خاتمة
إن كل ما قدمناه في الفصول السابقة يوصلنا إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ الرواية القرآنية عن ميلاد مريم وحياتها، والحمل العذري، وميلاد عيسى وحياته، وأعماله وأقواله، وموته وبعثه، تتفق مع الرواية الإنجيلية، وإلى حدِّ التطابق التام في معظم الأحيان، واستخدام تعابير متشابهة. كما تتفق الروايتان إلى حدٍّ بعيدٍ فيما يتعلق بالطبيعة البشرية لعيسى: فهو نبيٌّ، ومرسلٌ من عند الله، ورجلٌ خاضعٌ لمشيئة الله، ويصلِّي له على الدوام، وفيما يتعلق بالطبيعة الفائقة لعيسى باعتباره الكائن الأعلى في سلم ارتقاء البشرية، فإن الروايتين على استخدامهما لتعابير ومصطلحات متخالفة فيما يخص هذه الطبيعة، فإنهما تضعان خطًّا فاصلًا واضحًا بين طبيعة عيسى وطبيعة خالقه، عبَّرت عنه الرواية القرآنية بأكثر من صيغةٍ على ما سنورده بعد قليلٍ، وعبَّرت عنه الرواية الإنجيلية على أفضل وجه عندما خاطب يسوع ربه في إنجيل يوحنا قائلًا: «وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا، ١٧: ٣).
من هنا، فإن الجدل الذي أقامه القرآن الكريم مع المسيحية لم يكن موجهًا نحو مضامين الأناجيل وبقية أسفار الكتاب المقدس المسيحي، بقدر ما كان موجهًا نحو لاهوت الكنيسة المسيحية الذي بُني بشكلٍ تدريجيٍّ، وعبر عدة قرون، على قرارات المجامع الكنسية، وعلى تعاليم آباء الكنيسة الأوائل. كما إنَّ التتبع الدقيق لهذا الجدل في القرآن وطريقة صياغته يدل على أنَّه جاء في خضمِّ صراعٍ فكريٍّ عنيف بين الفرق المسيحية المتناحرة، ومحاجَّات لا تنتهي بينها فيما يخصُّ طبيعة المسيح وعلاقته بالآب. وقد أشار القرآن إلى هذا الصراع في سورة المائدة: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (٥ المائدة: ١٤).
ولقد اعتبر القرآن نفسه بمثابة القيِّم على تراث المسيحية، وأدلى بدلوه في هذا النقاش المسيحي الداخلي من خلال روايته الخاصة للإنجيل، والتي قدَّمها من خلال موقعه كطرفٍ في القضية، لا كخصمٍ فيها.
(١) عناصر الجدل القرآني
(١-١) نقد لقب ابن الله
وهنالك خطابٌ موجَّه تحديدًا إلى العقيدة المسيحية، وهذه أهم نماذجه:
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٩ مريم: ٣٤–٣٦). وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ (٩ التوبة: ٢٠). وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢١ الأنبياء: ٢٥–٢٧).
(١-٢) نقد عبادة يسوع
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (٥ المائدة: ٧٢). مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٣ آل عمران: ٧٩). اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩ التوبة: ٣١).
(١-٣) نقد عبادة مريم
وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ … * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي … (٥ المائدة: ١١٦–١١٧).
(١-٤) نقد مفهوم الثالوث
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (٤ النساء: ١٧١). لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ (٥ المائدة: ٧٣).
هذا النقد القرآني لعقائد وممارسات مسيحيةٍ كان موجهًا بالدرجة الأولى إلى الفهم الخاطئ للصيغ الفلسفية المركبة التي استخدمها اللاهوت المسيحي في التعبير عن طبيعته، وما نجم عن هذا الفهم العامي من ممارساتٍ بعيدةٍ عن المرامي الحقَّة للعقيدة. ونحن إذا فهمنا الجوهر البسيط الكامن خلف هذه الصيغ الفلسفية لضاقت الهوَّة إلى حدٍّ كبيرٍ بين العقيدتين اللتين تؤكدان في النهاية وحدانية الله.
