مكانة مريم في النصين
(١) مريم في العهد الجديد
على الرغم من المكانة العالية التي تبوَّأتها مريم في اللاهوت المسيحي الذي أعطاها فيما بعد لقب أم الله، وجعلها ترتفع إلى السماء في يومٍ ما زالت الكنيسة تحتفل به حتى الآن، وهو عيد صعود السيدة العذراء، إلا أنَّ مكانة مريم في أسفار العهد الجديد لم ترق إلى مكانتها في اللاهوت المسيحي. وفيما عدا دورها في قصة البشارة والميلاد لا نكاد نعثر لها على دورٍ مميزٍ في حياة يسوع التبشيرية، وقد كانت غائبةً عن مشهد الصلب لدى ثلاثة من الإنجيليين، ولم تشهد قيامة يسوع مع التلاميذ لدى الإنجيليين الأربعة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ قصة البشارة والميلاد قد وردت عند متَّى ولوقا، وغابت تمامًا عند مرقس ويوحنا. فهذان الإنجيليان يبدآن روايتهما باللقاء الذي تمَّ بين يسوع ويوحنا المعمدان عند نهر الأردن عندما كان يسوع في نحو الثلاثين من عمره. وهما لا يُشيران ولو من بعيدٍ بعد ذلك إلى قصة الميلاد العذري، حتى ليبدو أنَّهما لم يسمعا بها، ولم يكن لديهما أي معلوماتٍ عن السيدة مريم وعن أسرتها وحياتها السابقة قبل الميلاد. وفي الواقع، فإنَّ غياب قصة الميلاد عن إنجيلَي مرقس ويوحنا، وورودها بشكلِ مختلفِ تمامًا في إنجيلَي متَّى ولوقا، قد دعا بعض الباحثين في العهد الجديد إلى اعتبارها قصةً مقحمة على هذين النصَّين، جرت إضافتها لاحقًا لأسباب تتعلق بنشوء وتطور فكرة الميلاد العذري التي كانت غائبةً في مرحلة تدوين الأناجيل.
في رواية لوقا لا تظهر مريم بعد قصة الميلاد إلا في حادثة زيارة أسرة يوسف النجار إلى أورشليم عندما كان يسوع في سن الثانية عشرة من العمر، وكيف افتقداه في طريق العودة ولم يجداه في الركب، فعاد الوالدان إلى أورشليم ليجداه في الهيكل يناقش الشيوخ ويُظهر علمًا كثيرًا (لوقا، ٢: ٤١–٥٢). وبعد ذلك تغيب مريم عن الأحداث الباقية حتى نهاية الرواية، وحتى في الموضع الذي نتوقَّع فيه ظهور اسمها كأمٍ ليسوع فإنَّ لوقا يُخيِّب أملنا في ذلك. فعندما تكلَّم يسوع في مجمع الناصرة لأول مرة بعد هبوط الروح القدس عليه، تعجب الحاضرون من سلطان كلماته، فقالوا: «… أَلَيْسَ هذَا ابْنَ يُوسُفَ؟» (لوقا، ٤: ١٦–٢٢)، ولم يقولوا: أليس هذا ابن مريم، أو أليس هذا ابن يوسف ومريم، على ما سنجد بعد قليل في إنجيل متَّى.
في رواية متَّى لا يأتي ذكر مريم بالاسم بعد قصة الميلاد إلا مرةً واحدةً، وذلك على لسان أهل الناصرة الذين استمعوا لأقوال يسوع للمرة الأولى فقالوا: «أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ * أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ كُلُّهَا؟» (متَّى، ١٣: ٥٥–٥٦). كما يأتي ذكر مريم عند متَّى مرةً أخرى، ولكن دون الإشارة إلى اسمها: «وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. * فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَ ذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ قد وَقَفُوا خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ. * فَأَجَابَ وَقَالَ لِلْقَائِلِ لَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟ * ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلَامِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتي. * لِأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (متَّى، ١٢: ٤٦–٥٠). ويسوع هنا يُبدي نوعًا من البرود تجاه أسرته التي جاءت على ما يبدو من أجل الحيلولة بينه وبين رسالته التي لم يكونوا مؤمنين بها. والنصُّ الآتي من إنجيل يوحنا يوضِّح لنا موقفهم هذا بشكل لا لَبْس فيه: «وَكَانَ عِيدُ الْيَهُودِ عِيدُ الْمظَالِّ، قَرِيبًا. * فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا وَاذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، لِكَيْ يَرَى تَلَامِيذُكَ أَيْضًا أَعْمَالَكَ الَّتِي تَعْمَلُ، * لِأنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي الْخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَلَانِيَةً. إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هذِهِ الأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلْعَالَمِ. * لِأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ» (يوحنا، ٧: ٢–٥). ويبدو من هذا النص أن أخواته كانوا يحفزونه على الذهاب إلى أورشليم عاصمة مقاطعة اليهودية لكي يتم القبض عليه هناك ويُرغم على التخلِّي عن رسالته. وقد حاولوا هم القبض عليه لأنهم اعتبروه مخبولًا، على ما سنرى في إنجيل مرقس.
