في ذكر رحلة الأستاذ المترجم إلى بيت المقدس
وهو أنه لما أذن له السيد البكري بأخذ العهود وتلقين الذكر لم يقع له تسليك أحد في هذه الطريقة، وإنما كان شغله وتوجهه كله إلى العلم وإقرائه، لكن ذلك بجسمه، وأما قلبه فلم يكن إلا عند شيخه السيد الصديقي، ولم يزل كذلك إلى عام تسع وأربعين فحن جسمه إلى زيارة شيخه وأنشد لسان حاله:
فأرسل إليه السيد يدعوه لزيارته، فهام إذ فهم رمز إشارته، وتعلقت نفسه بالرحيل فترك الإقراء والتدريس وتقشف وسافر إلى أن وصل بالقرب من بيت المقدس، فقيل له: «إذا دخلت بيت المقدس فادخل من الباب الفلاني وصل ركعتين وزر محل كذا»، فقال لهم: أنا ما جيت قاصدًا بيت المقدس وما جيت قاصدًا إلا أستاذي فلا أدخل إلا من بابه ولا أصلي إلا في بيته فعجبوا له فبلغ السيد كلامه، فكان سببًا لإقباله عليه وإمداده، ثم سار حتى دخل بيت المقدس فتوجه إلى بيت الأستاذ فقابله بالرحب والسعة وأفرد له مكانًا، ثم أخذ في المجاهدة من الصلاة والصوم والذكر والعزلة والخلوة. قال: فبينما أنا جالس في الخلوة إذا بداع يدعوني إليه فجيت إليه فوجدت بين يديه مائدة. فقال: أنت صايم؟ قلت: نعم. فقال: كل فامتثلت أمره وأكلت. فقال: اسمع ما أقول لك إن كان مرادك صومًا وصلاةً وجهادًا أو رياضة فليكن ذلك في بلدك، وأما عندنا فلا تشتغل بغيرنا ولا تقيد أوقاتك بما تروم من المجاهدة، وإنما يكون ذلك بحسب الاستطاعة وكل واشرب وانبسط قال: فامتثلت إشارته ومكثت عنده أربعة أشهر كأنها ساعة غير أني لم أفارقه قط خلوة وجلوة. ومنحه في هذه المدة الأسرار وخلع عليه خلع القبول، وتوجه بتاج العرفان وأشهده مشاهد الجمع الأول والثاني، وفرق له فرق الفرق الثاني، فحاز من التداني أسرار المثاني، ثم لما انقضت المدة وأراد العود إلى القاهرة ودعه وما ودعه، وسافر حتى وصل إلى غزة فبلغ خبره أمير تلك القرية، وكانت الطريق مخيفة فوجه معه قافلة ببيرقين من العسكر، فساروا فلقيهم في أثناء الطريق أعراب فخافوهم فقالوا لأهل القافلة: لا تخافوا فلسنا من قطاع الطريق، وإن كنا منهم فلا نقدر نكلمكم وهذا معكم»، وأشاروا إلى الشيخ، ولم يزالوا سايرين حتى انتهوا إلى مكان في أثناء الطريق بعد مجاوزة العريش بنحو يومين، فقيل لهم: إن طريقكم هذا غير مأمون الخطر، ثم تشاوروا فقال لهم أعراب ذلك المكان: نحن نسير معكم ونسلك بكم طريقًا غير هذا، لكن أجعلوا لنا قدرًا من الدراهم نأخذه منكم إذا وصلتم إلى بلبيس، فتوقف الراكب أجمعه، فقال الأستاذ: «أنا أدفع لكم هذا القدر هنالك»، فقالوا: «لا سبيل إلى ذلك، كيف تدفع وأنت وليس لك في القافلة شيء؟ والله ما نأخذ منك شيئا إلا إن ضمنت أهل القافلة» فقبل ذلك، فاتفق الرأي على دفع الدراهم من أرباب التجارات بضمانة الشيخ، فضمنهم وساروا حتى وصلوا إلى بلبيس ثم منها إلى القاهرة، فسرت به أتم سرور، وأقبل عليه الناس من حينئذ أتم قبول، ودانت لطاعته الرقاب وأخذ العهود على العالم، وأدار مجالس الأذكار بالليل والنهار، وأحيا طريق القوم بعد دروسها وأنقذ من ورطة الجهل مهجًا من غي نفوسها، فبلغ هديه الأقطار كلها وصار له في كثير من قرى مصر نقيب وخليفة وتلامذة وأتباع يذكرون الله تعالى، ولم يزل أمره في ازدياد وانتشار حتى بلغ سائر أقطار الأرض وصار الكبار والصغار والنساء والرجال يذكرون الله تعالى بطريقته، وصار خليفة الوقت وقطبه، ولم يبق ولي من أهل عصره إلا أذعن له، وحين تصدى للتسليك وأخذ العهود أقبل عليه الناس من كل فج وكان في بدء الأمر لا يأخذون إلا بالاستخارة والاستشارة وكتابة أسمايهم ونحو ذلك، فكثر الناس عليه وكثر الطلب فأخبر شيخه السيد الصديقى بذلك فقال له: «لا تمنع أحدًا يأخذ عنك ولو نصرانيًّا من غير شرط»، وأسلم على يديه خلق كثير من النصارى، وأول من أخذ عنه الطريق وسلك على يديه الولي الصوفي العالم العلامة المرشد الشيخ أحمد البناء الفوي، ثم تلاه من ذكر وغيرهم، وكان أستاذه السيد يثني عليه ويمدحه ويراسله نظمًا ونثرًا، ويترجمه بالأخ ولولا رآه قسيمًا له في الحال ما صدر عنه ذلك المقال، حتى إنه قال له يومًا: «إني أخشى من دعائكم لي بالأخ؛ لأنه خلاف عادة الأشياخ مع المريدين»، فقال له: «لا تخش من شيء»، وامتدحه أشياخه ومعاصروه وتلامذته، فمن امتدحه أخوه الأوحد العلامة سيدي الشيخ يوسف الحفناوي، فمن ذلك قصيدتان وأثبتهما في ديوانه إحداهما:
وهذه الأخرى:
ونقل عن الوزير المفخم محمد باشا راغب أنه قال لبعض بني السقاف: «إنما لقب جدكم بالسقاف لكونه كان سقفًا على اليمن من البلاء، وكذلك الشيخ يوسف الحفناوي سقف على مصر من نزول البلاء»، ونظيره قول بعض الأمراء حين قيل له: الأستاذ الحفناوي من عجايب مصر قال: «بل قل: من عجايب الدنيا». وللأديب العلامة الشيخ مصطفى اللقيمي في مدحه ومدح السيد البكري معًا:
ولما سمعها السيد البكري وقعت عنده أحسن موقع وهي حرية بذلك، فينبغي أن تحمل ولا تهمل.
وفي المترجم مدايح كثيرة يطول شرحها وذكر بعضها وسيذكر في تراجم أصحابها.
