى، فمن أفق السعادة شهدنا بدرًا، قدم اليمن والسعد بوروده، ووافى السرور والأنس بوجوده، فقرت النواظر بحديثه الحسن، وقرئت بمصاحف النعم آيات المنن، فيا له مولودًا روح الأرواح، وأقام بمولده مواسم الأفراح، فلنا بعواطف الرضوان موانح، ومن لطايف الامتنان أعطر نوافخ، فالله يقر عين السيد بحياته، ويحوطه وإخوته الأمجاد بعظيم آياته، ويطيل عمر حياته ويحييه، حتى يرى وَلَد وَلَد ولدِه يحييه:
والنظم هو قوله:
وقال يمدحه ويهنئه بمولد جديد:
وقال مادحًا ومهنئًا بعيد وشفاء:
مقدمًا أمام شعره الرايق، نبذة من نثره الفايق، قوله: لقد أسمعنى سعد حديث الشفا، بمحضر الأنس ومجمع إخوان الصفا، فشنَّف الأسماع بدرره ورنح الأعطاف، إذ أرشفني من كئوس المسرة أطيب سلاف، فطفقت من فرط السرور الذي جل عن الحد أنادي فديتك زدني من حديثك يا سعد فهناك نفحت نوافح الأفراح، فعطرت الأرجاء وأنعشت الأرواح، وأزهر روض التهاني بزهور الامتنان فنعمنا منه بروح وريحان ورضوان، وجعلنا في دوحه الزاهي البهيج رواه، وتغنينا بدوحه الذاكي الأريج رياه، وجلسنا على بسط البسط وسرر السرور، والتحفنا بمطارف الطرف وحبر الحبور، وتفكهنا من جنى جناه بفواكه الإيناس، وشربنا من رحيق سلساله المروح الأنفاس، وأطربتنا ورقه الصادحة بنغمات المثاني، فوق أغصان المسرة فما مطربات المثالث والمثاني، وعطفت علينا عواطف العطف بالصفا، وروحتنا مراوح الراحة بنسيم الشفا، فانشرح الصدر طربًا وقرت العيون، وزال عن القلب ما به من ران الغبون، فالله الحمد على نعمه انجاب بها سحاب الغموم، وهزم بشيرها بوفود أعلامه جيش الهموم، فأعظم بها منحة عمت جميع الناس ببشرها، وأذهبت عنهم البأس والعنا بلطايف سرها، وأعادت أعياد التهاني تختال مرحًا، وثغر الزمان يبتسم سرورًا وفرحًا، فحق لهذا المحب أن يرفع أكف الابتهال إلى سما الإجابة تجاه قبلة الإقبال، أن يديم الله لجناب المولى الصحة والعافية، وأن يورده من مناهلها الموارد الصافية، لابسًا من المجد الحلل المعلمة الطراز، متوجًا بتاج السعادة والإعزاز، وأن يمد له من سرادق العليا الإطناب، ويرفع له في أعلاها الأعلام والقباب، ما أهدت الطروس من طي طيبها نشرًا.
وما وافى البشير مؤرخًا حباه صدق الشفاء بأطيبها بشرًا، وشعره المشار إليه هو قوله:
(واستنسخ) الأمير لممدوح كتاب روض الآداب، لكاتبه إبراهيم البلبيسى الذي هو عمدة لفنون هذا الباب، فعند إتمامه واختتام نظامه، طلب من مولانا صاحب الترجمة أن ينشئ له مقامة، تكون للكتاب ومحاسنه تميمة ومتممة، فأنشأ هذه المقامة وسماها «سح سحب الأدب البديع المعاني، بسوح روض الآداب البديع الرضواني» مبتدئًا فيها بقوله هذه الأبيات:
حبذا روض الآداب الحسن البديع، المثمر بالبلاغة والمزهر بأنواع البديع، جرت مياه البراعة خلال سطوره، وتفيأت اليراعة تحت ظلال مسطوره، وتفتح زهر الفصاحة من كمايم مبانيه، ونفح أرج البيان من نسايم معانيه، روض ابتهج بالآلئ المنظوم والمنثور، وتدبج بأحمر الشقيق واصفر المنثور فهو بحالي الترصيع والتوشيع بهيج، وبغالي الترشيح والتوشيح أريج، فلله در سحايب قرايح أظهرت نوره، وأضحكت من أقاح أدواحه الزاهية ثغوره، روض قامت على أغصان ألفاته. خطباء الأقلام، وصدحت على أفنان همزاته حمايم الأفهام، فغدا نزهة الناظر وفاكهة الخلفا، ومرح الخاطر ومفاكهة الأدبا والظرفا، فمن ظفر بهذا الروض وحل حماه، حبى طرف السرور من مغانيه ورباه، (روض) من ارتقى على أرائكه السنية الرفيعة، وتأمل في أوصاف محاسنه البهية البديعة، رأى بيوتًا سمت بالمحل الأرفع، وشرفت حيث أذن الله لها أن ترفع، ووجد في كل دوحة ثمارًا يانعة مختلفة الأنواع، وأزهارًا شذى نوافحها محتلفة الأضواع (روض) حوى في زوايا خباياه كنوز ذخايره درًّا منثورًا ولؤلؤًا منظومًا، ياقوتًا وجواهر وبه مسارح آرام ومراتع غزلان ومعاهد أنس وشحت بحسن وإحسان، وفيه صادحات أطيار بألحان الهنا تترنم، تذكر أيام الصبا وتهيج أشجان الصب المغرم (روض) رويت أحاديث جماله بمحاضر السرور، وتليت آيات كماله بمجامع الحبور، فهو لعمري مفرد جمع لجميع الفنون، فيه تنافست ذوو الحجا وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فروح الروح في بهجة حواشيه، ووجه وجه الثناء لمالكه وحاويه (روض) الرياض الزاهية المثمرة الوريقة، ومنبع الغياض الذاكية المزهرة الأنيقة، من تنسم أرواح الصبا طيبًا بربع علاه، وتبسم ثغور الحدايق إذا جرى حديث حلاه، حضرة الأمير الكبير رضوان كتخدا، لا زال بالسبع المثاني محفوظًا من العدا (روض) أمر جناب حضرته العلية باستكتابه، فنسخت له هذه النسخة الجلية وزفت إلى بابه، تحرى الناسخ في نسخها ونمق أي تنميق، فجاءت مبدعة على وجه حسن أنيق، تروح الروح بنشرها وتجلى الناظر، وتشرح الصدر ببشرها وتحلى الخاطر، (روض) تحلى عقود الانتهاء حالية الانتظام، وتطيب من نوافح طيب مسك الختام، في ابتداء غرة ربيع الأول المستطاب، عام تاريخه يزهو بكمال روض الآداب، فما أبدع هذا الاتفاق الحسن البديع، حيث جلى الروض علينا في ربيع، (روض) أذكرني بهذه المناسبة النفيسة، زمان الربيع وموارده المنعشة الأنيسة، إذ فيه تنفح الزهور، وتصدح الحمايم وتسلسل النهور، وتضحك الكمايم بطيب الوقت وتعتدل القوى، وتنبسط نفوس أهل الصبابة والهوى، شعر:
(روض) حق له أن يفوح بطيب عرفه، ويفتخر ببديع جماله وكمال وصفه، حيث كان اسمه مجتنى من اسم الرضوان، فله مع التشريف والعزة روح وريحان، وكم اشتمل على نكات ظريفة، يفهمها أهل الذكاء والقرايح اللطيفة، (روض) تشرف الناسخ بتحريره، ممتثلًا أمر سيده حيث أمر بتسطيره، داعيًا له بدوام عزه وعلو مجده وتلألؤ كواكب علاه بمشرق سعده، مصليًا على من أوتي الكتاب المحكم، وأله وأصحابه طراز كمالاتهم بالفصاحة معلم، شعر:
متع الله جنابه بروض العز والتهاني، مقتطفًا منه ثمار الأنس وأزهار الأماني يروحه فيه الصفا بنسايم الارتياح، ويشرحه البشر منه بصدح حمايم الأفراح، ممتدًّا عليه من الصحة سرادق، منشورًا له في آفاق العلا ألوية بالثنا خوافق، بجاه من اختاره المولى وله اصطفى، سيد الأولين والآخرين طه المصطفى، صلى الله عليه صلاة تليق بمقامه الأسنى، وعلى آله وأصحابه الناهجين مناهجه الحسنى، مع سلام موشى ببدايع النثر والنظام، ما زهت المطالع بأحسن ابتداء مؤرخة فطاب الختام.
