سنة اثنتين وثمانين وماية وألف/١٧٦٨م
(استهل شهر المحرم بيوم الأربعاء) في ثانيه سافرت التجريدة المعينة إلى بحري بسبب الأمراء المتقدم ذكرهم وهم: حسين بك وخليل بك ومن معهم، وقد بذل جهده علي بك حتى شهل أمرها ولوازمها في أسرع وقت، وسافرت في يوم الخميس وأميرها وسر عسكرها محمد بك أبو الدهب، فلما وصلوا إلى ناحية دجوة وجدوهم عدوا إلى منية الخضر فعدوا خلفهم، فوجدوهم ذهبوا إلى طندتا وكرنكوابها، فتبعوهم إلى هناك وأحاطوا بالبلدة من كل جهة ووقع الحرب بينهم في منتصف شهر المحرم، فلم يزل الحرب قايمًا بين الفريقين حتى فرغ ما عندهم من الجبخانة والبارود، فعند ذلك أرسلوا إلى محمد بك وطلبوا منه الأمان فأعطاهم الأمان وارتفع الحرب من بين الفريقين، وكاتبهم محمد بك وخادعهم والتزم لهم بإجراء الصلح بينهم وبين مخدومه علي بك، فانخدعوا له وصدقوه وانحلت عزايمهم واختلفت آراؤهم وسكن الحال تلك الليلة، ثم إن محمد بك أرسل في ثاني يوم إلى حسين بك يستدعيه ليعمل معه مشورة، فحضر عنده بمفرده وصحبته خليل بك السكران تابعه فقط، فلما وصلوا إلى مجلسه ودخلوا إليه فلم يجدوه، فعندنا استقربهما الجلوس دخل عليهما جماعة وقتلوهما، وحضر في إثرهما حسن بك شبكة ولم يعلم ما جرى لسيده، فلما قرب من المكان أحس قلبه بالشر، فأراد الرجوع فعاقه رجل سايس يسمى مرزوق وضربه بنبوت فوقع إلى الأرض، فلحقه بعض الجند واحتز رأسه، فلما علم بذلك خليل بك الكبير ومن معه ذهبوا إلى ضريح سيدي أحمد البدوي والتجأوا إلى قبره، واشتد بهم الخوف وعلموا أنهم لاحقون بإخوانهم، فلما فعلوا ذلك لم يقتلوهم، وأرسل محمد بك يستشير سيده في أمر خليل بك ومن معه، فأمر بنفيه إلى ثغر سكندرية وخنقوه بعد ذلك بها، ورجع محمد بك وصالح بك والتجريدة ودخلوا المدينة من باب النصرفي موكب عظيم، وأمامهم الروس محمولة في صوان من فضة والخدم يقولون: «صلوا على محمد» وصالح بك ظاهر بوجهه الانقباض والتعبيس، وعدتها ستة روس وهي: رأس حسين بك وخليل بك السكران وحسن بك شبكة وحمزة بك وإسماعيل بك أبي مدفع وسليمان أغا الوالي، وذلك يومًا الجمعة سابع عشر المحرم.
(وفي يوم الثلاثاء رابع عشر صفر) حضر نجاب الحج واطمأن الناس، وفي ويوم الجمعة سابع عشره وصل الحجاج بالسلامة ودخلوا المدينة وأمير الحاج خليل بك بلفيه، وسر الناس بسلامة الحجاج، وكانوا يظنون تعبهم بسبب هذه الحركات والوقايع.
(وفي ثامن عشر صفر) أخرج علي بك جملة من الأمراء من مصر، ونفى بعضهم إلى الصعيد وبعضهم إلى الحجاز وأرسل البعض إلى الفيوم، وفيهم محمد كتخدا تابع عبد الله كتخدا وقرا حسن كتخدا وعبد الله كتخدا تابع مصطفى باش اختيار مستحفظان وسليمان جاويش ومحمد كتخدا الجردلي وحسن أفندي الباقرجي، وبعض أوده باشية وعلي جربجي وعلي أفندي الشريف جمليان. (وفيه) صرف علي بك مواجب الجامكية. (وفيه) أرسل علي بك وقبض على أولاد سعد الخادم بضريح سيدي أحمد البدوي وصادرهم وأخذ منهم أموالًا عظيمة لا يقدر قدرها، وأخرجهم من البلد ومنعهم من سكناها ومن خدمة المقام الأحمدي وأرسل الحاج حسن عبد المعطي وقيده بالسدنة عوضًا عن المذكورين، وشرع في بناء الجامع والقبة والسبيل والقيسارية العظيمة، وأبطل منها مظالم أولاد الخادم والهمل والنشالين والحرمية والعيارين وضمان البغايا والخواطي وغير ذلك.
وفي تاسع شهر ربيع الأول حضر قابجي من الديار الرومية بمرسوم وقفطان وسيف لعلي بك من الدولة.
(وفيه) وصلت الأخبار بموت خليل بك الكبير بثغر سكندرية مخنوقًا (وفي يوم السبت ثاني عشره) نزل الباشا إلى بيت علي بك باستدعا، فتغدى عنده وقدم له تقادم وهدايا.
(وفي يوم الأحد ثاني عشر ربيع الآخر) اجتمع الأمراء بمنزل علي بك على العادة، وفيهم صالح بك وقد كان علي بك بيت مع أتباعه على قتل صالح بك، فلما انقضى المجلس وركب صالح بك ركب معه محمد بك وأيوب بك ورضوان بك وأحمد بك بشناق المعروف بالجزار وحسن بك الجداوي وعلي بك الطنطاوي، وأحدق الجميع بصالح بك ومن خلفهم الجند والمماليك والطوايف، فلما وصلوا إلى مضيق الطريق عند المفارق بسويقة عصفور تأخر محمد بك، ومن معه عن صالح بك قليلًا، وأحدث له محمد بك حماقة مع سايسه وسحب سيفه من غمده سريعًا، وضرب صالح بك وسحب الآخرون سيوفهم ما عدا أحمد بك بشناق، وكملوا قتلته ووقع طريحًا على الأرض، ورمح الجماعة الضاربون وطوايفهم إلى القلعة، وعندما رأوا مماليك صالح بك وأتباعه ما نزل بسيدهم خرجوا على وجوههم، ولما استقر الجماعة القاتلون بالقلعة وجلسوا مع بعضهم يتحدثون عاتبوا أحمد بك بشناق في عدم ضربه معهم صالح بك وقالوا له: «لماذا لم تجرد سيفك وتضرب مثلنا؟» قال: «بل ضربت معكم» فكذبوه فقال له بعضهم: «أرنا سيفك» فامتنع وقال: «إن سيفي لا يخرج من غمده لأجل الفرجة»، ثم سكتوا وأخذ في نفسه منهم وعلم أنهم سيخبرون سيدهم بذلك فلا يأمن غايلته، وذلك أن أحمد بك هذا لم يكن مملوك لعلي بك وإنما كان أصله من بلاد بشناق حضر إلى مصر في جملة أتباع على باشا الحكيم، عندما كان واليًا على مصر في سنة تسع وستين وماية وألف، فأقام في خدمته إلى سنة إحدى وسبعين وماية ألف، وتلبس صالح بك بإمارة الحج في ذلك التاريخ، فاستأذن أحمد بك المذكور علي باشا في الحج وأذن له في الحج فحج مع صالح بك وأكرمه وأحبه وألبسه زي المصريين ورجع صحبته، وتنقلت به الأحوال وخدم عند عبد الله بك علي، ثم خدم عند علي بك فأعجبه شجاعته وفروسيته فرقاه في المناصب حتى قلده الصنجقية، وصار من الأمراء المعدودين فلم يزل يراعي منه صالح بك السابقة عليه، فلما عزم علي بك على خيانة صالح بك السابقة وغدره خصصه بالذكر، وأوصاه أن يكون أول ضارب فيه لما علمه فيه من العصبة له، فقبل له: إن أحمد بك أسر ذلك إلى صالح بك وحذره غدر علي بك إياه فلم يصدقه لما بينهما من العهود والأيمان والمواثيق، ولم يحصل منه ما يوجب ذلك ولم يعارضه في شي ولم ينكر عليه فعلًا، فلما اختلى صالح بك بعلي بك أشار إليه بما بلغه، فحلف له علي بك بأن ذلك نفاق من المخبر ولم يعلم من هو، فلما حصل ما حصل ورأى الجزار مراقبة الجماعة له ومناقشتهم له عند استقرارهم بالقلعة، تخيل وداخله الوهم وتحقق في ظنه تجسم القضية، فلما نزلوا من القلعة وانصرفوا إلى منازلهم تفكر تلك الليلة وخرج من مصر وذهب إلى الإسكندرية، وأوصى حريمه بكتمان أمره ما أمكنهم حتى يتباعد عن مصر، فلما تأخر حضوره بمنزل علي بك وركو به سألوا عنه فقيل له: إنه متوعك، فحضر إليه في ثاني يوم محمد بك ليعوده وطلب الدخول إليه فلم يمكنهم منعه، فدخل إلى محل مبيته فلم يجده في فرشه، فسأل عنه حريمه فقالو: «لا نعلم له محلًّا ولم يأذن لأحد بالدخول عليه». وفتشوا عليه فلم يجدوه، وأرسل علي بك عبد الرحمن أغا وأمره بالتفتيش عليه وقتله، فأحاط بالبيت وهو بيت شكربره وفتش عليه في البيت والخطة فلم يجده، وهو قد كان هرب ليلة الواقعة في صورة جزايرلي مغربي وقصقص لحيته وسعى بمفرده إلى شلقان، وسافر إلى بحري ووصل السعاة بخبره لعلي بك بأنه بالأسكندرية، فأرسل بالقبض عليه فوجدوه نزل بالقبطانة واحتمى بها وكان أمره ما كان بعد ذلك كما يأتي، وهو أحمد باشا الجزار الشهير الذكر الذي تملك عكا وتولى الشام وإمارة الحج الشامي وطار صيته في الممالك.
