ناسوت عيسى
(١) عيسى النبي
تؤكد الرواية القرآنية، وبإصرارٍ شديدٍ، على الطبيعة البشرية لعيسى، وذلك بأكثر من صيغةٍ وأكثر من موضعٍ في القرآن. ولكنها تُلخِّص كل جوانب هذه الطبيعة في الآية ٧٥ من سورة المائدة: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. وأكل الطعام هو الميزة التي تفرق بين الكائنات البشرية والكائنات الروحانية المتفوقة التي لا تطلب الطعام ولا تحتاجه.
هذه الصورة البشرية ليسوع هي التي تُطالعنا في الأناجيل الإزائية الثلاثة: متَّى ومرقس ولوقا. فيسوع كان ينتمي إلى أسرةٍ متواضعة، تُقيم في بلدةٍ متواضعةٍ تُدعى الناصرة، لم تُذكر في المصادر التاريخية والجغرافية إلَّا بعد عدة قرونٍ من حياة يسوع. وكان ربُّ هذه الأسرة يعمل نجَّارًا، ومارس ابنه يسوع هذه المهنة أيضًا، وكان مساعدًا لأبيه في ورشته. وقد أشار مؤلف إنجيل مرقس إلى ذلك، عندما تعجب أهل الناصرة من حكمته لما مارس تعليمه بينهم لأول مرةٍ، فقالوا: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ هَا هُنَا عِنْدَنَا؟ فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ». (مرقس، ٦: ٣). أما مؤلف إنجيل متَّى، فقد قال: «أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ * أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ كُلُّهَا؟» (متَّى، ١٣: ٥٥–٥٦).
من هذه الآيات الواردة عند مرقس ومتَّى، نفهم أنَّ أسرة يسوع كانت أسرةً كبيرة، تضمُّ إلى جانب يسوع أربعة من الإخوة ذكرتهم المصادر الرسمية بأسمائهم، وعددًا من الأخوات لم تحدد عددهن، بينما قالت المصادر المنحولة إنهما اثنتان. وفيما يخصُّ هؤلاء الإخوة يرى بعض المفسرين أنَّهم لم يكونوا إخوة يسوع بالفعل، وإنما أولاد خالته أو أولاد عمَّته؛ لأنَّ هؤلاء كانوا يُدعون بالإخوة أيضًا وفق التقليد العبري. بينما يرى آخرون أنَّهم كانوا أشقَّاء يسوع، وذلك اعتمادًا على قول متَّى إنَّ يوسف لم يعرفْ مريم بعد حملها من الروح القُدُس حتى وضعت ابنها البكر (متَّى، ١: ٢٤–٢٥). وهذا يترك الاحتمال قائمًا أنَّه قد عرفها بعد ذلك وأنجبت له إخوة يسوع. وقد ورد في بعض المصادر المنحولة أنَّ هؤلاء الإخوة هم أولاد يوسف من زواجٍ سابق؛ فقد جاء في كتاب تاريخ يوسف النجار أنَّ زوجة يوسف ماتت وتركت له أربعة ذكور، هم: يهوذا ويوستيوس ويعقوب وسمعان، وابنتان هما: ليسيا وليديا.
وكأيِّ إنسانٍ طبيعيٍّ آخر، فقد كان يسوع مُقبلًا على الحياة ويستمتع بالمأكل والمشرب، وهي الصورة التي تقدمها لنا قصة عرس قانا الذي دُعي إليه يسوع مع أمه وتلاميذه. وكان يتكئ ليأكل مع الشرائح الدنيا من الشعب. نقرأ في إنجيل متَّى: «وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْبَيْتِ، إِذَا عَشَّارُونَ وَخُطَاةٌ كَثِيرُونَ قَدْ جَاءُوا وَاتَّكَأُوا مَعَ يَسُوعَ وَتَلَامِيذِهِ. * فَلَمَّا نَظَرَ الْفَرِّيسِيُّونَ قَالُوا لِتَلَامِيذِهِ: لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟ * فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: لَا يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى.» (متَّى، ٩: ١٠–١٢). وقد كان خصومه يأخذون عليه سلوكه الطبيعي هذا، ويتَّهمونه بالميل إلى الأكل والشرب ولذائذ الحياة. ولهذا قال لهم: «جَاءَ يُوحَنَّا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. * جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَ ذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ» (متَّى، ١١: ١٨–١٩).
وكان الطِّيب من مُتع الدنيا التي حُببت إلى يسوع، على ما تبيِّنه قصة المرأة التي ضمخته بالعطر الفاخر، والتي رُويت بأكثر من شكلٍ في الأناجيل، ومنها رواية يوحنا:
إلى جانب هذه العواطف الإيجابية، فإن عواطف أخرى سلبية كانت توجِّه سلوكه أحيانًا. فلطالما أظهر التأفف ونفاذ الصبر تجاه تلاميذه الذين كانوا لا يفهمون بسهولة كل تعاليمه. فعندما قال للفريسيين مثله المعروف: «لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ.» (مرقس، ٧: ١٥) سأله تلاميذه عن مغزى المثل بعد انفضاض الجمع، فقال لهم: أفأنتم أيضًا هكذا غير فاهمين؟ ثم شرع يشرح لهم مغزى المثل. ولطالما احتدم غضبًا على محاوريه من مثقفي اليهود مستخدمًا أقذع الكلمات: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ. * هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَلكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِل مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْمًا. * وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ» (متَّى، ٢٣: ٢٧–٣٣). «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا» (يوحنا، ٨: ٤٤).
