موت يسوع
لقرونٍ عديدةٍ أخذت مسألة موت يسوع على الصليب الحيز الأكبر من الجدال اللاهوتي بين المسلمين والمسيحيين. فاللاهوت المسيحي يضع مسألة موت يسوع على الصليب في مركز البؤرة من العقيدة ويقول، اعتمادًا على وضوح نصوص الأناجيل: إنَّ يسوع قد أسلم الروح بعد ظهر يوم الجمعة الحزينة، ثم قام من بين الأموات في صبيحة اليوم الثالث، يوم الأحد؛ وبعد أن ظهر للتلاميذ عدة مراتٍ، وتناول معهم الطعام ليثبت لهم حقيقة بعثه بجسده، ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الآب في انتظار اليوم الأخير، عندما يعود على سحاب المجد ليدين العالم. أما علم التفسير الإسلامي، فيقول اعتمادًا على تفسير وتأويل الآيات القرآنية المتعلِّقة بوفاة عيسى: إنَّ عيسى لم يمت على الصليب، لأنَّ الله أنجاه من مكيدة اليهود وجنَّبه الموت على أيديهم، فرفعه إليه حيًّا بجسده في انتظار عودته في اليوم الأخير ليقتل الدَّجال ويجعل العالم كله ملَّة واحدةً.
فإلى أي حدٍّ تختلف الروايتان الإنجيلية والقرآنية، إذا نحن تفحَّصناهما بدقةٍ وفق منهجٍ استقرائيٍّ لا يصدر عن المواقف الفكرية المسبقة، لا سيما فيما يتعلق بتفسير آيات القرآن الكريم التي لم يفلح على التفسير، في اعتقادي، حتى الآن في حل إشكالاتها بقدر ما زادها غموضًا؟
(١) موت يسوع في الرواية الإنجيلية
سوف نتتبع فيما يأتي مشاهد موت يسوع اعتمادًا على الأناجيل الإزائية الثلاثة: متَّى ومرقس ولوقا، مبتدئين من انتهاء المحاكمة وسوْق يسوع إلى الصلب:
«وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ. * وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ، لِأَنَّ مَلَاكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ. * وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. * فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. * فَأَجَابَ الْمَلَاكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لَا تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. * لَيْسَ هُوَ هَا هُنَا، لِأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعًا فِيهِ. * وَاذْهَبَا سَرِيعًا قُولَا لِتَلَامِيذِهِ: إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا. * فَخَرَجَتَا سَرِيعًا مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ، رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلَامِيذَهُ» (متَّى، ٢٨: ١–٨).
(قارن مع متَّى الإصحاحين ٢٧–٢٨، ومرقس في الإصحاحين ١٥–١٦، ولوقا في الإصحاحين ٢٣–٢٤). وعقب ظهوره الأخير للتلاميذ، يقول لوقا: «وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ» (لوقا، ٢٤: ٥١).
(٢) موت عيسى في الرواية القرآنية
لدينا ستة مواضع في القرآن الكريم تتحدث عن موت عيسى. وسوف نوردها فيما يلي، مع مراعاة ما ارتأيناه في تفسيرها:
-
(١)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (١٩ مريم: ٣٣).استخدم القرآن الكريم التعبير نفسه في الحديث عن النبي يحيى (المعمدان)، حيث ورد في سورة مريم: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٩ مريم: ١٥). وبما أنَّ يحيى قد عاش ومات مثل سائر بني البشر، فإنَّ عيسى أيضًا قد عاش ومات بعد أن استوفى أجله الطبيعي. ولا يوجد لا في هذه الآية ولا في غيرها من آيات القرآن أي إشارةٍ ظاهرةٍ أو مبطَّنة إلى رفع عيسى إلى السماء بجسده العنصري قبل الموت، أو إلى موته المستقبلي في نهاية الزمن عقب قدومه الثاني، على ما شاع بين المفسرين.