(وفيه) عين علي بك تجريدة على سويلم بن حبيب وعرب الجزيزة، فنزل محمد بك بتجريدة إلى عرب الجزيرة، وأيوب بك إلى سويلم، فلما ذهب أيوب بك إلى دجوة فلم يجد بها أحدًا، وكان سويلم بايتًا في سندنهور وباقي الحبايبة متفرقين في البلاد، فلما وصله الخبر ركب من سندنهور وهرب بمن معه إلى البحيرة، والتجأ إلى الهنادي ونهبوا دوايره ومواشيه، وحضروا بالمنهويات إلى مصر، واحتج عليه بسبب واقعة حسين بك وخليل بك لما أتيا إلى دجوة بعد واقعة الديرس والجراح، وقدم لهم التقادم وساعدهم بالكلف والذبايح ونحو ذلك، والغرض الباطني اجتهاده في إزالة أصحاب المظاهر كاينًا ما كان.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: أمر علي بك بإخراج على كتخدا الخربطلي منفيًّا، وكذلك يوسف كتخدا مملوكه ونفي حسن أفندي درب الشمسي وإخوته إلى السويس ليذهبوا إلى الحجاز، وسليمان كتخدا الجلفي وعثمان كتخدا عزبان المنفوخ، وكان خليل بك السيوطي بالشرقية، فلما سمع بقتل صالح بك هرب إلى غزة.
وفي يوم الأحد خامس جمادى الأولى طلع علي بك إلى القلعة وقلد ثلاثة صناجق من أتباعه وكذلك وجاقلية، وقلد أيوب بك تابعه ولاية جرجا وحسن بك رضوان أمير حج وقلد الوالي.
وفي جمادى الآخرة قلد إسماعيل بك الدفتردارية، وصرف المواجب في ذلك اليوم.
وفي منتصف شهر رجب وصل أغا من الديار الرومية، وعلى يده مرسوم بطلب عسكر للسفر فاجتمعوا بالديوان وقروا المرسوم وكان علي بك أحضر سليمان بك الشابوري من نفيته بناحية المنصورة، وكان منفيًّا هناك من سنة اثنتين وسبعين وماية وألف.
وفي يوم الثلاثاء عملوا الديوان بالقلعة، ولبسوا سليمان بك الشابوري أمير السفر الموجه إلى الروم وأخذوا في تشهيله، وسافر محمد بك أبو الذهب بتجريدة ومعه جملة من الصناجق والمقاتلين لمنابذة شيخ العرب همام، فلما قربوا من بلاه ترددت بينهم الرسل، واصطلحوا معه على أن يكون لشيخ العرب همام من حدود برديس ولا يتعدى حكمه لما بعدها، واتفقوا على ذلك، ثم بلغ شيخ العرب أنه ولد لمحمد بك مولود فأرسل له بالتجاوز عن برديس أيضًا إنعامًا منه للمولود، ورجع محمد بك ومن معه إلى مصر، وفيه قبض علي بك على الشيخ أحمد الكتبي المعروف بالسقط، وضربه علقة قوية وأمر بنفيه إلى قبرص، فلما نزل إلى البحر الرومي ذهب إلى إسلامبول وصاهر حسن أفندي قطة مسكين المنجم وأقام هناك إلى أن مات، وكان المذكور من دهات العالم يسعى في القضايا والدعاوي يحيى الباطل ويبطل الحق بحسن سبكة وتداخله.
وفي سابع عشره حصلت قلقة من جهة والى مصر محمد باشا، وكان أراد أن يحدث حركة ضد علي بك فوشى به كتخداه عبد الله بك إلى علي بك فأصبحوا وملكوا الأبواب والرميلة والمحجر وحوالى القلعة وأمروه بالنزول، فنزل من باب الميدان إلى بيت أحمد بك كشك وأجلسوا عنده الحرسجية.
(وفي يوم الأحد غرة شعبان) تقلد علي بك قايممقامية عوضًا عن الباشا.
(وفي يوم الخميس) أرسل علي بك عبد الرحمن أغا مستحفظان إلى رجل من الأجناد يسمى إسماعيل أغا من القاسمية وأمره بقتله، وكان إسماعيل هذا منفيًّا جهة بحري وحضر إلى مصر قبل ذلك، وأقام ببيته جهة الصليبة وكان مشهورًا بالشجاعة والفروسية والإقدام، فلما وصل الأغا حذا بيته وطلبه، ونظر إلى الأغا واقفًا بأتباعه ينتظره علم أنه يطلبه ليقتله كغيره؛ لأنه تقدم قتله لأناس كثيرة على هذا النسق بأمرة علي بك، فامتنع من النزول وغلق بابه ولم يكن عنده أحد سوى زوجته، وهي أيضًا جارية تركية وعمر بندقيته وقرابينته وضرب عليهم فلم يستطيعوا العبور إليه من الباب، وصارت زوجته تعمر له وهو يضرب حتى قتل منهم أناسًا وانجرح كذلك، واستمر على ذلك يومين وهو يحارب وحده، وتكاثروا عليه وقتلوا من أتباعه وهو ممتنع عليهم إلى أن فرغ منه البارود والرصاص ونادوه بالأمان فصدقهم، ونزل من الدرج فوقف له شخص وضربه وهو نازل من الدرج وتكاثروا عليه وقتلوه وقطعوا راسه ظلمًا، رحمه الله تعالى.
(وفي تاسع عشرة) صرفت المواجب على الناس والفقراء.
(وفي ثامن عشرينه) خرج موكب السفر الموجه إلى الروم في تجمل زائد.
(وفي عاشر رمضان) قبض علي بك على المعلم إسحق اليهودي معلم الديوان ببولاق، وأخذ منه أربعين وألف محبوب ذهب وضربه حتى مات، وكذلك صادر أناسًا كثيرة في أموالهم من التجار مثل العشوبي والكهن وغيرهما، وهو الذي ابتدع المصادرات وسلب الأموال من مبادى ظهوره، واقتدى به من بعده.
(وفي شوال) هيأ علي بك هدية حافلةً وخيولًا مصرية جيادًا وأرسلها إلى إسلامبول للسلطان ورجال الدولة، وكان المتسفر بذلك إبراهيم أغا سراج باشا وكتب مكاتبات إلى الدولة ورجالها، والتمس من الشيخ الوالد أن يكتب له أيضًا مكاتبات لما يعتقده من قبول كلامه وإشارته عندهم، ومضمون ذلك الشكوى من عثمان بك ابن العظم والي الشام، وطلب عزله عنها بسبب انضمام بعض المصريين المطرودين إليه ومعاونته لهم، وطلب منه أن يرسل الشيخ عبد الرحمن العريشي ومحمد أفندي البرلى، فسافروا مع الهدية وغرضه بذلك وضع قدمه بالقطر الشامي أيضًا.