انتهت المقامة وما يليها وفيهما تواريخ خمس، كل منهما يشرح الصدر ويسر النفس، وقال مؤرخًا بناء باب العزب الذي جدده الأمير المشار إليه وضمنه بيتًا من كلام السموأل.
وقال يمدحه بهذه القصيدة الربيعية، بل الدوحة المثمرة الشهية، وسماها نشر نوافح البديع ببشرى مقدم الربيع:
(وهذا) آخر ما انتقيته من كلامه ونقلته من المدايح الرضوانية، ومن مؤلفات المترجم ورحلته المسماة بموانح الأنس برحلتي لوادي القدس. توفي المترجم سنة ثلاث وسبعين وماية وألف.
ومات أديب الزمان، وشاعر العصر والأوان العلامة الفاضل شمس الدين الشيخ/محمد سعيد بن محمد الحنفي الدمشقي الشهير بالسمان، ورد إلى مصر في سنة أربع وأربعين وماية وألف فطارح الأدبا، وزاحم بمناكبه الفضلا، ثم عاد إلى وطنه، وورد إلى مصر أيضًا في سنه اثنتين وسبعين وماية وألف، وكان ذا حافظة وبراعة وحسن عشرة، وصار بينه وبين الشيخ عبد الله الإدكاوي محاضرات ومطارحات، وذكره في مجموعه وأثنى عليه وأورد له من شعره كثيرًا، ومما انتقيته من مختار أقواله قوله:
وله أيضًا:
وله هذا المعنى الذي لم يسبق إليه:
وله أيضًا:
وله أيضًا:
وله مضمنًا:
وله من قصيدة:
وقال يمدح السيد علي أفندي المرادي مفتي الشام:
إلى آخر ما قال، وله من قصيدة:
(وله من أخرى) يمدح بها بعض الأعيان وهو علي أفندي المرادي:
وقال يمدح الأستاذ محمد بن سالم الحفني قدس الله سره:
ومن كلامه:
وله:
ثم توجه إلى الشام وبها وافاه الحمام، ودفن بالصالحية سنة ثلاث وسبعين وماية وألف.
ومات الشيخ الصالح الشاعر اللبيب الناظم الناثر الشيخ/عامر الأنبوطي الشافعي، شاعر مفلق هجاء لهيب شرارة محرق، كان يأتي من بلده يزور العلماء والأعيان وكلما رأى لشاعر قصيدة سايرة قلبها وزنًا وقافيةً إلى الهزل والطبيخ، فكانوا يتحامون عن ذلك، وكان الشيخ الشبراوي يكرمه ويكسيه ويقول له: يا شيخ عامر لا تزفر قصيدتي الفلانية وهذه جائزتك»، ومن بعده الشيخ الحنفي كان يكرمه ويغدق عليه ويستأنس لكلامه، وكان شيخًا مسنًّا صالحًا مكحل العينين دائمًا عجيبًا في هيئته، ومن نظمه ألفية الطعام على وزن ألفية ابن مالك وأولها:
ويقول:
إلى أن يقول:
ومنها:
(ومن) كلامه قصيدة أيضًا على وزن لامية العجم منها:
إلى آخرها (وله) على وزن لامية ابن الوردي (ومنها):
إلى آخرها. ومن كلامه على وزن كلام ابن عروس:
وأيضًا:
وأيضًا:
وأيضًا:
وأيضًا:
وأيضًا:
ومات الأمير الكبير/عمر بك ابن حسن بك رضوان، وذلك أنه لما قلد إبراهيم كتخدا تابعه علي بك الكبير إمارة الحج وطلع بالحجاج ورجع في سنة سبع وستين وماية وألف، ونزل عليهم السيل العظيم بظهر حمار، وألقى الحجاج أحمالهم إلى البحر ولم يرجع منهم إلا القليل، تشاوروا فيمن يقلدونه إمارة الحج فاقتضى رأي إبراهيم كتخدا تولية المترجم وقد صار مسنًّا هرمًا فاستعفي من ذلك فقال له إبراهيم كتخدا: «إما أن تطلع بالحج أو تدفع مائتي كيس مسعدة»، فحضر عند إبراهيم كتخدا فرأى منه الجد فقال: «إذا كان ولا بد فإني أصرفها وأحج ولو أني أصرف ألف كيس»، ثم توجه إلى القبلة وقال: «اللهم لا ترني وجه إبراهيم هذا بعد هذا اليوم إما أني أموت أو هو يموت»، فاستجاب الله دعوته ومات إبراهيم كتخدا في صفر قبل دخول الحجاج إلى مصر بخمسة أيام، وتوفي عمر بك المذكور سنة إحدى وسبعين وماية وألف.
ومات الرجل الفاضل النبيه الذكي المتقن الفريد الأوسطى/إبراهيم السكاكيني، كان إنسانًا حسنًا عطارديًّا يصنع السيوف والسكاكين ويجيد سقيها وجلاءها، ويصنع قراباتها ويسقطها بالذهب والفضة، ويصنع المقاشط الجيدة الصناعة والسقي والتطعيم والبركارات للصنعة، وأقلام الجدول الدقيقة الصنعة المخرمة وغير ذلك، وكان يكتب الخط الحسن الدقيق بطريقة متسقة معروفة من دون الخطوط لا تخفى، وكتب بخطه ذلك كثيرًا مثل مقامات الحريري وكتب أدبية ورسايل كثيرة في الرياضيات والرسميات وغير ذلك، وبالجملة فقد كان فريدًا في ذاته وصفاته وصناعته، لم يخلف بعده مثله توفي في حدود هذا التاريخ، وكان حانوته تجاه جامع المرداني بالقرب من درب الصباغ.