وقد قام جدالٌ حامي الوطيس عبر القرون المسيحية الأولى فيما يخصُّ طبيعة «الكلمة»، بلغ ذروته في مطلع القرن الرابع الميلادي (بعد أن صارت المسيحية دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية) بين اثنين من اللاهوتيين الإسكندرانيين، تأثرت به جميع الكنائس التي وقفت إلى جانب هذا أو إلى جانب ذاك. فقد كان الأسقف آريوس يقول إن كلمة الله التي استقرت في يسوع ليست أزليةً وإنما مخلوقة، خلقها الله مثلما خلق كل شيءٍ؛ أما الأسقف أثناسيوس فكان يقول إنَّ الكلمة المتجسدة في يسوع هي أزليةٌ وغير مخلوقةٍ، وكانت مع الله دومًا. ومن أجل الحفاظ على وحدة الكنيسة فقد دعا الإمبراطور قسطنطين لانعقاد أول مجمع كنسيٍّ مسكوني عام ٣٢٥م في مدينة نيقية بآسيا الصغرى، قصده نحو ثلاثمئة أسقف جُلُّهم من كنائس الشرق. وعلى الرغم من وجود عددٍ لا يُستهان به من أنصار آريوس في المجمع، إلا أنَّ القرار الأخير الذي صيغ في شكل قانون للإيمان المسيحي وقف إلى جانب أثناسيوس، ونطق المجمع باللعن على كل من يقول بغير ذلك. ولكن ذلك لم يعنِ اندثار الآريوسية التي شهدت بعد ذلك فترات سادت فيها، وشغل أتباعها كل كرسي أسقفي في العالم المسيحي.
مثل هذا الجدال فيما يخصُّ أزلية أو حدوث كلمة الله نشأ في اللاهوت الإسلامي عندما انقسمت حلقات علماء الكلام إلى فريقين: الأول فريق الأشاعرة أصحاب الرأي السُّنِّي المستقيم، الذين قالوا إنَّ القرآن الذي يجسد كلمة الله أزلي. ويمكن تلخيص مقولتهم على الوجه الآتي: إنَّ الله متكلمٌ وكلامه قديمٌ ليس بمحدثٍ ولا مجعول. إنَّه صفةٌ من صفاته مثل علمه وقدرته وما إلى ذلك من صفات ذاته. وعليه فإنَّ كلامه لا يُوصف بشيءٍ من صفات الخلق. أما الفريق الثاني وهم المعتزلة قالوا إنَّ القران الذي يجسد كلمة الله مخلوقٌ، وكان هنالك وقتٌ لم يكن فيه موجودًا. ويمكن تلخيص مقولتهم على الوجه الآتي: إن كلام الله عَرَضٌ يخلقه في الأجسام على نحوٍ يُسمع ويُفهم معناه، ثم يؤدي الملاك هذا الكلام إلى الأنبياء بحسب ما يأمر به — عز وجل — وعلى هذا يكون القرآن مُحدث ومخلوق، لم يكن ثم كان، وأنَّه غير ذات الله، أحدثه بحسب مصالح عباده، وهو قادرٌ على أمثاله.
أما ما يبدو في التقوى المسيحية أنَّه عبادةٌ موجَّهة ليسوع المسيح، فإنه لا يعدو أن يكون تقديسًا وتبجيلًا لصفي الله الذي أرسله لخلاص العالم. فالله قد صالح العالم الخاطئ بيسوع المسيح، على حدِّ قول بولس الرسول (٢ كورنثوس، ٥: ١٨–١٩). هذه المصالحة من خلال المسيح شيءٌ مختلف عن القول إنَّ «الله هو المسيح ابن مريم». كما إنَّ الصلاة الوحيدة التي ينطقها كل المسيحيين، وهي الصلاة التي علَّمها يسوع لتلاميذه، تتوجه نحو الله الواحد ولا حصة للابن فيها: «أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. * لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. * خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. * وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. * وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ» (متَّى، ٦: ٩–١٣).