-
(٢)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ … (٥ المائدة: ٧٥).استخدم القرآن التعبير نفسه في وصف النبي (ص) عندما خاطب أصحابه قائلًا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (آل عمران: ١٤٤)، والمقصود هنا نفي التوهُّم بأنَّ مكانة أي إنسانٍ عند الله يمكن أن تحول بينه وبين الموت. وفي موضع آخر خاطب الله رسوله قائلًا: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٩ الزمر: ٣٠). فمحمد سوف يموت كما مات غيره من الأنبياء ومنهم المسيح ابن مريم.ثم أردف تعالى قائلًا: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (المائدة: ٧٥). يعني ذلك أنَّ حياتهما الجسدانية التي تحتاج إلى الطعام سوف تنقطع لا محالة، لأنَّ كل من يأكل الطعام سوف يئُول إلى موت. ولذلك خاطب تعالى رسوله في موضعٍ آخر فقال له: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ … * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٢١ الأنبياء: ٨). أي إن كل من سبق محمد من الأنبياء كان عُرضةً للموت، ولم يُخَلِّد منهم أحدًا بما في ذلك ابن مريم.
-
(٣)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥ المائدة: ١٧).
إن الله هو الكائن الوحيد الذي لا يموت، وله القدرة على إهلاك المسيح، لأنَّ المسيح ليس إلهًا، وهو ميتٌ لا محالة مثل رجال الله الآخرين.
-
(٤)
وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥ المائدة: ١١٦–١١٧).
يسأل الله هنا عيسى سؤالَ العارف عندما يقول له: «أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله؟» فيُجيبه عيسى: «مَا قُلتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ.» إنَّ صيغة الماضي التي يستخدمها عيسى بقوله: «توفيتني» تدلُّ على أنَّ وفاته قد حصلت في زمن الناس السابق لا في زمن رجوعه الثاني. ونلاحظ هنا التقابل بين الجملتين «ما دمت فيهم» و«لما توفيتني»، الذي يدلُّ على أنَّ عيسى كان مسئولًا عن اعتقادات جماعته ما دام معهم، ولكن عندما توفَّاه الله انقطعت مسئولية الرقابة عليهم، وهو لم يزل غافلًا عمَّا جرى لهم منذ أن توفي إلى ساعة الخطاب المذكور.
وقد ورد في الحديث الشريف حديثٌ يُشبِّه فيه الرسول نفسه بعيسى في موقفه من جماعته، حيث يقول: «يُؤخذ بناسٍ من أصحابي ذات الشِّمال، فأقول أصحابي أصحابي! فيُقال: إنهم لم يزالوا مرتدِّين على أعقابهم بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم: … وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥ المائدة: ١١٧–١١٨). -
(٥)
إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٣ آل عمران: ٥٥).
هنا نأتي إلى القضية المركزية في مسألة موت عيسى، ألا وهي بعثه بعد موته ورفعه بجسده القائم من بين الأموات إلى السماء. ولكن قبل أن نأتي إلى بسط تفسيرنا لهذه الآية، لا بد من التذكير ببعض عناصر الرواية الإنجيلية. فقد تنبأ يسوع أثناء حياته بموته وقيامته في اليوم الثالث … «وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ابْنُ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ * فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (متَّى، ١٧: ٢٢–٢٣). «وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس، ٨: ٣١).
وخلال مشهد المحاكمة قال يسوع في ارتفاعه إلى السماء بعد قيامته: «مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ» (متَّى، ٢٦: ٦٤). وأيضًا: «مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ» (لوقا، ٢٢: ٦٩). وبعد موته على الصليب وقيامته وظهوره للتلاميذ يقول مرقس في ارتفاعه إلى السماء: «ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ» (مرقس، ١٦: ١٩). ويقول لوقا: «وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجًا إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. * وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ» (لوقا، ٢٤: ٥٠–٥١).