•••
وفي تلك السنة أعني سنة إحدى وسبعين وماية وألف نزل بقارب شيحة، الذي أخذ المليح والمليحة، مات به الكثير من الناس المعروفين وغيرهم ما لا يحصى، ثم خف وأخذ ينقر في سنة اثنتين وسبعين وماية وألف، وكان قوة عمله في رجب وشعبان، وولد للسلطان مصطفى مولود في تلك السنة، وورد الأمر بالزينة في تلك الأيام فكانت أبرد من يخ، وهذا المولود هو السلطان سليم المتولى الآن، ولما قتل حسين بك القازدغلي المعروف بالصابونجي وتعين في الرياسة بعده علي بك الكبير، وأحضر خشداشينه المنفيين واستقر أمرهم، وتقلد إمارة الحج سنة ثلاث وسبعين وماية وألف، فبيت مع سليمان بك الشابوري وحسن كتخدا الشعراوي وخليل جاويش حيضان مصلى وأحمد جاويش المجنون، واتفق معهم على قتل عبد الرحمن كتخدا في غيبته، وأقام عوضه في مشيخة البلد خليل بك الدفتردار، فلما سافر استشعر عبد الرحمن كتخدا بذلك فشرع في نفي الجماعة المذكورين، فأغرى بهم علي بك بلوط قبن فنفى خليل جاويش حيضان مصلى وأحمد جاويش إلى الحجاز من طريق السويس على البحر، ونفى حسن كتخدا الشعراوي وسليمان بك الشابوري مملوك خشداشه إلى فارسكور، فلما وصل علي بك وهو راجع بالحج إلى العقبة وصل إليه الخبر فكتم ذلك، وأمر بعمل شنك يوهم من معه بأن الهجان أتاه بخبر سار، ولم يزل سايرًا إلى أن وصل إلى قلعة نخل، فانحاز إلى القلعة وجمع الدويدار وكتخدا الحج والسدادرة وسلمهم الحجاج والمحمل وركب في خاصته وسار إلى غزة وسار الحجاج من غير أمير إلى أن وصلوا إلى أجرود، فأقبل عليهم حسين بك كشكش ومن معه يريد قتل علي بك فلم يجده، فحضر بالحجاج ودخل بالمحل إلى مصر، واستمر علي بك بغزة نحو ثلاثة أشهر وأكثر، وكاتب الدولة بواسطة باشة الشام، فأرسلوا إليه واحد أغا ووعدوه ومنوه وتحيلوا عليه حتى استصفوا ما معه من المال والأقمشة وغير ذلك، ثم حضر إلى مصر بسعاية نسيبه علي كتخدا الخربطلي وأغراضه، ومات بعد وصوله إلى مصر بثمانية أيام، يقال: إن بعض خشداشينه شغله بالسم حين كان يطوف عليهم للسلام.
وفي تلك السنة حضر مصطفى باشا واليا على مصر، واستمر إلى أواخر سنة أربع وسبعين وماية وألف، ونزل إلى القبة متوجهًا إلى جده فأقام هناك، وحضر أحمد باشا كامل المعروف بصبطلان في أواخر سنة أربع وسبعين وماية وألف ١٧٦٠م، وكان ذا شهامة وقوة مراس، فدقق في الأحكام وصار يركب وينزل ويكشف على الأنبار والغلال، فتعصبت عليها الأمرا وعزلوه وأصعدوا مصطفى باشا المعزول وعرضوا في شأنه إلى الدولة، وساافر بالعرض الشيخ عبد الباسط السنديوني، ووجه مصطفى باشا خازنداره إلى جدة وكيلًا عنه، ولما وصل العرض إلى الدولة وكان الوزير إذ ذاك محمد باشا راغب فوجهوا أحمد باشا المنفصل إلى ولاية قندية، ومصطفى باشا إلى حلب، ووجهوا باكير باشا والي حلب إلى مصر، فحضر وطلع إلى القلعة وأقام نحو شهرين ومات ودفن بالقرافة سنة خمس وسبعين وماية وألف، وحضر حسن باشا في أواخر سنة ست وسبعين ثم عزل، وحضر حمزة باشا في سنة تسع وسبعين وماية وألف ١٧٦٥م وسأتى تتمة ذلك.
واستقر الحال وتقلد في إمارة الحج حسين بك كشكش، وطلع سنة أربع وسبعين وماية وألف بالحج، ووقف له العرب في مضيق وحضر إليه كبراؤهم وطلبوا مطالبهم وعوائدهم، فأحضر كاتبه الشيخ خليل كاتب الصرة وأمرهم بدفع مطلوبات العرب، فذهبوا معه إلى خيمته وأحضر المال وشرع الصراف يعد لهم الدراهم، فضرب عند ذلك مدفع الشيل فقال لهم: «حينئذ لا يمكن في هذا الوقت فاصبروا حتى ينزل الحج في المحطة يحصل المطلوب»، وسار الحج حتى خرج من ذلك المضيق إلى الوسع، ورتب مماليكه وطوايفه وحضر العرب وفيهم كبيرهم هزاع، فأمر بقتلهم فنزلوا عليهم بالسيوف فقتلوهم عن آخرهم، وفيهم نيف وعشرون كبيرًا من مشايخ العربان المشهورين خلاف هزاع المذكور، وأمر بالرحيل وضربوا المدفع وسار الحج وتفرقت قبايل العرب ونساؤهم يصرخون بطلب الثأر، فتجمعت القبايل من كل جهة ووقفوا بطريق الحجاج، وفي المضايق وهو يسوق عليهم من أمام الحج وخلفه ويحاربهم ويقاتلهم بمماليكه وطوايفه، حتى وصل إلى مصر بالحج سالمًا ومعه روس العربان محملة على الجمال، ودخل المدينة بالمحمل والحجاج منصورًا مؤيدًا، فاجتمع عليه الأمرا من خشداشينه وغيرهم وقال له علي بك بلوط قبن: «إنك أفسدت علينا العرب وأخربت طريق الحج، ومن يطلع بالحج في العام القابل بعد هذه الفعلة التي فعلتها؟» فقال: «أنا الذي أسافر بالحج في العام القابل ومنى للعرب أصطفل!!» فطلع أيضًا في السنة الثانية وتجمع عليه العرب ووقفوا في كل طريق ومضيق وعلى روس الجبال، واستعدوا له بما استطاعوا من الكثرة من كل جهة، فصادمهم وقاتلهم وحاربهم وصار يكر ويفر، ويحلق عليهم من أمام الحج ومن خلفه حتى شردهم وأخافهم وقتل منهم الكثير، ولم يبال بكثرتهم مع ما هو فيه من القلة، فإنه لم يكن معه إلا نحو الثلثماية مملوك خلاف الطوايف والأجناد وعسكر المغاربة، وكان