الْبَخِيلُ
(١) فِي دَارِ «أَبِي عُصْفُورٍ»
قَصَّ عَلَيْنَا «أَبُو الْغُصْنِ جُحَا» مِنْ ذِكْرَيَاتِهِ الْقِصَّةَ التَّالِيَةَ:
كَانَ مَجْلِسُنَا حَافِلًا فِي بَيْتِ صَاحِبِنَا «أَبِي عُصْفُورٍ».
كَانَ الْمَجْلِسُ يَسُودُهُ الْإِينَاسُ وَالسُّرُورُ، وَتَغْمُرُهُ الْفُكَاهَةُ وَالْمُزَاحُ، وَالْحُبُورُ وَالِانْشِرَاحُ.
(٢) الْأَنَانِيُّ
قَالَ لَنَا «أَبُو عُصْفُورٍ»: لَقِيتُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِي صَاحِبَنَا «أَبَا مُرَّةَ». هُوَ — فِيمَا تَعْلَمُونَ، وَأَعْلَمُ، وَيَعْلَمُ النَّاسُ — مَضْرِبُ الْمَثَلِ فِي الْأَنَانِيَّةِ وَالْبُخْلِ وَالْكَسَلِ.
كَانَ — لِسُوءِ حَظِّي — قَاصِدًا إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي يَمَّمْتُهُ.
صَحِبَنِي فِي سَفَرِي، وَلَزِمَنِي لُزُومَ الظِّلِّ لِصَاحِبِهِ.
(٣) شِرَاءُ اللَّحْمِ
«أَبُو مُرَّةَ» هَذَا شَأْنُهُ عَجِيبٌ. وَقَدْ أَطْلَعَتْنِي صُحْبَتِي لَهُ عَلَى خُلُقٍ فِيهِ غَرِيبٍ.
إِنَّهُ بَخِيلٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْبُخَلَاءِ الَّذِينَ عَرَفْنَاهُمْ، يَضِنُّونَ بِمَالِهِمْ، وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهُ إِلَّا عَلَى كُرْهٍ.
هُوَ بَخِيلٌ بِمَالِهِ، وَبَخِيلٌ بِقُوَّتِهِ، وَبَخِيلٌ بِعَوْنِهِ، وَبَخِيلٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فِيهِ؛ فَالْبُخْلُ يَظْهَرُ فِي كُلِّ تَصَرُّفَاتِهِ.
إِنْ أَنْسَ أَحْوَالَهُ الَّتِي شَهِدْتُهَا مِنْهُ — فِي أَيَّامِ هَذِهِ الرِّحْلَةِ — لَا أَنْسَ الطُّرْفَةَ التَّالِيَةَ الَّتِي كَانَتْ لِي مَعَهُ: سَأَلْتُهُ — ذَاتَ يَوْمٍ — أَنْ يَذْهَبَ إِلَى السُّوقِ لِيَشْتَرِيَ لَنَا لَحْمًا، قَالَ: «مَا أَجْهَلَنِي بِالطَّرِيقِ إِلَى السُّوقِ الَّتِي تُرِيدُهَا. مَا أَعْجَزَنِي عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ جَمِيعًا!»
أَخْفَيْتُ عَنِ الرَّجُلِ غَضَبِي عَلَيْهِ، وَكَظَمْتُ غَيْظِي مِنْهُ.
بَعْدَ عَوْدَتِي قُلْتُ لِأَبِي مُرَّةَ: «قُمْ فَاطْبُخْ.»
قَالَ: «مَا أَجْهَلَنِي بِمِثْلِ هَذِهِ الشُّئُونِ!»
عَجَزْتُ عَنْ إِقْنَاعِهِ، قُمْتُ فَطَبَخْتُ.
(٤) تَهْيِئَةُ الثَّرِيدِ
طَلَبْتُ إِلَيْهِ أَنْ يَفُتَّ الْخُبْزَ، ثُمَّ يَبُلَّهُ بِالْمَرَقِ.
تَظَاهَرَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا.
أَعَدْتُ عَلَيْهِ الرَّجَاءَ مَرَّةً أُخْرَى.
قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَقَدْ عَذَرْتُ صَاحِبِي فِي امْتِنَاعِهِ عَنْ شِرَاءِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّهُ بَخِيلٌ بِمَالِهِ، لَا يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ لِلَّحْمِ ثَمَنًا.
وَعَذَرْتُ صَاحِبِي أَيْضًا فِي امْتِنَاعِهِ عَنِ الْمُسَاعَدَةِ فِي الطَّبْخِ؛ فَرُبَّمَا كَانَ حَقًّا يَجْهَلُ الْقِيَامَ بِهَذَا الْعَمَلِ.
وَلَكِنِّي لَمْ أَجِدْ لَهُ عُذْرًا فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ فَتِّ الْخُبْزِ، وَبَلِّهِ بِالْمَرَقِ. هَذَا الْعَمَلُ لَا يُكَلِّفُهُ مَالًا، وَكُلُّ إِنْسَانٍ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِهِ، فَمَا بَالُهُ يَبْخَلُ حَتَّى بِتَحْرِيكِ يَدَيْهِ؟
ثُمَّ قَالَ مُتَلَطِّفًا، ضَارِعًا مُسْتَعْطِفًا: «وَاللهِ كَسْلَانُ.»
(٥) غَرْفُ الطَّعَامِ
قُلْتُ لَهُ سَاخِرًا: «لَعَلَّكَ تَقُومُ الْآنَ فَتَغْرِفَ!»
لَمْ يُغَيِّرْ صَاحِبِي مِنْ أُسْلُوبِهِ السَّمِيجِ. أَبَى إِلَّا أَنْ يَتَمَادَى فِي صَفَاقَتِهِ، وَيَسْتَرْسِلَ فِي رَذَالَتِهِ.
قَالَ لِي: «شَدَّ مَا يَحْزُنُنِي — بِحَقٍّ — أَنْ أُظْهِرَ لَكَ عَجْزِي عَنْ تَلْبِيَةِ إِشَارَتِكَ، وَتَحْقِيقِ رَغْبَتِكَ.
لَمْ أُصَدِّقْ قَوْلَهُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أُرْغِمَهُ عَلَى أَنْ يَقُومَ لِيَغْرِفَ الطَّعَامَ. وَلَكِنِّي عَدَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، وَقُلْتُ: مَاذَا يُدْرِينِي؟ لَعَلَّهُ إِذَا أَرْغَمْتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَتَصَنَّعَ الْعَجْزَ عَنِ الْغَرْفِ، وَأَنْ يَكُبَّ الطَّعَامَ؛ لَأَنَّهُ لَمْ يَغْرَمْ فِيهِ مَالًا، وَلَمْ يَبْذُلْ فِي طَبْخِهِ جُهْدًا، فَأَرَانِي قَدْ خَسِرْتُ مَالِي وَجُهْدِي جَمِيعًا، وَضَاعَ وَقْتِي الَّذِي بَذَلْتُهُ فِي شِرَاءِ اللَّحْمِ وَطَبْخِ الطَّعَامِ.
الرَّأْيُ السَّلِيمُ أَنْ أَتَوَلَّى الْغَرْفَ بِنَفْسِي. اسْتَرَحْتُ إِلَى الْيَأْسِ مِنْ مُعَاوَنَةِ صَاحِبِي الْبَخِيلِ الْكَسُولِ. قُمْتُ أَنَا فَغَرَفْتُ.
(٦) أَكْلُ الطَّعَامِ
قُلْتُ لَهُ مُسْتَهْزِئًا بِهِ: «لَعَلَّكَ — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — قَادِرٌ عَلَى مُشَارَكَتِي فِي الْأَكْلِ أَيُّهَا الرَّجُلُ النَّشِيطُ!»