في إنجيل مرقس الذي لم يذكر قصة الميلاد العذري، ولم يأتنا بخبرٍ عن يسوع قبل تعميده على يد يوحنا المعمدان وهو في نحو الثلاثين من عمره، ولا يأتي المؤلف على ذكر مريم بالاسم إلا مرةً واحدة، وذلك في معرض تعجُّب أهل الناصرة من حكمة يسوع، فيسوق لنا مقطعًا مشابهًا لما قرأناه منذ قليلٍ عند متَّى: «مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟ * أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟» (مرقس، ٦: ١–٣). وهذا هو الموضع الوحيد الذي دُعي يسوع فيه بابن مريم، ولكن من قبيل التعريف لا من قبيل إطلاق اللقب. ونلاحظ هنا أنَّ مرقس قد تجاهل يوسف تمامًا عندما قال: أليس هذا هو النجار ابن مريم؟ بينما قال لوقا في روايته للحادثة نفسها: أليس هذا ابن يوسف؟ وقال متَّى: أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أي إنَّ مرقس الذي لم يروِ قصة الميلاد يبدو أنه لم يسمع بيوسف النجار فأعطى لقب النجار ليسوع نفسه.
في المرة الثانية والأخيرة التي يذكر فيها مرقس السيدة مريم يُشير إليها على أنها أم يسوع دون ذكر اسمها، وذلك عندما جاءت تطلبه مع إخوته: «فَجَاءَ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجًا وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. * وَكَانَ الْجَمْعُ جَالِسًا حَوْلَهُ، فَقَالُوا لَهُ: هُوَ ذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجًا يَطْلُبُونَكَ. * فَأَجَابَهُمْ قَائِلًا: مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟ * ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى الْجَالِسِينَ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي، * لِأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي.» (مرقس، ٣: ٣١–٣٥). ومن الواضح هنا أنَّ أسرة يسوع قد جاءت لكي تحول بينه وبين المُضيِّ في رسالته، لأنَّ مرقس يقول في الإصحاح نفسه، وقبل بضع آياتٍ من ذلك: «وَلَمَّا سَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مُخْتَلٌّ!» (مرقس، ٣: ٢١).
وعلى الرغم من وجود نسوة بين أتباع يسوع يرافقنه بشكلٍ دائمٍ ويخدمنه، إلا أنَّ أم يسوع كانت غائبة عن المشهد طوال المدة التي تُغطِّيها رواية الأناجيل الإزائية «المتشابهة» الثلاثة: متَّى ومرقس ولوقا. نقرأ عن أولئك النسوة في إنجيل لوقا: «وَعَلَى أَثَرِ ذلِكَ كَانَ يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرِزُ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، وَمَعَهُ الاثْنَا عَشَرَ. * وَبَعْضُ النِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ، * وَيُوَنَّا امْرَأَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ، وَسُوسَنَّةُ، وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ» (لوقا، ٨: ١–٣).
بعض هؤلاء النسوة بقين مع يسوع حتى القبض عليه، وحضرن واقعة الصلب، في الوقت الذي تخلَّى فيه عنه الرسل واختفوا. نقرأ في إنجيل متَّى: «صَرَخَ يَسُوعُ أَيْضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ … * وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ، * وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي، وَأُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي» (متَّى، ٢٧: ٥٠–٥٦). ونقرأ في إنجيل لوقا: «وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ الْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذلِكَ» (لوقا، ٢٣: ٤٩). وبعض هؤلاء النسوة كُنَّ أول الشاهدين على قيامته وهن مَن أبلغ بقيةَ التلاميذ هذه البُشرى (متَّى، ٢٨؛ ومرقس، ١٦؛ ولوقا ٢٤).