توفي رضي الله عنه يوم السبت قبل الظهر سابع عشرين ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وماية وألف، ودفن يوم الأحد بعد أن صُلي عليه في الأزهر في مشهد عظيم جدًّا، وكان يوم هول كبير، وكان بين وفاته ووفاة الأستاذ الملوي ثلاثة عشر يومًا، ومن ذلك التاريخ ابتدأ نزول البلا واختلال أحوال الديار المصرية، وظهر مصداق قول الراغب: إن وجوده أمان على أهل مصر من نزول البلاء، وهذا من المشاهد المحسوس، وذلك أنه إذا لم يكن في الناس من يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويقيم الهدى فسد نظام العالم وتنافرت القلوب، ومتى تنافرت القلوب نزل البلا، ومن المعلوم المقرر أن صلاح الأمة بالعلما والملوك، وصلاح الملوك تابع لصلاح العلما وفساد اللازم بفساد الملزوم، فما بالك بفقده والرحى لا تدور بدون قطبها، وقد كان رحمه الله قطب رحى الديار المصرية، ولا يتم أمر من أمور الدولة وغيرها إلا باطلاعه وإذنه، ولما شرع الأمرا القايمون بمصر في إخراج التجاريد لعلي بك وصالح بك وأستأذنوه فمنعهم من ذلك، وزجرهم وشنع عليهم ولم يأذن بذلك كما تقدم وعلموا أنه لا يتم قصدهم بدون ذلك فأشغلوا الأستاذ وسموه، فعند ذلك لم يجدوا مانعًا ولا رادعًا، وأخرجوا التجاريد وآل الأمر لخذلانهم وهلاكهم والتمثيل بهم، وملك علي بك وفعل ما بداله فلم يجد رادعًا أيضًا، ونزل البلاء حينئذ بالبلاد المصرية والشامية والحجازية، ولم يزل يتضاعف حتى عم الدنيا وأقطار الأرض، فهذا هو السر الظاهرى وهو لا شك تابع للباطني وهو القيام بحق وراثة النبوة وكمال المتابعة وتمهيد القواعد، وإقامة أعلام الهدى والإسلام وإحكام مباني التقوى؛ لأنهم أمناء الله في العالم، وخلاصة بني آدم، أوليك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون.
ومات شمس الكمال أبو محمد الشيخ/عبد الوهاب بن زين الدين بن عبد الوهاب ابن الشيخ نور بن بايزيد بن شهاب الدين أحمد بن القطب سيدي محمد بن أبي المفاخر داود الشربيني بمصر، ونقلوا جسده إلى شربين ودفن عند جده سامحه الله وتجاوز عن سيآته، وتولى بعده في خلافتهم أخوه الشيخ محمد ولهما أخ ثالث اسمه علي، وكانت وفاة المترجم ليلة الأحد غرة ذي القعدة سنة إحدى وثمانين وماية وألف.
ومات الشيخ الإمام العلامة المتقن المتفنن الفقيه الأصولي النحوي الشيخ/محمد بن موسى العبيدي الفارسكوري الشافعي، وأصله من فارسكور، أخذ عن الشيخ علي قايتباي والشيخ الدفري والبشبيشي والنفراوي، وكان آية في المعارف والزهد والورع والتصوف، وكان يلقي دروسًا بجامع قوصون على طريقة الشيخ العزيزي والدمياطي، وبآخرة توجه إلى الحجاز وجاوز به سنة، وألقى هناك دروسًا وانتفع به جماعة، ومات بمكة وكان له مشهد عظيم، ودفن عند السيدة خديجة رضي الله عنها.
ومات الشيخ الإمام العلامة مفيد الطالبين الشيخ/أحمد أبو عامر النفراوي المالكي، أخذ الفقه عن الشيخ سالم النفراوي والشيخ البليدي والطحلاوي، والمعقول عنهم والشيخ الملوي والحفني والشيخ عيسى البراوي، وبرع في المعقول والمنقول، ودرس وأفاد وانتفع به الطلبة، وكان درسه حافلًا، وله حظوة في كثرة الطلبة والتلاميذ، توفي سنة إحدى وثمانين وماية وألف أيضًا.
ومات الأمير حسن بك جوجو، وجن علي بك وهما من مماليك إبراهيم كتخدا، وكان حسن مذبذبًا ومنافقًا بين حشداشينه يوالي هؤلاء ظاهرًا وينافق الآخرين سرًّا، وتعصب مع حسين بك وخليل بك حتى أخرجوا علي بك إلى النوسات، ثم صار يراسله سرًّا ويعلمه بأحوالهم وأسرارهم، إلى أن تحول إلى قبلي وانضم إلى صالح بك فأخذ يستميل متكلمي الوجاقلية إلى أن كانوا يكتبون لأغراضهم بقبلي، ويرسلون المكاتبات في داخل أقصاب الدخان وغيرها، وهو مع من بمصر في الحركات والسكنات إلى أن حضر علي بك وصالح بك وكان هو ناصبًا وطاقه معهم جهة البساتين، فلما أرادوا الارتحال استمر مكانه وتخلف عنهم، وبقي مع علي بك بمصر يشار إليه ويرى لنفسه المنة عليه، وربما حدثته نفسه بالإمارة دونه، وتحقق علي بك أنه لا يتمكن من أغراضه وتمهيد الأمر لنفسه ما دام حسن بك موجودًا، فكتم أمره وأخذ يدبر على قتله، فبيت مع أتباعه محمد بك وأيوب بك وخشداشينهم، وتوافقوا على اغتياله، فلما كان ليلة الثلاثاء ثامن شهر رجب حضر حسن بك المذكور وكذا خشداشه جن علي بك وسمرا معه حصة من الليل، ثم ركبا فركب صحبتهما محمد بك وأيوب بك ومماليكهما، واغتالوهما في أثنار الطريق كما تقدم.