ولم ينجُ تلاميذه أنفسهم من ثورات غضبه، على ما نرى في هذا المشهد الذي رسمه مرقس لمشادة وقعت بين يسوع وبطرس: «وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. * وَقَالَ الْقَوْلَ عَلَانِيَةً. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. * فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلَامِيذَهُ، فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلًا: اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لِأَنَّكَ لَا تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ» (مرقس، ٨: ٣١–٣٣). ونقرأ عند مرقس أيضًا: «وَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَوْلَادًا لِكَيْ يَلْمِسَهُمْ. وَأَمَّا التَّلَامِيذُ فَانْتَهَرُوا الَّذِينَ قَدَّمُوهُمْ. * فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ ذلِكَ اغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ: دَعُوا الأَوْلَادَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلَا تَمْنَعُوهُمْ، لِأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلَاءِ مَلَكُوتَ اللهِ» (مرقس، ١٠: ١٣–١٤). وأيضًا: «ثُمَّ دَخَلَ أَيْضًا إِلَى الْمَجْمَعِ، وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. * فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي السَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. * فَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَهُ الْيَدُ الْيَابِسَةُ: قُمْ فِي الْوَسْطِ! * ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟ فَسَكَتُوا. * فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ، حَزِينًا عَلَى غلَاظَةِ قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ. فَمَدَّهَا، فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. * فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ» (مرقس، ٣: ١–٦).
ويتجلَّى غضب يسوع في أوضح أشكاله في مشهد طرد الصيارفة والباعة من باحة الهيكل: «وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيبًا، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، * وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَرًا وَغَنَمًا وَحَمَامًا، وَالصَّيَارِفَ جُلُوسًا. * فَصَنَعَ سَوْطًا مِنْ حِبَال وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ؛ الْغَنَمَ وَالْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ» (يوحنا، ٢: ١٣–١٥). وفي قصة لعنه للتينة العجفاء، يعبر يسوع عن غضبٍ مختلطٍ بنزقٍ ونفاد صبر: «وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ جَاعَ، فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا إلَّا وَرَقًا فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا: لَا يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ! فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ» (متَّى، ٢١: ١٨–١٩).
كما عبَّر يسوع عن عواطف إنسانيةٍ أصيلةٍ تتعلق بجزع الموت. فعندما أحسَّ بدنو ساعته صلى للآب لكي يجيز كأس المنية عنه: «وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضًا تَلَامِيذُهُ. * وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ: صَلُّوا لِكَيْلَا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. * وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى * قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لَا إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ. * وَظَهَرَ لَهُ مَلَاكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. * وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ» (لوقا، ٢٢: ٣٩–٤٤). كما عبَّر عن ذروة اليأس الإنساني عندما صرخ قبل أن يُسلم الروح على الصليب: «إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متَّى، ٢٧: ٤٦).
فإذا عدنا إلى الرواية القرآنية، نجد أنها تعبر عن ناسوت عيسى من خلال ثلاثة ألقاب. فقد وصفته بالنبي، وبالرسول، وبعبد الله. وجميع هذه الألقاب تجد سندًا لها في أسفار العهد الجديد وليست ابتكارًا قرآنيًّا. وسنبدأ بعيسى النبي: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا … (١٩ مريم: ٣٠–٣١).
في الرواية الإنجيلية وصف يسوع نفسه بالنبي. فعندما أظهر أهل الناصرة استخفافهم به ولم يؤمنوا بتعاليمه، لم يستطعْ إظهار معجزاته بينهم بسبب قلة إيمانهم، وقال: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلَا كَرَامَةٍ إلَّا فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ» (متَّى، ١٣: ٥٤–٥٧). وفي رواية لوقا للحادثة نفسها، يعقد يسوع مقارنة بين ما جرى له في الناصرة، وما جرى للنبي إيليا وللنبي أليشع، اللذين أظهرا معجزاتهما بعيدًا عن موطنيهما: «وَبِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرَامِلَ كَثِيرَةً كُنَّ فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ إِيلِيَّا حِينَ أُغْلِقَتِ السَّمَاءُ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمَّا كَانَ جُوعٌ عَظِيمٌ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا، * وَلَمْ يُرْسَلْ إِيلِيَّا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا، إلَّا إِلَى امْرَأَةٍ أَرْمَلَةٍ، إِلَى صَرْفَةِ صَيْدَاءَ. * وَبُرْصٌ كَثِيرُونَ كَانُوا فِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ أَلِيشَعَ النَّبِيِّ، وَلَمْ يُطَهَّرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَّا نُعْمَانُ السُّرْيَانِيُّ» (لوقا، ٤: ٢٥–٢٧).