هناك ثلاثة آراء رئيسيةٍ تداولها المفسرون فيما يخصُّ هذه الآية. الرأي الأول لم يلقَ تأييد معظم المفسرين، ومفاده أنَّ الله قد أمات عيسى مدة ثلاثة أيامٍ ثم بعثه من الموت بعد ذلك (وقال بعضهم ثلاث ساعات فقط). وهذا الرأي الذي يقترب كثيرًا من وقائع الرواية الإنجيلية. أما الرأي الثاني فيقول إنَّ الوفاة المذكورة هنا هي وفاة النوم لا وفاة الموت، والتي يُشير إليها قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ (٦ الأنعام: ٦٠). وعلى ذلك يكون الله قد رفع عيسى إلى السماء بجسده العنصري وهو نائمٌ، وخلصه من كيد بني إسرائيل. وأما الرأي الثالث، فيرى أنَّ في قوله تعالى: «مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ» نوعًا من التقديم والتأخير، وأنَّ المقصود هو: إني رافعك إلى السماء ثم مميتك بعد إنزالي إيَّاك إلى الدنيا في نهاية الزمن.وفي الحقيقة، إن هذه الآية هي من الآيات الواضحة التي لا تتطلب التأويل للتوصل إلى حقيقةٍ معناها. فالنص يقول: «مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ»، أي مميتك أولًا ثم رافعك إليَّ. ولا مجال هنا لافتراض التقديم والتأخير، أو افتراض وفاة النوم. وبما أنَّ الموتى لا يُرفعون إلى السماء بل يسقطون ولا يقومون، فمن المنطقي أن نفترض حدوث البعث بين الوفاة والرفع. فالله قد بعث عيسى من بيت الأموات ثم أصعده بجسده القائم من الموت، في انتظار قدومه الثاني في نهاية الزمن، وبذلك تتطابق العناصر الرئيسة في الروايتين الإنجيلية والقرآنية، وهي الموت والبعث والرفع.
-
(٦)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ٢ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (٤ النساء: ١٥٥–١٥٩).
لقد طرح هذا المقطع على المفسرين إشكالياتٍ لم يوفَّقوا إلى حلِّها. فقد اعتقدوا أنَّ مؤدَّى جملة «وما قتلوه وما صلبوه» هو أنَّ عيسى لم يمت، وأنَّه ما زال إلى اليوم حيًّا في السماء. وهذا استنتاجٌ غير منطقيٍّ، لأنَّ نفي القتل والصلب لا ينفي الموت مطلقًا، وإنما يقرر عدم حدوث الموت بواسطة القتل أو الصلب؛ وهذان السببان ليسا الوحيدَين لحدوث الموت. فقد يحصل الموت عن طريق الشيخوخة أو المرض أو الغرق أو غير ذلك من الأسباب. وفي الحقيقة، فإنَّ ما تود هذه الجملة قوله هو: إنَّ المسيح لم يمت قتلًا ولا صلبًا على يد اليهود، وإنَّ الله لم يكن يسمح لمسيحه أن يموت على يد قتلة الأنبياء بهذه الطريقة الشنيعة، فأنقذه من مكرهم.
وفيما يتعلق بجملة «ولكن شُبِّه لهم» فقد اعتقد المفسرون أنَّ الضمير المستتر بعد «شُبِّه» يعود إلى المسيح، فجعلوه أولًا المُشبَّه به، واعتقدوا أنَّ المُشبَّه المقتول مكانه صار على هيئته وشكله، وأنَّ هذا المُشبَّه هو المقتول والمصلوب. وكانت لهم في ذلك آراءٌ شتَّى، فالبعض يقول إنَّ الله ألقى شَبَه المسيح على خائنه يهوذا الإسخريوطي الذي صُلب بدلًا عنه، لا سيما أنَّ يهوذا قد اختفى بعد خيانته، وقالت الأناجيل إنَّه قتل نفسه ندمًا على ما فعل. والبعض يقول إنَّ عيسى لما أحسَّ باقتراب الجند للقبض عليه، قال لتلاميذه: يا معشر الحواريين، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يُشبَّه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني؟ فقال واحدٌ منهم: أنا يا روح الله. قال: فاجلس في مكاني. فجلس فيه، ورُفع عيسى — عليه السلام — فدخلوا عليه فأخذوه وصلبوه وشُبه لهم به.