(وفي ثاني عشر ذي العقدة) رسم بنفي جماعة من الأمرا أيضًا، وفيهم إبراهيم أغا الساعي اختيار متفرقة وإسماعيل أفندي جاويشان وخليل أغاباش جاويشان جمليان وباشجاويش تفكجيان ومحمد أفندي جراكسة ورضوان بك تابع حسن بك رضوان والزعفراني، فأرسل منهم إلى دمياط ورشيد واسكندرية وقبلي، وأخذ منهم دراهم قبل خروجهم واستولى على بلادهم وفرقها في أتباعه، وكانت هذه طريقته فيمن يخرجه، يستصفي أموالهم أولًا ثم يخرجهم ويأخذ بلادهم وأقطاعهم فيفرقها على مماليكه وأتباعه، الذين يؤمرهم في مكانهم، ونفى أيضًا إبراهيم كتخدا جدك وابنه محمد إلى رشيد وكان إبراهيم هذا كتخدا. ثم عزله وولاه الحسبة فلما نفاه ولي مكانه في الحسبة مصطفى أغا، والله أعلم.
وأما من مات في هذه السنة من المشايخ والأعيان
على البصري والنخلي أوايل الكتب الستة والإجازة العامة مع حديث الرحمة بشرطه. وعلى الإطفيحي بعض كتب الفقه والحديث والتصوف والإجازة العامة. وعلي السجلماسي في سنة ست وعشرين وماية وألف الكبرى للسنوسي، ومختصره المنطقي وشرحه وبعض تلخيص القزويني وأول البخاري إلى كتاب الغسل وبعض الحكم العطانية وأجازه. وعلى ابن زكري أوايل الستة وأجازه. وعلى الكنكسي الصحيح بطرفيه وشرح العقايد للسعد وعقايد السنوسي وشروحها وشرح التسهيل لابن مالك إلى آخره، وشروح الألفيه للمكودي والمطول بتمامة وشرح التلخيص، وعلى الهشتوكي الإجازة بسائرها. وعلى النفراوي شرح التلخيص مرارًا وشرح ألفية المصطلح وشرح الورقات. وعلى الديوي شرح المنهج لشيخ الإسلام مرارًا وشرح التحرير وشرح ألفية ابن الهايم، وشرح التلخيص وشرح ابن عقيل على الألفية وشرح الجزرية. وعلى المنوفي جمع الجوامع وشرحه للمحلي وشرح التلخيص. وعلى ابن الفقيه شرح التحرير وشرح الخطيب مرارًا وشرح العقايد النسفية وشرح التلخيص والخبيصي. وعلى الطوخي شرح الخطيب وابن قاسم مرارًا وشرح الجوهرة لعبد السلام. وعلى الخليفي البخاري وشرح التلخيص والأشموني والمصام وشرح الورقات. وعلى الحصيني شرح الكبرى للسنوسي بتمامة وعلى الشبرخيتي شرح الرحبية وشرح الآجرومية وغيرهما. وعلى الورزازي شرح الكبرى بتمامة. مرارًا وشرح الصغرى وشرح مختصر السنوسي والتفسير وغيره. وعلى البشيشي المنهج مرارًا وجمع الجوامع مرارًا والتلخيص، وألفيه المصطلح والشمايل وشرح التحرير لزكريا وغيره.
هذا نص ما وجدته بخطه، واجتمع بالقطب سيدي أحمد بن ناصر فأجازه لفظًا وكتابة، وممن أجازه أبو المواهب البكري وأحمد البناء وأبو السعود الدنجيهي وعبد الحي الشرنبلالي ومحمد بن عبد الرحمن المليجي. وفي الحرمين عمر بن عبد الكريم الخلخالي حضر دروسه وسمع منه المسلسل بالأولية بشرطه. وتوجه بآخره إلى الحرمين بأهله وعياله وألقى الدروس، وانتفع به الواردون ثم عاد إلى مصر فانجمع عن الناس، وانقطع في منزله يزار ويتبرك به وله تآليف منها منقذة العبيد عن ربقة التقليد في التوحيد، وحاشية على عبد السلام، ورسالة في الأولية وأخرى في حياة الأنبياء في قبورهم وأخرى في الغرانيق وغيرها.
وكانت وفاته وقت الغروب يوم الأربعاء ثامن جمادى الأولى من السنة، وجهز بصباحه وصُلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد حافل ودفن بالزواية القادرية داخل درب شمس الدولة، رحمه الله. ورثاه نادرة العصر العلامة الشيخ مصطفى بن أحمد الصاوي بهذه القصيدة الفريدة، وهي:
ورثاه الشيخ عبد الله الإدكاوي بقصيدة بيت تاريخها:
(ومات) الإمام العالم العلامة الحبر الفهامة الفقيه الدراكة الأصوالي النحوي شيخ الإسلام وعمدة ذوي الأفهام الشيخ عيسى بن محمد الزيبري البراوي الشافعي الأزهري، ورد الجامع الأزهر وهو صغير فقرأ العلم على مشايخ وقته وتفقه على الشيخ مصطفى العزيزي وابن الفقيه، وحضر دروس الملوي والجوهري والشبراوي، وأنجب وشهد له بالفضل أهل عصره، وقرأ الدروس في الفقه وأحدقت به الطلبة، واتسعت حلقته واشتهر بحفظ الفروع الفقهيه حتى لقب بالشافعي الصغير لكثرة استحضاره في الفقه وجودة تقريره، وانتفع به طلبة العصر طبقة بعد طبقة وصاروا مدرسين، وروى الحديث عن الشيخ محمد الدفري، وكان حسن الاعتقاد في الشيخ عبد الوهاب العفيفي وفي ساير الصلحاء، وله مؤلفات مقبولة منها حاشية على شرح الجوهرة في التوحيد، وشرح على الجامع الصغير للسيوطي في مجلد، يذكر في كل حديث ما يتعلق بالفقه خاصة، ولا زال يملي ويفيد ويدرس ويعيد حتى توفي سحر ليلة الإثنين رابع رجب، وجهز في صباحه وصُلِّي عليه بالأزهر بمشهد حافل ودفن بالمجاورين وبني على قبره مزار ومقام، واستقر مكانه في التصدر تدريس ابنه العلامة الشيخ أحمد، ولازم حضوره تلامذة أبيه، رحمه الله.
ومات الأمام العلامة الفقيه، واللوذعي الذكي النبيه، عمدة المحققين ومفتي المسلمين الشيخ حسن بن نور الدين المقدسي الحنفي الأزهري، تفقه على شيخ وقته الشيخ سليمان المنصوري والشيخ محمد عبد العزيز الزيادي وحضر دروس الشيخ مصطفى العزيزي والسيد على الضرير والملوي والجوهرى والحفني والبليدى وغيرهم، ودرس بالجامع الأزهر في حياة شيوخه ولما بنى الأمير عثمان كتخدا مسجده بالأزبكية جعله خطيبًا وإمامًا به، وسكن في منزل قرب الجامع وراج أمره، ولما شغر فتوى الحنفية بموت الشيخ سليمان المنصوري جعل شيخ الحنفية، بعناية عبد الرحمن كتخدا وكان له به ألفه، ثم ابتنى منزلًا نفيسًا مشرفًا على بركة الأزبكية بمساعدة بعض الأمراء، واشتهر أمره ودرس بعدة أماكن كالصرغتمشية المشروطة لشيخ الحنفية والمدرسة المحمودية والشيخ مطهر وغيرها، وألف متنًا في فقه المذهب ذكر فيه الراجح من الأقوال، واقتنى كتبًا نفيسة بديعة الأمثال، وكان عنده ذوق وألفة ولطافة وأخلاق مهذبة، ومن كلامه ما كتبه على رسالة ألمعية للشيخ العيدروس:
توفي يوم الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة من السنة.
مات الإمام العلامة أحد أذكياء العصر ونجباء الدهر الشيخ محمد بن بدر الدين الشافعي سبط الشمس الشرنبابلي، ولد قبل القرن بقليل وأجازه جده وحضر بنفسه على شيوخ وقته، كالشيخ عبد ربه الديوي والشيخ مصطفى العزيزي وسيدي عبد الله الكنكسي والسيد علي الحنفي والشيخ الملوي في آخرين، وباحث وناضل وألف وأفاد، وله سليقه في الشعر جيدة وكلامه موجود بين أيدي الناس، وله ميل لعلم اللغة ومعرفة بالأنساب، غير أنه كان كثير الوقيعة في الشيخ محيى الدين ابن عربي، قدس الله سره، وألف عدة رسايل في الرد عليه وكان يباحث بعض أهل العلم فيما يتعلق بذلك فينصحونه، ويمنعونه من الكلام في ذلك فيعترف تارة وينكر أخرى ولا يثبت على اعترافه، وبلغني أنه ألف مرة رسالة في الرد عليه في ليلة من الليالي ونام، فاحترق منزله بالنار واحترقت تلك الرسالة من جملة ما احترق من الكتب، ومع ذلك فلم يرجع عما كان عليه من التعصب، وربما تعصب لمذهبه فيتكلم في بعض مسايل مع الحنفية، ويرتب عليها أسئلة ويغض عنهم، ولما كان عليه مما ذكر لم يخل حاله عن ضيق وهيئته عن رثائة، وأنشد بيتين سمعتهما من الشيخ محمد ابن الشيخ محمد الدفري، رحمه الله قال:
(ومن قوله):
وله في تاريخ وفاة شيخ القراء المقام الشافعي الشيخ عمر الدعوجي.