وقد وصفه الآخرون أيضًا بالنبي، وقرنوه بيوحنا المعمدان: «فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ، لِأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُورًا. وَقَالَ: إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ. * قَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ إِيلِيَّا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ. * وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ: هذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!» (مرقس، ٦: ١٤–١٦). «وعندما سأل يسوع تلاميذه عمَّا يقول الناس أنه هو: فَأَجَابُوا: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: إِنَّ نَبِيًّا مِنَ الْقُدَمَاءِ قَامَ» (لوقا، ٩: ١٩). وعندما أقام يسوع الشاب الميت في بلدة نايين: «فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ» (لوقا، ٧: ١٦). «وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: مَنْ هذَا؟ * فَقَالَتِ الْجُمُوعُ: هذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ» (متَّى، ٢١: ١٠–١١). وقال الفريسيون ورؤساء الكهنة لأحد محاوريهم، وكان مؤمنًا بيسوع: «أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ» (يوحنا، ٧: ٥٢). وقالت له المرأة السامرية التي طلب منها عند البئر شربة ماء: «يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!» (يوحنا، ٤: ١٩). وعندما قبل يسوع العطر من هذه المرأة الخاطئة، قال صاحب البيت في نفسه: «لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ» (لوقا، ٧: ٣٩). وعندما فتح الأعمى عينيه قالوا له: «مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ!» (يوحنا، ٩: ١٧). وفي سفر أعمال الرسل يقرن بطرس الرسول يسوع بموسى، مقتبسًا من العهد القديم قول موسى: «إِنَّ نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ» (أعمال، ٣: ٢٢). وعندما اجترح يسوع معجزة تكثير الخبز والسمك قال الحاضرون: «إِنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ» (يوحنا، ٦: ١٤).
إنَّ إطلاق لقب النبي على يسوع كان له ما يسوِّغه من وجهة نظر الذين شهدوا أعماله ومعجزاته؛ فهذه الأعمال كانت تُنسج على غرار أعمال أنبياء العهد القديم الكبار من أمثال إيليا وأليشع، ولم تكن بالجديدة على التقوى الدينية للمنطقة. فالنبي إيليا أنزل نارًا من السماء أكلت جنود ملك السامرة (الملوك الثاني، ١: ٩–١١)، وأنزل من السماء مطرًا أنهى به فترة جفافٍ طويلةٍ (الملوك الأول، ١٨): وعندما كان يعتزل في البرية كانت الغربان تأتي له بالطعام (الملوك الأول، ١٧: ٢–٦). وعندما أقام لدى امرأة أرملة في بلدة صرفة زمن المجاعة، كانت أوعية الدقيق والزيت تمتلئ كلما نفدت. ولما مات ابن هذه الأرملة أعاده إيليا إلى الحياة (الملوك الأول، ١٧: ١٠–٢٤)؛ وعندما أراد عبور نهر الأردن مع تلميذه أليشع، ضرب الماء بردائه فانشقَّ ومشى الاثنان على اليابسة (الملوك الثاني، ٢: ٧–٨). وبعد ذلك ارتفع إيليا إلى السماء مثلما ارتفع يسوع، وجاءت مركبةٌ من نار تجرُّها خيولٌ من نار فأصعدته على جناح العاصفة حيًّا إلى السماء (الملوك الثاني، ٢: ١١–١٢). ومن أعمال أليشع أنَّه جعل الحديد يطفو على سطح الماء (الملوك الثاني، ٦: ٥–٧). وزاد زيت المرأة التي تُوفي زوجها حديثًا، حتى إنها ملأت منه كل أوعية المنزل واستعارت أوعية من الجيران أيضًا، فباعته وقضت ديون زوجها (الملوك الثاني، ٤: ١–٧). وعندما كان في ضيافة أسرة في بلدة شونم، مات ابنهم الوحيد فأعاده إلى الحياة (الملوك الثاني، ٤: ٨–٣٧). وجاءه رجل بعشرين رغيفًا فأطعم منها مئة شخصٍ وزاد عنهم (الملوك الثاني، ٤: ٤٢–٤٣). وكان يشفي من المرض عن طريق غمر المريض في ماء الأردن (الملوك الثاني، ٥: ٨–١٤). أي إنَّ معجزات يسوع التي بلغت أوجها في إحياء الموتى، كانت في العرف السائدِ في ذلك الزمن معجزات يجترحها نبيٌّ بتأييد من روح الله، لا شخصٌ قادمٌ من العالم الماورائي.
وفي الحقيقة، فإنَّ الطابع النبوي لتعاليم يسوع يبدو لنا واضحًا منذ كرازته الأولى. فكما كان يوحنا المعمدان يكرز بقرب حلول اليوم الأخير قائلًا: «تُوبُوا، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّموَاتِ» (متَّى، ٣: ١–٢)، كذلك كانت الكرازة الأولى ليسوع: «وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ * وَيَقُولُ: قَدْ كَملَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ» (مرقس، ١: ١٤–١٥). أي إنَّه اعتبر رسالته مكملةً لرسالة يوحنا النبوية، الذي كان يُعمِّد من أجل التوبة، ومغفرة الخطايا، ويبشر بقرب حلول ملكوت الله.
ولقد حاز ملكوت السماء والمتطلبات الأخلاقية لدخوله على القسم الأعظم من تعاليم يسوع في الأناجيل الإزائية الثلاثة: متَّى ومرقس ولوقا؛ حيث ورد تعبير «ملكوت الله» أو «ملكوت السموات» نحو ثمانين مرة، الأمر الذي أسبغ على رسالة يسوع طابعًا آخرويًّا طاغيًا. وحتى بعد قيامته من بين الأموات، بقيت تعاليمه تدور حول هذا المفهوم، على ما نفهم من سفر أعمال الرسل الذي قال مؤلفه إن يسوع بقي يظهر لتلاميذه مدة أربعين يومًا وهو يتكلَّم عن الأمور المختصة بملكوت الله (أعمال، ١: ١–٣).