يبرز لحربهم حاسرًا رأسه مشهورًا حسامه، فيشتت شملهم ويفرق جمعهم، فهابوه وانكمشوا عن ملاقاته وانكفوا عن الحج، فلم تقم للعرب معه بعد ذلك قايمة، فحج أربع مرات أميرًا بالحج آخرها سنة ست وسبعين وماية وألف، ورجع سنة سبع وسبعين وماية وألف ١٧٦٣م، ولم يتعرض له أحد من العرب ذهابًا وإيابًا بعد ذلك، وكذلك أخاف العربان الكاينين حوالى مصر ويقطعون الطريق على المسافرين والفلاحين ويسلبون الناس، فكان يخرج إليهم على حين غفلة فيقتلهم وينهب مواشيهم ويرجع بغنايمهم وروسهم في أشناف مقاطف على الجمال، فارتدعوا وانكفوا على أفاعيلهم وأمنت السبل وشاع ذكره بذلك، وفي هذه المدة ظهر شأن علي بك بلوط قبن واستفحل أمره وقلد إسماعيل بك الصنجقية وجعله اشراقه وزوجه هانم بنت سيده، وعمل له مهمًا عظيمًا احتفل به للغاية ببركة الفيل، وكان ذلك في أيام النيل سنة أربع وسبعين وماية وألف، فعملوا على معظم البركة أخشابًا مركبة على وجه الماء يمشي عليها الناس للفرجة، واجتمع بها أرباب الملاهي والملاعيب وبهلوان الحبل وغيره من ساير الأصناف والفرج والمتفرجون والبياعون من ساير الأصناف والأنواع، وعلقوا القناديل والوقدات على جميع البيوت المحيطة بالبركة، وعالبها سكن الأمراء والأعيان أكثرهم خشداشين بعضهم البعض ومماليك إبراهيم كتخدا أبي العروس، وفي كل بيت منهم ولايم وعزايم وضياقات وسماعات وآلات وجميعات، واستمر هذا الفرح والمهم مدة شهر كامل، والبلد مفتحة والناس تغدو وتروح ليلًا ونهارًا للحظ والفرجة من جميع النواحي، ووردت على علي بك الهدايا والصلات من إخوانه الأمراء والأعيان والاختيارية والوجاقلية والتجار والمباشرين والأقباط والإفرنج والأروام واليهود، والمدينة عامرة بالخير، والناس مطمئنة، والمكاسب كثيرة والأسعار رخية والقرى عامرة، وحضرت مشايخ البلدان وأكابر العربان ومقادم الأقاليم والبنادر بالهدايا والأغنام والجواميس والسمن والعسل، وكل من الأمرا الإبراهيمية كأنه صاحب الفرح والمشار إليه من بينهم صاحب الفرح علي بك، وبعد تمام الشهر زفت العروس في موكب عظيم شقوا به من وسط المدينة بأنواع الملاعيب والبهلوانات والجنك والطبول ومعظم الأعيان والجاويشية والملازمين والسعاة والأغوات أمام الحريمات، وعليهم الخلع والتخاليق المثمنة، وكذلك المهاترة والطالبون وغيرهم من المقدمين والخدم والجاويشية والركبدارية، والعروس في عربة، وكان الخازندار لعلي بك في ذلك الوقت محمد أبو الدهب ماشى بجانب العربة وفي يده عكاز ومن خلفها أولاد خزنات الأمراء ملبسين بالزرد والخود واللثامات الكشميرى مقلدين بالقسي والنشاب، وبأيديهم المزاريق الطوال، وخلف الجميع النوبة التركية والنفيرات (فمن) ذلك الوقت اشتهر أمر علي بك وشاع ذكره ونمى صيته، وقلد أيضًا مملوكه علي بك المعروف بالسروجية، ولما كان عبد الرحمن كتخدا ابن سيدهم ومركز دايرة دولتهم انضوى إلى ممالاته ومال هو الآخر إلى صداقته ليقوى به على أرباب الرياسة من اختيارية الوجاقات، وكل منهما يريد تمام الأمر لنفسه حتى إن عبد الرحمن كتخدا لما أراد نفي الجماعة المتقدم ذكرهم بيت مع بعض المتكلمين، وصوروا على أحمد جاويش المجنون ما يقتضي نفيه، ثم عرضوا ذلك على عبد الرحمان كتخدا فمانع في ذلك وأظهر الغيظ، وأصبح في ثاني يوم اجتمع عنده الاختيارية والصناجق على عادتهم، فلما تكامل حضور الجميع تكلم عبد الرحمن كتخدا فقال: «إن علي بك سافر إلى الحجاز ولا بد من كبير تجتمع فيه الكلمة» فقال له: «الرأي ما تراه» فقال علي بك: «هذا يكون شيخ البلد وكبيرها، وأنا أول من أطاعه وآخر من عصاه» فقالوا: «سمعنا وأطعنا ونحن كذلك» وأصبح عبد الرحمن كتخدا غاديًا إلى بيت علي بك وكذلك باقي الأمراء والاختيارية، وصار الجميع والديوان في بيته من ذلك اليوم، ولبس الخلعة من الباشا على ذلك، ثم إنهم طلعوا أيضًا في ثانى يوم إلى الديوان واجتمعوا بباب الينكجرية، وكتبوا عرضحال بنفي أحمد جاويش وخليل جاويش وسليمان بك الشابوري فقال عبد الرحمن كتخدا: «واكتبوا معهم حسن كتخدا الشعراوي أيضًا»، فكتبوه وأخرجوا فرمانًا بذلك ونفوهم كما ذكر، واستمروا في نفيهم، وعمل أحمد جاويش وقادًا بالحرم المدني وخليل جاويش أقام أيضًا بالمدينة والشابوري وحسن كتخدا جهة فارسكور والسرو ورأس الخليج، وأخذ علي بك يمهد لنفسه واستكثر من شراء المماليك وشرع في مصادرة الناس ويتحيل على أخذ الأموال من أرباب البيوت المدخرة والأعيان المستورين مع الملاطفة، وإدخال الوهم على البعض بمثل النفي والتعرض إلى الفايظ ببعض المقتضيات ونحو ذلك.
ومن الحوادث السماوية أن في يوم السبت تاسع عشر جمادى الأولى هبت ريح عظيمة شديدة نكباء غريبة، غرق منها بالإسكندرية ثلاثة وثلاثون مركبًا في مرسى المسلمين، وثلاثة مراكب في مرسى النصارى، وضجت الناس وهاج البحر شديدًا وتلف بالنيل بعض مراكب، وسقطت عدة أشجار.
