ليالي رأس البر
مناظر من سحر الجمال أراها
ولولا سناها قلت: كنت أراها
تلوح كذكرى حالم يستعيدها
لعمق معانيها، وبعد مداها
فمن عالم النسيان فيها مشابهٌ
وفيها من السلوى جميل رضاها
ليالٍ برأس البَرِّ تَنْدَى وداعةً
وَرِقَّةَ أشجانٍ، وطاب نَداها
وداعةَ ذاتِ الدَّلِّ شابَ فؤادَها
شوائبُ من هَجْرٍ، فراضَ صِباها
•••
ليالٍ برأس البرِّ طابَ نَداها
وشَفَّت دياجيها ورقَّ سناها
هنا النيل ساجٍ طال في الدَّهر سيرُه
وطالت مرامي نبعه فسلاها
هنا البحر ثوَّارُ الدُّهور على الكرى
ويطغى فلا يحمي النفوسَ كراها
إذا استرسلت أصداؤه في اطِّرادها
ترسَّلتِ الأحلامُ ملءَ مُناها
هنا عالمُ السَّلوى، هنا العالمُ الذي
تحِسُّ الليالي فيه همسَ خطاها
هنا العالمُ المشهود ذكرى قديمةٌ
وذكراك دنيا لا تزالُ تراها
فلولا حياتي في عروقي أحسُّها
لقلت: نعيم الغابرين طواها
•••
جمالك — رأسَ البر — في زيِّ ناسك
إذا ضاحك العين الضحوك شجاها
لياليك — رأسَ البر — في صومعاتها
مناسكُ ضلَّت في الظلام هداها
صحابك — رأسَ البر — أطيافُ نائم
تساوى لديها صُبحها ودُجاها
عناها الذي يَعني النيامَ من الرُّؤَى
ولم أرَ جهدًا في الحياة عناها
حياتك — رأسَ البر — طفلٌ مجدد
سقته ثُدِيُّ الخالدات جناها
فلا تحرمينا رشفةَ الخُلد كلَّما
فنَينا، وكم تُفني الجسومَ نُهاها
بحسبيَ من أبناء آدم إن صفا
لنا العيش يومًا، أن تكفَّ أذاها
خبر الربيع
يا أيها الورقُ المخضرُّ في شجرٍ
عهدي وما فيه من ذي خضرة أثرُ
من أين أقبلت؟ بل من أين أقبلَ في
عيدانك العوجِ ذاكَ العطرُ والزهرُ
إنا سألنا، ولو عاد السؤال إلى
فحوى الضمائر لم نعرفه يا شجر
سلنا بحقك من أين استجدَّ لنا
هذا السرور الذي في القلب ينتشر
كلاهما طارقٌ طاف الربيع به
على براق من الأنوار ينحدر
سلْهُ فإن لم يُجب فانعم بمَقدَمه
وافرح به، وانتظره حين يُنتظر
إذا أجاب بأزهار مفتَّحة
وبالسرور، فحسبي ذلك الخبر
الوجود! لا تنازع الوجود
ليس السرُّ الأكبر هو تنازع الوجود، بل السرُّ الأكبر هو الوجود نفسُه، كيف كان وما
الذي يبعث إلى التنازع فيه؟ فتعليل أطوار الحياة بالتنازع تعليل بشيء يحتاج هو نفسه إلى
تعليل. وأنت لا تعطيني الكنز إذا وصفتَ لي صراع الطامعين فيه، وكذلك لا تعرِّفني سرَّ
الحياة وكنزَها المخبوءَ إذا وصفتَ لي تنازع البقاء.
«نزاع بقاء» فصَّلوه وعدَّدوا
وراموا به سرَّ الوجود فأبعدوا
أيوجد مخلوق ليحميَ نفسَه
من الخلق؟ أم يبغي الحِمى حين يوجد؟
هو السرُّ كلُّ السر أنَّك كائنٌ
وأنك تبغي الكونَ
١ والكونُ مجهد
فلا تُحصِ ألوان النزاع فإنِّما
هنا السرُّ والكنز الذي عنك يوصد
أمعطيَّ كنزًا إن عرضتَ لناظري
صراعًا على أعتابه يتجدد؟
تجربتي
تجربتي! أين أنت تجربتي؟
يا كتبي! أين أنت يا كتبي؟!
لم تمنعي دمعةً تؤجِّجها
في القلب نار العذاب والغضب
إليك عني! فلست مانعةً
حزني، وقد تمنعيني طربي
وقد تشوبين لي الصفاء وما
تُصفين عيشي من كدرة الرِّيب
لهفي على جُنَّة أهيم بها
مقهقهًا بين فادح النوَب
قربان القرابين
ما في القرابين ولا الأعياد
أبرُّ في اللب وفي الفؤاد
من يوم حبٍّ بالحياة شاد
مدَّخرٍ منتظر الميعاد
تبذله للموت والحداد
رعيًا لمن باتوا على وساد
من الثرى في غير ما رقاد
وقطعوا في القبر كل زاد
الفن الحيُّ أو الحياة الفنية
خذْ من الجسم كلَّ معنى، وجسِّم
من معاني النفوس ما كان بكرا
حبذا العيش يبدع الفكر جسمًا
نجتليه، ويبدع الجسم فكرا
ويرى الفنَّ كالحياة حياةً
ويرى للحياة فنًّا وشعرا
ضلَّ مَن يَفصِل الحياتين جهلًا
واهتدى مَن حوى الحياتين طُرَّا
مناجاة الدنيا
يقول الحيُّ: إن كانت غاية الحياة موت فالدنيا هي الخاسرة، والحيُّ لا يشعر بخسارة
فقد الحياة.
وتقول الدنيا: إنَّ حيًّا يجيء يغنيها عن حيٍّ يروح، وبذلك تبقى ينابيع الحياة، فلا
خسارة عليها.
ويقول صوتٌ خالدٌ لا هو صوت الأحياء ولا هو صوت الدنيا: إنَّ الفناء يصيب الدنيا كما
يصيب الأحياء، فليس هناك عنصر مكتوب له أن يُفني أبدًا أو يفنى أبدًا، وإنِّما كلُّ
كائن له دور في الإفناء ودور في الفناء.
إن تكن غايةُ سعي الحيِّ موتٌ
فيك يا دنيا، فأنت الخاسرةْ
أو يكن بعد فناء الميْت عيشٌ
فيك يا دنيا فأنت العامرة
نحن إن عدنا إليك الخاسرون
•••
قالتِ الدنيا: بحيٍّ بعد حي
أنا أستبقي ينابيع الحياة
فامكثوا فيَّ نفوسًا أو ترابًا
ما على الحالين عندي من شَكَاة
إن ذهبتم فكما كنت أكون
•••
قال صوت ليس بالدنيا ولا
هو بالناس ولا غيرهما
فيه منها ثم منهم أثرٌ
ثم من شيء سرى بينهما
كلنا نحن حياة ومَنون
كلنا يفنى ويُفني ويصون
كلنا مفترقون، كلنا متحدون!