أخيرًا، فإنَّ لقب النبي لم يكن غائبًا عن الأناجيل المنحولة التي ذكرته أكثر من مرة، ومن بينها ما ورد في إنجيل العبرانيين، الذي تداولته الشيع المسيحية-اليهودية، مثل الإبيونيين والنصارى، وهو إنجيلٌ ضائعٌ بقيت منه شذرات أوردها المؤلفون المسيحيون، ومنها هذه الشذرة التي تصف لحظة خروج يسوع من ماء العماد، وحلول الروح القدس عليه: «وحدث عندما خرج يسوع من الماء أن معين الروح القدس هبط واستقر عليه، وقال له: أي بُني. من بين كل الأنبياء كنت أنتظر قدومك لتكون فيك مسرَّتي».
(٢) عيسى الرسول/عبد الله
(٢-١) عيسى الرسول
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ … (٦١ الصف: ٦). مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ … (٥ المائدة: ٧٥). وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (٣ آل عمران: ٤٧–٤٨).
تؤكد هذه الآيات أنَّ عيسى هو مجرد إنسان اختصَّه الله بالنبوة والرسالة، شأنه في ذلك شأن الرسل السابقين واللاحقين عليه، ولكن الله فضَّله على هؤلاء الرسل، فجعله «آية للعالمين» من خلال واقعة الميلاد العذري، وأيَّده بروح القدس: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (٢ البقرة: ٢٥٣).
لم ترد صفة الرسول لعيسى في العهد الجديد إلا مرَّةً واحدة، وذلك في رسالة بولس إلى العبرانيين: «مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْقِدِّيسُونَ، شُرَكَاء الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لَاحِظُوا رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ، * حَالَ كَوْنِهِ أَمِينًا لِلَّذِي أَقَامَهُ (الله)، كَمَا كَانَ مُوسَى أَيْضًا فِي كُلِّ بَيْتِهِ» (العبرانيين ٣: ١–٢). وتعلق الترجمة الكاثوليكية الجديدة على هذا المقطع بقولها: «يسوع هو رسول الله، أرسله ليكون معلمًا لهم ومخلِّصًا. وهو حبر؛ لِأَنَّه الوسيط بين الله وبينهم.»
على أنَّ يسوع قد أشار إلى نفسه عدة مراتٍ على أنَّه مُرسلٌ من قِبل الله لينطق بكلمته بين الناس، على ما تبينه المقتبسات التالية: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لِأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلَاقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ» (لوقا، ٤: ١٨). «لأَنِّي لَا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ٥: ٣٠). «… الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي. * وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي» (يوحنا، ٥: ٣٦–٣٧). «هذَا هُوَ عَمَلُ اللهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ» (يوحنا، ٦: ٢٩). «فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟ * أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي. * إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَلْ هُوَ مِنَ اللهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي. * مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ» (يوحنا، ٧: ١٥–١٨). «وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ» (يوحنا، ٧: ٢٨). فقال لهم يسوع أيضًا: سَلَامٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا» (يوحنا، ٢٠: ٢١).
إن الرسول باعتباره حلقة وصلٍ بين الله والبشر، لا يتكلَّم من عنده، وإنما ينقل كلمة الله ورسالته إلى الناس. ويسوع يتحدث عن وضعه الرسولي هذا باعتباره ناقلًا للوحي الإلهي في هذه المقتبسات: «لِأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ» (يوحنا، ١٢: ٤٩). «… وَالْكَلَامُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي؛ بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ١٤: ٢٤). «أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلَامَكَ، وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ» (يوحنا، ١٧: ١٤). «أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذلِكَ تَقْبَلُونَهُ» (يوحنا، ٥: ٤٣). «لَا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا إلَّا مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ» (يوحنا، ٥: ١٩). «الَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي؛ بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ١٢: ٤٤).
(٢-٢) عبد الله
يُدعى عيسى في القرآن بعبد الله، وذلك بمعنى المستسلم له، المُقدِّم فروض الطاعة له، المنفذ لمشيئته: «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا» (١٩ مريم: ٣٠). لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ … (٤ النساء: ١٧٢). إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٤٣ الزخرف: ٦٤). إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٤٣ الزخرف: ٥٩).
وقد استخدم القرآن، بهذا المعنى، صفة العبد لجميع الأنبياء: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١٨ الكهف: ١). تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (٢٥ الفرقان: ١). وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٨ ص: ٣٠). ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (١٧ الإسراء: ٣). اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٨ ص: ١٧).
كما أشار كتاب العهد القديم أيضًا بهذه الصفة إلى الأنبياء الكتابيين: «وَاخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَظَائِرِ الْغَنَمِ. * مِنْ خَلْفِ الْمُرْضِعَاتِ أَتَى بِهِ، لِيَرْعَى يَعْقُوبَ شَعْبَهُ، وَإِسْرَائِيلَ مِيرَاثَهُ». (مزمور ٧٨: ٧٠–٧١). «يَا ذُرِّيَّةَ إِبْراهِيمَ عَبْدِهِ، يَا بَنِي يَعْقُوبَ مُخْتَارِيهِ». (المزمور ١٠٥: ٦). «أَرْسَلَ مُوسَى عَبْدَهُ وَهارُونَ الَّذِي اخْتَارَهُ». (المزمور ١٠٥: ٢٦). «… وَالْحَلفَ الْمَكْتُوبَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، لِأنَّنَا أَخْطَأْنَا إِلَيْهِ». (دانيال، ٩: ١١).