وطلع علي بك أميرًا بالحج في سنة سبع وسبعين وماية وألف، ورجع في أوايل سنة ثمان وسبعين وماية وألف في أبهة عظيمة، وأرخى مملوكه محمد الخازندار لحيته على زمزم، فلما رجع قلده الصنجقية، وهو الذي عرف بأبي الدهب، ثم قلد مملوكه أيوب أغا ورضوان قرابته وإبراهيم شلاق بلفيه وذا الفقار وعلي بك الحبشى صناجق أيضًا، وانقضت تلك السنة وأمر علي بك يتزايد وشهلوا أمور الحج على العادة، وقبضوا الميري وصرفوا العلوفات والجامكية والصرة وغلال الحرمين والأنبار، وخرج المحمل على القانون المعتاد وأميره حسن بك رضوان، ولما رجعوا من البركة بعد ارتحال الحج طلع علي بك وخشداشينه وأغراضه وملكوا أبواب القلعة، وكتبوا فرمانًا وأخرجوا عبد الرحمن كتخدا وعلي كتخدا الخربطلي وعمر وجاويش الداودية ورضوان جربجي الرزاز وغيرهم منفيين، فأما عبد الرحمن كتخدا فأرسلوه إلى السويس ليذهب إلى الحجاز وعينوا للذهاب معه صالح بك ليوصله إلى السويس، ونفوا باقي الجماعة إلى جهة بحري، وارتجت مصر في ذلك اليوم وخصوصًا لخروج عبد الرحمن كتخدا، فإنه كان أعظم الجميع وكبيرهم وابن سيدهم، وله الصولة والكلمة والشهرة، وبه ارتفع قدر الينكجرية المماليك على العزب العثمانلية، وكان له عزوة كبيرة ومماليك وأتباع وعساكر مغاربة وغيرهم حتى ظن الناس وقوع فتنة عظيمة في ذلك اليوم، فلم يحصل شيء من ذلك سوى ما نزل بالناس من البهتة والتعجب، ثم أرسل إلى صالح بك فرمانًا بنفيه إلى غزة، فوصل إليه الجاويش في اليوم الذي نزل فيه عبد الرحمن كتخدا في المركب، وسافر وذهب صالح بك إلى غزة فأقام بها مدة قليلة. ثم أرسلوا له جماعة ونقلوه من غزة وحضروا به إلى ناحية بحري وأجلسوه برشيد، ورتب له علي بك ما يصرفه وجعل له فايظًا في كل سنة عشرة أكياس، فأقام برشيد مدة، فحضرت أخبار وصول الباشا الجديد وهو حمزة باشا إلى ثغر سكندرية، فأرسلوا إلى صالح بك جماعة يغيبونه من رشيد ويذهبون به إلى دمياط يقيم بها؛ وذلك لئلا يجتمع بالباشا، فلما وصلت إليه الأخبار بذلك ركب بجماعته ليلًا وسار إلى جهة البحيرة، وذهب من خلف جبل الفيوم إلى جهة قبلي، فوصل إلى منية ابن خصيب، فأقام بها، واجتمع عليه أناس كثيرة من الذين شردهم علي بك ونفاهم في البلاد، وبنى له أبنية ومتاريس، وكان له معرفة وصداقة مع شيخ العرب همام، وأكابر الهوارة وأكثر البلاد الجارية في التزامه جهة قبلي، واجتمع عليه الكثير منهم وقدموا له التقادم والذخيرة وما يحتاج إليه.
ووصل المولي حفيد أفندي القاضي، وكان من العلماء الأفاضل، ويعرف بطرون أفندي، وكان مسنًّا هرمًا، فجلس على الكرسي بجامع المشهد الحسيني ليملي درسًا، فاجتمع عليه الفقهاء الأزهرية وخلطوا عليه، وكان المتصدي لذلك الشيخ أحمد بن يونس، والشيخ عبد الرحمن البرادعي، فصار يقول لهم: «كلموني بآداب البحث، أما قرأتم آداب البحث؟»، فزادو في المغالطة، فما وسعه إلا القيام، فانصرفوا عنه وهم يقولون: «عكسناة».
وفي شعبان من السنة المذكورة شرع القاضي المذكور في عمل فرح لختان ولده، فأرسل إليه علي بك هدية حافلة، وكذلك باقي الأمراء والاختيارية والتجار والعلماء حتى امتلأت حواصل المحكمة بالأرز والسمن والعسل والسكر، وكذلك امتلا المقعد بفروق البن ووسط الحوش بالحطب الرومي، واجتمع بالمحكمة أرباب الملاعيب والملاهي والبهلوانات وغيرهم، واستمر ذلك عدة أيام والناس تغدو وتروح للفرجة، وسعت العلما والأمرا والأعيان والتجار لدعوته، وفي يوم الزفة أرسل إليه علي بك ركوبته وجميع اللوازم من الخيول والمماليك وشجر الدر والزرديات، وكذلك داقم الباشا من الأغوات والسعاة والجاويشية والنوبة التركية، وأركبوا الغلام بالزفة إلى بيت علي بك، فألبسه فروة سمور ورجع إلى المحكمة بالموكب وختن معه عدة غلمان وكان مهمًّا مشهودًا، واتحد هذا القاضي بالشيخ الوالد، وتردد كل منهما على الآخر كثيرًا، وحضر مرة في غير وقت ولا موعد في يوم شديد الحر، فلما صعد إلى أعلى الدرج، وكان كثيرًا، فاستلقى من التعب على ظهره لهرمه، فلما تروح وارتاح في نفسه قال له الشيخ: «يا أفندي لأي شيء تتعب نفسك؟ أنا آتيك متى شئت»، فقال: «أنا أعرف قدرك وأنت تعرف قدري»، وكان نايبه من الأذكياء أيضًا.
ولما حضر حمزة باشا سنة تسع وسبعين وماية وألف المذكورة واليًا على مصر وطلع إلى القلعة، فعرضوا له أمر صالح بك وأنه قاطع الطريق ومانع وصول الغلال والميري، وأخذوا فرمانًا بالتجريد عليه، وتقلد حسين بك كشكش حاكم جرجا أمير التجريدة، وشرعوا في التشهيل والخروج فسافر حسين بك كشكش وصحبته محمد بك أبو الدهب وحسن بك الأزبكاوي، فالتطموا مع صالح بك لطمة صغيرة، ثم توجه وعدَّى إلى شرق أولاد يحيى، وكان حسين بك شبكة مملوك حسين بك كشكش نفاه علي بك إلى قلبي، فلما ذهب صالح بك إلى قبلي انضم إليه وركب معه، فلما توجه حسين بك بالتجريدة وعدى صالح بك شرق أولاد يحيى انفصل عنه، وحضر إلى سيده حسين بك وانضم إليه كما كان، ورجع محمد بك وحسن بك إلى مصر وتخلف حسين بك عن الحضور يريد الذهاب إلى منصبه بجرجا، وأقام في المنية فأرسل إليه علي بك فرمانًا بنفيه إلى جهة عينها له فلم يتمثل لذلك، وركب في مماليكه وأتباعه وأمرايه وحضر إلى مصر ليلًا فوجد الباب الموصل لجهة قناطر السباع مغلوقًا فطرقه فلم يفتحوه، فكسره ودخل وذهب إلى بيته وبقي الأمر بينهم على المسالمة أيامًا فأراد علي بك أن يشغله بالسم بيد عبد الله الحكيم، وقد كان طلب منه معجونًا للباءة فوضع له السم في المعجون، وأحضره له فأمره أن يأكل منه أولا فتلكأ واعتذز فأمر بقتله، وكان عبد الله الحكيم هذا نصرانيًّا روميًّا يلبس على رأسه قلبق سمور، وكان وجيهًا الصورة فصيحًا متكلمًا يعرف التركية والعربية والرومية والطليانية، وعلم حسين بك أنها من عزيمة علي بك، فتأكدت بينهما الوحشة، وأضمر كل منهما لصاحبه السوء، وتوافق علي بك مع جماعته على غدر حسين بك وإخراجه فوافقوه ظاهرًا، واشتغل حسين بك على إخراج علي بك وعصب خشداشينه وغيرهم وركبوا عليه المدافع، فكرنك في بيته وانتظر حضور المتوافقين معه فلم يأته منهم أحد وتحقق نفاقهم عليه، فعند ذلك أرسل إليهم يسألهم عن مرادهم، فحضر إليه منهم من يأمره بالركوب والسفر، فركب وأخرجوه منفيًّا إلى الشام ومعه مماليكه وأتباعه، وذلك في أواخر شهر رمضان سنة تسع وسبعين وماية وألف ١٧٦٥م، وأقام بالعادلية ثلاثة أيام حتى عملوا حسابه وحساب أتباعه وهم محيطون بهم من كل جهة بالعسكر والمدافع حتى فرغوا من الحساب، واستخلصوا ما بقي على طرفهم. ثم سافروا إلى جهة غزة، وكانت العادة فيمن ينفى من أمراء مصر أنه إذا خرج إلى خارج فعلوا معه ذلك، ولا يذهب حتى يوفي جميع ما يتأخر بذمته من ميري وخلافه، وإن لم يكن معه ما يوفي ذلك باع أثاث داره ومتاعه وخيوله ولا يذهب إلا خالص الذمة.