أَتَعْرِفُ كَيْفَ أَجَابَنِي يَا «أَبَا الْغُصْنِ»؟
قُلْتُ: «إِنَّ جَوَابَهُ ظَاهِرٌ، لَا يَكَادُ يَسْتَخْفِي عَلَى أَحَدٍ.»
لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ أَقْبَلَ عَلَيْكَ مُتَوَدِّدًا، وَقَالَ: «قَدْ — وَاللهِ — اسْتَحْيَيْتُ مِنْ كَثْرَةِ خِلَافِي لَكَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَأَكَلَ مَعَكَ!»
صَاحَ «أَبُو عُصْفُورٍ» مُتَعَجِّبًا: «لَكَأَنَّكَ كُنْتَ مَعَنَا يَا «أَبَا الْغُصْنِ»، كَيْفَ عَرَفْتَ ذَلِكَ؟»
قُلْتُ لِصَاحِبِي: «لَعَلِّي مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ ﺑ «أَبِي مُرَّةَ»، إِنَّهُ كَأَمْثَالِهِ مِنَ الْأَنَانِيِّينَ، لَا يُفَكِّرُ إِلَّا فِي نَفْسِهِ وَحْدَهَا، وَكُلُّ هَمِّهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، دُونَ أَنْ يَنْفَعَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ. وَمَا أَسْوَأَ هَذَا الْخُلُقَ!»
قَالَ أَحَدُ الْحَاضِرِينَ مُعَقِّبًا عَلَى قَوْلِي: «زَادَتْ أَنَانِيَّةُ «أَبِي مُرَّةَ» عَلَى أَنَانِيَّةِ الْقَائِلِ:
(٧) جُحُودُ النِّعْمَةِ
قُلْتُ: مَا كَانَ أَهْوَنَ عَلَى «أَبِي عُصْفُورٍ» أَنْ يَقُولَ ﻟ «أَبِي مُرَّةَ»: «إِنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي يَغْرِسُهَا اثْنَانِ وَيَتَعَهَّدَانِهَا يَجِبُ أَنْ يَتَقَاسَمَهَا كِلَاهُمَا. إِذَا تَكَاسَلَ عَنِ الْعَمَلِ أَحَدُهُمَا — وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ — وَجَبَ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ الْآخَرُ.»
(٨) جُوعٌ وَظَمَأٌ
كَانَ الْيَوْمُ قَائِظًا شَدِيدَ الْحَرِّ. كَادَ الْجَوُّ يَلْتَهِبُ.
نَفِدَ طَعَامِي. اشْتَدَّ بِيَ الْعَطَشُ. عَضَّنِي الْجُوعُ بِأَنْيَابِهِ.
(٩) «أَبُو مُرَّةَ»
كَانَ هُوَ صَاحِبِي «أَبَا مُرَّةَ» الَّذِي حَدَّثْتَنَا بِقِصَّتِهِ مَعَكَ.
(١٠) تَوَدُّدُ الْمُحْتَاجِ
ابْتَدَرْتُهُ بِالتَّحِيَّةِ حِينَ الْتَقَتْ أَعْيُنُنَا. رَدَّ التَّحِيَّةَ فِي تَرَاخٍ وَفُتُورٍ. لَمْ يَحْتَفِلْ بِي، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيَّ.
أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ لِشِدَّةِ حَاجَتِي إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ. تَوَدَّدْتُ إِلَيْهِ. تَكَلَّفْتُ إِظْهَارَ الشَّوْقِ لَهُ، وَالْفَرَحِ بِلِقَائِهِ.
(١١) الْكَلْبُ «وَثَّابٌ»
شَدَّ مَا خَيَّبَ صَاحِبُنَا «أَبُو مُرَّةَ» أَمَلِي!