نلاحظ من هذه الشهادات الثلاث أنَّ أم يسوع كانت غائبةً حتى عن مشهد الصلب. يوحنا هو الإنجيلي الوحيد الذي جعل مريم حاضرة في مشهد الصلب، فهل كان لها حضورٌ أكثر وضوحًا في شهادته؟
إنَّ يوحنا الذي أغفل قصة الميلاد جملةً وتفصيلًا، وصف يسوع في مطلع إنجيله بأنه ابن يوسف: «فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ، يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ» (يوحنا، ١: ٤٥). وبعد ذلك، وفي الإصحاح الرابع، يُشير يوحنا إلى يسوع على أنه ابن يوسف، مع الإشارة العرضية لأمه دون ذكر اسمها، حيث يقول أهل الناصرة: «أليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه؟» بعد ذلك يرد ذكر والدة يسوع مرتين فقط، ولكن دون الإشارة إلى اسمها؛ المرة الأولى في مشهد عرس قانا في بداية الرواية، والثانية في مشهد الصَّلب في آخر الرواية. وفيما بين هذين المشهدين لا نعثر لوالدة يسوع على أثرٍ، سواء في حياته الخاصَّة أم في حياته العامة.
في مشهد عرس قانا في الجليل، حيث دُعي يسوع وأمه والتلاميذ، لدينا دليلٌ على الدفء المفقود في العلاقة بين يسوع وأمه. فلما نفذت الخمر والحفل ما زال في منتصفه، توجَّهت أم يسوع إلى ابنها ليجد حلًا لهذا الوضع المحرج: «قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ. * قَالَ لَهَا يَسُوعُ: مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ (يوحنا، ٢: ١–١٠). يلي ذلك قيام يسوع بأولى معجزاته وهي تحويل الماء إلى خمرٍ. بعد ذلك علينا أن ننتظر إلى نهاية الإنجيل لنقابل أم يسوع مرة أخرى واقفة عن الصليب: «وَكُنَّ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ. * فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لِأُمِّهِ: يَا امْرَأَةُ، هُوَ ذَا ابْنُكِ. * ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: هِيَ ذِي أُمُّكَ. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ» (يوحنا، ١٩: ٢٥–٢٧). هذا كل ما لدى هذا الإنجيلي، الذي تجاهل قصة الميلاد، ليخبرنا به عن مريم.
في أسفار العهد الجديد الباقية لا يرد ذكر مريم إلا مرةً واحدة فقط، وذلك في سفر أعمال الرسل، وبطريقةٍ عابرةٍ. بعد أن ارتفع المسيح إلى السماء بعد أن أمضى أربعين يومًا يظهر للتلاميذ على فتراتٍ متقطعةٍ، عاد التلاميذ إلى جبل الزيتون بالقرب من أورشليم، وكان معهم مريم وإخوة يسوع الذين آمنوا به على، ما يبدو، بعد صلبه وقيامته: «وَلَمَّا دَخَلُوا صَعِدُوا إِلَى الْعِلِّيَّةِ الَّتِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهَا: بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ. * هؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلَاةِ وَالطِّلْبَةِ، مَعَ النِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ» (أعمال، ١: ٩–١٤). بعد ذلك تختفي مريم في سفر أعمال الرسل. أما إخوته فقد بقوا، أو بقي بعضُهم عضوًا في كنيسة أورشليم الجديدة، لأننا نعلم من سير الأحداث أنَّ أكبرهم، وهو يعقوب، قد صار رئيسًا لهذه الكنيسة، وحمل لقب «أخو الرَّب»، وهناك أخٌ آخر له يُدعى يهوذا تُنسب إليه إحدى رسائل العهد الجديد المعروفة برسالة يهوذا.
فإذا نظرنا إلى رسائل القديس بولس التي تشغل الحيِّز الأكبر من العهد الجديد، والتي كانت الأساس الذي بنت عليه الكنيسة لاهوتها السامق، لم نعثر لمريم العذراء على أثر. وليس في إشارته العابرة الوحيدة إلى أنَّ يسوع قد ولد من امرأة أي صلةٍ بالسيدة مريم، لأنَّ كل كائنٍ بشريٍّ قد وُلد من امرأة: «وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، * لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ» (غلاطية، ٤: ٤–٥).