وسافر صحبة علي بك أمراؤه وهم محمد بك وأيوب بك ورضوان بك وذو الفقار بك وعبد الله أغا الوالي وأحمد جاويش وسليمان جاويش وغيطاس كتخدا وباقي أتباعه، واستقر خليل بك كبير البلد مع قسيمه حسين بك كشكش وباقي جماعتهم وحسن بك جوجو، وعزلوا عبد الرحمن أغا وقلدوا قاسم أغا الوالى أغات مستحفظان، ورد الخبر من الجهة القبلية بأن صالح بك رجع من شرق أولاد يحيى إلى المنية واستقر فيها وحصنها، فعند ذلك شرعوا في تشهيل تجريدة وبرزوا إلى جهة البساتين، وفي تلك الأيام رجع علي بك ومن معه على حين غفلة ودخل إلى مصر، فنزل بيت حسين بك كشكش ومحمد بك نزل عند عثمان بك الجرجاوي وأيوب بك دخل منزل إبراهيم أغا الساعي، فاجتمع الأمراء بالآثار وعملوا مشورة في ذلك، فاقتضى الرأي بأن يرسلوه إلى جدة، وقال بعضهم: «اسمعوا نصحي واقتلوه وارتاحوا منه، فإنه إن دام حيًّا أتعبكم ولا يبقي منكم أحدًا»، فقالوا: «لا يصح، إنه أخونا ودخل إلى بيوتنا»، فأرسلوا له بذلك وقال: لا أخرج من بيت سيدي إلا أن يكون جهة بحري»، فاجتمع الرأي بأن يعطوه النوسات ويذهب إليها، فرضي بذلك وذهب إلى النوسات وأقام بها، وأرسلوا محمد بك وأيوب بك ورضوان بك إلى قبلي بناحية أسيوط وجهاتها، وكان هناك خليل بك الأسيوطي، فانضموا إليه وصادقوه وسفروا التجريدة إلى صالح بك فهزمت، فأرسلوا له تجريدة أخرى وأميرها حسن بك جوجو وكان منافقًا فلم يقع بينهم إلا بعض مناوشات، ورجعوا أيضًا كأنهم مهزومون، وأرسلوا له ثالث ركبة فكانت الحرب بينهم سجالًا، ورجعوا كذلك بعد أن اصطلحوا مع صالح بك أن يذهب إلى جرجا، ويأخذ ما يكفيه هو ومن معه ويمكث بها ويقوم بدفع المال والغلال، وكان ذلك في شهر جمادى الأولى سنة ثمانين وماية وألف ١٧٦٦م.
وفي ثانى شعبان منها اتهموا حسن بك الأزبكاوي أنه يراسل علي بك وعلي بك يراسله، فقتلوه في ذلك اليوم بقصر العيني ورسموا بنفي خشداشينه وهم: حسن بك أبو كرش ومحمد بك الماوردي وسليمان أغا كتخدا الجاويشية سيد الثلاثة، وهو زوج أم عبد الرحمن كتخدا وكان مقيمًا بمصر القديمة وقد صار مسنًّا فسفروهم إلى جهة بحري، وتخبلوا من إقامة علي بك بالنوسات، فأرسلوا له خليل بك السكران فأخذه وذهب به إلى السويس ليسافر إلى جدة من القلزم، وأحضر له المركب لينزل فيها.
وفي ثاني شهر شوال من السنة ركب الأمراء إلى قراميدان ليهنوا الباشا بالعيد، وكان معتاد الرسوم القديمة، أن كبار الأمراء يركبون بعد الفجر من يوم العيد وكذلك أرباب العكاكيز، فيطلعون إلى القلعة ويمشون أمام الباشا من باب السراية إلى جامع الناصر بن قلاوون، فيصلون صلاة العيد ويرجعون كذلك ثم يقبلون أتكه ويهنونه وينزلون إلى بيوتهم، فيهنى بعضهم بعضًا على رسمهم واصطلاحهم، وينزل الباشا في ثاني يوم إلى الكشك بقراميدان وقد هيئت مجالسه بالفرش والمساند والستور واستعد فراشو الباشا بالتطلي والقهوة والشربات والقماقم والمباخر ورتبوا جميع الاحتياجات واللوازم من الليل، واصطفت الخدم والجاويشية والسعاة والملازمون وجلس الباشا بذلك الكشك وحضرت أرباب العكاكيز والخدم قبل كل أحد، ثم يأتي الدفتردار وأمير الحاج والأمراء الصناجق والاختيارية وكتخدا الينكجرية والعزب أصحاب الوقت، والمقادم والأوده باشية واليمقات والجربجية فيهنون الباشا، ويعيدون عليه على قدر مراتبهم بالقانون والترتيب ثم ينصرفون، فلما حضروا في ذلك اليوم المذكور وهنأ الأمراء الصناجق الباشا وخرجوا إلى دهليز القصر يريدون النزول وقف لهم جماعة، وسحبوا السلاح عليهم وضربوا عليهم بنادق، فأصيب عثمان بك الجرجاوي بسيف في وجهه وحسين بك كشكش أصيب برصاصة نفذت من شقه، وسحب الآخرون سلاحهم وسيوفهم واحتاط بهم مماليكهم، ونط أكثرهم من حايط البستان ونفذوا من الجهة الأخرى وركبوا خيولهم وهو لا يصدقون بالنجاة، وأركبوا عثمان بك حصانه وهو يقول: «باب العزب، باب العزب»، وقد قطع السيف وجهه وحنكه، وذهبوا به إلى باب العزب وأنزلوه فمكث هنيهة ومات، فشالوه إلى بيته وغسلوه وكفنوه وخرجوا بجنازته ودفنوه، وانجرح أيضًا إسماعيل بك أبو مدفع ومحمود بك وقاسم أغا، ولكن لم يمت منهم إلا عثمان بك، وباتوا على ذلك فلما أصبحوا اجتمعوا وطلعوا إلى الأبواب وأرسلوا إلى الباشا يأمرونه بالنزول، فنزول إلى بيت أحمد بك كشك بقوصون، وعند نزوله ومروره بباب العزب وقف له حسين بك كشكش وأسمعه كلامًا قبيحًا، ثم إنهم جعلوا خليل بك بلفيه قايمقام وقلدوا عبد الرحمن أغا مملوك عثمان بك سنجقًا عوضا عن سيده ونسبت هذه النكتة إلى حمزة باشا وقيل: إنها من علي بك الذي بالنوسات ومراسلاته الى حسن بك جوجو، فبيت مع أنفار من الجلفية وأخفاهم عنده مده أيام وتواعدوا على ذلك اليوم وذهبوا إلى الكشك بقراميدان وكانوا نحو الأربعين، فاختلفوا واتفقوا على ثانى يوم بدهليز بيت القاضي وتفرقوا إلا أربعة منهم ثبتوا على ذلك الاتفاق وفعلوا هذه الفعلة، وبطل أمر العيد من قراميدان من ذلك اليوم، وتهدم القصر وخرب وكذلك الجنينة ماتت أشجارها وذهبت نضارتها.