لم يُوصَف يسوع بعبد الله في أسفار العهد الجديد، ولكن لما كانت صفة العبد مشتقةً من العبادة والطاعة لله، فقد كان يسوع بهذا المعنى عبدًا لله، نراه منصرفًا إلى الصلاة والعبادة في معزل عن تلاميذه، وفي كل ظرفٍ دقيقٍ من ظروف حياته. والمقتبسات التالية تظهر تشديد الأناجيل على كون يسوع رجل صلاة:
«وَلَمَّا اعْتَمَدَ جَمِيعُ الشَّعْبِ اعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ، * وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ …» (لوقا، ٣: ٢١–٢٢). «وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلَاءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ» (مرقس، ١: ٣٥). «وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلَامِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ، إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ. * وَبَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. * وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ» (مرقس، ٦: ٤٥–٤٧). «… فَاجْتَمَعَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ لِكَيْ يَسْمَعُوا وَيُشْفَوْا بِهِ مِنْ أَمْرَاضِهِمْ. * وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي الْبَرَارِي وَيُصَلِّي» (لوقا، ٥: ١٥–١٦). «… أَخَذَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَصَعِدَ إِلَى جَبَل لِيُصَلِّيَ. * وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لَامِعًا. * وَإِذَا رَجُلَانِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا» (لوقا، ٩: ٢٨–٣٠). «وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ: يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلَامِيذَهُ» (لوقا، ١١: ١).
من هذه المقتبسات نلاحظ أنَّ يسوع كان على الدوام يصلِّي منفردًا وبعيدًا عن الناس، وبطريقة لا تشبه الصلاة الطقسية اليهودية. فصلاته كانت توحدًا صوفيًّا بالله، عن طريق التأمل والمعرفة الباطنية، لا عن طريق القرابين الحيوانية والمحارق التي كان اليهود يصعدونها على مذبح الهيكل. ولا يوجد في الأناجيل ما يدلُّ على أنَّ يسوع قد صلَّى في الهيكل اليهودي، أو أنَّه مارس طقس القرابين الحيوانية. وعندما علَّم تلاميذه الصلاة المسيحية: «أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. * لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ …» (متَّى، ٦: ٩–١٠)، نصحهم بالصلاة الانفرادية في خلواتهم بعيدًا عن الأعين، عندما قال لهم: «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ» (متَّى، ٦: ٦).
في آخر صلاة له قبل أن يُلقى القبض عليه، عبَّر يسوع أفضل تعبير عن وعيه لعلاقته بالآب، التي تميَّزت بالطاعة المطلقة للمشيئة الربانية: «وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضًا تَلَامِيذُهُ. * وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ: صَلُّوا لِكَيْلَا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. * وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى * قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لَا إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ. * وَظَهَرَ لَهُ مَلَاكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. * وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ.* ثُمَّ قَامَ مِنَ الصَّلَاةِ وَجَاءَ إِلَى تَلَامِيذِهِ، فَوَجَدَهُمْ نِيَامًا مِنَ الْحُزْنِ. * فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلَّا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ» (لوقا، ٢٢: ٣٩–٤٦).
ولعلنا واجدين أوضح صورة ليسوع كعبد الله، في الصلة التي عقدتها الأناجيل بين شخصية «العبد البار» في كتاب العهد القديم وشخصية يسوع. وهذا العبد عبارةٌ عن شخصيةٍ ضبابيةٍ تظهر على ما يبدو نحو نهاية الأزمنة، واقترنت تدريجيًّا بشخصية مسيح العهد القديم، مع فارقٍ كبيرٍ، وهو أنَّ العبد البار لا يسير في طريق الانتصارات العسكرية، بل يحيا حياة الطاعة الأمينة، فيأخذ على عاتقه هو البريء ثقل خطايا الشعب، ويخلِّصهم بفضل ما يتكبَّده من آلام. وهو إلى ذلك ينشر العدل في الأرض ويحمل البشرى للمساكين.
نقرأ في سفر إشعيا على لسان إله العهد القديم: «هُوَ ذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ. * لَا يَصِيحُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. * قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لَا يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ. * لَا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ، وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ. * هكَذَا يَقُولُ اللهُ الرَّبُّ، خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَنَاشِرُهَا، بَاسِطُ الأَرْضِ وَنَتَائِجِهَا، مُعْطِي الشَّعْبِ عَلَيْهَا نَسَمَةً، وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا رُوحًا. * أَنَا الرَّب قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ، فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ،* لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ، لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ» (إشعيا، ٤٢: ١–٧).
وفي موضع آخر من سفر إشعيا، نجد هذا العبد البار يتحدث عن نفسه بألفاظ مشابهةٍ: «رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لِأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلَاقِ. * لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا» (إشعيا، ٦١: ١–٢).
ولقد قرن يسوع نفسه بهذا العبد البار الذي يتحدث عنه سفر إشعيا: «وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، * فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَا النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوبًا فِيهِ: * رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لِأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلَاقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، * وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ. * ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ، وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. * فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ» (أي تمَّ في شخص يسوع). (لوقا، ٤: ١٦–٢١).
ونقرأ أيضًا في سفر إشعيا عن العبد البار: «هُوَ ذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدًّا. * كَمَا انْدَهَشَ مِنْكَ كَثِيرُونَ. كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَدًا أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ، وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ. * هكَذَا يَنْضحُ أُمَمًا كَثِيرِينَ. مِنْ أَجْلِهِ يَسُدُّ مُلُوكٌ أَفْوَاهَهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَبْصَرُوا مَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ فَهِمُوهُ» (إشعيا، ٥٢: ١٣–١٥). «مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟ * نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لَا صُورَةَ لَهُ وَلَا جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلَا مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. * مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. * لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولًا. * وَهُوَ مَجْرُوحٌ لِأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لِأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلَامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا» (٥٣: ١–٥).