لَمْ يَبْدُ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَدْعُونِي إِلَى مَائِدَتِهِ، بَلْ جَعَلَ يُمْطِرُنِي بِأَسْئِلَةٍ مُتَوَالِيَةٍ مُتَتَابِعَةٍ، تَنُمُّ عَلَى لَهْفَةِ الْمُشْتَاقِ إِلَى تَعَرُّفِ أَخْبَارِ وَلَدَيْهِ وَأَهْلِهِ، وَدَارِهِ وَكَلْبِهِ وَجَمَلِهِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنْ شَوَاغِلِهِ الَّتِي تَعْنِيهِ، بَعْدَ أَنْ حَجَبَهُ السَّفَرُ الطَّوِيلُ عَنْ لُقْيَاهُمْ، وَالتَّمَتُّعِ بِحَدِيثِهِمْ وَمَرْآهُمْ.
سَأَلَنِي: «مَتَى كَانَ آخِرُ عَهْدِكَ بِالْمَدِينَةِ، وَسَاكِنِيهَا؟»
قُلْتُ: «تَرَكْتُ الْمَدِينَةَ مُنْذُ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ.»
سَأَلَنِي عَنْ كَلْبِهِ «وَثَّابٍ»: «كَيْفَ تَرَكْتَهُ؟»
قُلْتُ: «مَا أَبْرَعَ فِطْنَتَهُ — يَا «أَبَا مُرَّةَ» — وَمَا أَعْظَمَ يَقَظَتَهُ، وَأَوْفَى حِرَاسَتَهُ، وَأَعْجَبَ أَمَانَتَهُ!
إِنَّهُ يَذُودُ عَنِ الْحَيِّ، وَيَحْمِي الْمَحَلَّةَ، وَيَرُدُّ عَادِيَةَ اللُّصُوصِ، وَيَدْفَعُ شَرَّهُمْ وَأَذَاهُمْ، وَيَمْلَأُ نُفُوسَهُمْ رُعْبًا وَفَزَعًا. إِنَّهُ لَيَكَادُ يَخْلَعُ قُلُوبَهُمْ ذُعْرًا وَهَلَعًا.»
(١٢) رَبَّةُ الدَّارِ
سَأَلَنِي عَنْ زَوْجَتِهِ، قَالَ: «كَيْفَ عِلْمُكَ بِأُمِّ أَوْفَى؟»
إِنَّهَا — بِحَمْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ — نَاعِمَةٌ هَانِئَةٌ مَسْرُورَةٌ بِأَوْفَى صِحَّةٍ، وَأَكْمَلِ عَافِيَةٍ. أَظْفَرَهَا الْحَظُّ السَّعِيدُ بِمَا تَصْبُو إِلَيْهِ نَفْسُهَا مِنَ الْأَمَانِيِّ وَالْآمَالِ، وَهُدُوءِ النَّفْسِ وَرَاحَةِ الْبَالِ.»
(١٣) صِحَّةُ «أَوْفَى»
قَالَ: «كَيْفَ رَأَيْتَ وَلَدِي أَوْفَى؟»
(١٤) الْجَمَلُ «أَبُو أَيُّوبَ»
قَالَ: «كِيْفَ حَالُ جَمَلِنَا: أَبِي أَيُّوبَ؟»
قُلْتُ: «آمِنٌ بِرِعَايَةِ اللهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْخُطُوبِ.
فَجَعَلَ يَهْتَزُّ فَرَحًا وَسُرُورًا بِمَا يَسْمَعُ مِنِّي.
ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ حَالُ الدَّارِ يَا أَبَا الْغُصْنِ؟»
قُلْتُ: «نِعْمَ الدَّارُ! إِنَّهَا عَامِرَةٌ بِأَهْلِهَا غَانِيَةٌ بِمَنْ فِيهَا، مَوْفُورَةُ الْأُنْسِ بِسَاكِنِيهَا؛ فَطِبْ نَفْسًا، وَاهْدَأْ بَالًا.»