ولما حصلت هذه الحادثة أرسلوا حمزة بك إلى علي بك فوجده في المركب بالغاطس ينتظر اعتدال الريح للسفر، فرده إلى البر وأركبه بمماليكه وأتباعه، ورجع إلى جهة مصر ومر من الجبل وذهب إلى جهة شرق إطفيح ثم إلى أسيوط بقبلي، ورجع حمزة بك إلى مصر، ثم إن علي بك اجتمعت عليه المنافي وهوارة وخلافهم وأراد الانضمام إلى صالح بك فنفر منه، فلم يزل يخادعه وكان على كتخدا الخربطلي هناك منفيًّا من قبله وجعله سفيرًا فيما بينه وبين صالح بك هو وخليل بك الأسيوطي وعثمان كتخدا الصابونجي، فأرسلهم فلم يزالوا به حتى جنح لقولهم، فعند ذلك أرسل إليه محمد بك أبو الدهب فلم يزلبه حتى انخدع له واجتمع عليه بكفالة شيخ العرب همام، وتحالفا وتعاقدا وتعاهدا على الكتاب والسيف، وكتبوا بذلك حجة واتفق مع علي بك أنه إذا تم لهم الأمر أعطى لصالح بك جهة قبلي حياة، واتفقوا على ذلك بالمواثيق الأكيدة وأرسلوا بذلك إلى شيخ العرب خمام فانسر بذلك ورضي به مراعاة لصالح بك، وأمدهم عند ذلك همام بالعطايا والمال والرجال، واجتمع عليهم المتفرقون والمشردون من الغز والأجناد والهوارة والشجعان ولموا جموعًا كثيرة وحضروا إلى المنية وكان بها خليل بك السكران، فلما بلغه قدومهم ارتحل منها وحضر إلى مصر هاربًا.
واستقر علي بك وصالح بك وجماعتهم بالمنية، وبنوا حولها أسوارًا وأبراجًا وركبوا عليها المدافع وقطعوا الطريق على المسافرين المبحرين والمقبلين، وأرسل علي بك إلى ذي الفقار بك وكان بالمنصورة وصحبته جماعة كشاف، فارتحلوا ليلًا وذهبوا إلى المنية فعمل الأمراء جمعية وعزموا على تشهيل تجريدة وتكلموا وتشاوروا في ذلك، فتكلم الشيخ الحفناوي في ذلك المجلس وأفحمهم بالكلام ومانع في ذلك وقال: «أخربتم الأقاليم والبلاد، في أي شيء هذا الحال وكل ساعة خصام ونزاع وتجاريد؟ علي بك هذا رجل أخوكم وخشداشكم، أي شيء يحصل إذا أتى وقعد في بيته واصطلحتم مع بعضكم وأرحتم أنفسكم والناس؟» وحلف أنه لا يسافر أحد بتجريده مطلقًا، وإن فعلوا ذلك لا يحصل لهم خير أبدًا، فقالوا: «إنه هو الذي يحرك الشر ويريد الانفراد بنفسه ومماليكه، وإن لم نذهب إليه أتى هو إلينا وفعل مراده فينا»، فقال لهم الشيخ: «أنا أرسل إليه مكاتبة فلا تتحركوا بشيء حتى يأتي رد الجواب»، فلم يسعهم إلا الامتثال، فكتب له الشيخ مكتوبًا ووبخه فيه وزجره ونصحه ووعظه وأرسلوه إليه، فلم يلبث الشيخ بعد هذا المجلس إلا أيامًا ومرض ورمى بالدم وتوفي إلى رحمة الله تعالى، فيقال: إنهم أشغلوه وسموه ليتمكنوا من أغراضهم.
وفي أثناء ورد الخبر بوصول محمد باشا راقم إلى سكندرية فأرسلوا له الملاقاة، وحضر إلى مصر وطلع القلعة في غرة ربيع الثاني سنة إحدى وثمانين ومائة وألف. ١٧٦٧م
وفي حادي عشر جمادى الأولى اجتمعوا بالديوان وقلدوا حسن بك رضوان دفتردار مصر.
وفي خامس عشرة قلدوا خليل بك بلفيه أمير الحاج وقاسم أغا صنجقًا، وكتبوا فرمانًا بطلوع التجريدة إلى قبلي ولبس ساري عسكرها حسين بك كشكش وشرعوا في التشهيل واضطرهم الحال إلى مصادرة التجار، وأحضر خليل بك النواخيد وهم ملا مصطفى وأحمد أغا الملطيلي وقرا إبراهيم وكاتب البهار، وطلب منهم مال البهار معجلًا، فاعتذروا فصرخ عليهم وسبهم فخرجوا من بين يديه، وأخذوا في تشهيل المطلوب وجمع المال من التجار، وبرز حسين بك خيامه للسفر في منتصف جمادى الأولى وخرج صحبته سته من الصناجق وهم: حسن بك جوجو وخليل بك السكران وحسن بك شبكة وإسماعيل بك أبو مدفع وحمزة بك وقاسم بك، وأسرعوا في الارتحال.
وفي عشرينه أخرج خلفهم أيضًا خليل بك تجريدة أخرى، وفيها ثلاثة صناجق ووجاقلية وعسكر مغاربة وسافروا أيضًا في يومها، وبعد ثلاثة أيام ورد الخبر بوقوع الحرب بينهم ببياضة تجاه بني سويف، فكانت الهزيمة على حسين بك ومن معه وقتل علي أغا المليجي وخلافه، وقتل من ذلك الطرف ذو الفقار بك ورجع المهزومون في ذلك ثاني يوم الكسرة وهو يوم السبت رابع عشرينه وهم في أسوأ حال، وأصبحوا يوم الأحد طلعوا إلى أبواب القلعة، وطلبوا من الباشا فرمانًا بالتجريدة على علي بك وصالح بك ومن معهم، وطلبوا مائتى كيس من الميري يصرفونها في اللوازم، فامتنع الباشا عن ذلك وحضر الخبر يوم الإثنين بوصول القادمين إلى غمازة، وكان الوجاقلية وحسن بك جوجو ناصبين خيامهم جهة البساتين فارتحلوا ليلًا وهربوا، وتخبل غزل خليل بك وحسين بك ومن معهما وتحيروا في أمرهم، وتحققوا الإدبار والزوال، وأرسل الباشا إلى الوجاقلية يقول لهم: كل وجاق يلازم بابه.