والرأي الذي نراه هو أنَّ الضمير المستتر (نائب الفاعل) بعد كلمة «شُبِّه» إنما يعود على القتل والصلب. فلقد شُبِّه للناس صلب المسيح وموته على الصليب. وبما أنَّ فريقًا من المسيحين، وهم الغنوصيون، ينفون موت المسيح على الصليب، ويقولون إنَّ موته قد «شُبِّه» للناس الذين ظنوا أنهم يرون المسيح مصلوبًا وما هو بالمصلوب، فقد أردف تعالى قائلًا: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ (سورة النساء: ١٥٧) أي إنَّ الذين اختلفوا في مسألة موته على الصليب لفي شك من ذلك، وما يتبعون إلا ظنونهم. والحقيقة هي أنَّ اليهود «ما قتلوه يقينًا»، أي متأكدين من ذلك، وإنما رفعه الله إليه. وهذا الرفع قد حصل بعد موت يسوع موتًا طبيعيًّا بعد أن استوفى أجله، على ما قُلناه في تفسير الآية السابقة: «إني متوفيك ورافعك إليَّ»؛ أي مُصعدك إليَّ بعد موتك وبعثك.وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (النساء: ١٥٩). أي لا يموت يهوديٌّ من أهل الكتاب قبل أن يؤمن بعيسى عند قدومه الثاني، عندما يجعل الأديان كلها ملَّة واحدة تؤمن بإله واحدٍ. ذلك أنَّ رجوع عيسى هو من علامات وأشراط «الساعة» على ما يقوله تعالى في موضع آخر: وَإِنَّهُ (أي عيسى) لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا … (سورة الزخرف: ٦١).ومع ذلك، تبقى في النص فجوات لا نستطيع ردمها إلَّا باتباع الظن. والنص القرآني لا يُقدم لنا أي معونةٍ في جهدنا العقيم هذا. فكيف تراءى للناس موت يسوع على الصليب بينما كان في مكانٍ آخر؟ كيف أنجاه ربه من الصلب، وبأي طريقةٍ؟ أين كان عيسى بعد نجاته من الصلب؟ أين توفي ومتى؟ أسئلة لا يمكننا محاولة الإجابة عنها إلا بالخروج عن المنهج الذي اتبعناه حتى الآن، وهو منهج المقارنة الحيادية الموضوعية. كل ما يُمكننا قوله، هو أنَّه باستثناء واقعة الموت على الصليب، فإنَّ الروايتين؛ الإنجيلية والقرآنية تتفقان في عناصرهما الأخرى، فعيسى قد مات في الرواية القرآنية كما مات في الرواية الإنجيلية، ثم إنَّه بُعث من بين الأموات ورُفع بجسده إلى السماء. وهو سيأتي في آخر الزمن كعلامةٍ من علامات الساعة.
على أنَّه لا بد من الإشارة إلى الشبه الواضح بين موت عيسى الذي تراءى للناس على غير حقيقته في الرواية القرآنية، ومفهوم الموت الشبحي للمسيح في الكتابات الغنوصية التي تقول إنَّ موت المسيح قد تراءى وما هو بالحقيقة الفعلية. وبعض هذه الكتابات يستخدم فكرة إلقاء شَبَه يسوع على شخصٍ آخر صُلب مكانه. نقرأ في أحد نصوص نجع حمادي المعروف بعنوان أطروحة شيت الكبير على لسان يسوع: «فاعلم إذن أني لم أُسلَّم إلى أيديهم كما ظنوا، ولم أتألمْ أبدًا … لم أمتْ في الحقيقة وإنما في المظهر فقط … لم أتجرع الخلَّ والمرار كما رأوني أفعل، بل هو شخصٌ آخر. لم أكن من ضربوه بالعصي، بل هو شخصٌ آخر. لم أكن من وضعوا إكليل الشوك على رأسه، بل هو شخصٌ آخر. ولقد سخِرتُ في الأعالي من جهلهم ومن تبجحهم.»٣ وفي نص أعمال يوحنا نجد التلميذ يوحنا الحبيب يلجأ إلى جبل الزيتون بعد أن أُسلم يسوع إلى الصلب، وهناك يظهر له يسوع ويقول له: «بالنسبة لهم هناك في الأسفل، أنا مصلوبٌ في أورشليم، وأتجرَّع الخلَّ والمرار وأُطعن بالحراب … ولكنني لست ذلك المُعلَّق على الصليب، لم أُعانِ أيًّا من تلك الآلام.»٤