(١٥) نَفَادُ الصَّبْرِ
ظَلِلْتُ أَقُصُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ السَّارَّةِ، وَأَتَفَنَّنُ فِي إِدْخَالِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ عَلَى قَلْبِهِ، دُونَ أَنْ يُفَكِّرَ فِي دَعْوَتِي إِلَى طَعَامِهِ. كَادَ الْجُوعُ يُهْلِكُنِي!
(١٦) بُخْلُ «أَبِي مُرَّةَ»
اطْمَأَنَّ «أَبُو مُرَّةَ» عَلَى دَارِهِ وَوَلِدِهِ وَأَهْلِهِ، وَكَلْبِهِ وَجَمَلِهِ.
لَمْ يُبَالِ بِي. لَمْ يَعْنِهِ مِنْ أَمْرِي — بَعْدَ ذَلِكَ — شَيْءٌ.
(١٧) بَارِقَةُ أَمَلٍ
ظَلِلْتُ — فَتْرَةً — أُفَكِّرُ فِي أَمْرِهِ الَّذِي حَيَّرَنِي.
لَاحَتْ لِي بَارِقَةُ أَمَلٍ فِي أَنْ أُعَالِجَ مُشْكِلَتِي.
لَمْ أَلْبَثْ أَنِ اهْتَدَيْتُ إِلَى خُطَّةٍ بَارِعَةٍ، لِلْوُصُولِ إِلَى مَا قَصَدْتُ إِلَيْهِ، وَأَجْمَعْتُ رَأْيِي عَلَيْهِ.
لَا عَجَبَ أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَرْكَبُ الصَّعْبَ مِنَ الْأُمُورِ.
قُلْتُ فِي نَفْسِي: «مَنْ لَمْ تَكْرُمْ نَفْسُهُ عَلَى النِّعْمَةِ وَالرَّخَاءِ، كَرُمَتْ — عَلَى الرَّغْمِ مِنْهَا — فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ.»
(١٨) مُصَادَفَةٌ نَادِرَةٌ
أَتَاحَتْ لِيَ الْفُرْصَةُ مُصَادَفَةً نَادِرَةً لِمُدَاعَبَتِهِ وَالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ؛ لَعَلَّنِي أَسْتَخْلِصُ مِنْ زَادِهِ مَا يُنْقِذُنِي مِنَ التَّلَفِ، وَيُنَجِّينِي مِنَ الْهَلَاكِ، بَعْدَ أَنْ بِخِلَ بِهِ عَلَيَّ.
اعْتَزَمْتُ أَنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ دَرْسًا، يَذْكُرُهُ فَلَا يَنْسَاهُ، مَدَى الْحَيَاةِ، وَلَا يَعُودُ إِلَى هَذَا الْمَسْلَكِ الْمَمْقُوتِ مَعَ النَّاسِ.
مَرَّ بِنَا — لِحُسْنِ الْحَظِّ — كَلْبٌ هَزِيلُ الْجِسْمِ.
أَشَارَ إِلَيْهِ «أَبُو مُرَّةَ» سَاخِرًا مُسْتَهْزِئًا، مُبَاهِيًا بِكَلْبِهِ مُفَاخِرًا، قَالَ: «أَيْنَ هَذَا مِنْ كَلْبِي وَثَّابٍ؟»
(١٩) مَصْرَعُ «وَثَّابٍ»
تَظَاهَرْتُ بِالْأَلَمِ وَالْحَسْرَةِ. قُلْتُ لَهُ مُتَخَابِثًا: «صَدَقْتَ يَا «أَبَا مُرَّةَ». مَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُ ﻟ «وَثَّابٍ» — فِيمَا رَأَيْتُ مِنَ الْكِلَابِ — شَبِيهًا فِي اكْتِمَالِ الْقُوَّةِ، وَنَضْرَةِ الشَّبَابِ وَتَمَامِ الْفُتُوَّةِ!
لَوْ عَاشَ كَلْبُكَ «وَثَّابٌ» — إِلَى الْيَوْمِ — لَأَصْبَحَ زَعِيمَ الْكِلَابِ، لِفَرْطِ مَا فَاضَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ الشَّبَابِ.»
ذُعِرَ «أَبُو مُرَّةَ» مِمَّا سَمِعَ. رَفَعَ يَدَهُ عَنِ الطَّعَامِ مُتَفَزِّعًا.
قَالَ مُنْزَعِجًا مُرَوَّعًا: «تَقُولُ: لَوْ عَاشَ وَثَّابٌ؟!»
قُلْتُ: «نَعَمْ، لَوْ عَاشَ! أَلَمْ تَسْمَعْ؟»
تَصَنَّعْتُ الْأَلَمَ لِمَصْرَعِ «وَثَّابٍ». تَظَاهَرْتُ بِالْحُزْنِ عَلَيْهِ.
قُلْتُ فِي لَهْجَةِ الْمُتَفَجِّعِ: «مِسْكِينٌ «وَثَّابٌ»!»
(٢٠) مَصْرَعُ «أَبِي أَيُّوبَ»
قَالَ «أَبُو مُرَّةَ»: «يَا لَلدَّاهِيَةِ! كَأَنَّمَا تَعْنِي أَنَّ جَمَلِي قَدْ هَلَكَ أَيْضًا؟ تُرَى بِأَيِّ حَادِثٍ هَلَكَ؟»
قُلْتُ: «عَثَرَ لِسُوءِ حَظِّهِ بِقَبْرِ «أُمِّ أَوْفَى» عَثْرَةً قَاتِلَةً.
(٢١) مَصْرَعُ «أُمِّ أَوْفَى»
قَالَ: «يَا لَلْهَوْلِ! كَيْفَ تَقُولُ؟ «أُمُّ أَوْفَى» هَلَكَتْ!» قُلْتُ فِي لَهْجَةِ الْمُتَفَجِّعِ، وَلَهْفَةِ الْمُتَوَجِّعِ، مُؤَسِّيًا، نَاصِحًا لَهُ بِالصَّبْرِ مُوصِيًا، مُهَوِّنًا عَلَيْهِ نَكْبَتَهُ مُعَزِّيًا: «يَرْحَمُهَا اللهُ يَا أَبَا مُرَّةَ، وَعَوَّضَكَ عَنْهَا خَيْرًا.»
اشْتَدَّ انْزِعَاجُهُ. اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْخَوْفُ. تَمَلَكَّهُ الْفَزَعُ.
قَالَ: «كَيْفَ هَلَكَتْ «أُمُّ أَوْفَى»؟ أَخْبِرْنِي.»
(٢٢) مَصْرَعُ «أَوْفَى»
تَظَاهَرْتُ بِمُشَارَكَتِهِ فِيمَا يَغْمُرُهُ مِنَ الْأَسَى وَالْغَمِّ.
قُلْتُ لَهُ فِي لَهْجَةِ الْمُشْفِقِ الْمُتَوَجِّعِ: «يَرْحَمُهُ اللهُ يَا «أَبَا مُرَّةَ»! كَانَ مَصْرَعُهُ يَسْتَدِرُّ دُمُوعَ الْحَاقِدِينَ الشَّامِتِينَ، بَلْهَ الْأَصْدِقَاءَ الْمُحِبِّينَ! سَقَطَتْ عَلَيْهِ الدَّارُ. كَانَ — لِسُوءِ الْحَظِّ — مِنَ الْهَالِكِينَ.»
(٢٣) حَيْرَةُ «أَبِي مُرَّةَ»
نَسِيَ طَعَامَهُ. انْطَلَقَ يَجْرِي فِي الْفَلَاةِ حَائِرًا بَاكِيًا، لَا يَعْرِفُ مَاذَا يَصْنَعُ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَقْصِدُ؟