وفي سابع عشرينه حضر علي بك وصالح بك ومن معهم إلى البساتين، فازداد تحيرهم وطلعوا إلى الأبواب فوجدوها مغلوقة، فرجعوا إلى قراميدان وجلسوا هناك ثم رجعوا، وتسحب تلك الليلة كثير من الأمراء والأجناد وخرجوا إلى جهة علي بك، وكان حسن بك المعروف بجوجو ينافق الطرفين ويراسل علي بك وصالح بك سرًّا ويكاتبهما، وضم إليه بعض الأمرا مثل: قاسم بك خشداشه وإسماعيل بك زوج هانم بنت سيدهم وعلي بك السروجي وجن علي وهو خشداش إبراهيم بك بلفيه، وكثير من أعيان الوجاقلية، ويرسلون لهم الأوراق في داخل الأقصاب التي يشربون فها الدخان ونحو ذلك.
وفي ليلة الخميس تاسع عشرين جمادى الأولى هرب الأمرا الذين بمصر وهم: خليل بك شيخ البلد وأتباعه وحسين بك كشكش وأتباعه وهم نحو عشرة صناجق وصحبتهم مماليكهم وأجنادهم عدة كثيرة، وأصبح يوم الخميس فخرج الأعيان وغيرهم، لملاقاة القادمين ودخل في ذلك اليوم علي بك وصالح بك وصناجقهم ومماليكهم وأتباعهم، وجميع من كان منفيًّا بالصعيد قبل ذلك من أمرا ووجاقلية وغيرهم، وحضر صحبتهم علي كتخدا الخربطلي وخليل بك الأسيوطي وقلده علي بك الصنجقية مجددًا، وضربت النوبة في بيته، ثم أعطاه كشوفية الشرقية وسافر إليها.
وفي يوم الأحد ثاني شهر جمادى الثانية طلع علي بك وصالح بك وباقي الأمرا القادمين، والذين تخلفوا عن الذاهبين مثل حسن بك جوجو وإسماعيل بك زوج هانم وجن علي وعلي بك السروجى وقاسم بك والاختيارية والوجاقلية وغيرهم إلى الديوان بالقلعة، فخلع الباشا على علي بك، واستقر في مشيخة البلد كما كان، وخلع على صناجقه خلع الاستمرار أيضًا في إماراتهم كما كانوا، ونزلوا إلى بيوتهم وثبت قدم علي بك في إمارة مصر ورياستها في هذه المرة، وظهر بعد ذلك الظهور التام وملك الديار المصرية والأقطار الحجازية والبلاد الشامية، وقتل المتمردين وقطع المعاندين وشتت شمل المنافقين وخرق القواعد، وخرم العوايد، وأخرب البيوت القديمة، وأبطل الطرايق التي كانت مستقيمة، ثم إنه حضر سليمان أغا كتخدا الجاويشية وصناجقة إلى مصر، وعزم على نفي بعض الأعيان وإخراجهم من مصر فعلم أنه لا يتمكن من أغراضه مع وجود حسن بك جوجو، وأنه ما دام حيًّا لا يصفوا له حال، فأخذ يدبر على قتله فبيت مع أتباعه على قتله، فحضر حسن بك جوجو وعلي بك جن على عند علي بك، وجلسوا معه حصة من الليل وقام ليذهب إلى بيته فركب وركب معه جن علي ومحمد بك أو الدهب وأيوب بك ليذهبا أيضًا إلى بيوتهما لاتحاد الطريق، فلما صاروا في الطريق التي عند بيت الشابوري خلف جامع قوصون سحبوا سيوفهم، وضربوا حسن بك وقتلوه وقتلوا معه أيضًا جن علي، ورجعوا وأخبروا سيدهم علي بك وذلك ليلة الثلاثاء من شهر رجب من سنة إحدى وثمانين وماية وألف ١٧٦٧م، وأصبح علي بك مالكًا للأبواب، ورسم بنفي قاسم بك وإسماعيل بك أبي مدفع وعبد الرحمن بك وإسماعيل كتخدا عزبان ومحمد كتخدا زنور ومصطفى جاويش تابع مصطفى جاويش الكبير مملوك إبراهيم كتخدا وخليل جاويش درب الحجر.
وفي حادى عشر شهر شوال أخرج أيضًا نحو الثلاثين شخصًا من الأعيان، ونفاهم في البلاد وفيهم ثمانية عشر أميرًا من جماعة الفلاح، وفيهم علي كتخدا وأحمد كتخدا الفلاح وإبراهيم كتخدا مناو وسليمان أغا كتخدا جاووشان الكبير وصناجقه حسن بك أبو كرش ومحمد بك الماوردي وخلافهم مقادم وأوده باشية، فنفي الجميع إلى جهة قبلي وأرسل سليمان أغا كتخدا الجاويشية إلى السويس؛ ليذهب إلى الحجاز من القلزم واستمر هناك إلى أن مات.
وفيه قبض علي بك على الشيخ يوسف بن وحيش وضربه علقة قوية ونفاه إلى بلده جناج، فلم يزل بها إلى أن مات، وكان من دهاة العالم وكان كاتبًا عند عبد الرحمن كتخدا القازدغلي، وله شهرة وسمعة في السعي وقضاء الدعاوي والشكاوي والتحيلات والمداهنات والتلبيسات وغير ذلك.
وفي شهر الحجة وصلت أخبار عن حسين بك كشكش وخليل بك أنهم لما وصلوا إلى غزة جمعوا جموعًا، وأنهم قادمون إلى مصر فشرع علي بك في تشهيل تجريدة عظيمة، وبرزوا وسافروا.
ثم ورد الخبر بعد ثلاثة أيام أنهم عرجوا إلى جهة دمياط، ونهبوا منها شيئًا كثيرًا ثم حضروا إلى المنصورة ونهبوا منها كذلك، فأرسل علي بك يأمر التجريدة بالذهاب إليهم، وأرسل لهم أيضًا عسكرًا من البحر النيل فتلاقوا معهم عند الديرس والجراح من أعمال المنصورة عند سمنود، فوقع بينهم وقعة عظيمة وانهزمت التجريدة وولوا راجعين، وقتل في هذه المعركة سليمان جربجي باش اختيار جمليان وأحمد جربجي طنان جراكسه وعمر أغا جاووشان أمين الشون وكانوا صدور الوجاقات، ولم يزالوا في هزيمتهم إلى دجوة.
فلما وصل الخبر بذلك إلى علي بك اهتم لذلك ونزل الباشا، وخرج إلى قبة باب النصر خارج القاهرة وجمع الوجاقلية والعلماء وأرباب السجاجيد، وأمر الباشا بأن كل من كان وجاقليًّا أو عليه عتامنة يشهل نفسه ويطلع إلى التجريدة أو يخرج عنه بدلًا، واجتهد علي بك في تشهيل تجريدة عظيمة أخرى وكبيرها محمد بك أو الدهب، وسافروا في أوائل المحرم، واجتمعوا بالتجريدة الأولى وسار الجميع خلف حسين بك وخليل بك، ومن معهم وكانوا عدوا إلى بر الغربية بعد أن هزموا التجريدة، فلو قدر الله أنهم لما كسروا التجريدة ساقوا خلفهم كما فعل علي بك وصالح بك لدخلوا إلى مصر من غير مانع، ولكن لم يرد الله تعالى لهم ذلك.
وانقضت هذه السنين وما وقع بها على سبيل الإجمال إذ التفصيل متعذر، وجمع الشوارد في الظلام متعسر، وذلك بحسب الإمكان وما وعاه الفكر والذهن خؤان.