وقد قرن يسوع نفسه بهذا العبد البار المتألم الذي سكب للموت نفسه، عندما ابتدأ يُعلم تلاميذه بأنَّ: «ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس، ٨: ٣١).
كما توقع أن يُحصى مع أثمةٍ كما أُحصي العبد البار مع أثمة في سفر إشعيا أعلاه، عندما قال: «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضًا هذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ» (لوقا، ٢٢: ٣٧). وعندما صُلب عن يمين ويسار يسوع اثنان من اللصوص، استحضر إنجيل مرقس الآية إيَّاها من سفر إشعيا وقال: «فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ» (مرقس، ١٥: ٢٧–٢٨).
وكما إن هذا العبد البار يحمل خطيئة الناس ويخلصهم من آثامهم، كذلك هو يسوع الذي يعني اسمه «خلاص يهوه»، والذي قال فيه الملاك عندما جاء يوسف بالبشارة: «يَا يُوسُفُ بْنَ دَاوُدَ، لَا تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لِأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. * فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لِأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متَّى، ١: ٢٠–٢١).
والعبد البار الذي قال فيه إشعيا في المقتبس السابق إنَّه: كشاةٍ تُساق إلى الذبح، وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جازيها فلم يفتح فاه، والذي جعل نفسه ذبيحة إثم، هو يسوع أيضًا كما يراه مؤلف إنجيل يوحنا الذي أطلق عله لقب «حَمَلُ اللهِ». فعندما رأى يوحنا المعمدان يسوع لأول مرة أشار إليه قائلًا: «هُوَ ذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ» (يوحنا، ١: ٢٩). وكاستكمالٍ لرمزية «حَمَلُ اللهِ» فقد جعل مؤلف إنجيل يوحنا موت يسوع بعد ظهر اليوم السابق لعيد الفصح اليهودي، أي في الوقت نفسه الذي كان اليهود يريقون دم حَمَل عيد الفصح من أجل مغفرة الخطايا، مؤسسًا بذلك للفكرة التي نضجت فيما بعد في اللاهوت المسيحي عن معنى موت يسوع باعتباره تحريرًا للإنسانية من الخطيئة والموت.
وفي المزمور ٢٢، لدينا صورةٌ نابضةٌ بالحياة للعبد البارِّ المتألم: «إِلهِي، إِلهِي! لِمَاذَا تَرَكْتَنِي بَعِيدًا عَنْ خَلَاصِي، عَنْ كَلَامِ زَفِيرِي؟ … * أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي. * فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ. * كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي … * لِأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلَابٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. * أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ. * يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ» (مزمور ٢٢: ١–١٨).
نلاحظ من قراءة هذا المزمور أنَّ مؤلفي الأناجيل قد عقدوا ثلاث مقارنات بين هذا العبد البار المتألم ويسوع المسيح. فيسوع ينطق قبل أن يلفظ الروح بالعبارة نفسها الواردة في مطلع المزمور: «إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (مرقس، ١٥: ٣٤). ويدا يسوع ورجلاه تثقبان من أجل تثبيته على الصليب: «وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا: مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ؟» (مرقس، ١٥: ٢٤)، مثلما اقترع خصوم العبد البار على ثيابه. وفي هذا الموضع يضيف إنجيل يوحنا: «لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً» (يوحنا، ١٩: ٢٤).
ويُجري مؤلف إنجيل يوحنا عددًا آخر من المقارنات بين مقاطع من العهد القديم يُفهَم منها إشارة إلى العبد البار، وما حدث ليسوع وهو على الصليب. فعندما قال يسوع: «أنا عطشان»، وضع الجنود اسفنجةً مبللةً بالخل ورفعوها على قضيبٍ فأدنوها من فمه؛ فلما ذاق يسوع الخل قال: «قد أكمل». ونكس رأسه وأسلم الروح (يوحنا، ١٩: ٣٠). ويوحنا هنا يُشير إلى ما ورد في المزمور ٦٩: «وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَمًا، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلًّا» (٦٩: ٢١). وعندما سأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سيقان المصلوبين من أجل التعجيل بموتهم، جاء الجنود وكسروا ساقي اللص الأول والثاني: «وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. * لكِنَّ وَاحِدًا مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ» (يوحنا، ١٩: ٣٣–٤٣). وهنا يعلق يوحنا قائلًا: «لأنَّ هذا كان ليتم كتاب القائل: عَظْمٌ لَا يُكْسَرُ مِنْهُ.» وأيضًا يقول كتاب آخر: «سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ» (يوحنا، ١٩: ٣٦–٣٧)، ويوحنا يُشير هنا إلى المزمور ٣٤: «كَثِيرَةٌ هِيَ بَلَايَا الصِّدِّيقِ، وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ الرَّبُّ. * يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لَا يَنْكَسِرُ» (١٩–٢٠). كما يُشير أيضًا إلى ما ورد في سفر زكريا: «فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، الَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ» (زكريا، ١٢: ١٠).
(٣) يسوع الرب/المعلِّم
لقد عبَّرت الرواية القرآنية عن ناسوت عيسى بجملةٍ بليغةٍ مختصرةٍ، عندما قالت إنه وأمه «كانا يأكلان الطعام». ثم أسبغت عليه ألقابًا تضعه في زمرة الشخصيات الدينية الإنسانية، التي أقامها الله وسيطًا بينه وبين بني الإنسان لإبلاغهم رسالته، فهو «نبيٌّ» و«رسولٌ» و«عبد الله». وقد بينَّا أن هذه الألقاب ليست من ابتكار القرآن، وإنما تمَّ إطلاقها من قبل على يسوع في أسفار العهد الجديد.
ولسوف نلتفت الآن إلى معالجة لقب إشكاليٍّ انفرد به العهد الجديد، وهو لقب «الرب» فعلى الرغم من أن معظم النَّاس يعتقدون بأن هذا اللقب يُعبِّر عن «لاهوت» يسوع وطبيعته الفائقة، حيث تختلط في أذهانهم كلمه «الرب» بكلمة «الإله»، إلا أنني سوف أحاول فيما يلي تبيين الطبيعة الحقيقة للَّقب، من أجل إظهار عكس الاعتقاد الشائع.
تنبع إشكالية لقب «الرب» في ذهن القارئ العربي للعهد الجديد، من أن هذه الكلمة وتنويعاتها (ربي، ربكم … إلخ) قد استُخدمت في القرآن للإشارة إلى الله تعالى في نحو ٤٠ آية من آيات الكتاب، الأمر الذي جعلها مرادفةً لكلمة الإله لدى معظم الناس. أما المعنى القاموسي لها فيدل على السيد، والمالك، والقيِّم، والمنعم، والمدَبِّر. أي إنَّها من حيث الأصل تتضمن معنى السيادة والسلطان في العلاقات الاجتماعية، ثم انعكست على العلاقة بين الإله والبشر، باعتباره السيد الأعلى، والسلطان المطلق على العالم الإنساني والطبيعي. فالربوبية والحالة هذه هي مصطلحٌ دنيويٌّ جرى عكسه على العالم الميتافيزيقي، للإشارة إلى نوع العلاقة القائمة على السيادة والسلطان بين عالم الألوهة وعالم الإنسان. وينجم عن ذلك أنَّ الكائن القدسي هو ربٌّ من حيث صلتُه بالخليقة، وإله من حيث طبيعتُه المفارقة للعالم. إن الإله هو رب بالضرورة، ولكن ليس كل ربٍّ إلهًا، لأنَّ كل صاحب سلطان على الأرض هو ربٌّ بمعنى ما (رب الأسرة، رب العمل، وما إلى ذلك)، ولكن الإله هو الكائن الذي تنتهي عنده سلسلة الربوبية، وما من ربٍّ بعده.
ولدينا في اللغة العربية أيضًا كلمةٌ أخرى تتضمن معنى السيادة والسلطان في العلاقات الاجتماعية، ولكنها استُخدمت في وصف العلاقة بين الله ومخلوقاته، وهي كلمة «المولى». وبصيغة المخاطبة نقول «مولاي» و«مولانا»، بمعنى سيدنا وولي أمرنا. والكلمة تُستخدم عادةً لمخاطبة ذوي الشأن الرفيع في المجتمع، مثل الملوك والأمراء والسلاطين، كما يستخدمها العبيد في التوجه بالخطاب إلى أسيادهم، ولكنها وردت في القرآن في معرض مخاطبة المؤمنين لله تعالى: … رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا … وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢ البقرة: ٢٨٦).
ونحن إذا نظرنا إلى كلمة «الرب» في اللغات السامية الأخرى، نجدها تحمل المعنى نفسه، ويمكن لنا ترجمتها إما بالسيد أو بالرب. فكلمة «بعل» في اللهجات الكنعانية تعني «السيد»، أرضيًّا كان أم سماويًّا، ومثلها كلمة «أدون»، لذلك كان إله الخصب «هدد» يُلقب إما بالبعل أو بأدون، ومن الأخيرة جاءت التسمية «أدونيس» التي أطلقها الإغريق على الإله السوري. وفي الآرامية والسريانية والعبرية يجري استخدام كلمة «أدون» وكلمة «مار» بمعنى السيد أو الرب. فكان ملوك آرام يُخاطبون بلقب «ماري»، أي ربِّي وسيِّدي. وكان العبرانيون يكتبون اسم إلههم في أسفارهم المقدَّسة «يهوه»، ولكنهم في قراءتهم لهذه الأسفار كانوا يلفظون الاسم «أدون» أو «مار» تهيبًا من التلفُّظ باسم الجلالة. وفي الإشارة إلى إلههم كانوا يقولون «أدوناي» أي ربي وسيدي، ويقولون أيضًا «ماري» بالمعنى نفسه. ولا أدَلُّ على الأصل الدنيوي لهذه الصيغة في الخطاب، من أنَّها كانت تُستخدم لإظهار الاحترام للشخصيات المتميزة. فقد عُثر في فلسطين على مقابر تعود إلى الحقبة الهيلينستية، وفيها نقوش يدعو فيها الابن أباه المتوفي «آبا ماري» أي ربِّي أبي. وكان يهود بابل الذين أنتجوا التلمود البابلي يدعون المعلمين الدينيين بلقب «مار»، بينما استخدم اليهود الفلسطينيون لقب «رابون» أو «رابان» المستمدة من كلمة «رب» العبرانية، التي تدلُّ على شخصٍ في موقع السلطة. وقد استخدم السريان المسيحيون أيضًا كلمة «مار» كلقبٍ للشخصيات الروحية المتميزة، فقالوا: مار جاورجيوس، ومار إلياس، ومار سمعان، وما إلى ذلك.