الحمد لله حق حمده، وصلى الله وسلم على من لا نبي من بعده (أما بعد)، فقد طال الخلاف وانتشر في تعلق القدرة الأزلية بالأمور الاغتبارية، فمن قايل: بالتعلق ومن قايل: بنفيه، وأقول: هذ المسيلة وإن انتشر الخلاف فيها تنبني على خلاف آخر، وهو أن الحادث لا بد وأن يكون موجودًا أو هو أعم من ذلك، والعموم هو معتقدنا تبعًا لمحققي أئمتنا، وعليه فالاعتقاد الذي ينبغي التعويل عليه عموم تعلق القدرة بالحوادث جميعها، موجودها بالوجود الحقيقي وموجودها بالوجود المجازي، ويؤيده أن الاحوال الحادثة لم تدخل في عبارة القوم مع أن مرادهم عموم التعلق لها قطعًا، غايته أن عبارتهم إما مبنية على الغالب المتفق عليه أو مؤوله بأن يراد بالموجود الثابت، فيعم الأحوال الحادثة بناء على ثبوتها أو يراد به الموجود حقيقة أو مجازًا فيشمل ما ذكر، كالأمور الاعتبارية فإنها موجوده باعتبار المعتبر، ولا بد لها من موجد وإن كان ذلك مسمى الإيجاد مجازًا لا حقيقة، لما تقرر أنها من جملة الحوادث، وأن اسم الحادث يشملها فدخلت حينئذ في القاعدة الكلية، أعني كل حادث لا بد له من محدث المسلمة المرضية، ويؤيد اعتبار بقية الموجودات ما صرحوا به من أن الموجودات أربعة: وجود في الأعيان وهو الوجود الحقيقي، ووجود في الأذهان وهو الوجود المجازي، ووجود في العبارة ووجود في الرقم وهما مجازيان أيضًا، يعني أن إطلاق اسم الوجود على ما عدا الأول على طريق المشابهة بين الوجود الحقيقي بينها، وذلك أمارة الاحتياج إلى الموجد، وأنه يوجد بالايحاد الحقيقي تارة وبالمجازي أخرى، لا يقال: إنه معدوم في نفس الأمر، وإن أطلق عليه اسم الوجود تنزيلًا كما هو شأن المجاز من صحة النفي فيه حقيقة؛ لأنا نقول: إن تلك المشابهة التي اقتضت تنزيله منزلة الموجود رقته من حضيض العدم المحض إلى ذروة مقابلة، فوجب التعلق والإيجاد، لكن على سبيل المجاز أيضًا لا على سبيل الحقيقة، وإلا لزم مجازيه المتعلق دون المتعلق، وذلك لا يعقل، نعم لا محذور في تسليم أن التعلق بإثباته حقيقي؛ لأنه ليس المجاز فيه، لكن هل ذلك الإثبات في نفس الأمر أو في اعتبار المعتبر أو فيهما يأتي بما فيه؟ وبالجملة فالتعلق له وجه وجيه، ومما يؤيده أيضًا أن العبد ينسب الفعل له، ويضاف إليه وإن كان إيجاده له مجازيًّا أي: شرعًا وإلا فهو حقيقة لغوية بحيث يطلق عليه اسم الموجود مجازًا، فنسبة الأشياء الموجدة بالوجود المجازي إلى الفاعل الحقيقي أولى وأحرى، وأيضًا لو سيل المنكر إضافتها إليه من الذي حصل هذه الأشياء في ذهن المعتبر حتى حصلت؟ لم يسعه إنكار النسبة إليه تعالى فإنه يقر بنسبتها إلى المعتبر، فكيف لا يقر بنسبتها إلى الفاعل الحقيقي جلا وعلا؟ وإن كان التأثير ثابتًا في الإعدام ففي الوجود والاعتبارات من باب أولى، وقد سألت شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى سيدي أحمد الملوي عن هذه المسلة فقال: «الخلاف فيها ثابت لا شبهة فيه، غير أن الأدب إضافتها إلى الله تعالى ونقله عن المحققين فانظره، لكن أورد عليه أن صفات الأفعال عندنا أمور اعتبارية، وهي عبارة عن تعلق القدرة التنجيزي الحادت فيلزم أن يحتاج التعلق إلى تعلق وهكذا فيتسلسل وهو محال، وأجيب على تسليم أنها عين التعلق بأنه لا محذور فيه بالنسبة للأمور الاعتبارية؛ لأنها تنقطع بانقطاع الاعتبار، فلم يكن التسلسل فيها حقيقيًّا حتى يمتنع، نعم يرد لو قلنا: بأنها ثابتة في نفس الأمر مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر بأن يراد بنفس الأمر ما هو أعم من الخارج، وهو أن يكون الثبوت فيه ثبوت الشيء في نفسه بقطع النظر عن تعقل العاقل وذهن الذاهن كأبوة زيد لعمرو مثلًا، فإنها ثابتة اعتبرها معتبر أم لا فاعلمه.
على أن الاشكال وارد في التعلقات وإن لم نسلم أنها هي صفات الأفعال، وجوابه ما مر مع ما يرد عليه لو قلنا: بثبوبتها في نفس الأمر، إلا أن يمنع امتناع التسلسل في الأمور الغير الحقيقية؛ لكونها لم تكن من الخارج ولكن منع هذا المنع أحق، وهو عند المحققين أدق، فافهمه غير ملتفت إلى الرجال فإنه بالحق تعرف لا أنه بها يتعرف.
بقي أن الخلاف في هذ المسيلة يكاد أن يكون لفظيًّا، فإن أحدًا لا ينكر عموم تعلق القدرة بالحوادث، وإنما الخلاف هل هذه الأشياء هي الحوادث فتكون من متعلق القدرة أم لا؟
إن بنينا على أن الحادث لا بد وأن يكون موجودًا ويؤيده ما رجحوه في مقابلة أن القديم لا بد وأن يكون موجودًا نفينا التعلق وإلا أثبتناه، وإنما اختلف الترجيح في المسألتين وهو اعتبار الوجود في القديم دون الحادث، لما قام عندهم لسيما مراعة الأدب الذي عرفته من الإضافة إلى جناب الحضرة القدسية، فإن مراعاة ذلك الجناب هو الصواب وإليه المرجع والمآب.
انتهت الرسالة المذكورة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وعترته وحزبه (وأما بعد)، فقد قلدت عاطل جيد الفهم بفرايد فوايد النفع الأعم المحلاة بمحاسنها صدور تلك الطروس، والمهنأة بنفايس أسرار بدايعها النفوس، كيف ومبديها واسطة عقد النبلا، ونتيجة أعيان الحذاق البلغا الفضلا، سباق ذوي التحقيق، وفواق سباق فرسان التدقيق، المنادية ألسن الحقايق لإظهار فضلة من له الحق دعا الألمعي:
المراد بوجود الممكن ثبوته من إطلاق الأخص على الأعم مجازًا قرينته تعليق التأثير على الوصف المناسب وهو الإمكان، وذلك يشعر بعليته، وإذا كانت العلة هي الإمكان وهو موجود في كل الممكنات، ولم يكن فرق بين الحال وغيرها، فالمراد بالوجود ما هو أعم، انتهى، المراد بالأحوال في كونها من متعلقات القدرة وقد صرح بذلك شيخنا وقدوتنا وعمدتنا الشهاب الملوي في شرح منظومته الأشعرية وعبارته «وسابعها قدرة، وهي صفة قديمة تصلح لأن يؤثر بها مولانا في ثبوت الجايز، ولم أقل في إيجاد لإدخال الوجه والاعتبارات وإدخال الأحوال على القول بها، فإن القدرة تتعلق بها؛ لأنها من الممكنات». انتهى.