والشيء ذاته يُقال فيما يبدو في التقوى المسيحية، من أنه عبادةٌ موجهةٌ إلى السيدة مريم. فسيرة مريم في الأناجيل لا ترسم لها — كما هو الحال في القرآن الكريم — إلا صورة العذراء البتول والمرأة الصالحة التي آمنت بكلمات ربها واستسلمت لمشيئته كل الاستسلام. وإذا كان تقديسها اللاحق من قبل الكنيسة، وجموح الخيال الشعبي الذي تعود في الماضي شفاعة ألوهةٍ مؤنثة، قد دفع التقوى الشعبية إلى شَفى عبادتها، إلا أنَّه لم يَدُرْ في خلد أحدٍ ولا في زمن من الأزمان أن يرفعها إلى مرتبة الألوهية، وإنما عدَّت دومًا خليقة بشرية، امرأة بتولًا مقدسةً لم تقترفْ خطيئة قط. وبما أنَّها حملت بيسوع وتجسدت فيها كلمة الله، فقد دعاها مجمع خلقيدونيا عام ٤٥١م بأم الله، وذلك تكريمًا لها، لأنَّ المسيحين يؤمنون بأنَّ الله لم يلد ولم يولد، كما هو حال المسلمين.
ولكي أقرِّب لقب «أم الله» إلى الذهنية الإسلامية، أستشهدُ بلقب «أم أبيها» الذي يطلقه المسلمون الشيعة على السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول الكريم وأم الحسن والحسين. فهذا اللقب لا يعدو أن يكون صيغةً كلاميةً من أجل التعبير عن المكانة العالية للسيدة فاطمة، التي لم يَدُرْ في خلد أحدٍ في أي زمنٍ من الأزمان أن يضعها في مكانة أعلى من مكانة أبيها، ولا حتى في مكانة تُعادله. وهنالك أحاديث نبوية يتداولها الشيعة تقرن بين السيدة فاطمة الزهراء والسيدة مريم، ومنها أنَّ رسول الله قال لفاطمة: يا فاطمة، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟ (مسند أبي داود الطيالسي، ص١٩٦، طبعة حيدر آباد). فسألت فاطمة الزهراء أباها الرسول: يا أبه، فأين مريم ابنة عمران؟ قال: تلك سيدة نساء عالمها، وأنتِ سيدة نساء عالمك. (رواه جماعة من الأعلام بينهم أبو نُعيم في حلية الأولياء، ج٢ / ٤٢، مطبعة السعادة بمصر).
- (١)
طبيعة الله الذاتية المتعالية.
- (٢)
كلمة الله التي تجسدت في الإنسان يسوع.
- (٣)
وجود الله الفعَّال المحيي في الخليقة.
- (١)
الآب المتعالي الخالق، الذي يتوجَّه إليه الناس بعبادتهم.
- (٢)
وهو من يكلِّم البشر ويعلن عن نفسه بواسطة يسوع الذي صالح الآب مع البشرية.
- (٣)
وهو الحي الفاعل في البشر، روحٌ قدسٌ حالٌّ في أعماق النفس وفي الآفاق.
لقد وُجد في تاريخ المسيحية بعض الأفراد والجماعات من أصحاب النظريات التي تقول في الثالوث إنه ثلاثة آلهة، ولكن الكنيسة حرَّمت مثل هذه الأفكار وعدَّتها منافية للتعليم المسيحي الصحيح. ومع ذلك فقد كان يظهر على المستوى الشعبي ميلٌ إلى التثليث الحرفي، من خلال بعض التعابير والممارسات، إلا أنَّ هذا كان يلقَى الشجب على المستوى الرسمي، وكان جواب الكنيسة دائمًا عن مثل هذه الانحرافات هو ما ورد في قرار المجمع اللاتراني الرابع: إنَّ الوحدانية في الله عقيدةٌ لا جدال فيها من عقائد الإيمان المسيحي.
لقد قال قانون الإيمان المسيحي الذي تمَّت صياغته في أول مجمعٍ مسكونيٍّ عام ٣٢٥م: «نؤمن بإلهِ واحدِ ضابطِ للكل خالق لكل ما يُرى وما لا يُرى.» وعلى ضوء هذه الفقرة التي وردت في مطلع قانون الإيمان، علينا أن نفسِّر ونؤوِّل بقية فقرات القانون.