نلاحظ من هذه المقتبسات أنَّ كلمة كوريوس اليونانية ليست أكثر من صيغةٍ مهذبةٍ لمخاطبة شخصٍ رفيع المقام، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ بعض اليهود اليونانيين قد استخدموها في خطاب فيلبس أحد رسل يسوع: «وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ. * فَتَقَدَّمَ هؤُلَاءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ، وَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ» (يوحنا، ١٢: ٢٠–٢١).
في جميع المواضع التي يخاطب فيها الغرباء يسوع، عَمَدت الترجمات العربية إلى استخدام كلمة «سيد» كمقابل لكلمة «كوريوس». ولكن عندما نأتي إلى المواضع التي يخاطب فيها الرسل والتلاميذ نجد أنَّ الترجمات قد استخدمت كلمة «الرب» كمقابل للكلمة اليونانية نفسها. بينما حافظت الترجمات الإنكليزية على كلمة «لورد» في الحالتين. وإليكم بعض النماذج: «وَبَعْدَ ذلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ (كوريوس) سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضًا، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعًا أَنْ يَأْتِيَ … * فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ!» (لوقا، ١٠: ١ و١٧). وعندما كان مركب بطرس يغرق في البحر ويسوع معه ناداه: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ (كوريوس)؛ لأنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ» (لوقا، ٥: ٨). وقال له تلميذاه يعقوب ويوحنا بعد أن منعهما أهل قرية سامرية من الدخول: «يَا رَبُّ (كوريوس) يا ربُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟» (لوقا، ٩: ٥٤). وفي سفر أعمال الرسل عندما ظهر للتلاميذ بعد قيامته سألوه: «يَا رَبُّ (كوريوس)، هَلْ فِي هذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» (أعمال، ١: ٦). وعندما نادى يسوع بولس من البرق على الطريق إلى دمشق وقال له: «شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟» * فَسألهَ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ الرَّبُّ (كوريوس): أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ» (أعمال، ٩: ٣–٥).
على أنَّ لقب الرب عندما يُطلق على يسوع القائم من بين الأموات، يتخذ أبعادًا أكثر سموًّا؛ لأنَّ الله قد جعله مسيحًا وسيدًا على العالم: «فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هذَا، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا» (أعمال، ٢: ٣٦). وبالمعنى نفسه يقول بولس: «لِأنَّهُ لِهذَا مَاتَ الْمَسِيحُ وَقَامَ وَعَاشَ، لِكَيْ يَسُودَ عَلَى الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ» (رومية ١٤: ٩). وأيضًا: «لِذلِكَ رَفعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ * لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، * وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ» (فيليبي، ٢: ٩–١١). أي إن ربوبية يسوع تأتي من إعلان الله له سيدًا على العالم بعد أن رفعه إليه. وفي موضع آخر يجعل بولس نفسه أكثر وضوحًا عندما يرسم خطًّا فاصلًا بين الألوهية التي لله والربوبية التي ليسوع القائم من بين الأموات: «لكِنْ لَنَا إِلهٌ وَاحِدٌ: الآبُ الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ بِهِ» (الرسالة الأولى إلى أهالي كورنثوس، كورنثة، ٨: ٦).
(٣-١) يسوع المعلم
يتصل لقب «المعلم» الذي تُطلقه الأناجيل على يسوع بلقب الرب أو السيد، فكلاهما يدلُّ على رجلٍ في موقع السلطة الدينية. وقد كان المعلمون الدينيون اليهود، كما أسلفنا، ينادَون بلقب «رابون» أو «رابان» وبصيغة المخاطبة «رابي» وقد وردت الكلمة في القرآن بصيغة الجمع «ربانيون»: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ … (٥ المائدة: ٦٣). وقد قرن يسوع بين كلمة المعلم وكلمة الرب أو السيد عندما قال لتلاميذه: «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأنِّي أَنَا كَذلِكَ. * فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ» (يوحنا، ١٣: ١٢–١٤).
ولكن ما يميز يسوع عن الربانيين اليهود، هو أنَّه لم يستمد سلطته التعليمية ومعارفه من الدراسة الطويلة على يد فقهاء في الدين معترف بهم، بل إنَّ هذه المعارف تأتيه وحيًا من الله: «تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ٧: ١٦). ولذلك قال له نيقوديموس أحد المعلمين الفريسيين: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلمًا، لَانْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ» (يوحنا، ٣: ٢). لهذا فإنَّ تعاليم يسوع تخلو من الاستشهاد بآيات من كتاب العهد القديم وتقديم تفسيرات لها، على طريقة الربانيين اليهود، وسلطة تعليمة لا تأتي من سلطة الكتاب، وإنما من السلطة الروحية التي يتمتَّع بها يسوع بتأييد من الآب. ولذلك بُهت الناس من تعليمه «أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ» (مرقس، ١: ٢٢).
وعلى عكس الأسلوب التقليدي الجامد للربانيين، الذي يعتمد المقولات الجاهزة التي نقلوها عن أساتذتهم، فقد تميَّز أسلوب يسوع بطابعٍ غير رسميٍّ يعتمد التشابيه الحيوية والأمثال القصيرة التي يسوقها بلغةٍ شعريةٍ. ولم يكن مستقرًّا في مكان واحد يقصد الناس إليه ليتعلَّموا، بل كان هو الذي يقصد الناس متنقلًا من مكانٍ إلى آخر: «لِلثَّعَالِب أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (متَّى، ٨: ٢٠).