لكن التسلسل الذي أورده هذا العلامة على ما بناه لم يظهر لنا جواب عنه، فما دام واردًا أشكل ما ذكره هؤلاء الأعلام ولا سيما وقد صرح السكتاني وعبد الحكيم بخلافه، فلعل الله أن يفتح بالجواب. كتبه محمد الحفناوي مصليًا مسلمًا على النبي وآله وسائر الأصحاب.
وقد فتح الله بالجواب على مؤلفه أضعف الطلاب فأقول: ما صرح به السُّكتاني وعبد الحكيم صرح به كثير، ولسنا ننازع في ثبوت القول الآخر الذي صرح به هؤلاء كما نازع المخالف في ثبوت ما قلناه فضلًا عن راجحيته، وقد أوردنا هذا الأشكال معترفين بقوته على هذا الذي وقع في ترجيحه من المحققين، وقد علمت أن إيراده لا يتوجه إلا على تقدير إرادة الثبوت في نفس الأمر، لا في اعتبار المعتبر فيجوز أن يلتزم مقتضاه، ويقال: بعدم المتعلق حينئذ لكونه في نفسه عدمًا صرفًا لا حظ له في الوجود بخلافه في اعتبار المعتبر، فافترقا، ويكون جمعًا بين القولين، فمن قال: بمخلوقيته نظر إلى وجوده في الأذهان، ومن نفى نظر إلى فقده في الأعيان، وليس الأؤل مبنيًّا على القول بالصورة وأنها عرض كما زعمه المخالف لاتفاق الجميع على حصول شيء في الذهن، وإنما وقع الخلاف هل يسمى موجودًا نظرًا لثبوته فيه أم لا لفقده في الخارج؟ وقد وقع اختيار الأيمة أنه يسمى بذلك مجازًا فاعرفه. انتهى.
توفي المترجم في المحرم افتتاح السنة وصُلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافة عند جده، لأمه، رحمه الله تعالى.
ومات الجناب الأمجد والملاذ الأوحد حامل لواء علم المجد وناشره، وجالب متاع الفضل وتاجره، السيد أحمد بن إسماعيل بن محمد أبو الأمداد سبط بني الوفا، والده وجده من أمراء مصر، وكذا أخوه لأبيه محمد، وكل منهم قد تولى الإمارة، والمترجم أمه هي ابنة الأستاذ سيدي عبد الخالق بن وفا، ولد بمصر ونشأ في حجر أبويه في عفاف وحشمة وأبهة، أحبه الناس لمكان جده لأمه المشار إليه مع جذب فيه وصلاح، وتولى نقابة السادة الأشراف سنة ثمان وستين وماية وألف، وسار فيهم سيرة مرضية وقد مدحه الشيخ عبد الله الإدكاري بأبيات وفيها لزوم ما لا يلزم:
ثم بعد وفاة السيد أبي هادي بن وفا تولى الخلافة الوفائية، وذلك في سنة ست وسبعين وماية وألف، وقد أرخه الشيخ المذكور بقصيدة وهي هذه:
ولما تقلد ذلك نزل عن النقابة للسيد محمد أفندي الصديقي وقنع بخلافة بيتهم. وكان إنسانًا حسنًا بهيًّا ذا تؤدة ووقار وفيه قابلية لإدراك الأمور الدقيقة والأعمال الرياضية، وهو الذي حمل الشيخ مصطفى الخياط الفلكي على حساب حركة الكواكب الثابتة وأطوالها وعروضها ودرجات ممرها ومطالعها لما بعد الرصد الجديد إلى تاريخ وقته، وهي من مآثره مسترة المنفعة لمدة من السنين، واقتنى كثيرًا من الآلات الهندسية والأدوات الرسمية رغب فيها وحصلها بالأثمان الغالية، وهو الذي أنشأ المكان اللطيف المرتفع بدارهم المجاور للقاعة الكبيرة المعروفة بأم الأفراح المطل على الشارع المسلوك وما به من الرواشن المطلة على حوش المنزل، والطريق و مابه من الخزاين والخورنقات والرفارف والشرفات والرفوف الدقيقة الصنعة وغير ذلك، وهو الذي كنى الفقير بأبي العزم، وذلك في سنة سبع وسبعين وماية وألف، برحاب أجدادهم يوم المولد النبوي المعتاد، وتوفي في سابع المحرم سنة تاريخه وصُلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد حافل، ودفن بتربة أجدادهم، نفعنا الله بهم وأمدنا من إمدادهم، وتولى الخلافة بعده مسك ختامهم ومهبط وحي أسرارهم، نادرة الدهر، وغرة وجه العصر، الإمام لعلامة، واللوذعي الفهامة، من مصابيح فضله مشارق الأنوار، السيد شمس الدين محمد أبو الأنوار.
نسأل الله لحضرته طول البقا، ودوام العز والارتقا، آمين.
ومات الإمام العلامة الفقية النبيه شيخ الإسلام، وعمدة الأنام، الشيخ عبد الرءوف بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد السجيني الشافعي الأزهري شيخ الأزهر وكنيته أبو الجود، أخذ عن عمه الشمس السجيني ولازمه وبه تخرج، وبعد وفاته درس في المنهج موضعه، وتولى مشيخة الأزهر بعد الشيخ الحفني وسار فيها بشهامة وصارمة إلا أنه لم تطل مدته، وتوفي رابع عشر شوال وصُلي عليه بالأزهر ودفن بجوار عمه بأعلى البستان. واتفق أنه وقعت له حادثة قبل ولايته على مشيخة الجامع بمدة، وهي التي كانت سببًا لاشتهار ذكره بمصر، وذلك أن شخصًا من تجار خان الخليلي تشاجر مع رجل خادم فضربه ذلك الخادم وفر من أمامه، فتبعه هو وآخرون من أبناء جنسه فدخل إلى بيت الشيخ المترجم، فدخل خلفه، ضربه برصاصة فأصابت شخصًا من أقارب الشيخ يسمى السيد أحمد فمات، وهرب الضارب فطلبوه فامتنع عليهم، وتعصب معه أهل خطته وأبناء جنسه، قام الشيخ عبد الرءوف وجمع المشايخ والقاضي، وحضر إليهم جماعة من أمراء الوجاقلية وانضم إليهم الكثير من العامة، وثارت فتنة أغلق الناس فيها الأسواق والحوانيت واعتصم أهل خان الخليلي بدايرتهم وأحاط الناس بهم من كل جهة، وحضر أهل بولاق وأهل مصر القديمة وقتل بين الفريقين عدة أشخاص، واستمر الحال على ذلك أسبوعًا، ثم حضر علي بك أيضًا وذلك في مبادي أمره قبل خروجه منفيًّا واجتمعوا بالمحكمة الكبرى، وامتلا حوش القاضي بالغوغاء والعامة وانحط الأمر على الصلح وانقض الجمع ونؤدي في صبحها بالأمان وفتح الحوانيت والبيع والشراء وسكن الحال.
ومات الشيخ الصالح الخير الجواد أحمد بن صلاح الدين الدنجيهي الدمياطي شيخ المتبولية والناظر على أوقافها، وكان رجلًا ريسًا محتشمًا صاحب إحسان وبر ومكارم أخلاق، وكان ظلًّا ظليلًا على الثغر يأوي إليه الواردون فيكرمهم ويواجههم بالطلاقة والبشر التام مع الإعانة والإنعام، ومنزلة مجمع للأحباب ومورد لائتناس الأصحاب، توفي يوم السبت ثاني عشر ذي الحجة عن ثمانين سنة تقريبًا.
ومات الإمام الفاضل أحد المتصدرين بجامع ابن طولون الشيخ أحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عامر العطشي الفيومي الشافعي، كان له معرفة في الفقه والمعقول والأدب، بلغني أنه كان يخبر عن نفسه أنه يحفظ اثني عشر ألف بيت من شواهد العربية وغيرها، وأدرك الأشياخ المتقدمين وأخذ عنهم، وكان إنسانًا حسنًا منور الوجه والشيبة، ولديه فوايد ونوادر، مات في سادس جمادى الثانية عن نيف وثمانين سنة تقريبًا، غفر الله له.