(٢) مريم في القرآن الكريم
فإذا انتقلنا إلى الرواية القرآنية للإنجيل، وجدنا لمريم حضورًا طاغيًا لا يقارن بحضورها في العهد الجديد. فقد ورد في الرواية القرآنية، على قصرها واختزالها، اسم مريم نحو ٤٣ مرة، في مقابل ١٩ مرة في أسفار العهد الجديد جميعها البالغ عددها ٢٧ سفرًا. وهي المرأة الوحيدة التي ذكرها القرآن بالاسم، أما بقية النساء فقد نُسبن لأزواجهن كقوله: امرأة عمران، وامرأة لوط، وامرأة فرعون؛ أو نُسِبن لما اشتهرن به مثل ملكة سبأ. وفي مقابل صمت الأناجيل الأربعة عن أصل مريم وحسبها ونسبها، والذي نجد نموذجًا عنه في قول متَّى: «أَمَّا وِلَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (متَّى، ١: ١٨)، فإنَّ الرواية القرآنية تنسبها إلى سلسلة الأنبياء العظام في تاريخ الوحي الإلهي، وتجعلها سليلة أسرةٍ نبويةٍ مُصطفاة على العالمين: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣ آل عمران: ٣٣–٣٤). وإضافةً إلى انتمائها إلى هذه الأسرة المصطفاة، أسرة آل عمران، فإنَّ مريم هي أشرف وأنبل نساء الأرض قاطبةً: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٣ آل عمران: ٤٢). وهي نموذج التقوى والصلاح: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٣ آل عمران: ٤٣). … وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (٦٦ التحريم: ١٢). وهي مثال العفة والطهر: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا … (٦٦ التحريم: ١٢). وتبلغ عظمة مريم ذروتها في قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٢١ الأنبياء: ٩١). وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً … (٢٣ المؤمنون: ٥٠).
وتتابع الرواية القرآنية تعداد فضائل مريم: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ … وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا … وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ … (٦٦ التحريم: ١٠–١٢). ويصفها النص بأنَّها صِدِّيقة: … وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ … (٥ المائدة: ٧٥). والصِّدِّيق هو لقبٌ من ألقاب التشريف الخاصة بالأنبياء: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (١٩ مريم: ٤١). وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (١٩ مريم: ٥٦). ومريم وابنها محصنان ضد الخطيئة ولا سبيل للشيطان إليهما. وهذا هو مؤدَّى قول والدة مريم لما وضعتها: … وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣ آل عمران: ٣٦). وقد ورد في الحديث الشريف ما يشرح هذه الآية: «ما من بني آدم مولود إلا يمسُّه الشيطان حين يولد، فيستهلُّ صارخًا من مسِّ الشيطان، غير مريم وابنها» (رواه الشيخان). وقد ورد في إنجيل متَّى وإنجيل لوقا ما يُشير إلى حصانة يسوع ضد الشيطان، وذلك في قصة تجربة الشيطان له وعجزة عن إغوائه (متَّى، ٤؛ ولوقا، ٤). وفيما بعد، بنى اللاهوت المسيحي مفهومه الخاص عن حصانة مريم عندما اعتبرها قد ولدت مُبرَّأةً من الخطيئة الأصلية التي يشترك بها بنو آدم.
وتدافع الرواية القرآنية عن سمعة مريم التي حاول اليهود طوال تاريخهم تلطيخها واتِّهامها بالزنى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ١ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ … وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (٤ النساء: ١٥٥–١٥٦). فلقد استخدم اليهود شخصية مريم في سياق انتقادهم للمسيحية والحطِّ من قدر يسوع الذي وصفوه بأنَّه ابنٌ غير شرعيٍّ لمريم من جنديٍّ رومانيٍّ يدعوه التلمود بانتيرا، وقد غادر بانتيرا هذا فلسطين بعد أن حملت منه مريم. وقد كان للعثور على شاهدة قبرٍ لجنديٍّ رومانيٍّ من مدينة صور الفينيقية، تُوفِّي في ألمانيا، كتب عليها: تيبريوس جوليوس عبدي بانتيرا؛ دورٌ في إعادة فتح هذا الملف الذي لم يغلقه اليهود حتى اليوم. وفي هذا الشأن يقول بعض الباحثين إنَّ الاسمين الأولين في هذا الاسم المركب هما تيمُّنًا باسم الإمبراطور تيبريوس الذي خدمة هذا الجندي أثناء حكمه، والاسم الثاني «عبدي» هو اختصارٌ للتعبير السامي «عبد شمس»، وأما الثالث «بانتيرا» فهو ترجمةٌ للاسم السامي «فهد»، وهو الاسم الأصلي لهذا الجندي. ثم يتساءل ما إذا كانت هناك صلةٌ بين هذا البانتيرا وبانتيرا التلمود.
راجع على سبيل المثال كتاب: