قبل عشرين سنةً نَظَم صاحب الديوان قصيدة «الكروان»، وفيها هذه الأبيات:
هل يسمعون سوى صدى الكروانِ
صوتًا يرفرف في الهزيع الثاني؟
من كلِّ سارٍ في الظلام كأنَّه
بعضُ الظلام، تُضلُّه العينانِ
يدعو إذا ما الليل أطبق فوقه
موجُ الدياجر، دعوةَ الغرقان
ما ضرَّ مَن غنَّى بمثل غنائه
أنْ ليس يبطش بِطشة العِقبان
إنَّ المزايا في الحياة كثيرة
الخوف فيها والسَّطا سيان
•••
يا مُحييَ الليل البهيم تهجُّدًا
والطير آوية إلى الأوكان
يحدو الكواكب وهو أخفى موضعًا
من نابغ في غمرة النسيان
قلْ يا شبيهَ النابغين إذا دُعوا
والجهل يضرب حولهم بجران
كم صيحة لك في الظلام كأنها
دقات صدر للدُّجُنَّة حانِ
هُنَّ اللغات ولا لغات سوى التي
رُفعت بهن عقيرة الوجدان
إنْ لم تقيِّدْها الحروفُ فإنَّها
كالوحي ناطقةٌ بكلِّ لسان
أغنى الكلام عن المقاطع واللُّغى
بث الحزين وفرحة الجذلان
وفي هذا العام نَظَم صاحب الديوان القصيدة التالية؛ ليقول فيها: إنَّ ما سمعه من
الكروان أولًا غير ما سمعه آخرًا، وإنَّ الكروان يجدد معانيه لسامعيه فترة بعد فترة على
خلاف ما يسبق إلى الظن بلغة الطير.
زعموك غير مجدَّد الألحان
ظلموك، بل جهلوك، يا كرواني
قد غيَّرتك، وما تُغيِّر شاعرًا
عشرون عامًا في طراز بيان
أسمعتني بالأمس ما لا عهد لي
بسماعه في غابر الألحان
ورويت لي بالأمس ما لم تروِهِ
من نغمة وفصاحة ومعان
•••
شكواي منك، وإن شكرتك، إنه
سرٌّ تصرُّ به على الكتمان
شكري إليك، وإن شكوتك، إنه
سرٌّ تؤخِّره لخير أوان
كنز يصان فهاتِ من حباته
ذخر القلوب وحلية الآذان
•••
أنا لا أراك؟! وطالما طرق النُّهى
وحيٌ، ولم تظفر به عينان
أنا في جناحك حيث غاب مع الدجى
وإن استقر على الثرى جثماني
أنا في لسانك حيث أطلقه الهوى
مرحًا، وإن غلب السرور لساني
أنا في ضميرك حيث باح فما أرى
سرًّا يغيِّبه ضمير زماني
أنا منك في القلب الصغير، مساجلٌ
خفق الربيع بذلك الخفقان
أنا منك في العين التي تَهَبُ الكرى
وتَضنُّ بالصحوات والأشجان
طِرْ في الظلام بمهجة لو صافحتْ
حجر الوهاد لهمَّ بالطيران
تغنيك عن ريش الجناح وعزمه
فرحات منطلق الهوى نشوان
فرحات دنيا لا يُكدِّر صفوَها
بالمَيْنِ غيرُ سرائر الإنسان
•••
علَّمتني بالأمس سرَّك كلَّه؛
سرَّ السعادة في الوجود الفاني
سرُّ السعادة نفرة ومحبة
فيكم تُؤلَّف نافر الأوزان
الكون أنتم في صميم نظامه
وكأنكم فيه الطريد الجاني
أنتم سواءٌ كالصديق وبينكم
بعدٌ كما يتباعد الخَصمان
لا يحمل الطيار وزر العاني
حمل ابن آدم عثرة الإخوان
لا عالمٌ منكم ولا متعلمٌ
كلا! ولا متقدِّمٌ أو وانِ
متشابهين على الحياة فكلكم
ساري ظلامٍ، هاتف بأغانِ
متفرقين على المُقام ودأبكم
عند الرحيل تجمع القطان
وكأنَّما نُسخت لكلٍّ نسخةٌ
من هذه الأجواء والأوطان
فهو الشريك على نصيب واحدٍ
وهو الوحيد فما له من ثانِ
ذخر الطبيعة منه تُعْطَوْنَ الحِجى
لا من سباق بينكم ورهان
•••
أنتم بني الطير المسبِّح في الدجى
فيكم كهانة صالح الكهَّان
بعتم كرى الغافي وطيب رقاده
وبه اشتريتم يقظة اليقظان
قل ما اشتهيت القول يا كرواني
في لهو ثرثار وحلم رزان
سأعيش مثلك لي وللدنيا معًا
وأقول مثلك: كيف يزدوجان؟
وأظلُّ تزدحم الحياة بمهجتي
أبدًا ويجتنب الزحام مكاني
في عزلة أنا والحبيب تؤمُّنا
دنيا الجمال، ونحن منفردان
سؤال الكروان
حذار البأس أو حب الجمال
هتافك في الدجى يا ابن الليالي؟
ومن يقظات نفس فيك نشوى
تعاف النوم أم من سوء حال؟
وعندك للنجوم هوى قديم
أوَ انَّك كارهٌ للصبح قالِ؟
وهذا الطير ينعم في ضحاه
فما لك في النعيم بلا مثال؟
أضلَّ الطيرُ — ويحك — عن هداه
أوَ انَّك أنت وحدَك في ضلال؟!
وأين من الضلال هتاف حر
تنزَّه عن نشوز وابتذال؟
•••
وقالوا: ما شدا الكروان إلَّا
ليسأل عرسه قوت العيال
وقالوا: تسرق الأعشاش عمدًا
على كسلٍ وضعف في الخصال
وإنك بالتراب شبيه حال
وبالديدان منهومٌ مغالِ
سألتُ، وما أرى لك من جواب
سوى اللحن الشجيِّ على سؤالي
سأسمع منك أنغامَ الليالي
وأسمع عنك أشتات المقال
ولا آلوك إصغاءً ووصفًا
كلا الأمرين من همِّي وبالي
أبا الكروان — يا مظلوم — تُدعى
وأنت عن الكرى المحبوب سالِ؟!
بحسبك أنهم كذبوا جهرًا
وأنك صادق الهتَفات عالِ
وأنك مفردٌ في الطير لحنًا
وما استفردت في تلك الخلال
إذا شابهتها في النقص حينًا
فأين المشبهاتك في الكمال؟
ما أَحبَّ الكروان!
ما أَحبَّ الكروان!
هل سمعت الكروان؟
•••
موعدي يا صاحبي يوم افترقنا
حيث كانت جيرة أو حيث كنا
هاتفٌ يهتف بالأسماع وهنا
٥
هو ذاك الكروان، هو هذا الكروان!
•••
الكراوين كثيرٌ أو قليلْ
عندنا أو عندكم بين النخيلْ
ثَمَّ صوتٌ عابرٌ كلَّ سبيلْ
هو صوت الكروان، في سبيل الكروان
•••
لي صدى منه فلا تنسَ صداك
هو شاديك بلا ريبٍ هناك
فإذا ما عسعس الليل دعاك
ذاك داعي الكروان، هل أجبت الكروان؟
•••
مفردٌ لكنه يؤنسنا
ساهرٌ لكنه ينعسنا
صدحت في نفسه أنفسنا
فتسامعنا سواء، وسمعنا الكروان!
•••
واحدٌ أو مائة ترجعه
عندنا أو عندكم مطلعه
ذاك شيءٌ واحد نسمعه
في أوان وبيان، هو صوت الكروان
•••
واحدٌ بين عصور وعصور
نحن نستحيي به تلك الدهور
لم يفتنا غابر الدنيا الغرور
في أوان الكروان، ما أَحبَّ الكروان!
على الجناح الصاعد
حادي الظلام على جناحٍ صاعدِ
يا أرضُ أَصغي، يا كواكبُ شاهدي!
يا آنسين بصحبة من وجدهم
نُصُّوا المسامع للأنيس الواجد
يا ساهدين على انفراد في الدجى
ردوا التحية للفريد الساهد
المستعزِّ بعرسه وكأنه
منها نجيُّ مغاور وفراقد
لهجت طيورٌ بالضحى وتكفَّلت
بالليل حنجرة المغني الخالد
يحدو ويشدو لا مساعد حوله
أبدًا، وما هو آمن لمساعد
أنا صائدٌ لصداك، لستُ بصائد
لك أنت يا كروان، فَأْمَنْ صائدي
بينا أقول: هنا، إذا بك من هنا
في جنْح هذا الليل أبعد باعد
وددت يا كروان لو ألقيتَ لي
صوتين منك على مكان واحد
إن كنت تشفق أن أراك فلا تَزَلْ
في مسمعي وخواطري وقصائدي
عاهدت هذا الصيف لستُ بواهبٍ
سمعي سواك، فهل تراك معاهدي؟!
من كان قد أغنى الطبيعة كلها
مُغْنِيَّ عن شادٍ سواه وشائد
شدو الآمن الخائف
يا صاحب الليل غام الليل أو سفرا
ولفَّ ظلماءه أو أطلع القمرا
ما أنت بالليل مفتونًا، ولا كلفًا
بالنجم، أو بظلام الليل حين سرى
وإنما أنت مفتون بعزلته
وبالأمان الذي تلقاه مستترا
وبالحبيب الذي يدعوك مرتفعًا
في ساحة الليل، أو يدعوك منحدرا
إذا شدوت فما أدري، أذو كلفٍ
ناغى الهوى أم نذير فاجأ الخطرا؟
سيان يا كرواني القلبُ مستعرًا
بالشوق أو بضرام الخوف مستعرا
إن كان شدوك أمنًا فاشدُ في دعةٍ
أو لا، فلا زلتَ مذعور السرى حذرا!
ألحقنا المقطوعات الآتية بهذا الباب؛ لأنها تشبهه وتتصل ببعض أبياته:
القَمَارِيُّ العارفة
ملأتْ داري القَماريُّ غناء
ويحها! هل يكشف الطير الغطاءَ؟
عرفت عندي ربيعًا بعد ما
رَهِبَتْ من ظلمة الدار الشتاءَ
عرفتني العام، أم كانت هنا
كلَّ عام تمنح الدار الولاءَ؟
لم أكن أحفلها حتى إذا
صدح الحب تسمَّعتُ الغناء!
شدوٌ لا نَوْح
شدوُ القَماريِّ لا نَوْح القماريِّ
هل يعبر الحزن بالشادي الصباحيِّ؟
أو الربيعي في أنس وفي أمل
وفي غرام على الإلفين مطويِّ؟
يا حسنها من بشيرات على دعة
كأنها أمنت فوتَ الأمانيِّ
محبَّبات إلى الإنسان تألفه
وتعتلي من ذراه كل علويِّ
تهوى الديار، وفي الآفاق مطلعها
ما بالها؟ هل سباها حسن إنسيِّ؟
وللأناسيِّ حسنٌ لا أبوح به!
هل تعرف الطير ما حسن الأناسيِّ؟
غنَّت لزهر وسلسال ولو رشفت
زهر المباسم جُنَّتْ بالأغانيِّ
أوْلى لقُمريِّنا ألا يحوم على
يأس الهوى بين إنسيٍّ و«طيريِّ»
غرِّد على الدور يا قمريُّ في دعة
واسلم هنالك من باكٍ ومبكيِّ
واتلُ الرجاء على هذا وذاك، ولا
تسألهما عن جوًى في القلب مخفيِّ
حسب المغاني التي يبكي الحزين بها
من سلوة، أنَّ فيها شدو قمريِّ
شفاعة للغراب
حيَّ الغرابُ الفجر بالنعيب
تحية التهليل والترحيب
وافترَّ نور الفجر كالمجيب
في غير ما لوم ولا تثريب
لهاتف ناداه من قريب
•••
ما ذنب ذاك الناعب المسكين
ألا يحيي النور باليقين؟
تحية العصفور والشاهين
ألا تدين كلها بدين؟
فما له يُعذل كالرقيب؟!
•••
شفاعة الأنوار والأحباب
في الأسود المهجور في الخراب
ما الصيدح الهاتف بالعجاب
أصدق حبًّا لك من غراب
فاعذره يا فجر على التشبيب
•••
أسمعُهُ والطير في أوان
وقبلة الصبح، وقد ناجاني
صوت حبيبي باديَ الحنان
لذلك الموعود بالحرمان
وما له في الحسن من نصيب!
•••
أمنتُ منه لوعة الفراق
وكلَّ غاقٍ عنده وقاق
فلا يزل ينعم بالإشفاق
من الرياض الفِيح والآفاق
ومنك يا فجر، ومن حبيبي
عادات الغراب
بئس الغراب وإن ذكرتُ بصوته
عطف الحبيب عليه كلَّ صباح
أبدًا يقاطع كلَّ شادٍ حوله
كمعطِّلي الإنشاد في الأفراح
فإذا شدا الكروان أتبع شدوه
بصياح شؤمٍ منه أو بنواح
وإذا ترنَّمتِ القَماريُّ انبرى
ما بين تَنْعابٍ وخفق جناح
حسدًا ولؤمًا، أو غرورًا لم يزل
دأب الحسود وديدن الملحاح
لا عاد فرع كان ينعب فوقه
فرمته فأس الحاطب المجتاح
سحر الطير
كل إلفٍ له من الطير إلفُ
هكذا تجمل الحياة وتصفو
أملٌ يُرتقى، وحبٌّ يُناجى
ولسان يشدو، وقلب يرفُّ
بك خفَّ الجناح يا أيها الطـ
ـير، وما كنت بالجناح تخفُّ
لطف روح أعار جنبيك ريشًا
فمن الروح لا من الريش لطفُ
ليس ينميك للسماء جناح
بل غناء عن الضياء يشفُّ
إن مضى الناس يعجبون قديمًا
كيف تعلو؟ عجبتُ كيف تُسِفُّ؟!
ثقلةٌ في الحياة لم ينجُ طبع
من عراقيها ولم يخلُ عرف