مات الأمير خليل بك القازدغلي، أصله من مماليك إبراهيم كتخدا القازدغلي، وتقلد الإمارة والصنجقية بعد موت سيده وبعد قتل حسين بك المعروف بالصابونجي، وظهر شأنه في أيام علي بك الغزاوي وتقلد الدفتردارية، ولما سافر علي بك أميرًا بالحج في سنى ثلاثة وسبعين جعله وكيلًا عنه في رياسة البلد ومشيختها، وحصل ما حصل من تعصبهم على علي بيك وهروبه إلى غزة كما تقدم وتقلبت الأحوال، فلما نفي علي بك جن في المرة الثانية كان هو المتعين للإمارة مع مشاركة حسين بك كشكش، فلما وصل علي بك وصالح بك على الصورة المتقدمة هرب المترجم مع حسين بك وباقي جماعتهم إلى جهة الشام ورجعوا في صورة هايلة، وجرد عليهم علي بك وكانت الغلبة لهم على المصريين فلم يجسروا على الهجوم كما فعل علي بك وصالح بك، فلو قدر الله لهم ذلك كان هو الرأي، فجهز علي بك على الفور تجريدة عظيمة وعليهم محمد بك أبو الدهب وخشداشينه، فخرجوا إليهم وعدوا خلفهم ولحقوهم إلى طندتا طنطا الحالية، فحاصروهم بها وحصل ما حصل من قتل حسين بك ومن معه، والتجأ المترجم إلى ضريح سيدي أحمد البدوي فلم يقتلوه إكرامًا لصاحب الضريح، وأرسل محمد بك يخبر مخدومه ويستشيره في أمره، فأرسل إليه بتأمينه وإرساله إلى ثغر اسكندرية، ثم أرسل بقتله فقتلوه بالثغر خنقًا ودفن هناك، وكان أميرًا جليلًا ذا عقل ورياسة، وأما الظلم فهو قدر مشترك في الجميع.
مات أيضًا الأمير حسين بك كشكش القازدغلي، وهو أيضًا من مماليك إبراهيم كتخدا وهو أحد من تأمر في حياة أستاذه، وكان بطلًا شجاعًا مقدامًا مشهورًا بالفروسية، وتقلد إمارة الحج أربع مرات آخرها سنة ست وسبعين وماية وألف، ورجع أوايل سنة سبع وسبعين، ووقع له مع العرب ما تقدم الإلماع به في الحوادث السابقة، وأخافهم وهابوه حتى كانوا يخوفون بذكره أطفالهم، وكذلك عربان الأقاليم المصرية، وكان أسمر جهوري الصوت عظيم اللحية يخالطها الشيب، يميل طبعه إلى الحظ والخلاعة، وإذا لم يجد من يمازحه في حال ركوبه وسيره مازح سواسه وخدمه وضاحكهم، وسمعته مرة يقول لبعضهم مثلًا سايرًا ونحو ذلك، وكان له ابن يسمى فيض الله كريم العين فكان يكنى به ويقولون له: أبو فيض الله، مات بعده بمدة. قتل المترجم طندتا وأتى برأسه إلى مصر كما تقدم ودفن هناك وقبره ظاهر مشهور، ودفن أيضًا معه مملوكه حسن بك شبكة وخليل بك السكران وكانا أيضًا يشبهان سيدهما في الشجاعة والخلاعة.
ومات الأمير الكبير الشهير صالح بك القاسمي وأصله مملوك مصطفى بك المعروف بالقرد، ولما مات سيده تقلد الإمارة عوضه، وجيش عليه خشداشينه واشتهر ذكره، وتقلد إمارة الحج في سنة اثنتين وسبعين وماية وألف كما تقدم في ولاية على باشا الحكيم، وسار أحسن سير ولبسته الرياسة والإمارة والتزم ببلاد أسياده وإقطاعاتهم القبلية هو وخشداشينه وأتباعهم، وصار لهم نماء عظيم وامتزجوا بهوارة الصعيد وطباعهم ولغتهم، ووكله شيخ العرب همام في أموره بمصر، وأنشأ داره العظيمة المواجهة للكبش بالمقطم، ولم يكن لها نظير بمصر، ولما نما أمر علي بك ونفي عبد الرحمن كتخدا إلى السويس، كان المترجم هو المتسفر عليه، وأرسل خلفه فرمانًا بنفيه إلى غزة، ثم نقل منها إلى رشيد ثم ذهب من هناك إلى الصعيد من ناحية البحيرة، وأقام بالمنية وتحصن بها وجرى ما جرى من توجيه المحاربين إليه وخروج علي بك منفيًّا وذهابه إلى قبلي، وانضمامه إلى المذكور كما تقدم بعد الأيمان والعهود والمواثيق وحضوره معه إلى مصر على الصورة المذكورة آنفًا، وقد ركن إليه وصدق مواثيقه ولم يخرج عن مزاجه ولا ما يأمر به مثقال ذرة، وباشر قتال حسين بك كشكش وخليل بك ومن معهما مع محمد بك كما ذكر آنفًا، كل ذلك في مرضاة علي بك وحسن ظنه فيه ووفائه بعهده إلى أن غدر به وخانه وقتله كما ذكر، وخرجت عشيرته وأتباعه من مصر على وجوههم، منهم من ذهب إلى الصعيد ومنهم من ذهب إلى جهة بحري. وكان أميرًا جليلًا مهيبًا لين العريكة يميل بطبعه إلى الخير ويكره الظلم، سليم الصدر ليس فيه حقد، ولا يتطلع لما في أيدي الناس والفلاحين، ويغلق ما عليه وعلى أتباعه وخشداشينه من المال والغلال الميرية كيلًا وعينًا سنة بسنة، وقورًا محتشما كثير الحيا، وكانت إحدى ثناياه مقلوعة فإذا تكلم مع أحد جعل طرف سبابته على فمه؛ ليسترها حياءً من ظهورها حتى صار ذلك عادة له، ولما بلغ شيخ العرب همام موته اغتم عليه غمًّا شديدًا، وكان يحبه محبة أكيدة وجعله وكيله في جميع مهماته وتعلقاته بمصر، ويسدد له ما عليه من الأموال الميرية والغلال، ولما قتل الأمير صالح بك أقام مرميًّا تجاه الفرن الذي هناك حصة، ثم أخذوه في تابوت إلى داره وغلوه وكفنوه ودفنون بالقرافة، رحمه الله تعالى.
مات وحيد دهره في المفاخر، وفريد عصره في المآثر، نخبة السلالة الهاشمية، طراز العصابة المصطفوية، السيد جعفر بن محمد البيتي السقاف باعلوي الحسيني أديب جزيرة الحجاز، ولد بمكة وبها أخذ عن النخلي والبصري وأجيز بالتدريس فدرس وأفاد، واجتمع إذ ذاك بالسيد عبد الرحمن العيدروس وكل منهما أخذ عن صاحبه، وتنقلت به الأحوال فولى كتابة الينبع ثم وزارة المدينة، وصار إمامًا في الأدب يشار إليه بالبنان، وكلامه العذب يتناقله الركبان، وله ديوان شعر جمعه لنفسه فمن ذلك قوله:
ومنها في التخلص:
وهي طويلة، ومن شعره في المجون ما أرسل به إلى بعض أصحابه منها:
وهي طويلة (وله من أخرى):
(ومن شعره):
(وله):
(وله):
(وله):
(وله):
(وله):
(وقال في سليم بعمل التبديل):
(وقال في هلال بعمل الاشتراك والقلب وغيره):
(وفي ناصح بعمل التأليف والتشبيه وغيره):
في سمسم بعمل الحساب:
(في حصان بعمل القلب وغيره):
(في أسماء بعمل التشبيه والترادف):
(في مسجد بعمل الترادف):
(في غزال يعمل الإسقاط والكناية والإدخال):
(في إبره بعمل التحليل):
(في غمام بعمل الكناية والإدخال):
(وقال فيما اصطلحوا عليه في التشبيه):
(وقال معارضًا قصيدة فتح الله النحاس):
(ومن إنشائه) هذه المراسلة: إن أبدع براعة يستهل بها الوداد، ويدبج محاسنها كمال الاتحاد، وأجلى مذهب تسرع إلى معقله الهمم، وأحلى مشرب يكرع من منهله القلم، عرائس تحيات تزفها مواشط النسيم، وتحفها أتراب التكريم والتسليم بختام من مسك ومزاج من تسنيم، فتسفر بها أسفار المحبة، مع سفير أكيد الصحبة، محمولة على موضع الأخلاص، تالية لمقدم مزيد الاختصاص، شعر:
ولا جرام فقصاياه إلى الحكم موجهات، وأنواع أجناس وضعه مختلطات، وعلى وحدة الصانع تدل المصنوعات، ومولانا المشار إليه أو حدى من انطوى فيه العالم الأكبر، وانتشرت به آية الفضل المطوي المضمر، فهو في الأسلوب الحكيم إقليم التعاليم. وفي ديوان الأدب لسان العرب، وفي عدل الميزان الحجة والبرهان والسلم إلى الإيقان، ولوجوه الأعيان مرآة الزمان، والقرآن الأوسط وفي الأقران، نكتة العقل الأول ومشرعه، ونهاية كمال الطبع ومطلعه، (شعر):
(وبعد) فالموجب من المخلص لهذا التعهد، والمقتضي لمزيد التودد، هو ميل الروحانية إلى المناسب، وتألف الطبيعة بالملازم المتناسب، ولا غرو فإني لمزيد الاشتياق، وطباق بديع الاتفاق، شعر:
ومع ذلك فعلامات الأسباب في منهاج البيان، وتلخيص هذا النظام، تذكرة لتشحيذ الأذهان، وموجز ذلك على قانون العادة، للشفاء بثمرة الإفادة، شعر:
وتلك نسبة تصديقها إذعان، ولازم نتيجتها برهان، وتلخيص مطولها بيان، وما زلنا نسأل معتل النسيم عن صحة الخبر، ونقنع العين بشياف الأثر، ونرجو مع ذلك رفع أداة الانفصال، وحمل قضية الود على موجبة الاتصال، وإن سأل المولى عن القايم بوظيفة الأدعية، ورواتب الأثنية، فما زالت شعاب أكفه تستمطر غيوث الإحسان، ومقاليد دعائه تستفتح أبواب الامتنان من المنان، ولا سيما في أوقات مظنة القبول، وتحقق بلوغ السول في حضرة الرسول، فهو يُرسخ ذلك في سجلات الحسنات، ويؤيده في تسطير الباقيات الصالحات، شعر:
فإذا ليس ذلك إلا من جهة واجب الإخاء، وملازمة فرض شروط الوفاء، فها أنا أعقد ألوية الثناء بذات الرقاع، وأبث طلايع السؤال عن المخلص في نفسه، لكشف لبسه، مع إخوان زمانه وأبناء جنسه، شعر:
وقد سبقتم إلى ذلك بالنظر، وليس كالخُبر الخَبر، إلا أن يكون اللباس، قد أوجب الالتباس، وأضاع القياس، فأطفأ النبراس، وهدم الأساس، وجمعنا مع آحاد الناس، فلا غرو فطالما حاولت الإيقاع، وتوخيت موافقة الأوضاع، ونظرت في تخت الحسبان لطريقة الاجتماع، شعر:
فالمدلي بالطبع لا يستغني عن الجمع، ويعرض عن الرسالة البحث إلى علم الوضع، وإذا كان الأدب في النفوس، فالحقيقة من وراء المحسوس، وعلى اختلاف الشئون، يجمل بي أن أكون. شعر:
فليس الرشيد إلا المتوكل، والا الراضي على القدر إلا الموفق المتجمل، والطائع مأمون العواقب، والمنصور بالعز ليس له غالب، فلا أعلم من التصريف إلا باب المطاوعة، والانفعال، ولا أجهل هذا الأدب إلا التنازع بين الأفعال، والخوض في مجمع الأمثال وعقم الاشكال، وما عسى أن أفعل، وإلى أي مرام أتوصل، إذا نازعت في قول الأول. شعر:
ثم إذا قلبت ظهر المجن على الزمن، فقلت: إن حاطب ليل، جامع بين الحشف وسوء الكيل، وقد تشوش ذهنه في التصريف، وماله عن النكرت من التعيرف، حتى صرف ما لا ينصرف، وصرف الكامل عن دائرة المؤتلف، وقفا بالمحن سناد الإشباع، وأردف له ذلك مع شهر الامتناع، فقصيته معدولة عن الكرام محصلة للئام، خارج بعضها عن النظام، مولودة لغير تمام، فمن لي بمن أقضي عليه بكتاب الضمانات، وحكومة الكفالات، ومسائل العقل والديات، لاسترجاع ما فات، ما لا يومأ إليه ولا يشار. شعر:
والعجب في شيء ظهر أمره، وخفي سره، فالمتعرض حينئد كالمتأمل المستفيد، وأنى له التناوش من مكان بعيد، بل أكون كالماء فأتبع السهول، وأراقب القسمة حتى تعول، ولا أتبرم ولا أقول:
وربما يقال: إني نقضت وضوء الأدب، وتعديت ميقات النسب، ولم أحرم بالتجريد من دناءة المكتسب، ولا سجدت للسهو عن حقوق الحسب.
فعلى ذلك إن ثبتت الجنحة، فالمحنة في تلك المحنة، وشر ما يلجئك إلى مخيسة عرقوب، ولا سيما وقد ضعف الطالب والمطلوب.
وإن أكن قد خالفت الأكياس، وتخلفت مع الناس، وصبحت الرضا لتهجمى آل العباس، فإن الماء في بابه، مفوض إلى رأي المبتلى به والدخيل في دائه، أعلم بدوائه عند فقد أطبائه، وهل هم في معنانا إلا الكرام، ومساعدة الأيام؟ وهبني كفلت نتيجة الدهر، ودمية القصر في أبناء العصر، وقلدتها قلائد العقيان، وعقود الجمان، مفصلة بجواهر النصوص ومعادن الفصوص، وأقطعتها رياض زهر الآداب وغياض آداب الكتاب، وأسكنتها علالي المقامات وعلوم الطبقات، وتهذيب الرياضات وسير الفتوحات، إلى إدراك الممكنات، ثم قلت: أين بغية الحفاظ، وابن جلا وخطيب عكاظ (شعر):
فمن لي بمن يميز بين الضدين، ويقدم الجمعة على الإثنين، ويميل إلى الكشكول علن كتاب العين، وإن فضل لذلك أرباب، أو كان في الجعبة نشاب، فالمعاصرة حجاب، والتفاخر سور له باب، فما بقي إلا التشاغل بالسلوان، وبكاء العيون لوفيات الأعيان، ومراقبة المطالع لنصبات الطوالع، وبلوغ المقاصد من تلك المراصد، فقديمًا قيل: من طلب شيئًا قبل الوقت، لم يجن من ثمرات أمانيه إلا المقت، (شعر):
فمن الخسران جهل الأوزان، ومساعدة الأبدان قبل معرفة البحران، فربما كان في أسطرلاب السعادة، ما يخالف العادة، ويبلغ الحسنى وزيادة؛ هذا والمطلوب من المولي تعهدنا بالذكر، وحضورنا عند الفكر، فلعلنا نصادف قدرًا به ليل الحظ يقمر؛ وفجر الإقبال يسفر، وربما طلعت من مشرقكم شموسه وأقماره، ووضح لذي عينين صبحه ونهاره، فلنا في الغيب آمال، وفي كنانة الأدعية سهام ونبال، ومن حسن الفال، حاسب ورمال، وبميدان جميل الظن مدار ومجال، وإلى عالم السر جواب وسؤال، وفي فتح القدير مستند ورجال، وعلى ضوء مشكاة المصابيح تقرأ نسخة الحال، فإن في عياضها شفاء؛ وفي خلاصتها وفاء، وفي كنز الكافى معادن، وعلى وجوه التفويض تلوح المحاسن، ومن دخل حرمه كان آمن (شعر):
(وكتب إلى عبد الرحمن السيوري) أهدي جزيل سلام ألذ من الوصال في طيف الخيال، وأحلى من الإقبال بالآمال، وأحب من الإتحاف بالإسعاف، وأعذب من الورود على حياض الوعود، وأعشق إلى الطالب، من حصول المآرب، وأكرم من الغمام، بإهداء جزيل السلام، أريجًا يكمه الزهر في أكمامه ويلمه الجيد في نظامه، ويجعله الرحيق من ختامه، والثغر الشنيب تحت لثامه، نودعه النرجس في جفونه، ونلقنه الحمام في سجعه على غصونه، فيحمله النسيم على متونه بجميع فنونه، إلى حضرة إنسان العين بالكامل، ورأس أدب الكاتب في صدور المحافل، ومن سحب البلاغة على سحبان، وجر على المجرة سرادق العز والإمكان، وسيط النسب إلى الأدب، وطراز الفخر على جبهة الدهر، المخصوص بخالص الود وأكيد المحبة، على مراد الوفاء بشروط الصحبة، المكرم الأجل عبد الرحمن بن مصطفى السيوري، أطال الله عمر سعادته، وخلد دولة سيادته (شعر):
فإن لم يكن إلا الملال، فلا جدال، وإن أوجب ذلك لذة الجديد: فحرمة العتيق لا تبيد، أو كانت القسوة عن شهوة فالاعتراض يرد الإعراض، وإن كان الترك بلا سبب، فهو من العجب (شعر):
ولكن أين الفضايل؟ وكيف تلاشت الفواضل؟ تحمل التحمل وأجمل عن الإزماع التجمل، وتقاصر الطول والتطول، حتى وكلت غيرك من الأنام، في إهداء السلام، وجاءني بشير المواعيد، على بريد، فملت إلى النفس أبشرها، وعلى الفرش أنشرها، وإلى الزلاع أنظفها، وعلى الفقاع أصففها، واشتغلت باللحية أسرحها، وأهل الحارة أفرحها، ثم ذكرت وصول الحبوب في الغبش، فعبيت الخيش وقلت: ربما يصل التمر في العصر، ويا ترى تلك البضاعة تسعها القاعة؟ أم لا بد من توسعة الضيق، لتلك الصناديق، وكيف نعين الزبون، لاقتراض العربون، وتسليم الجماله، إذا وصلت تلك الرسالة، ثم أنشدت وأنا أدور ما بين الدور. (شعر):
ثم أخذت الإبريق، وملت عن الطريق، واستكت واغتسلت، وتوضأت واكتحلت، وتنحنحت وسعلت، وخرجت ودخلت، ثم ملت إلى الصندوق وألقيت القاووق، ولبست الزربفت، من فوق التفت، وتدرعت بالسمور، وجلست على تخت التيمور، ثم خلعت على العتالين، وقدمت أجرة المخزنين سبع سنين، ثم إني كررت المخبرة، وطالعت الورقة بالمنظرة، فإذا السكر المكرر قد تسطر، وإذا البن المحزوم، ولطايف الملبوس والمشموم، وتأملت في هامش الكتاب، فإذا جراب وفيه الوعد بكل نفيس، وفي ضمن الجميع كيس، وفيه المنة بمفاتيح قارون، ومقاليد القلاع والحصون، والوعد بطلسم الأهرام، وكتاب العهد على اليمن والشام، ولم أجد العهد على الصين، ولا فارس ولا قزوين، وأرض الدروب وفلسطين، فحصل لي العجب العجاب، وقمت إلى الجراب، بعد إغلاق الباب، وقد أذكيت المصباح، وفتشت إلى الصباح، وإذا كتابان قد كتبا بالزعفران، وضمها بالعبير، ولفا في حرير، في الأول ملك خرسان، وتقليد الشحر وعُمان، إلى إقليم السودان، وما وراء النهر وعبادان إلى جزيرة العرب، وغوطة دمشق وحلب، ولم يزل ينعم وعدًا، ويهب، ويجيء بالعجب، وفي ذيل المنشور، وتمام المسطور، تفضل بالأقاليم وأنعم بتاج العز والتكريم، فسجدت لكرمه، وشكرته على نعمه (شعر):
ثم ملت بإنساني، إلى المكتوب الثاني، وإذا علم استخارج الطلاسم وخبر الملاحم، والتوصل إلى فتح الأهرام، في ثلاثة أيام، ومعرفة ذات العماد، في أي البلاد، والإتيان بعرش بلقيس، بتدبير المغناطيس، وفيه استخدام الكواكب، ومعرفة كل غايب، وبيان علم الروحانيات، ودعوات العليات، وضبط الدقايق الفلكيات، وملكوت الأرض والسموات، وأنه يكشف لنا رموز الكيمياء، ويعلم طرايق الزايرجات والسيمياء، ويدل على بير الملكين ببابل، ويستخرج علوم الأوايل، ويعزم على الوحش فيجلبها، وعلى الجبال فيقلبها، وعلى الغمام فينزله، وعلى الريح فيحوله، وعلى النجوم فينثرها. وعلى القبور فيبعثرها، وإن الجميع يصل على الفور، وفي هذا الدور، وأن ينتف لحية المكذب، قبل أن يجرب، ويقص سبال المنكر، وإن لم يؤمن بما يخبر، فقلت: آمنت بما قاله سبحان من أعطاه ذا الاقتدار أستغفر الله السيوري ما يعرف يا أخوان قول الفشار، ثم شرعت أعبي الخيل والخول، وأجيش بجميع الدول، للقاء ذاك الأمل، ولم نزل نبث الطلايع، ونتوقع الطالع، إلى أن أتى الأبد على لبد، ولم يصل أحد فثارت الفتنة بين الجنود، لتأخر الوعود، ووقعت البسطامية والبسوس، لحصاد النفوس، وتقصفت الأسنة، وتقطعت الأعنة، وتثلمت السيوف، وتماوجت الصفوف، وسال جيحون والفرات، بدم الأموات.
ولم يبق أحد من الجيشين، إلا صلى على وعدك ركعتين، ورجع بخفي حنين، ثم إنا احتلنا في إطفاء نار الفتنة، بطلب هدنة، إلى أن يصل إليك الكتاب، ويرجع الجواب، وقد أمرنا السفير إذا وقف بين يديك أن يقرأ عليك:
أهدي جزيل سلام ما زال دايرًا بمركزه محيطه، وواقفًا على مركبه بسيطه، سلامًا أنظم به الدراري والدرر، وأنثر به المنثور والزهر، وأستخدم له بهرام والقمر، سلامًا منشورة ألويته على عمود الصباح، موعدة سرية همته بظفر الافتتاح، سلامًا تشير إليه الثريا بكفها والجوزاء بشنفها والزهرة بطرفها والدقايق بلطفها عند كشفها، سلامًا تتلقاه الشعرى العبور للعبور، ويقوم له زيد الوداد بالمرصاد فيعرض عليه شقيق رمحه، والمعلي قدحه، وابن جلا عمامته، ومرجف لأمته، جامعًا بين الجد والهزل، والإرفال والرمل، مخصوصًا به حضرة محيط مركزي بعنايته، وهيكل سرى بحمايته، نكتة الفلك، وروحانية الملك؛ ونفحة القدوس، المشرقة على النفوس، الفايز بفصوص الحقايق، وكنوز الدقايق، والحايز معاني الإشارات، في أبواب الفتوحات الشارب من العين بكشكوله والملقى عصا السير في ساحة وصوله، ركن ذا الفضل وإسطقصه وجنس نوع الكرم ونفسه، شيخي وأستاذي الشيخ عمر، لا معدولًا عنا لقاطع، غير منصرف عن المقتضي بالمانع، آمين، وبعد التقرب بنوافل الأدعية، والتحبب برواتب الأثنية، صدورًا عن فؤاد قايمة زواياه في الوداد، مستقيم خط هواه في كمال الاتحاد، غير منقسم جذره الأصم عن العذال، ولا مجتمعة له ضروب اللوزم في مثال، فهو لا ينكسر إلى السواد فيتخصص، ولا يختلط فلزه بالأغيار فيتمحص، من مخلص يطرح الألف، ويأخذ الواحد بالكف، ويستخرج مجهول الأغيار، وينفض التغيير بقلم الغبار، حتى يحصل له بالجبر المقابلة، في مديح ذوي الإمعان والمحاوله، فيأخذ هناك ارتفاع الشمس، بأسطرلاب تهذيب النفس، ويترقى في درج المعاني، باطراح التواني وطرح الثوالث والثواني، وما ذاك إلا لإضافتي لعلمكم بعلمكم، وشربي من كرمكم بكرمكم، وتمييزي في هذه الحال، ببدل الاشتمال، ولا سيما بعد وصولي ما أشاء إلى جهتي وصح به أملي عن الخروج من جدولي ولي ولي، فلا زال كيدي أهل الفضل واسع البذل بسيط النوال، وافر مديد الكمال، متداركي إلى مداركي، وسايري في سايري ومفيقي من سكر تلفيقي إلى توفيقي، ومحرري بضبطي من خبطي في خلطي، ورفيقي في تشويقي إلى تحقيقي يرحل بي إلى المختصر عن المطول، وينزل بي عن المعاهد في البديع الأول.
(وقال):
(وله عفا الله عنه):
(ومن التحميضات):
(في المطبوخ وعمله):
(وقال من أرجوزته الطبية):
(فى عمل الأقراص):
(في المطبوخ وعمله):
(في السفوف):
(في التحميص):
(فى الدق والسحق):
إلى آخر ما قال، وله غير ذلك مدايح وقصايد وغزليات وتخميسات ومراسلات كلها غرر محشوة بالبلاغة، تدل على غزارة علمه وسعة إطلاعه، توفي بهذه السنة بالمدينة المنورة رحمه الله تعالى.