ومات الأمير رضوان جربجي الرزاز وأصله مملوك حسن كتخدا ابن الأمير خليل أغا، وأصل خليل أغا هذا شاب تركي خردجي يبيع الخردة، دخل يومًا من بيت لاجين بك الذي عند السويقة المعروفة بسويقة لاجين وهو بيت عبد الرحمن أغا المتخرب الآن، وكان ينفذ من الجهتين فرآه لاجين بك فمال قلبه إليه، ونظر فيه بالفراسة مخايل النجابة فدعاه للمقام عنده في خدمته فأجاب لذلك، واستمر في خدمته مدة وترقى عنده، ثم عينه لسد جسر ثرساج ووعده بالإكرام إن هو اجتهد في سده على ما ينبغي، فنزل إليه وساعدته العناية حتى سده وأحكمه ورجع، ثم عينه لجبي الخراج وكان لا يحصل له الخراج إلا بالمشقة، وتبقى البواقي على البواقي القديمة في كل سنة، فلما نزل وكان في أوان حصاد الأرز فوزن من المزارعين شعير الأرز من المال الجديد والبواقي أول بأول، وشطب جميع ذلك من غير ضرر ولا أذية، وجمعه وخزنه، واتفق أنه غلا ثمنه في تلك السنة غلوًّا زايدًا عن المعتاد فباعه بمبلغ عظيم ورجع لسيده بصناديق المال، فقال: «ما هذا؟» فقال: هو «مالك الذي أرسلتني لإحضاره» وعرفه الأمر، فقال: «لا آخذ إلا حقي وأما الربح فهو لك»، فأخذ قدر ماله وأعطاه الباقي، فذهب واشترى لمخدومه جارية مليحة وأهداها له فلم يقبلها وردها إليه وأعطى له البيت الذي بالتبانة، ونزل له عن طصفة وكفرها ومنية تمامه، وصار من الأمراء المعدودين، فولد الخليل هذا حسن كتخدا ومصطفى كتخدا، كانا أميرين كبيرين معدودين بمصر، ومماليكه صالح كتخدا وعبد الله جربجي وإبراهيم خربجي وغيرهم ومن مماليكه حسن حسين جربجي المعروف بالفحل ورضوان جربجي هذا المترجم وغيرهما أكثر من الماية أمير، وكان رضوان جربجي هذا من الأمراء الخيرين الدينين له مكارم أخلاق وبر ومعروف، ولما نفى علي بك عبد الرحمن كتخدا، فنفاه أيضًا وأخرجه من مصر ثم إن علي بك ذهب يومًا عند سليمان أغا كتخدا الجاويشية، فعاتبه على نفي رضوان جربجى فقال له علي بك: «تعاتبني على نفي رضوان ولا تعاتبني على نفي ابنك عبد الرحمن كتخدا؟» فقال: «ابني المذكور منافق يسعى في إثارة الفتن ويلقى بين الناس فهو يستاهل، وأما هذا فهو إنسان طيب وما علمنا عليه ما يشينه في دينه ولا دنياه»، فقال: «نرده لأجل خاطرك وخاطره»، ورده ولم يزل في سيادته حتى مات على فراشه سادس جمادى الأولى في هذه السنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.